تكشف الباحثة المغربية عبر تأملاتها لحقيقة الرواية وجوهرها العلاقة الوثيقة بينها وبين الفعل الإبداعي باعتباره سيرورةُ تجريب لا يرتوي ظمأها للجديد المُبتَكر المُدهِش. والأدب في منشأ أجناسه وأنواعه وصيغه قائم على ما يتيحه التجريب من طاقة فعّالة تزوِّد الأدب بنسغ الحياة المتجدِّد. طالما كانت مرتكِنة إلى أسس سليمة.

«الروايةُ» والبحـثُ عن صُكُـوك الإبـداع

سعيدة تاقي

الرواية تلك المتهمة بالغـواية والمـدانة بالحـظوة قبل الكـتـابـة وبـعدها، أثـنـاء القراءة ودونها.. في حضن الإبداع وقيد الخَلْق وداخل غُـرَف التمارين المُغْـلَــقة ومقاعد مُحتَرَفات الـكـتابـة أو خُلوات القراءة الفردية .. تقاوم ذنوب الانـفـتاح والتجريب والإنـشـاء والارتـحـال والحـشـو والترهُّـل .. وتـتـحـمَّل أوزار التحـامـل والتـطـاول والتـعـسف .. وتمضي بمميِّزاتها التجنيسية لتواصل درب الوجـود على قيد الحياة والخلق والإبداع.. لكن الرصيد لا يصفو، بل يخالط مُنْجَزَه "الأصيل"، وافِـدٌ كثير لا يكيل للهوية الأجناسية المرتَسِمَة بوضوحٍ في المتعالي النَّصي الذي شيَّدَته الرواية وما زالت تشيِّدُه وستواصل تشييدَه غيرَ المزيد من الإضرار.. ففي لحظة "الحظوة" التي تُنـعَتُ (أو "تُرمى"/"تُـقذَفُ") بها الـروايـة على مستوى الكتابة والنـشـر والطـبـاعـة والتـوزيـع والتـرجمة والقـراءة والتداول والنقد والمواكبة، تنحسر معالم الإبداع الجيد وتتفشى ـ تحت الطلب ـ تمارين الكتابة التسريدية التي تُلْحَق عنوة بجنس الرواية.

من الحكاية إلى الرواية:
الرواية ليست مقابلاً للحكاية، حيث تتوالى الأحداث في مسار زمني أفقي يحترم خطية التعاقب، ويمضي بالمتلقي من متوالية أولى إلى ثانية فثالثة ... وصولا إلى الأخيرة. فتكون المتوالية الأخيرة إيذاناً بفك العقدة أو العقد التي ربطتها المتواليات السابقة، وتلميحا بالموقف الذي قد يكون مناسبا للاستخلاص من كل الأحداث المتتابعة، والذي سيعلق بالتأكيـد بذهن المتـلقي ويشحذ طاقاته للتفكير في النهاية التي آلت إليها الحكاية. الرواية جنس إبداعي يتجاوز مستوى الحكاية البسيطة إلى تشييد حبكة إبداعية تغترف من الحكي المنسوج بلُحمة السرد على قدر هوى الخطاب التسريدي المُبدِع. إن كتابة الرواية تتجاوز أمداء الاسترسال في سـرد الحـكاية والتـقاط تعاقـب الأحـداث وخلق التشـويق واستدعاء القارئ/المروي له إلى الانتباه والتيقظ، وتحفيزه إلى استخلاص الدروس والعبر.

الــرواية ليست مجـرد احـتـمال نصي للحـكاية، يعثر لها على استمرار حي يغمرها بأطاييب عوالِمه وأنساقه. والرواية ليست مجـرد سَـرْدٍ يستوعب القـصة ويفرِّعُ الأحداث ويتلاعب بمصائر الشخصيات .. إنها إبداع فني ينهل من التجريب الأدبي والتسريد النصي ويقتات على روح الخَلْـق الفياض، وينثر بين كل ذلك حياة الواقع ودفق الثقافة وتأمل الفلسفة وحكمة التاريخ.

من الرواية إلى الرواية:
لا يقدم فعل الكتابة ورسم الحرف على مستوى التشييد السردي في الرواية مقابلاً موضوعيا لفعل الحكي الشفهي أو الإلقاء التشخيصي في الحكاية الشفهية. ولئن كان التقابل العيني بين الراوي والمروي له الذي قامت عليه الثقافة العربية في كل أنساقها الموروثة، قد استبد فعلاً في لحظة الانتقال من الطور الشفهي المَروي إلى طور التدوين والكتابة بكل المحافل والسجـلات المـكتـوبة، في كل أصناف المعـرفة والبـلاغـة والـنـحـو والتفـسير والفـقـه والتاريخ ... وواصل ترسيخ بنياته ضمن السجل المكتوب باعتماد محاورة الكاتب للحاكِم "الآمر بالكتابة" أو باعتماد محاورة الكاتب للمخاطب المفترض أو العيني (عبد القاهر الجرجاني في "دلائل الإعجاز" مثلا)، بحيث ظلت بنية الرواية من راوٍ ومروي له مستضمَرة في جل الإنتاجات ضمن الطور المكتوب.

فإنه لا يصح بأي شكل من أشكال الاحـتـمال افتـراض تعـويض نسق التقابل بين الراوي والمروي له بقـناع الـسـارد أو تلك الشـخصـية الـورقـية التي تتحكم في كل البناء السردي والتشخيص الحكائي ضمن الحبكة الروائية. ولا يمكن لكتابة الرواية في "لحظة الحظوة" أن تعتقد أن اختلاق فعل الرواية (ثنائية الراوي والمروي له) عبر شخصية السارد النصي على مستوى السرد بإمكانه أن يستوعب الجنس الروائي إبداعياً، لأن هذا الأخير لا يرتوي بحضور السارد/الراوي أو بهيمنته أو باستبداده، بل إن للوصفة الروائية مقاديرَ أخرى تنزاح عن كلِّ ضبطٍ مروي أو تقـابُـل حكائي أو تحديد قبلي لنسق الإبداع.

من الرواية إلى الإبداع:
قد يكون التجريب حمَّال أوزار التطاول أو التحامل أو التعسُّف على الرواية، حتى في "لحظة الحظوة"، لكن الفعل الإبداعي بأصله الخلَّاق سيرورةُ تجريب لا يرتوي ظمأها للجديد المُبتَكر المُدهِش. والأدب في منشأ أجناسه وأنواعه وصيغه قائم على ما يتيحه التجريب من طاقة فعّالة تزوِّد الأدب بنسغ الحياة المتجدِّد في كل كتابة أو تحرير أدبين. بيد أن التوازن المفقود بين ما يعنيه التجريب للإبداع والخَلْـق والأدب في الأصل، وبين ما قد يتيحه من مساحات لعب أو تلاعب وإنتاج تحت الطلب في مُنتَهى درب التمرين، يقحمُ جنس الرواية في "طبخات" سردية عديدة، لا تحمل من خواص الجنس سوى التحديد القبلي الموضوع على غلاف العمل المنشور باسم "سلطة" الكتابة ورعاية سوق النشر.

لا شك في خاتمة المطاف أن كل تراكم يفيد قدرة المجال على الابتكار والتنويع، لأن التنوع والاختلاف والتباين وضع طبيعي وسنة مطلوبة لتفعيل تمايز القوى عن الضعيف والجيد عن الرديء والمبدِع عن غيره، مما يقتضي أن ما قد يتحقَّق من إنتاجات لابد أن يخضع للمتابعة وللفرز وللنقد دون مجاملة أو محاباة أو تسويق تجاري. لكن في عمق الكثرة هناك خسائرُ عديدة لا تعضِّد رصـيد الجـنـس الأدبـي، ولا تسجَّـل لصالـح تعـزيز قـنوات القـراءة، ولا تفـيد أصل الكتابة أو الإبداع أو الخَـلْـق أو الأدب.

إن الروايـة ليست متـناً يتـوِّج فـائـض القيـمة الإبـداعـية للـشعر أو للقـصة أو للمـسرح أو للتشكـيل أو للموسيقى أو للسينما، أو يتـوِّج مـقــامـات الظـفـر في الســياسة أو الـتاريخ أو الفـكـر أو الإعلام أو النقد ... إن الكـتـابة في أي مجال أو ضمن أي نسق لا تستـقـيم ـ إبداعياً وفكرياً ووجودياً ـ دون الالتزام العفوي بمواثيق الكتابة في ذلك المجال أو ذلك النسق، ودون الالتزام بالحرص الصادق على إغـناء ذلك المجال/النسق ومنجَزه الإنساني. لأجل ذلك فإن البحث عن صكوك الإبداع بين ثنايا كتابة "الرواية" لا يكشف سوأة الكتابة في لحظتها فحسب، بل إنه يعــرِّي قـيم الإبـداع والخَلق والتفكير التي لم تكن مرتكِنة إلى أسس سليمة، حتى في لحظات كتابة سابقة في مُنجَز قبلي.