يرى الناقد المغربي إن أي عمل نظري قائم على المفاهيم لا يمكنه أن يصبح فعل ممارسة نقدية إلا إذا أفاد منه صاحبه نفسه في تطبيق تلك المفاهيم وفي تجلية إجرائيتها. وهذا ما توافر لكتاب محمد بوعزة (استراتيجية التأويل).الذي تتضح من عنوانه أربعة مفاهيم كبرى هي:-مفهوم الاستراتيجية-مفهوم التأويل-مفهوم النصية-مفهوم التفكيكية.

دراسة المفاهيم النقدية

في كتاب (استراتيجية التأويل) للدكتور محمد بوعزة

عبد اللطيف الزكري

ظهر التأويل عند الإنسان بظهور سؤالي الديني والدنيوي،وما ينتج عن تواشجهما، اتفاقا واختلافا. إن "مسألة التأويل شائكة وشاسعة وعريقة ذات أبعاد فلسفية وسياسية وميتافيزيقية"(1) كما يقول-بحق-الدكتور محمد مفتاح، وهو ممن حاولوا ملامسة التأويل في الثقافة الإسلامية والتيارات المعاصرة والتي تنطوي تحتها التأويلية الفلسفية والتأويلية الظاهرياتية والتفكيكية والسيميائية ومحللو الخطاب والعلم المعرفي،وكان هدفه من وراء هذا كله التماس مقاييس التأويل(2).وتناول قبل محمد مفتاح وبعده،في المغرب وفي باقي البلدان العربية محللون كثيرون مسألة التأويل،وظلت المسألة عندهم مفتوحة على الجديد،لا تحدها الحدود،ولا توقف مسارها القيود.ناهيك عن معالجي التأويل في الثقافة الغربية منذ القدم وإلى اليوم.في هذا الخضم،الذي يبدو لاهجا بالأسئلة الصعبة، أصدر الدكتور محمد بوعزة كتابه (استراتيجية التأويل من النصية إلى التفكيكية)(3)، وهو كتاب في أصله مدخل نظري لأطروحته للدكتوراه التي حملت في جزئها التطبيقي المنشور عن مؤسسة دار الانتشار العربي عنوان (هيرمينوطيقا المحكي النسق والكاوس في الرواية العربية)(4) وكان الاشتغال التطبيقي منصبا في كليته على أعمال سليم بركات الروائية.

إن اجتزاء الدكتور محمد بوعزة للمدخل النظري من الدكتوراه وجعله في كتاب مستقل له ما يسوغه باعتبار استقلالية المدخل النظري بذاته، في الآن نفسه الذي يؤسس للتصور العام للأطروحة.هذه الاستقلالية تجعل مناقشة الكتاب في ذاته مبررة،لكنها ستكون ناقصة،خاصة وأننا ملزمون بالكشف عن العلاقة بين النظرية والتصور العام للأطروحة،باعتبار التصور النظري هو الأطروحة بكليتها(تنظيرا يمهد للممارسة ويكشف أبعادها).

أولا:في الاستراتيجية العامة للكتاب:
إن كتاب(استراتيجية التأويل)هو أساسا مجموعة معارف مفهومية، تشكل مهادا نظريا بإمكان القارئ الإفادة منه في ممارسته النقدية وفي فهمه كتاب الناقد محمد بوعزة(هيرمينوطيقا المحكي)وهذا يعني أن كتاب استراتيجية التأويل يمكن قراءته باعتباره كتابا مستقلا بذاته-وفي هذا غير قليل من الجناية على الكتاب وكاتبه-كما يمكن قراءته باعتباره مدخلا نظريا لأطروحة(هيرمينوطيقا المحكي)التي تشتغل على روايات متفردة في المتن الروائي العربي المعاصر،أعني روايات سليم بركات،الكاتب الذي يعاني من هويته الكردية المجروحة ويصدح بغناء مأساوي يعرف بمحنة هذا الكردي في بلده وفي البلدان العربية التي يوجد فيها..هذه إشارة لابد منها ليعرف القارئ طبيعة كتاب(استراتيجية التأويل).والآن لنتوقف عند أهم المفاهيم النقدية الثاوية في تضاعيف كتاب(استراتيجية التأويل)وفي عنوان الكتاب أيضا:

-إن أي عمل نظري قائم على المفاهيم لا يمكنه أن يصبح فعل ممارسة نقدية إلا إذا أفاد منه صاحبه نفسه في تطبيق تلك المفاهيم وفي تجلية إجرائيتها وهذا ما توافر لكتاب محمد بوعزة(استراتيجية التأويل).إننا مع كتاب الدكتور محمد بوعزة إزاء أربعة مفاهيم كبرى ثاوية في عنوان الكتاب ذاته وهي:

-مفهوم الاستراتيجية
-مفهوم التأويل
-مفهوم النصية
-مفهوم التفكيكية
لقد أضيف المفهوم الأول إلى الثاني، واندغما في بعضهما ليصبحا مفهوما واحدا أساسيا في انسيابه وانتشاره في ثنايا فصول الكتاب، والاستراتيجية في أصلها وعمقها الإيتيمولوجي اختيار "قيادي "يختاره صاحبه لتحقيق هدف محدد مسبقا،خاصة وأن الاستراتيجية تعني التكنيك والتخطيط وهي كلها مما يُتوسل بها لإضفاء طابع "العلمية" هنا على المباحث النظرية النقدية التي تراوح بين(النصية) و(التفكيكية) وهما كما يعلم الجميع مذهبان في فلسفة الأدب ونقده.

والآن يحق لنا، أن نتساءل ماذا يعني الناقد محمد بوعزة بمفهوم (استراتيجية التأويل)؟ الجواب على هذا السؤال ينبغي أن يتخذ مسارات متجاورة الشرفات في الإطلالة على النظريات النقدية المعاصرة ذات المرجعيات الفلسفية مبتدأً ومنتهى.

-إن تشييد المفاهيم دون القيام بتطبيقها لا يمنح هذه المفاهيم أي قيمة، هذا إذا لم يجعلها إطارات فارغة في أوعية ممتلئة.

-المفهوم هو ممارسته وهذا ما يجعل كتاب (استراتيجية التأويل من النصية إلى التفكيكية) كتابا-مهادا نظريا للكتاب التطبيقي (هيرمينوطيقا المحكي النسق والكاوس في الرواية العربية).

ثانيا:في المفاهيم الكبرى لكتاب (استراتيجية التأويل):
1- 2 الكلمات المفاتيح:
-إن ما يقوم به النقد الأدبي هو بلورة منهج،بمعنى بلورة مسالك مضيئة تنير النص وتساعد على قراءةٍ قوامها الفهم ومؤداها الحوار المنتج الفاعل والمتفاعل.

-إن المفاهيم أدوات إجرائية تخول لصاحبها إنتاج معرفة بموضوعها،وهي لذلك تؤسس لهذا التصور النقدي أو ذاك،إن من يهتم بالتأويل لا بد أن تناوشه المفاهيم الكثيرة الرائجة في هذا الميدان المعرفي النقدي الرحب،ومن ثم تصبح الاستراتيجية في التأسيس لمفاهيم محددة تؤدي وظيفة إنتاج المعرفة بموضوع الرواية الجديدة العربية(روايات سليم بركات مثلا)شرطا ضروريا،لا محيد عنه لابتكار ما يلائم هذه الرواية الجديدة من مفاهيم تصوغ التأويل وترتقي به إلى درجة الإفهام المبتكر. لقد أكد بول ريكور على وجود صراع التأويلات.وهذا له ما يسوغه في التراثين الفكريين الديني والدنيوي. ولعله لهذا وحده يعد التأويل من مبادئ التأسيس لاستراتيجية في صوغ موضوعها القائم على المفاهيم وعلى أساس الوضوح والدقة والملاءمة العلمية.

على أن أهم ما يطالعنا في عنوان كتاب الدكتور محمد بوعزة،هذا التفريع الذي يقول في ه(من النصية إلى التفكيكية).إلى مَ يستند التأويل لدى الناقد محمد بوعزة،إلى الهوى المعرفي-كما يقول هوسرل-أم إلى المعرفة(العلمية)؟أكيد أنه يستند إلى المعرفة،وهذه المعرفة تتطلب ممارسة الجهود المضنية في بناء مفهوم ما وجعل هذا المفهوم قابلا للتطبيق ومطواعا في يديْ الناقد والقارئ معا.

إن مفهوم الاستراتيجية يميل إلى تحقيق هذا المطلب، لأنه يتشيد وفق رؤية نقدية علمية واضحة تجعله يُعنى بتركيز الاهتمام "على تفكيك الوضع الإيبيستمولوجي لمفهوم (الدلالة)، من خلال مقاربة مقارنة ترصد أسسه النظرية في نماذج نظرية ومعرفية مختلفة (اللسانيات البنيوية، اللسانيات الثقافية، السيميولوجيا، الشكلانية، نظرية النص، سوسيولوجيا النص، التفكيك""(5).وقد مكنه هذا "من رسم مسار التحولات التي طرأت على مفهوم الدلالة في هذا المنعطف التاريخي والمفصلي-ما بعد البنيوية-حيث انتقل من المقاربة المحايثة إلى المقاربة عبر اللسانية التي تركز على الطابع الدينامي والسياقي للدليل،الذي يتجلى في مفاهيم التعددية والإنتاجية والتناص والاختلاف والدلالية"(6).

2- 2 أقسام الكتاب:
ينقسم كتاب الدكتور محمد بوعزة إلى مقدمة وثلاثة فصول وخاتمة: أما المقدمة فقد صرح فيها الكاتب الناقد بما أنجزه في طوايا كتابه،وما كان يطمح إلى تحقيقه،وقد حققه كليا أو جزئيا. أما الفصل الأول فيحمل عنوان (دينامية الدلالة) والفصل الثاني عنوان (صيرورة التعددية) والفصل الثالث (استراتيجية التأويل) وكل عنوان فصل من هذه الفصول الثلاثة تلتم فيه مفاهيم نقدية كبرى هي التي تؤسس للتصور العام الذي يحمل عنوانَ الفصل.

ففي دينامية الدلالة انشغل الناقد وبعمق، بالتفكيك الإيبستيمولوجي لمفهوم الدلالة، وتوزع هذا الانشغال-كما سبقت الإشارة-إلى حقول معرفية متعددة تأدى عن هذا الانشغال الانتهاء إلى إرساء مفاهيم مركزية في هذا الفصل وهي "التعددية والإنتاجية والتناص والاختلاف والدلالية" وكل واحد من هذه المفاهيم تم بناؤه وفق نسق منهجي شبيه بما كان يفعله أصحاب مذهب النصية الذين يبنون ويبنينون النصوص في نصيتها، أي أدبيتها، وبطرائق مختلفة ومتعددة تعدد الحقول المعرفية التي يُحَلل فيها النص وبالأدوات التي تستخدم في هذا التحليل.

أما الفصل الثاني من الكتاب والحامل لعنوان(صيرورة التعددية)فقد اهتم فيه الناقد محمد بوعزة بإشكالية تعدد المعنى، وهي إشكالية تتساوق مع مفاهيم كبرى مثل مفهوم النص باعتباره ظاهرة دينامية تتشكل في شبكة من التعالقات والنصيات والبنيات المتداخلة(7).إن أنطولوجية النص بهذا المعنى تدل على ما هو مفتوح ومنطو على أنساق وشفرات متعددة،ومستويات مختلفة ومضمرة(8).وتمنحه دلالات هي بمثابة اقتراحات ضمن صيرورة من التحولات الدلالية القائمة على التعددية.مما يجعل الكاتب يفي بما وعد به في عنوان الفصل وفي تضاعيفه أيضا وهي طريقة منهجية تقوم على مراعاة ميثاق القراءة وتستجيب لأفق انتظار القارئ.

في الفصل الثالث والأخير من الكتاب نجد عنوان الفصل الذي حمل الكتابُ عنوانَه الرئيسَ،أعني(استراتيجية التأويل)وهو الفصل الذي يجلو منهجَ الكاتب في عملية التأويل،انطلاقا من ثلاثة مفاهيم كبرى هي:

-المفهوم الأول: التأويل اللامتناهي، وبداخله أربعة مفاهيم تأسيسية تبني المفهوم الكبير وهي:

-1النص تشتيت.-2لعبة الإحالات اللامتناهية.-3رهان التأويل التفكيكي.-4المرجعية الهرمسية(9).

-المفهوم الثاني: التأويل المتناهي، وبضمنه مفهوم آخر مركزي، هو مفهوم قوانين التأويل الذي تنبثق عنه مفاهيم:-1الاقتصاد التشاكلي.-2قصدية النص.-3المعنى الحرفي.-4النمذجة.

المفهوم الثالث: مستويات التأويل: وهي مستويات مركبة ومتراكبة ينبغي الإنصات إليها كلها لأنها وإن كانت تنبجس من ينبوع واحد فإن انسيابها ينداح في جداول متعددة.

إن التأويل منهج في إنتاج المعنى وفي اختباره بتلقيه على أي وجه صلحت فيه الدلالة المهيمنة،وذلك طبقا للقراءة الرصينة التي يسلكها الناقد الحصيف.

 

الهوامش:

(1)محمد مفتاح: مجهول البيان، دار توبقال، الدار البيضاء، الطبعة الأولى1990.ص89.

(2)نفسه.ص89.

(3)محمد بوعزة: استراتيجية التأويل من النصية إلى التفكيكية، سلسلة معالم نقدية، منشورات الاختلاف ودار الأمان، الجزائر والرباط. الطبعة الأولى.2011.

(4)محمد بوعزة: هيرمينوطيقا المحكي النسق والكاوس في الرواية العربية. مؤسسة الانتشار العربي.بيروت.الطبعة الأولى.2007.

(5)محمد بوعزة: استراتيجية التأويل...ص9.

(6)نفسه.ص9.

(7)نفسه.ص9.

(8)نفسه. ص ص9-10.

(9)نفسه. ص6.