أحد أكبر تحديات العالم اليوم رقمنة التراث الإنساني في مختلف مجالات التعبير الإنساني وفي مجالات مختلفة، بموازاة ازدياد الاهتمام بالأرشفة والتأريخ والتوثيق. في هذا التقرير نقترب من حاجة هذا التراث الثقافي اللامادي مع ازدياد الوعي لدى العديد من المؤسسات والمنظمات الدولية بضرورة الانخراط في هذا المسعى، ويمثل لقاء برلين أحد نماذج للمؤتمرات العالمية اليوم في هذا المجال.

برلين: رقمنة التراث الإنساني

التراث الثقافي غير المادي يتجلى بصفة خاصة في مجالات التقاليد وأشكال التعبير الشفهي، والممارسات الاجتماعية والطقوس والاحتفالات.

يعتزم خبراء مختصون في المتاحف والمكتبات والاقتصاد الرقمي، تحميل تراث الثقافة الإنسانية كاملا على الإنترنت، ومن المقرر أن يتشاور خبراء المتاحف وأمناء المكتبات وكذلك خبراء الإنترنت، حول رقمنة هذا التراث في مؤتمر عالمي يحمل اسم “إنشاء الوصول” بالعاصمة الألمانية برلين الشهر الماضي.

وفي هذا الصدد، أوضحت المكتبة الرقمية الألمانية بصفتها مشاركة في هذا الحدث، أنه يمكن من خلال رقمنة التراث الفني والثقافي والوثائق التاريخية على شبكة الإنترنت، إتاحة الفرصة لوصول عدد كبير من الجمهور إليها.

وتشمل رقمنة التراث الثقافي حفظ الموروث الإنساني من تراث مادي وتراث لا مادي عبر أحدث التقنيات التكنولوجية متعددة الوسائط ليصبح متاحا إلى الجميع عبر الإنترنت وذلك مواكبة لتطور تكنولوجيا المعلومات، وهي طريقة لحفظ تاريخ الإنسانية باعتماد الرقمنة كشكل من أشكال التوثيق الإلكتروني الذي من شأنه أن يوفر طريقة ناجعة لحفظ الموروث الشفاهي المتوفر بكثرة في العالم العربي، والذي رغم ثرائه وبعده التاريخي والرمزي بات مهددا بالانقراض.

فالشعوب العربية التي تتوق اليوم إلى الحداثة أصبحت تهمل شيئا فشيئا إرثها الثقافي الشفاهي وعاداتها وتقاليدها ما يجعلها مهددة بالنسيان والاندثار. غير أن المهتمين بتاريخ الأمم وتراثها من مؤرخين وباحثين تنبهوا إلى هذا الخطر وبذلوا جهودا في البحث عن طرق لحفظ هذا التاريخ بالتعاون مع المنظمات المحلية والدولية المختصة في هذا الشأن مثل منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو).

التوجه نحو حفظ التراث الثقافي وتحديد هذا المفهوم وحصر الأشكال التي يضمها هذا التراث، انطلقت في بداية سنوات التسعينات وفي عام 1997 بادر عدد من المثقفين المغاربة بالاشتراك مع منظمة “اليونسكو” بعقد اجتماع في مدينة مراكش المغربية حدد خلاله مفهوم “التراث الشفوي للإنسانية”.

وتقرر خلاله التفريق بين أعمال هذا التراث بهدف حفظها وإبراز قيمتها وذلك في إطار “إعلان روائع التراث الشفوي والتراث اللامادي للإنسانية”، وفي عام 2003 تبنت الدول الأعضاء في “اليونسكو” اتفاقية لصون التراث الثقافي اللامادي التي دخلت حيز التنفيذ في إبريل 2006.

وأكدت اتفاقية اليونسكو لصون التراث غير المادي على الأهمية الثقافية لهذا الموروث بالنسبة إلى الإنسانية جمعاء بوصفه بوتقة للتنوع الثقافي وعاملا يضمن التنمية المستدامة، وقد حثت المنظمة على تعزيز الوعي خاصة بين الأجيال الناشئة، بأهمية التراث الثقافي غير المادي وبأهمية حمايته، لذلك وضعت المنظمة برامج خاصة بالتراث الثقافي غير المادي، ووضعت قائمة خاصة بهذا النوع من المواد الثقافية أدرجت ضمنها عديد المواد المتعلقة بالإرث الثقافي العربي ومن بينها الممارسات والتصورات وأشكال التعبير والمعارف والمهارات التي تعتبرها الجماعات والمجموعات، وأحيانا الأفراد، جزءا من تراثهم الثقافي حيث تنمي لديها الإحساس بهويتها والشعور باستمراريتها، وتعزز من ثم احترام التنوع الثقافي والقدرة الإبداعية البشرية.

ويتجلى التراث الثقافي غير المادي بصفة خاصة في مجالات التقاليد وأشكال التعبير الشفهي، وفنون وتقاليد أداء العروض، والممارسات الاجتماعية والطقوس والاحتفالات، والمعارف والممارسات المتعلقة بالطبيعة والكون، والمهارات المرتبطة بالفنون الحرفية التقليدية. وتجتمع اللجنة المختصة في جمع وتصنيف التراث اللامادي التابعة لليونسكو كل عام، لتقييم العناصر المرشحة، ولتقرر في مسألة إدراج الممارسات والتعابير الثقافية من التراث غير المادي المقترحة من قبل الدول الأطراف في اتفاقية عام 2003.

وتضم هذه القائمة عديد التعبيرات عن التراث الثقافي اللامادي العربي، ومنها المقام العراقي، الذي أدرج ضمن القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي للبشرية في منظمة اليونسكو عام 2008، ويعتبر هذا المقام التقليد الغالب في الموسيقى الكلاسيكية العراقية ويشمل تشكيلة كبيرة من الأغاني ترافقها آلات موسيقية تقليدية، كما يحتوي هذا النوع الشعبي على كمية وافرة من المعلومات المتعلقة بتاريخ المنطقة الموسيقي وبتأثيرات العرب التي أبقت سيطرتها على مر العصور.

ويرتبط المقام العراقي، من حيث تركيبته والآلات المستخدمة فيه، ارتباطا وثيقا بمجموعة الأشكال الموسيقية التقليدية المعروفة في إيران وأذربيجان وأوزبكستان.

كما أدرج ضمن هذه القائمة زي الزفاف التلمساني عام 2012 وهو مرتبط بقسم المهارات والحرفية والطقوس، إذ يعتبر أحد طقوس الزفاف في تلمسان (شمال غرب الجزائر) حيث ترتدي العروس ثوبا من الحرير الذهبي المنسوج تقليديا، وهو من الطقوس التي ترمز إلى التآزر بين الأسر التلمسانية أثناء الاحتفال بالزواج وإلى الاستمرارية بين الأجيال، بينما تلعب فيه الحرفية دورا رئيسيا في إدامة الإبداع وهوية مجتمع تلمسان. وفي ذات السنة أدرجت ضمن القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي “التغرودة الإماراتية” التي تعد نوعا من أنواع الشعر الشعبي البدوي الذي كان يقرضه الشعراء في دولة الإمارات المتحدة وعمان اللتين تعدان الموطن الأصلي والحصري له، وكان الرجال يؤدونه على ظهور المطايا في ترحالهم من مكان إلى آخر، كما ينشد هذا النوع من الشعر في بعض حفلات السمر التي تقام على غرار المناسبات الاجتماعية.