هذا حوار معمق مع مؤلف كتاب ("العقل بين الوحي والتاريخ: حول العدمية النظرية في إسلاميات محمد أركون) يكشف لنا من خلال جدله الخلاق أبعادا ثرية في العمل البحثي والمنهجي.

حوار مع المفكر التونسي محمد المزوغي

وكتاب ("العقل بين الوحي والتاريخ: حول العدمية النظرية في إسلاميات محمد أركون)

الطيب ولد العروسي

محمد المزوغي: أودّ أن أوضّح موقفي منذ البداية وبصفة نهائية. أنا لا أنقدُ شخص أركون وليست بَيني وبينه أية ضغينة، كل ما يَعنيني من أركون بالدرجة الأولى هو ما كَتبه وما طرحه من أفكار على الساحة الثقافية. كنتُ أقرأ لأركون منذ التسعينات، أي منذ إخراجه كتاب "تاريخية العقل الإسلامي" ونصوص أخرى صادرة في مجلات مختصة بالاضافة إلى حواراته مع هاشم صالح المنشورة بمجلة "الفكر العربي المعاصر". ومنذ ذلك الوقتُ ـ كنتُ طالبا في كليّة الطبّ بتونس ـ وأنا أتابع أعماله بصَبر ومثابرة. وبعد كل قراءة لنص من نصوصه كثيرا ما تنتابني الشكوك والحيرة. كنتُ أتساءل، كيف أصنّف فكر أركون؟ هل هو تنويري؟ هل هو من دُعاة العلمانية؟ أم أنه يُواري خلف تحاليه أغراضا نظرية وعملية أخرى. أخيرا لقَطع هذه الشكوك تعمّقتُ من جديد في نصوصه وحاولتُ، قدر الإمكان، أن أغوص فيها بكلّ تجرّد وموضوعية، إذاك بدأت تتبيّن لي بعض النقاط التي كانت غامضة من قبل، أو لم أستطع استكناه مغزاها الصحيح، وبَدَل أن أكبُتَ شكوكي واعتراضاتي بين جنبيّ حاولتُ طرحها على المثقفين العرب، فأخرجتُ كتابي هذا وعنونته "العقل بين الوحي والتاريخ. حول العدمية النظرية في اسلاميات محمد أركون".

الطيب ولد العروسي: في الصفحة 30 تصف أركون بـ"الازدواجية في الرأي وعدم الثبوت على فكرة واحدة ونقض المواقف السابقة وتقديم تعريفات وضمانات منهجية ثم خرقها أو إضعاف مفعولها وزحزحة المصطلحات عن معانيها الثابتة، ثمّ الساديّة (sadisme) في الكتابة، أعني الإطالة والثرثرة والتقعّر". هذا الكلام قد يصدم القارئ بعض الشيء، فعلى أي شيء اعتمدت للوصول إلى هذا الحكم القاسي يا دكتور محمد المزوغي؟

المزوغي: أنا لم أصف أركون تحديدا بهذه الصفة، أو على الأقلّ لم أجعل منها خاصية مميزة لأركون وحده. لكنني قلتُ بأن هناك تيارا كاملا من المفكرين الغربيّين ذوي التوجّه النيتشوي الهايدغاري، وهذا التيار الفكري له منحى عدمي. وهو أمر معروف في الساحة الثقافية، ومعترف به من طرف خصومهم من المثقفين الغربيين أنفسهم. وقد ركّزت على هذه النقطة بالذات، أعني أن هذا المنحى الفكري، الذي انتهجه أركون، (ما أسماه بنهاية اليقينيات) قد ساعدت على توطيده، وتركيز معالمه، إحدى النزعات الفكرية التي سادت الساحة الثقافية الفرنسية خلال العقود الثلاثة الماضية، والتي نَهَل منها أركون وتشبّع من تعاليمها، ثم عمل على تطبيقها في مجال الإسلاميات. ما معنى نهاية اليقينيات؟ ما المَغزى النظري والعملي من القول بتاريخية العقل؟ ألا ترى أن الزعم بأن المتضادات غير موجودة، وبأن العقل الحديث كفّ عن طلب الحقيقة، أي الحقيقة بألف ولام التعريف، هو ضرب للعقل النظري وللمكتسبات العلمية في الصميم؟ وقد نبّهتُ على أن الجانب السلبي من هذه التيارات الفكرية، التي يَنتحلها أتباع نيتشه وهايدغر في فرنسا، أمثال فوكو ودريدا ودولوز، يكمن أساسا في تركيز نقدهم على العقل العلمي التنويري، لزعزعة أسسه المنطقية والتقليل من شأن مشروعه التحرّري، فاتحين المجال لكلّ أصناف اللاعقل، مِن الجنون حتى الشعر والخيال والأسطورة(2) . ولذلك فإن استنتاجي في محله حينما قلت بأن بعض المثقفين العرب، ومن بينهم أركون، تلقّفوا هذه الأفكار وركّزوا عليها تحاليلهم وأعطوها أهمية تفوق قيمتها الفعلية، دون التفطّن إلى المآزق النظرية التي تنجرّ عنها. ولقد عَدّدتُ في كتابي جملة تلك المآزق وحللتها بالتفصيل وأوردتُ النصوص المدعّمة، وأنا أطلب المحاججة بالنصوص، وفقط بها وحدها.

العروسي: تقول في الصفحة 34 "هل يعني ذلك أن أركون هو مفكر تَنعدم عنده الحقائق بالكامل ودوغمائي في تشبثه بهذا الرأي؟ هل أن غايته تكمن في فسح المجال أمام اللاعقل والركون إلى مواقع دينيّة إيمانية؟" لكن الرجل يدعي العقل في كل كتاباته؟

المزوغي: أولا، هذه مشكلة معقدة بعض الشيء، وإن لم نُحِط بجوانبها ووجوهها المختلفة فمن غير المُستبعد السقوط في نوع من الاعتباط أو التسرع في الحكم، ذلك لأن أركون في بعض صفحات كتُبه يعمل على نقد النزعة التّكفيرية الإقصائية التي تنتهجها بعض التيارات الدينية، وهو لا يعني فقط الأصولية الإسلامية، بل يسحب حكمه على جميع أشكال الأصوليات خصوصا في الديانات التوحيدية. وهذا أمر مُتفق عليه من طرف كل المفكرين التنويريّين. لكن هل يعني هذا أن أركون يتبنّى مقولات التنوير ومقتنع بها تماما؟ لديّ شكوك جمة في هذا الإطار. ولقد قدمتُ البراهين والنصوص التي تُثبتُ أن أركون يتبنّى موقفا معاديا لروح التنوير والعقلانية، وبالتالي قولك بأن أركون يدّعي العقل في كل كتاباته، هو غير مطابق لواقع نصوصه. خذ مثلا أطروحته المركزية بخصوص ما أسماه بالعقل السكولاستيكي، وهي تسمية استمدّها من السوسيولوجي الفرنسي بورديو. إنها تسمية تحقيرية بالأساس لأن أركون يعارض هنا العقل العلمي الوضعي، وهو العقل الذي قضى على الخرافات وحرّر الإنسان من أسر الخيالات والأساطير الدينية. لكن أركون وضع نصب أعينه هدفا محددا، وهو الأهم من جملة أهدافه، كما أقرّ بذلك صراحة، وهذا الهدف هو الخروج من أسر العقل والعقلانية. وقد اعترف بذلك جهارا قائلا: «فقد رُبّينا وتعلّمنا في الغرب منذ القرون الوسطى في أحضان ما يُدعى "بعبادة العقل" (العلمنة والدين، ص، 26)». ذلك لأن العقل، بالنسبة إليه، إما أنه عِلمي وضعي « متعجرف... لا يفسح أي مجال لكلام المؤمنين ( الفكر الأصولي واستحالة التأصيل، ص، 41)»، أو أنه مضروب بنقص جوهري في بنيته الداخلية، وقاصر على معرفة أي شيء في هذه الدنيا. ولقد ذهبَتْ به منازعته للعقلانية إلى رفض أي تفاضل نظري بين العقل والإيمان. يقول في كتابه أعلاه بأنه يجب احترام « التمييز الحاسم والأساسي بين موقف الإيمان من جهة / وموقف العقل النقدي من جهة أخرى. لا أريد هنا تأكيد تفوّق أحدهما على الآخر ( الفكر الأصولي واستحالة التأصيل، ص، 40)». لقد اختار أركون التصوّر المُنهَك للعقل، أو الضعيف (debole) كما يقول النيتشويون الإيطاليون، أعني ذاك العقل الذي يصفه أركون بأنه « يعترف بعدم قدرته الحاليّة على القبض على سلسلة الأسباب والنتائج. ذلك أنه كلّما راح العقل يفكّر بالعالم وظواهره المحسوسة كلما أدرك مدى عجزه وقصوره (الفكر الإسلامي. قراءة علمية، ص، 189)». هذه هي الأطروحة المركزية الثابتة والتي شَيّد عليها كلّ بناءاته "النظرية": فالعقل لا يعرف إلاّ عجزه الذاتي، وهو قاصر على إدراك حقائق الأشياء، وبالتالي فلا مبرّر لنكران الأساطير أو التملص من المعتقدات الدينية، لأن الاعتقاد ضروري في حياة الإنسان، لا بل إن هذا الأخير، أعني الاعتقاد، أصبح يلفّ كلّ شيء وأخذ حسب رأيه « يغزو النظريات العلمية الأكثر عقلانية (الإسلام أوروبا الغرب، ص، 70)». على أساس هذه الأطروحات ـ وقد أوردتُ الكثير منها في كتابي ـ فإنني وجدت نفسي مرغما على الاستنتاج التالي وهو أن تركيز أركون الدائم على هذه النقطة غايته ليس ترسيخ العقلانية بل، إن لم أخطئ، بث النزعة التشكيكية في قدرات العقل وتعليم قرائه كيفية التخلص من ربقته. وقد أكد عديد المرات أنه « ينبغي أن نتذكّر ذلك لكي نتخلّص من تلك العقلية العلموية (أو المتطرفة علميا)». التخلص من العقل العلمي ليس له إلاّ مخرجا واحدا: الارتماء في أحضان اللاعقل بجميع أشكاله والتنكّر لانجازات التنوير ليس إلاّ.

العروسي: في الصفحة 37 تؤكد قائلا " فالأنثربولوجيا الحديثة المحمودة ـ حسب أركون ـ متأتية من الغرب أما تلك المذمومة، أعني الأنثربولوجيا "الغرب ـ مركزية"، فهي أيضا واردة من الغرب. الكلّ يعلم أن الذين نقدوا الأنثربولوجيا الاستعمارية وتفطّنوا إلى أرضيّتها العنصرية التفاضلية هم من العلماء الغربيّين، وقد تصدّوا لها وفندوا مزاعمها وجعلوها تتراجع عن مواقفها اللاعلمية". لكن لأركون ثقافة عربية إسلامية وكان قد قدّم بحثا حول مسكويه؟

المزوغي: السؤال الأساسي ليس هذا. أنا لا أنكر أن أركون يملك ثقافة عربية إسلامية، ولا يغيب عنّى أنه قدّم بحثا حول مسكويه. يجب أن تضع كلامي في إطاره الصحيح. المسألة تخص العقل التنويري ودوره في بروز الحداثة. أركون يحمل في كتابه " القرآن. من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني " على الحداثة وعقل الأنوار لأن هذا الأخير حسب زعمه: « دعا إلى التسامح وحارب العصبية الدينية والطائفية والدوغمائية والإنعكاف على "مصالح" الأمة أو الملّة ورفض كلّ ما هو خارج عن تلك "المصالح"، أقول من الملاحظ أن تلك الحداثة الفكرية فشلت في تعميم "الأنوار" الحديثة والتخلّي عن ذهنية التحريم أو التكفير والحروب الدينية وإحلال ذهنية الأنسنة المتفتحة محلّها». وفشل الأنوار في الوفاء بوعوده يُرجعه إلى هذا السبب، وهو أن: « العقل الحديث لم يتقيّد بتعاليم الأنتربولوجيا الحديثة [المتأتية من الغرب (تعليقي)]، وإنما اكتفى منذ القرن التاسع عشر بالغرب وحصر نفسه فيه». وهنا لا بدّ أن أذكر القارئ بأن أركون يناقض نفسه، حينما ادعى العكس في كتاب "قضايا في نقد العقل الديني"، حيث ذهب إلى أن « العقل لم يُكذّب وعوده في تبيان مقدرته على حلّ مشاكل الناس وبناء حضارة رائعة في هذه الأرض. ولو أنه خلف بوعده لانصرف الناس عنه (ص، 320)». ولكنه في نفس ذاك الكتاب، يُعيد الكرّة ويتهجّم على عقل التنوير، ملقيا عليه نفس التهم التي ألقيت عليه من قبل اللاعقلانيين الغربيين، ومناهضي التنوير من ميشيل فوكو وأمثاله ذلك أن العقل حسب أركون: « قد نسي جذوره الأولى ومعاركه التحررية الأصلية، وتحوّل إلى عقل مهيمن ومسيطر وبارد. لقد فقد طزاجته الأولية وبراءته الأصلية ككلّ العقائد التي تترسّخ وتنتصر. وهكذا يَرفع شعار العلمانية ويَستغيث بفولتير كُلّما لَمح شبح الأصولية الإسلامية!».

أما بخصوص الأنثربولوجيا ودورها في خلق ذهنية منفتحة، فقد قلت بأن أركون جعل منها المخلص وكبش الفداء في نفس الوقت: الأنثروبولوجيا "الغرب ـ مركزية" متأتية من الغرب، والأنثربولوجيا "المنفتحة"، متأتية هي أيضا من الغرب، والعالم الإسلامي بقي حسب زعمه « أبعد ما يكون عن ممارسة الفكر الأنثربولوجي بالمعنى الواسع الذي ندعو إليه، من العقل والثقافة والتفكير السائد في الغرب»، الحلّ الوحيد للخروج من هذا المأزق هو النهل من علم الأنثربولوجيا الذي ادّعى أركون بأنه « يُخرج العقل من التفكير داخل "السياج الدوغمائي المغلق" إلى التفكير على مستوى أوسع بكثير: أي على مستوى مصالح الإنسان، أيّ إنسان كان. كما أن العلم الأنثربولوجي يعلّمنا كيفية التعامل مع الثقافات الأخرى بروح منفتحة متفهّمة، وضرورة تفضيل المعنى على القوّة أو السلطة، ثمّ تفضيل السلم على العنف، والمعرفة المنيرة على الجهل المؤسس أو المؤسساتي». لقد قدّمت الشكوك حول صحة هذه الأطروحة وبيّنت أن الأنثربولوجيا التي يدعو إليها أركون، خصوصا أنثربولوجيا ليفي شتراوس وأتباعه، لا تقود بالضرورة إلى التعامل مع الثقافات الأخرى بروح منفتحة. ولقد أعطيت مثالا على ذلك من خلال بعض مؤلفات شتراوس، خصوصا كتابيه "العرق والتاريخ" و "العرق والثقافة" واعترافاته في محاورة له مع ديديه إريبون (Didier Eribon) الذي نشرها في كتاب بعنوان " مِن قريب ومِن بعيد " (De près et de loin). لقد اعترف شتراوس نفسه بأن عمله أحدث فضيحة في أوساط اليونسكو (il a fait scandale à l UNESCO  ). حيث دافع عن مُنظّر العنصرية المعروف غوبينو (Gobineau) مُدعيا بأن هذا الأخير لم يكن عنصريا أو امبرياليا كما يُعتقد، وكشف لمحاوره حقيقة أن كُتبه تحتوي على الكثير من الشواهد المُقنَّعة (أو المكشوفة) المستمدّة من كتاب غوبينو "لاتساوي الأعراق" (مثلا في آخر صفحات المدارات الحزينة وكتاب أساطير ). فأفكار غوبينو، بالنسبة لشتراوس لا تلعب فقط دور المُصحّح للطريقة الخاطئة التي قرئ بها عمله "العرق والتاريخ"، بل هي الأرضية النظرية التي انطلق منها في كتابته ذاك العمل. (انظر، ديديه إريبون من قريب ومن بعيد باريس، طبعة 2001، ص، 206 ـ 207، وانظر أيضا الباحث الإيطالي غروتانيلّي الذي كشف عنصرية دوميزيل (Dumézil) و شتراوس في كتابه ، إيديولوجيات، أساطير، إبادات  (C. Grottanelli, Ideologie, miti e massacri, Palermo 1993, p. 167 - 169). لقد قال بأن اختلاط الأعراق يؤدي إلى الموات الحراري (Entropie) ويسكّن صيرورة المجتمعات، وهذه التخمينات استقاها مباشرة من غوبينو، وحتى رفضه لإمباريالية الرجل الأبيض، التي شرّع لها غوبينو، فهو رفض جزئي إن لم يكن في الحقيقة تسليما مقنعا. فبالنسبة إليه، الرأسمالية (والإمبريالية) هي الدواء الأخير لمرض تلاقح الشعوب، الذي قد يؤذن بتفسّخ خصوصياتها إن لم تحاول حماية نفسها، ولقد قال هذا في النص الذي طلبته منه منظمة اليونسكو لمجابهة مشاكل العنصرية في العالم، أعني "العرق والتاريخ . الأنثروبولوجي الذي من المفروض أن يكون منفتحا على الآخرين وأن يعي بأن تنوّع الثقافات، لا يحول دون تقاربها وانصهارها، هذا الرجل الذي من المفروض أن يَقِيه علمه، الذي أثنى عليه أركون، أعني الأنثربولوجيا، من السقوط في فخّ الأحكام المسبقة، ها هو ذا يقول بالحرف: « إن الاحتكاكات الوجيزة التي جمعتني بالعالم العربي وَلّدت في نفسي كُرها غير قابل للإجتثاث» (من رسالة بعث بها إلى رايمون آرون)، ونفس هذا الشعور اختلجه إزاء البلدان الإسلامية، واعترف بذلك في "المدارات الحزينة". لكن الأدهى هو أنه يُبرّر قرفه من الشعوب العربية الإسلامية، ذاكرا نفس الحالة التي انتابت عالم اثنولوجي أمريكي إزاء بعض القبائل من سكان أمريكا الأصليّين.

أنا لا أودّ التشكيك في علم الأنثربولوجيا، أو مصادرة مجهودات العلماء بالكامل، لكننا ينبغي أن نتّخذ الحذر من تلقي هذه الأشياء الغث والسمين منها، واعتبار ذاك العلم طريقا يؤدي بالضرورة إلى الإنفتاح والمثاقفة.

العروسي: في الصفحة 49 تقول أيضا "وفعلا أركون يؤكّد هذه النسبوية السفسطائية ويردّد أطروحات الإنثربولوجيين الفرنسيين وجمهرة الفلاسفة أتباع التيار النيتشوي". فهل تريد أن تقول بأن مراجع أركون هي المدرسة الغربية فقط، أو بعض منها؟

المزوغي: لقد أجبتُ على هذا السؤال في كتابي، وقلتُ بأنني لا أعيب على أركون استخدامه للمناهج الغربية، هذه شوفينية لا تليق بالمفكر الكوني. ولو أننا تمسكنا بهذا الموقف، موقف المعارضة، لأقصينا من التاريخ ابداعات الفلاسفة العرب جميعا واعتبرناها أمورا دخيلة ولكفّرناهم بالجملة. ثم إن الفكر الغربي ليس بصنم منحوت من حجر واحد، الفكر الغربي فيه تلوينات عديدة وتيارات مختلفة، متباينة ومتعارضة أشد ما يكون عليه التعارض. السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هو هذا: إن كنّا ملزمين بالأخذ من الغرب والنهل من علومه، فما الشيء الذي نأخذه وما الذي نتركه؟ ما الشيء الذي يقودنا فعلا إلى بناء مجتمع عالم ومنفتح؟ وبخصوص الاستعارة من الغرب، وهذا ما لا أعيبه على أحد، فإن أركون وجد نفسه في بعض الأحيان، كما نبّهتُ على ذلك في كتابي، في موقف شبيه بموقف خصومه الذين يَعيبُون عليه إسقاط العلوم الغربية على النصوص الإسلامية. المنهج العلمي الناجع يَتخطّى الأطُر الزمنية الضيّقة ويَتجاوز الحدود "العرقية" والثقافية. نحن نتأسى في هذا الشأن بمواقف فلاسفة الإسلام (مثل الكندي، والفارابي وابن رشد) من علوم القدماء. أعداء الفكر الفلسفي يتشابهون في كل زمان، ولم تتغيّر تُهمتهم بالاشتغال بعلوم دخيلة على الإسلام، لكن شعارنا ومنهجنا كان قد عبّر عنه أحسن تعبير الكندي الذي يرى أن القدماء من الفلاسفة اليونانيين هم بمثابة الأنساب والشركاء « فيما أفادونا من ثمار فكرهم التي صارت لنا سُبلا وآلات مؤدية إلى علم كثير». وأنه لا ينبغي علينا الاستحياء « مِن الحق واقتناء الحق من أين أتى. وإن أتى من الأمم القاصية عنا والأمم المباينة، فإنه لا شيء أولى بطالب الحق من الحق». ولا يَهم أن يكون مَن تَقدّمنا مشاركا لنا في الدين أو غير مشارك كما يقول ابن رشد « لأن الآلة التي تصحّ بها التّذكية لا يُعتبر في صحة التذكية بها كونها آلة لمشاركٍ لنا في الملة أو غير مشارك، إذا كانت فيها شروط الصحّة».

نحن نُسائل أركون بخصوص شروط صحة الآلة، ونجاعة تلك المناهج، ونحاسبه على النتائج التي أستخلصها، ثمّ نأخذ عليه أيضا نكرانه للبداهة وعدم اعترافه بمصادره. لكن هناك شيئا يصدمنا حقا في كلام أركون، لقد ألقى التهمة التي ألقاها عليه أعداؤه من الإسلاميين على المستشرقين، وقال بأن الاستشراق أو الإسلاميات الكلاسيكية: « هي عبارة عن خطاب غربي عن الإسلام، وهو صادر عن اختصاصيين باللغات الشرقية ... بمعنى أن المستشرقين ينتمون إلى ثقافتهم الخاصة عندما يراقِبون الإسلام، ثم يتحدّثون عنه انطلاقا من فرضيات مسبقة ومسلمات فلسفية ولاهوتية وإيديولوجية خاصة بهذه الثقافة، أو قل تربض وراء هذه الثقافة (العلمنة والدين، ص، 37)». لقد سقط أركون في نفس دوامة الريبية والإقصاء التي سقط فيها خصومه، بل إنه هنا يُعطي لخصومه الذرائع لدحضه هو والمستشرقين جميعا. لكن المستشرقين بدورهم سيعترضون على أركون ويتهمونه بأنه قرأ تراثهم وعلومهم الغربية من خلال إرثه الثقافي الإسلامي، وبالتالي فهو أيضا أسقط مسلمات فلسفية وإيديولوجية ودينية، خاصة بثقافته، على ثقافة أخرى. إذا دخلنا في دوامة هذه التّهم المتقاطعة فلن نخرج منها أبدا.

أقول: على الرغم من تأكيداته ومحاولاته التملّص من منابعه، فإن أركون يبقى وليد الثقافة الفرنسية ـ ونحن لا نعيب عليه ذلك إطلاقا ـ ومُتشبّعا من مناهجها وتعاليمها، وقد امتزجت فيه شتّى التيارات الفكرية واستحوذت عليه حتى في الجانب اللغوي الاصطلاحي: مثل تاريخية العقل، اللامفكر فيه والمستحيل التفكير فيه، صراع التأويلات.

العروسي: في ص. 57 تقول "لكن أركون متشبّث بموقعه هذا، ومَن اطّلع على كتبه فإنه سيحدس بمفرده أن الرّجُل واصل في تجذيره وترسيخ معالمه، وإطاره المرجعي لم يتغيّر طرفة عين بمرور الزمن، أعني أركيولوجيا فوكو، تفكيكية دريدا، تأويلية ريكور وتاريخ مجموعة الحوليات. لقد ارتكز على هذه المناهج وجعل منها سمة مميزة لفكره" كيف تفسر هذا التشبث؟

المزوغي: هذا السؤال يجب أن يُلقى على أركون بالدرجة الأولى. وكما قلتُ أعلاه، أنا لا أعيب عليه بالمرة اتخاذه مرجعيات من ذاك القبيل، أنا أسائله عن النتائج التي استخلصها وعن مدى تقدميّة ذاك المسلك الفكري الذي انتهجه. بحكم تكوينه الفرنكوفوني أركون اتجه إلى الثقافة الأقرب منه، أعني الثقافة الفرنسية، ولكنه للأسف تقفّى أثر تيار فكري لا يساعد على تجذير العقل التنويري. انظر مثلا، إلى تشبثه بمنهجية تاريخ مدرسة الحوليات، واستيائه من أن أحد المؤرخين الفرنسيين، كوهين (Cohen)، يعارض تلك المدرسة وينقدها بشدّة. ولقد اعترف أركون بذلك وأعرب عن دهشته قائلا: « أعترف بأن كلود كاهين قد صدَمني كثيرا وخيَّب أملي بسبب موقفه السلبي (وغير المفهوم) من فيرنان بروديل. فلم يكن يَطِيق سماع اسمه! ( قضايا في نقد العقل الديني، م. س، ص، 82)»، ثمّ يستنكر عليه ويتساءل: « لماذا هذا الموقف العدائي من زعيم التجديد في مجال البحث التاريخي والمنهجية التاريخية» وينصحه بالتراجع عن مواقفه وبتقبّل تلك الأعمال التي تناقض، سواء في المنهج أو في النتائج، أعماله التاريخية، وذلك لكي يتمكّن من فهم الشرق الإسلامي.

إذن حتى بخصوص هذه النقطة ينبغي علينا اظهار هذه الحقيقة، أعني أن أركون بالفعل استمدّ مناهجه ومجمل أرضيته النظرية من الفكر الفرنسي، ولكن من منطلق متحيّز إلى جهة دون أخرى، ومنحى دون آخر. مثل تحيزه لمدرسة الحوليات دون الإستشراق، واللسانيات البنيوية عوضا عن الفيلولوجيا.

العروسي:  وفي الصفحة 71 تقول ."أما الفيلسوف ميشيل فوكو فهو سيّد الموقف في كلّ انتاجات أركون، وحضوره يربو عن كلّ المفكرين الفرنسيين الذين تأثر بهم وانساق وراءهم. لقد استوعب درس فوكو، (الذي تبنّى هو بدوره أطروحات جمعية الحوليات)". فما دام يعترف بذلك ويقبل النقاش فأين المشكل يا دكتور؟

المزوغي: أجل. فوكو هو سيّد الموقف، وأقصد بالتحديد فوكو النسبوي، النيتشوي الهايدغاري الذي لا يؤمن بالعقل والذي يزدري التاريخ الوقائعي ويتشبّث بأطروحات مدرسة الحوليات. على كل حال سؤالك فيه شيء من الالتباس. ماذا تقصد بـ«ما دام يعترف بذلك ويقبل النقاش فأين المشكل؟». من ذا الذي يعترف بذلك؟ المشكل هو أن أركون لا يعترف صراحة بدينه للثقافة الغربية عموما وللثقافة الفرنسية خصوصا بل إنه ردّ على منتقديه متّهما أياهم بالجهل. يقول بالحرف في كتابه " الفكر الأصولي واستحالة التأصيل، ص، 40" : « ربّما ظنّ بعضهم أني تَبنّيتُ هذا الموقف المعرفي والمناهج التابعة له تأثّرا بالتيارات العلمية المتتابعة السائدة في الجامعات الغربية وبخاصة باريس. وربما استنتجوا أني أفرض على الإسلام والفكر الإسلامي ما لا ينطبق عليهما مِن إشكاليات ومنهجيات ومصطلحات وتأويلات خاصة بالفكر الغربي أو الأوروبي. كثيرا ما سمعتُ هذا الاعتراض. وكثيرا ما رأيتُ هذا "النقد" يَتردد في تقديمات سريعة وسطحية لكُتبي. وهذا دليل على أن أصحابه لم يقرؤوا بإمعان ما كتبتُ. وإذا قرؤوا فإنهم لم يدركوا أو لم ينتبهوا إلى ما بيّنتُ وشرحتُ في مقالاتي المخصصة لما أسميته بالإسلاميات التطبيقية أو المطبّقة (Islamologie appliquée)».

لكن في حقيقة الأمر أركون متأثر، كما أشرتُ سابقا، بالفكر الذي استثمره في البداية بشدة، ثم أنكره ورام التملّص منه، ولكنه بقي ملازما له واخترق مجمل انتاجاته النظرية، على الأقلّ لمدة ثلاثة عقود. ومن زمرة أولئك المفكرين يبقى فوكو سيد الموقف. أقول سيّد الموقف إلى درجة أن أركون يُشبّه ما فعله فوكو بما يفعله هو الآن في حقل الدراسات الإسلامية: « إن الثورة التي أحدثها ميشيل فوكو في الساحة الفرنسية، عندما فكّك أُسس الإنسية البورجوازية والعنجهية والتقليدية الأوروبية، تُشبه ما نفعله نحن في الساحة الإسلامية والعربية». لكن طبقا للتسلسل الكرونولوجي كان عليه أن يعكس الآية، ويقول بأن أعماله تُشبه ما قام به فوكو، لا أن أعمال فوكو تشبه ما يفعله هو، لأن الخلط الكرونولوجي واضح. ( الفكر الإسلامي. نقد واجتهاد، ص، 334).

لا أودّ التوسع كثيرا في هذه النقطة، ومن يرغب في التعمق والتدقيق فعليه بالفصل الذي خصصته لهذا الغرض حيث عرضت هناك مجمل الإشكالية بإسهاب مدعّما إياها بحشد من النصوص.

العروسي: تقول في الصفحة 79 "لقد تمثّل أركون هذه الأفكار العدمية وحتى أطروحات بعض المراجعين للتاريخ (révisionnistes) وقال مُدعّما النسبوية التاريخية بأنه « يُمكن للعَرب أن تكون لهم قراءتهم الخاصة عن الثورة الفرنسية، وهي قراءة تلبّي حاجيات المجتمعات العربية ومطالبها الإيديولوجية في لحظة ما من لحظات التاريخ، أكثر ممّا تقدّم صورة حقيقية عن الثورة الفرنسية ذاتها". ألا ترى بأن هذا حكم قاس على رجل اضطر على مغادرة وطنه الأم من أجل أن يعيش بأفكاره؟

المزوغي: لا أفهم سؤالك. ما دخل الشؤون الخاصة بالموضوعية التاريخية؟ أنا أحتكمتُ إلى النصوص وإلى الأفكار الواردة فيها دون أن أعرّج على سيرة حياته إلاّ بالقدر الذي أولجنا فيها أركون (الصفحات الأولى من كتابي). لم أقوّل أركون ما لم يَقله، ولا دخل للحساسيات الشخصية في هذا الشأن. إن خطورة كلام أركون بيّنة جدّا للعيان. وقد اشرتُ إليها في كتابي وقلتُ بأن مغزى نصيحة أركون هو أن المؤرخين العرب لا ينبغي عليهم تقديم الحقيقة على كلّ شيء، أو محاولة الاهتداء إلى قراءة علميّة مُوثقة لتاريخهم وتاريخ الشعوب الأخرى، بل المصلحة الراهنة والمُلحّة هي المحرك لأعمالهم. النتيجة هي أنه بإمكاننا أن نشوّه التاريخ، أن نُحوّره، أن نشطب منه صفحات مشينة، فقط لتلبية حاجيات العرب ومطالبهم الإيديولوجية. السؤال هو: هل نستطيع انطلاقا من هذه المنهجية الذاتوية أن نَنقض أو نُصحّح أخطاء المؤرخين والمراجعين للتاريخ؟ لماذا نعيب على دعاة الإستعمار الجديد في فرنسا وفي بعض البلدان الأوربية الأخرى تنكّرهم للحقائق التاريخية؟ وهل لدينا الحق في الاستنكار على البرلمان الفرنسي محاولته تَدليس تاريخنا ورسم صورة مشرقة للإستعمار الغربي؟ لماذا نستنكر إعادة كتابة التاريخ على حساب الحقيقة العلمية، وعلى حساب الشعوب المستعمرة؟

أما بخصوص المراجعة التاريخية فإنني أبعد من اتّهام أركون بأنه مراجع، كل ما قلتُه ونبّهتُ عليه هو ربما انقياده مع التيار وغفلته عن خطورة المنعرج الذي أخذته بحوث أشباه المؤرخين الجدد، الذين يحاولون إعادة كتابة التاريخ وحذف أو تشويه الأحداث التي لا تتماشى مع نزعتهم السياسية (جلّهم من اليمينيّين). لقد أشاد أركون بأعمال المُراجع (révisioniste) الفرنسي ف. فوريه (F. Furet)، وهذا الرجل معروف في الدوائر العلمية الفرنسية والعالمية بأنه مراجع للتاريخ، وقال بأنه كمؤرخ استعاد مصطلح نقد العقل، وهو، أي فوريه، حسب اعتراف أركون « أول من استخدمه من أجل هدف تاريخي ( الفكر الإسلامي، نقد واجتهاد، ص، 232)». ثم يؤكد على أن فوريه، أعاد أيضا التفكير في الثورة الفرنسية « بالمعنى القوي للكلمة». ولكن للأسف فإن أركون تَقفّى أثره في هذه المغامرة الخطيرة ودعا إلى القيام بتلك المراجعة التاريخية على صعيد أشمل، قائلا بأن « فرنسا وجميع الأوروبيين مدعوّون لإعادة قراءة تاريخ الثورة الفرنسية الكبرى (معارك من أجل الأنسنة، ص، 279)». ثم أشرتُ إلى أن إعادة التفكير في الثورة الفرنسية على طريقة فوريه لها نفس مواصفات المراجعة التاريخية التي قام بها في ألمانيا إرنست نولته (E. Nolte) للنازية، ودي فيليتشي (R. De Felice) في إيطاليا للفاشية. والجدير بالذكر أن المؤرخ فوريه نفسه قد اعترف صراحة بأنه يتبنّى نهج هذين المراجعين، ولكن طبقا لاتجاه معاكس، أعني أن نُولته انطلق من تشويه مُغرض لثورة أكتوبر كي يَصِل إلى إدانة الثورة الفرنسية، في حين أن فوريه ابتدأ من الثورة الفرنسية لكي يُدين ثورة أكتوبر. العملية هي نفسها والهدف واحد: إنها المراجعة التاريخية كنزعة إيديولوجية، ثقافية وسياسية تصبو إلى إدانة الحركة الثورية التي تمتد من سنة 1789 وصولا إلى 1917. ولا تنتهي المراجعة إلى هذا الحدّ، بل إنها علاوة على إدانتها الشاملة لروح المقاومة الشعبية، لغرض نزع المشروعية عن حركات التحرر، فإنها نكرت الهولوكوست في حق اليهود والغجر والشيوعيين، وقللت من شأن جرائم الإبادة التي قام بها الرجل الأوروبي في المستعمرات. أركون لم يكن مراجعا للتاريخ إطلاقا، لكن في بعض الأحيان أقواله قد تسبب شيئا من البلبلة وتثير الشكوك في ذهن القارئ. لقد اعترف أركون، بصورة مدهشة حقا، أنه لا ينتمي إلى زمرة المفكرين المعادين للاستعمار، ويكفي هذا الاعتراف كي يثير الرعب في قلوبنا. لم يكتف بهذا بل إنه أضاف معلومة أخرى أشدّ نكالا من الأولى أعني تباهيه بعدم سقوطه في « أحضان الخطاب الضدّ ـ كولنيالي»، ويؤكد رفضه هذا قائلا: « ما هذه طريقتي ولا مذهبي (قضايا في نقد العقل الديني، ص، 266)»، ومن خلال كلامه يبدو أن طريقته ومذهبه ليس فيهما مكان للفكر المناهض للاستعمار « أو ما هو أسوأ: المُضادّ للإمبريالية (قضايا في نقد العقل الديني، ص، 265)». ولا ندري ما السبب في تسميته الفكر النضالي بالـ "ذريعة" وما الداعي إلى التملص من ذاك التراث ومحاولة رفضه أو ازدرائه حتى. أمور محيرة جدا: قد تكون مجرّد زلاّت لسان، غير مقصودة، وإن كانت كذلك فالرجل معذور ولا ينبغي أن نقسو عليه.

العروسي: في الصفحة 83 تقول "إن منهجية فوكو التي استمدها منه أركون وطبّقها على نص القرآن همّها الأساسي هو: « التعامل مع العبارة كشيء قائم الذات لا يحيل إلى مستوى آخر، والنظر إلى ما في خصوصياتها وتميزها كحدث لا أصول له، وتحديد شروط وجودها، وتعيين حدود تلك الشروط بكيفية دقيقة وواضحة أكثر، مع إبراز الترابطات القائمة بين العبارة وعبارات أخرى لها صلة بها ". فعلا هذا التحليل البنيوي الذي يدعو إليه الدكتور أركون حيّر الكثير من الباحثين ، خاصة وأنها أصبحت متجاوزة في الغرب؟

المزوغي: هذا المقطع مأخوذ من كتاب "حفريات المعرفة" لفوكو وهو عبارة عن تعريف لمنهج علمه الجديد الذي دعاه بالحفريات، وذلك لتمييزه عن العلم الفيلولوجي الذي يسعى « إلى البحث عن المعنى الحقيقي وراء المعنى المجازي، يبحث عما وراء الخطاب». هذه هي، كما قلتَ، البنيوية المضادة للتاريخ، وأنا أسميها العدمية لأنها تكتفي فقط بالخطاب في ذاته ولا ترغب في معرفة إحالاته ومعناه العميق. وهذا المنحى هو الذي طبقه أركون على النصوص الإسلامية وبالأخص منها القرآن. لكن أركون لا يذكر البنيوية فهو يقول بأن نهجه هو نهج التحليل والتفكيك: وليس الهدف منه هو التبرير العقائدي والمنافحة عن الدين، كما الحال عند المؤمنين، ولكنه من جهة أخرى يسارع إلى القول بأنه لا يرمي إلى منازعة الدين وشطبه من مجال الفعاليات البشرية، كما يفعل المستشرقون. وقد أكد على ذلك قائلا بأن تحليل الخطاب الديني أو تفكيكه « يتمّ لا لتقديم مَعانيه "الصحيحة" وإبطال التفاسير الموروثة، بل لإبراز الصفات اللسانية اللغوية وآلات العرض والاستقلال والإقناع والتبليغ والمقاصد المعنوية الخاصة بما أسميته "الخطاب النبوي"». إنه التحليل والتفكيك الذي لا يخرج من إطار الكلمات، ولا يستنتج أي معنى صحيح، لا ينفذ إلى تاريخ النص وأرضيته الأسطورية، رافضا مقارنته بنصوص أخرى، أو حتى استخلاص نتيجة قد تفيد القارئ الحديث. كل ما في الأمر هو الاقتصار على ابراز الصفات اللسانية اللغوية للنص. هذه حصيلة عجفاء حقا. وإن قارنّاها بدراسات حذاق القوم من المستشرقين فإنها تبدو فعلا مجرّد تلاعب بالكلمات. لقد أعاد أركون تأكيد نهجه هذا في عدة مواضع من كتبه، يقول مثلا في كتابه المتأخر نسبيا "الفكر الأصولي واستحالة التأصيل" إن « تطبيق المنهاج النقدي التفكيكي على ما أصّله العقل في الماضي، أو ما يواصل تأصيله تقليدا فقط للموروث غير المُفكَّك، لن يؤدي إلى نفي الموروث مبدئيّا أو هدمه، أو جهله والإعراض عنه، أو الخفض من قيمته ودوره التاريخي. شتان ما بين المشروع الاستقرائي الاكتشافي الحفري التقديري الإنصافي المستنطق للمسكوت عنه والمزيل لأنواع التلبيس والحجاب، الذي يعمل من أجله العقل المنبثق، وبين الخطابات الإيديولوجية الأصولية والعلمانوية والشعبوية والقوموية والخصوصية والإيمانوية والتاريخوية وغيرها من البنيات الطاغية على جميع المجتمعات المعاصرة، حتى أصبح المتقدمون والمتأخرون والغالبون والمغلوبون والأغنياء والمحرومون يعانون جميعا من الفوضى الدلالية أو المعنوية المنتشرة ( الفكر الأصولي واستحالة التأصيل، ص، 16)».

حينما سألتني أعلاه عن قولي بأن من بين خاصيات أسلوب بعض المفكرين الذين ينتمي إليهم أركون هو "الساديّة (sadisme) في الكتابة، أعني الإطالة والثرثرة والتقعّر"، فإن الكلمات المشددة في النص أعلاه (وفي نصوص أخرى) لهي دليل جلي يؤكد صدق ما ذهبتُ إليه. لقد انفلتت الكلمات من عقالها وأصبحت غاية في ذاتها دون مرجعية ولا حتى تنسيق فيما بينها وبين جوهر الموضوع المزمع البحث فيه.

العروسي: في الصفحة 93 تقول "لو أنّ عدمية أركون اقتصرت فقط على الجانب المعرفي لما أوليناها أهمية كبرى، لأنها من التهافت والهشاشة بحيث أنه من الهيّن جدّا على الفيلسوف أن ينقضها جملة وتفصيلا. لكن مُعاداته للعقل التنويري، الذي يدعوه بكل احتقار، أسوة بعالم الاجتماع الفرنسي بورديو بـ"العقل السكولاستيكي"، لها استتباعات لقد أدت بأركون، في نهاية المطاف، إلى مناهضة الديمقراطية وإلى تِكرار تُهَم غالبا ما كرّرها الأصوليون والدكتاتوريون في العالم العربي، واليمين المتطرّف في العالم الغربي". لكن تصريحاته تقول العكس فهو مع المستنيرين؟

المزوغي: قد يكون أركون كذلك، وأنا أسعد بأي مفكّر تنويري صادق مع نفسه ومع قرائه، فالعالم العربي بأمسّّ الحاجة إليهم. ولكن أركون لا يساعدنا على هذا الإستنتاج: تهجماته المستمرة على المستشرقين؛ عدم بتّه في قدسية كتب الأديان التوحيدية؛ نكرانه على العقل معرفة العالم أو نيل أي قدر من الحقيقة الثابتة، تهجماته المتتالية على العلمانية، كل هذا لا يقود إلاّ إلى نوع من العدمية النظرية. وقد تبدو استنتاجاتي لأول وهلة مجانبة للصواب أو أنها لا تصوّر بدقة آراء أركون وتوجهاته السياسية، على الأقل على مستوى التنظير. أعني بالتحديد ما ذهبتُ إليه من أن استتباعات نهج أركون في التفكير قادته إلى مواقف مناهضة لفكرة الديمقراطية. أنا أحتكم، كما أكّدتُ على ذلك مرارا، إلى النصوص فهي واضحة وصريحة إلى درجة أنه متعذر على المؤول إخراجها من معناها الصريح أو إضفائها أي معنى رمزي. الديمقراطية الغربية يصفها أركون بأنها ديمقراطية استهلاكية، تحيى وتموت في حينها ويقول بأنه « على الرغم من ذلك فإنهم، أي الغربيين المسيطرين، يأمرون الشعوب النامية والثقافات المتخلفة باعتناق هذه الديمقراطية التمثيلية الليبرالية الانتخابية (الفكر الأصولي واستحالة التأصيل، ص، 177)».

قد تكون الليبرالية، في وجهها الاستعماري العنيف، عنصرا غير محدِّد في الحكم الديمقراطي، أما التمثيل البرلماني وتَعدّد الأحزاب والانتخابات الحرّة فهي الثوابت التي تجعل من الديمقراطية كذلك. لستُ أدري هل أن أركون لديه ديمقراطية أخرى أو نظام حكم مغاير، بمقدوره أن يتجاوز الديمقراطية التمثيلية الانتخابية. وإن كان الأمر كذلك فليُعطنا الوصفة كي نطبقها في عالمنا العربي. النظم الديمقراطية والأحزاب السياسية والحملات الانتخابية هي في أعين أركون مجرّد تمويه. والغريب في الأمر أن الرجل يقول ذلك بالحرف الواحد، دون أن يوضّح موقفه أو يميز بين القاعدة والنشاز. كلام أركون هو هذا: « كلّ حملة انتخابية تَجري في البلدان المدعوّة "ديمقراطية" مبنية على عملية التمويه والتغطية هذه. أعني تمويه الحقائق وتغطيتها (العلمنة والدين، ص، 20 ـ 21)». ألا يعلم أن إحدى شعارات الدكتاتورية في العالم العربي هي هذه: "التمثيل تدجيل"؟ أركون يُجذر الفكرة التي ترى أن الأحزاب السياسية هي مجرد تمويه ولا يفرّق في ذلك بين البلدان الديمقراطية، حيث تعددية الأحزاب وحرية الانتخابات منصوص عليها ومصانة من طرف الدستور، وبين والدكتاتوريات حيث الحزب الواحد والزعيم الواحد والانتخابات المزورة هي القاعدة. لقد جمع الكل في بوتقة واحدة وادعى أنهم يودّون امتلاك الساحة السياسية والسيطرة عليها: « وهذا ما تفعله بالضبط الأحزاب الأوروبية الغربية التي تريد أن تكون ديمقراطية وترغب في أن تكون ديمقراطية. وهذا ما تفعله القوى الاجتماعية في الجزائر وغيرها، حتى ولو لم يكن هناك إلاّ حزب واحد يفرض الصمت على الآخرين. فهذا الحزب الواحد يحتكر كلية الساحة السياسية بطريقة أكثر صراحة من الأماكن الأخرى. ولكن اللعبة تظل واحدة. فالرهان المطلوب هو السيطرة على السلطة، ولكي يتوصلوا إلى ذلك ينبغي عليهم استخدام المجريات والوسائل التي تهدف إلى شرح رهانات السياسة. وهذا "الشرح" الذي سيقدمه الحزب الحاكم أو الحزب الطامح للحلول محلّه سوف يشكل بالضرورة عملية من عمليات التمويه والتغطية وإسدال القناع على حقيقة الأشياء».

إن التهجّم على الديمقراطية بهذا الشكل والنكران عليها فقط لأنها كنظام تمثيلي "ليبرالي" انتخابي تخضع لمصير البضائع اليومية « القابلة للرَّمي كما تُرمَى الأشياء المُستهلكة في المَزابل (الفكر الأصولي واستحالة التأصيل، ص، 177)»، يصب في نفس مصبّ مواقفه السلبية تجاه مبدأ فصل الدين عن الدولة، أعني تجاه العلمانية.

العروسي: تقول في ص. 98 ـ 99 "ونحن نتساءل مرة أخرى: "كيف يمكن لأركون أن يُكوِّن قاعدة شعبية تتبنّى أفكاره انطلاقا من مسلّمات عدمية من هذا القبيل؟ كيف يمكن له ذلك وقد نَبذَته الجماهير ورفَضه العلماء؟ المؤمنون غاضبون عليه لأنه أدخل التاريخانية (أو قد أوهم بإدخالها) في قراءة نص القرآن، ونَسَّب الوحي؛ أما العلماء الوضعيّون فقد أصيبوا بخيبة أمل من تعلّقه المفرط بمناهج البنيوية والسيمياء وتاريخ الحوليات، وتذبذبه بين مواقف منفتحة وأخرى إيمانية منغلقة ".

المزوغي: هذا السؤال مشروع وإن وضعته في إطاره الخاص من النص فهو سؤال في محلّه. لقد جاء إثر قولة لأركون يتذمّر فيها من أن أفكاره الجديدة لم تَحُز على قاعدة شعبية عريضة. ثم أوردتُ كلام أركون الذي اعترف فيه بأن مشروعه يبقى مجرد « أُمنِية طوباوية »، والسبب في ذلك حسب اعتقاده هو غياب « قاعدة سوسيولوجية عريضة و [...] جماهير (الفكر الأصولي واستحالة التأصيل، ص، 223)». وبالتالي فإن تساؤلي عن إمكانية تحقيق تلك القاعدة انطلاقا من نظرته العدمية هو في حد ذاته تساؤل مناسب. ولتثبيت مواقفي رجعت إلى اعترافاته الشخصية، حيث أقرّ عديد المرات بخيبة أمله من المستشرقين الذين لا يودون الاعتراف مناهجه الجديدة، ويستنكرون عليه قائلين، حسب ما صرّح به هو نفسه (ipse dixit): « انظروا إلى هذه الفجاجة الناتجة عن مناهج آخر صرعة أو آخر موضة! أهذه هي البنيوية؛ أهذه هي الحداثة؟ نحن لا نريد ذلك». ( قضايا في نقد العقل الديني، ص، 150). وفي موضع آخر يورد اعترافا ضد المستشرقين ويعرب عن استيائه من تناسي أعماله الشيء الذي وصل به إلى حدّ المأساة الشخصيّة، ذلك لأنهم ـ حسب زعمه ـ لم يستعملوا منهجه في الدراسات الإسلامية ولم يستخدموا مصطلحاته ومفاهيمه الجديدة. يقول بلهجة فيها مرارة وتأنيب: « وأجد نفسي هنا مضطرّا، مرّة أخرى، إلى أن ألفت الإنتباه إلى الموقف الإحتقاري الذي وقفه المستشرقون من أيّ محاولة تجديد منهجية قد أقوم بها. إنهم يزدرون المناقشات النظرية والإبستيمولوجية التي قد تؤثر في القواعد الأرثودكسية، الأكاديمية، الراسخة التي فرضوها على مجال الدراسات الإسلامية. فلم تظهر أيّ دراسة عن الغزالي أو عن أيّ مفكر آخر من حجمه ضمن الخطّ الذي أريده. لم تظهر أيّ دراسة تتحدّث عن المقصد الفكري والصلاحية العلمية المحتملة للإشكاليات الجديدة والمفاهيم المصطلحية والمنظورات المعرفية الواردة في مقالاتي تلك. ولهذا فإن المرء يأسف لأن علماء الإسلاميات الغربيين (أو المستشرقين) الذين اعتادوا على نقد النزعة المحافظة لدى المسلمين الخاضعين لِهِبَة تراث غير منقود (أي الخاضعين للتقليد)، يفعلون الشيء نفسه تماما عندما يتحدّثون عن أشياء تخصّ الإيمان ( القرآن. من التفسير الموروث إلى نقد الخطاب الديني، ص، 43) ». ويبدو، على حدّ أقواله الشخصية أن مشروعه باء بالفشل ولم يتمكّن من إرضاء الطرفين، أعني المؤمنين والمستشرقين، وهو الذي قال ذلك بصراحة يُحسد عليها: « ولكني لم احظ بالنجاح لدى المسلمين ولا لدى المستشرقين الغربيّين (الفكر الأصولي واستحالة التأصيل، ص، 275)». وفي موضع آخر يشهد على نفسه قائلا: « هُوجمتُ...من قِبَل المسلمين التقليديين، ومن قبل المستشرقين الوضعيّين في آن معا. فالأوّلون يتهمونني بمعاملة القرآن كأي كتاب أو وثيقة تاريخية، والثانون يتهمونني بنزع كلّ صبغة تاريخية عن القرآن أو بمحاولة حمايته ووضعه في منأى عن التاريخية (قضايا في نقد العقل الديني، ص، 186)». ولكن أركون يردّ على الفرقتين قائلا « لم يحاول أحد أن يفهم جيّدا ما أريد قوله».

وبخصوص أفكاره التي قد توحي بشيء من التذبذب وعدم البتّ في أي شيء فإن نصوص أركون تعجّ بالأمثلة، وقد أوردتُ العديد منها في مؤلّفي وأرى أنّ هذا الإخفاق ـ إن لم يكن في الواقع تصعيدا دراماتيكيا للأشياء (لأن أركون لديه العديد من الأتباع في العالم العربي وحتى في الجامعات الغربية) ـ هو نتيجة حتمية لموقفه غير المحدد: فلا هو مؤمن مع المؤمنين ولا هو كافر مع الكافرين. ولقد أوردتُ في كتابي مثالا على ذلك من موقفه بخصوص الوحي والكتب المقدسة. فهو من جهة يؤكّد جازما على أن الوحي هو مجرد " تركيبة اجتماعية لغوية مُدعَّمة من قِبَل العصبيات التاريخية المشتركة والإحساس بالانتماء إلى تاريخ النجاة المشترك لدى الجميع". وهذا الكلام يبدو في ظاهره وكأنه حامل لشحنة هرطقية مناقضة لتعاليم الدين، لكن في باطنه ليس إلاّ صيغة أخرى من صيغ تورية المواقف الإيمانية. الكلمات المحورية في جملته أعلاه هي هذه: « ما كان قد قُبل وعُلّم وفُسّر وعيش عليه بصفته الوحي [...] ينبغي أن يُدرس أو يُقارب منهجيا ... بصفته تركيبة اجتماعية لغوية مُدعَّمة من قبَل العصبيات التاريخية المشتركة والإحساس بالانتماء إلى تاريخ النجاة المشترك لدى الجميع (القرآن. من التفسير الموروث إلى نقد الخطاب الديني، ص، 21)». أركون يدعو فقط إلى دراسة الوحي ومقاربته منهجيا على أنه كذلك، أما الأحكام اللاهوتية، التي تقول بأن الخطاب القرآني يتجاوز سيرورة الزمن ويعلو على حتميات التاريخ، فهو يعلّقها ويُعَطّلها ريثما تتوضّح له « كلّ المشاكل اللغوية، والسيميائية، والتاريخية، والأنثربولوجية التي أثارها النصّ القرآني». لكن هذا خلف إن لم يكن تعجيزا مقصودا، فعلا من ذا الذي يستطيع أن يحلّ كل هذه المشاكل؟ من يقدر الإحاطة بها كلها والبت فيها؟ أركون، يتمصل كم هذه المعضلات، ويكتفي بتنبيه القارئ إلى أنه، يُعلّق الحكم بشأن الوحي والنبوّة ولكنه لا يرفض الأحكام اللاهوتية التي تدّعي أن الخطاب القرآني يتجاوز التاريخ كلّيا: « قلتُ سوف أعلّق هذه الأحكام، ولم أقل سوف أسقطها أو أتجاهلها أو أحذفها كما يفعل علماء الألسنيات والتاريخ المعاصرون بنوع من العنجهية والغرور ( وهذا الموقف المتغطرس موجّه ضدّ المؤمنين فقط، هؤلاء المؤمنون الذين يُرذلون رذلا في ركن الفئة الغير علمية)، ص، 21 ـ 22».

لستُ أدري بأي شجاعة يستطيع أركون أن يتّهم علماء الألسنيات والمؤرخين الوضعيّين بالعنجهية والغرور فقط لأنهم يُسقطون أو يتجاهلون الوحي أو لا يعترفون حتى بتعالي الكتب المقدسة؟ لست أنا من أعلّمه بأن القاعدة النظرية الأولى التي ترتكز عليها العلوم العقلية هي في الطرف النقيض لما يدعو إليه. فالعلم يعتبر الوحي أمرا مناقضا للعقل والكتب التي تدّعي القداسة هي كتب إنسانية، وأن القداسة بحدّ ذاتها هي كلمة فارغة من أي محتوى علمي.

العروسي: تقول في الصفحة 113 "أمّا أركون فلَه عقل آخر، عقل مازال يعتقد في الروحانيات والرموز والأساطير وحتى الشعوذة والسحر، وأقصى ما يمكن أن يفعله تجاهها هو محاولة دراستها من جانب سيميائي لغوي فقط. وأظنّ أن الرجل، مقتنع (أو أقنعوه) بأن لديه مهمّة تاريخية في العالم الإسلامي (والعالم أجمع)، وبأنه هو الوحيد المؤهَّل، عن طريق علوم السيمياء واللسانيات والأنتربولوجيا، لمعرفة الوحي وإدراك أسراره الخفية، وتخليص العقل الإسلامي وعقل الحداثة الأوروبي من أوهامهما العلموية." فعلا هذا موقف محير؟

المزوغي: وهو كذلك. لقد ركّز أركون على فكرة اكتسحت الساحة الثقافية الفرنسية في فترة ما، حيث كانت انثربولوجيا ليفي ستراوس هي الكلمة الفصل. ولقد أراد هذا الأخير أن يُعيد للأسطورة دورها الثقافي وأن يجعل منها نسقا دلاليا منسجما يُضاهي في انسجامه النسق الرياضي. أركون تقبّل هذه الفكرة ورام تطبيقها في إسلامياته، وقد أمعن في استغلال هذه المقولة رابطا إياه بمجال الخيال، ولفعل ذلك فإنه رأى أن العدوّ هو العقل المنطقي الأرسطي الذي بادر بتدمير الأسطورة. يقول بخصوص هذه النقطة: « إن إعادة الاعتبار للفكر الأسطوري، في الغرب، تمثل ردّ فعل على مرحلة الانتصار المتطرّف للعقل التكنيكي، المركزي ـ المنطقي، والوضعي (في القرن التاسع عشر وحتى منتصف هذا القرن). هكذا يبدو أن زمننا الراهن يمتاز بأنه يعترف، وللمرّة الأولى، بالأسطورة كأسطورة، وإدخالها مع كل قيمها الإيجابية (الواقعية) ضمن إطار معرفة تعدّدية. يسمح لنا هذا الوضع المعرفي الجديد، أن نفهم كيفية اشتغال الفكر الديني، دون أن نضطر إلى معاكسته بالرفض الاعتباطي للعقل المنطقي ـ المركزي (الفكر الإسلامي. قراءة علمية، ص، 26)». أركون يذكر بالحرف الخرافة والشعوذة والسحر، لا ليردّها إلى عالم اللاعقل، ويحاول التنبيه عن مخاطرها في تربية المجتمعات، بل لكي يبشّر القارئ العربي بأن العصر الذي اضطهد الفكر الأسطوري وهمّشه قد انقضى، والدليل على ذلك، حسب قوله « الجهود التي يبذلها حاليا علم الاتنولوجيا من أجل إعادة الاعتبار للأسطورة والتركيبات الأسطورية و "الخرافات" و "الحكايات" و "الشعوذات" و "السحر"، الخ (تاريخية الفكر العربي الإسلامي، ص، 30)». لقد ضُخّم كثيرا، في الماضي، من دور العقل وعَملت النزعة الوضعية، وهي الذهنية التي يناهضها أركون أشد المناهضة، على « احتقار الخيال أو المخيال وعدم التعرّض له إلاّ نادرا». من السهل على القارئ التفطّن إلى أن العقل المنطقي هو العدوّ الأكبر لأركون، وقد ساعده هذا النفور على اتخاذ موقفه المتذبذب من القرآن ومن الكتب المقدسة للديانات التوحيدية. فعلى الرغم من تأكيداته المستمرة على أن غايته ليست تقوية الأرتودكسية، فإن أركون يقذف بالتفاهة كل من يودّ البحث عن منابع النصوص المدعوة مقدسة، ويكشف عن أرضيتها الأسطورية الخرافية. وهذا النعت موجّه أساسا للفيلولوجيين والمؤرخين العلمانيين، أو الوضعيين، لا لشيء إلاّ لأنهم ما زالوا مُتشبّثين بنظام فكري قديم، أعني المنطق الأرسطي، الذي عفا عنه الزمن وتمّ تجاوزه من طرف العلوم الإنسانية الحديثة: « إن منطق الثالث المرفوع (منطق الصحة واللاصحة) يبدو عندئذ تافها لا أهمية له (الفكر الإسلامي قراءة علمية، ص، 58)».

وبخصوص النقطة الثانية المتعلقة بما جاء في كلامي أعلاه من أن أركون يعتقد أو جعلوه يعتقد بأن لديه مهمّة تاريخية في العالم الإسلامي (والعالم أجمع)، وبأنه هو الوحيد المؤهَّل، عن طريق علوم السيمياء واللسانيات والأنتربولوجيا، لمعرفة الوحي وإدراك أسراره الخفية، وتخليص العقل الإسلامي وعقل الحداثة الأوروبي من أوهامهما العلموية. أقول فقط بأن من تتبّع عن كثب محاولات أركون ومجمل كتبه فإن لا محيد من أن يقف على استنتاجي هذا. الرجل يَنظر إلى العالم العربي الإسلامي من خلال فرجة تتسع فقط لحجم العدمية النظرية المبشّر بها، ويرى أن "الحقائق" التي توصل إليها هو، مثلا "تفاهة منطق الثالث المرفوع" وعدم جدوى البحث عن صحة الشيء أو خطأه، هي حقائق لا يعرفها الفكر الإسلامي وبقي في غربة تامة عنها وبالتالي فهو حسب رأيه « لم يدخل بعد ... في هذا الحقل الجديد من المعقولية والفهم (الفكر الإسلامي قراءة علمية، ص، 58)». ومن منطلقه هذا فإنه ليس من المستبعد أن يحاول نشر أفكاره وتفعيلها في العالم العربي ويعمل على انقاذه من حالة الجهل التي هو عليها وإدخاله إلى هذا الحقل الجديد من "المعقولية". والدليل على ذلك أن الرجل يطلب، بكل جدارة، من العالم الإسلامي أن يَفتح أبوابه ويُصغي إلى كلماته ويستوعب أفكاره، بل إنّ كُتبه من المفروض أن تُقرأ ـ على حدّ زعمه ـ في كلّ مكان « وتُناقش في كل الأوساط والعائلات (قضايا في نقد العقل الديني، ص، 266)».

العروسي: في الصفحة 121 تقول "أودّ أيضا أن أنبّه القارئ، إلى أن أركون يُرغم مؤوّله على التكرار والرجوع إلى نفس الفكرة، من زوايا مختلفة، والدوران حول الموضوع، والهروب إلى مواضع قصيّة، ثم إعادة طرح نفس الإشكالية بتعابير أخرى والتحرّك داخل الحلقة ذاتها. إنه تشتّت ذهني يُمرّره عنوة للقارئ ويُضني به المؤوِّل؛ حقيقة لستُ أرى أية فضيلة في هكذا عمل، ولكن شيئا واحدا لا أودّ السكوت عنه وهو أن العدمية النظرية أدت بأركون إلى هذه الازدواجية الظاهرة، والتأرجح في المواقف ولكن، في العمق، يبقى غرضه دائما غرضا إيمانيا حتى وإن وَارَاه خلف ركام من الخطابة." كيف ترى ذلك؟"

المزوغي: ما كتبتُه هو مجرد ملاحظة حول منهجية أركون، وأسلوبه الشخصي في الكتابة وفي طرح الاشكالات وعرض أفكاره. وسواء قرأنا كتبه بلغتها الأصلية، أعني الفرنسية أو مُترجَمة للعربية، فإن كمية الخطابة التي تعجّ بها لا تتناقص، ولونها لا يخبو أبدا. وهذه ليست من الأساليب التي يختص بها أركون بمفرده، بل إن لدينا الكثير منهم في العالم العربي، والبعض من المثقفين الآن أضافوا إلى الخطابة والتقعر، السجع، وأدب المقامات، مثل المفكر التونسي أبي يعرب المرزوقي. أركون أيضا يعمد في العديد من الأحيان إلى تشتيت الأفكار والسياحة في مناطق لا يجمعها جامع. انظر مثلا كيف يحاول الربط بين مواضيع قصية جدّا مثل التاريخية، والتاريخانية، أزمة الطاقة، انقطاع البترول، والكينونة والوجودية وهايدغر..الخ. ( الفكر الإسلامي. قراءة علمية، ص، 118). وبخصوص ما قلته بشأن توجهه الإيماني فهذا صحيح، لأن موجة الخطابة التي قد تؤدي إلى إغراق القارئ لا ينبغي أن تُنسينا بأن مواقف أركون في النهاية، وإذا عرفنا كيف نتجاوز عقبة التذبذب والازدواجية، تبقى مواقف مؤمنة، بل إننا في بعض الأحيان ـ وبسبب فرط تشدّده ضد المستشرقين وضد العقل الوضعي ـ إذا ما حذفنا اسم أركون من بعض نصوصه ووضعنا اسم أي كاتب اسلامي ملتزم فإننا لا نجد أي فارق بينهما. وأرى أنّ أركون في كثير من الأحيان يطلب ذلك، بل، إن لم أخطئ، فإن أقواله فيها نوع من الرسالة الواضحة إلى المؤمنين والمُشفّرة بعض الشيء إلى العلمانيين.

العروسي: تقول في الصفحة 194 متسائلا "وكيف استطاع هو أن يُفكّر في اللامفكر فيه؟ ولا ندري أيضا كيف له أن يفكر في المستحيل التفكير فيه إن كان مستحيلا؟ أرى أن أركون يتساهل مع مقولات المنطق، ولا يُعِير أية أهمية لضبط مصطلحاته وتحديدها بدقّة. يقول في إحدى كتاباته الأولى بأنه يرغب في تحمّل « مسؤولية المُفكّر فيه (pensé le) واللامفكّر فيه (l'impensé) اللذين تراكما طيلة القرون الأربعة عشر الماضية (الفكر الإسلامي قراءة علمية، ص، 18) » ومؤوّله هاشم صالح يُصعّد الموقف، جاعلا من عقل أركون عقلا شموليا يضاهي العقل الإلهي" وكيف تحلل هذه الإشكالية يا دكتور؟

المزوغي: أنا معارض مبدئيا لمصطلحات المفكر فيه واللامفكر فيه والمستحيل التفكير فيه التي أدخلها أركون في اسلامياته. وهي في حقيقة الأمر مصطلحات التأويلات التعسفية لهايدغار حين قراءته نصوص فلاسفة اليونان. إن معارضتي ليست بسبب استخدام هايدغر لهذه المصطلحات بل لقناعتي من أنها لا تفيد شيئا وفاقدة للمعنى أصلا. لقد أضاف أركون زوجين آخرين الممكن التفكير فيه والمستحيل التفكير فيه. أنا أرى أن، من وجهة نظر سيكولوجية كل شيء قابل للتفكير فيه، وما لم يدركه العقل النظري فإن المخيلة تستطيع أن تتخيله والذاكرة بإمكانها استحضاره. قلت بأن هاشم صالح قد جعل من عقل أركون عقلا يضاهي العقل الإلهي، ولم أبالغ أنا شخصيا في ذلك، ولا ينبغي أن يعاب عليّ في شيء، بل العيب، إن كان مسوح لنا باستصدار أحكام قيمة، ينبغي أن يُلقى على من كتب تلك الأشياء التي أوقعته في ذاك النوع من المبالغة. هاشم صالح، في تعاليقه على نص أركون الذي يتحدث فيه عن المفكر فيه واللامفكر فيه، يُبرّر مسؤولية أركون العلمية، ويشرح المصطلحين أعلاه قائلا: « كلّ ما أتيح للفكر العربي ـ الإسلامي أن يُفكِّر فيه خلال تاريخه الطويل (المفكَّر فيه) وكلّ ما لم يُتَح له أن يفكِّر فيه (اللامفكّر فيه) (الفكر الإسلامي. قراءة علمية، ص، 18)». لكن أركون، حسب مؤوّله، يُفضِّل دراسة « ما لم يُفكِّر فيه الفكر الإسلامي» لأنه « أهمّ وأجلّ شأنا مما كان قد فَكَّر» وبالتالي فإن مهمّة أركون « كمُجدّد للفكر الإسلامي»، تتمثّل تحديدا في فتح « تلك القارة الواسعة من اللامفكّر فيه، والتي بقيت مُغلقة زمنا طويلا». واللامفكّر فيه ليس إلاّ « تراكما للمستحيل التفكير فيه في عدّة مراحل متعاقبة من التاريخ وذلك لأسباب دينية أو اجتماعية أو سياسية أو غيرها». لقد قلتُ بأن هذا كلام فضفاض، يمكن أن يحمل المعنى ونقيضه، لكن الشيء المحقّق والبيّن من أقوال أركون ومن تأويلات هاشم صالح هو أن هناك مشروعا ضخما ومسؤولية جمّة، لدراسة أشياء غامضة، موغلة في القدم وتمتد لتشمل فترات طويلة جدّا، أعني « التفكير بكل ما لم يفكِّر فيه الفكر العربي ـ الإسلامي طيلة أربعة عشر قرنا من الزمن وبكلّ ما فكّر فيه أيضا». إن لم تكن هذه مبالغة، فلست أدري ما معناها بالضبط.

العروسي: تقول في الصفحة 195 "علاوة على إستراتيجية "اللامفكر فيه" فإن أركون استخدم في قراءته القرآن منهج التاريخية (Geschichtlichkeit) المنحدر هو أيضا من هايدغر ومُؤوّليه الفرنسيّين، وهذا المفهوم اكتسح الساحة الثقافية الألمانية منذ أواخر القرن الثامن عشر وصولا إلى فترة ما بين الحربين. التاريخية هي في جوهرها ردّة فعل ضدّ تيار الوضعية العلمية". هل لك أن توضح لنا هذه النقطة دكتور؟

المزوغي: نعم، التاريخية هي مقولة سادت الأوساط الفكرية الألمانية في فترة تاريخية ما، وهي كما قلتُ محاولة موجهة ضد الشمولية وكلية المبادئ. فالفلسفة الوضعية والعلوم الصحيحة تقلّص التفاضل الهرمي، وتعمل على تأصيل مبادئ كلية تجمع عليها كل العقول البشرية بغض النظر عن زمانها ومكانها وعرقها. أنا لا أكنر تزمّن بعض التعابير الثقافية وخضوعها لسيرورة التاريخ (الأسطورة والدين) لكن اعتبار كل إنتاج إنساني، بما فيه الإنتاج العلمي الدقيق، تمظهرا وحيدا ومتفرّدا يُصوِّر لحظة من سيرورة تاريخية خاصة بذهنية قومية وحتى عرقية، وينحصر في ظروف معينة لا يتجاوزها، هو أمر مشط إن لم يكن متعسفا. « الإنسان هو كائن تاريخي» هذا هو شعار زعيم المدرسة التاريخية فيلهالم ديلثاي، الذي اعتبر كلّ ما هو إنساني (مجتمع، ثقافة، قيم، معرفة) مجرّد مظاهر عابرة تَتَشكَّل في سياق زمني مخصوص، ولا يمكن أن تتعالى على الظروف الموضوعية التي أوجدتها، وبالتالي فإن كلّ الحقائق وكلّ التعابير الثقافية، هي وليدة عصرها، تنشأ وتفنى معه. إنها نسبوية في معناها الأكثر تطرّفا، على الرغم من أن ديلثاي (Dilthey) ادّعى بأن نظريته هذه لا تؤدي حتما إلى النسبوية. لقد أكد زيمّل (Simmel) واشبنغلر (Spengler)، على أن التّزمُّن يلفّ كل الحضارات، التي تولد وتعيش كوحدة مُنغلقة في ذاتها، ولا يمكن أن يبقى من قيَمها ومعاييرها أي شيء يتجاوز زمانها ومكانها. في كتابه أفول الغرب يقول اشبنغلر« إنني أرى حضارات متعددة، نَبَعت من رحم أرضها الأم، وتبقى مرتبطة بها في كامل تطوّرها: حضارات تَطبع كل منها صورتها الخاصة في الإنسان، وكل منها تمتلك فكرتها الخاصة، مشاعرها الخاصة، حياتها الخاصة، إرادتها وإحساسها الخاص، وموتها الخاص»، هذه الميزات المتفرّدة ـ حسب اشبنغلر ـ تُطال حتى الإنتاج العلمي الذي اعتُبر في يوم ما إرثا شاملا للبشرية جمعاء « هناك العديد من الفنون البلاستيكية، من فنون الرسم، من الرياضيات، من علوم فيزياء مختلفة في جوهرها عن بعضها البعض، كل واحدة لها مسار محدود، كل واحدة مُنغلقة في ذاتها، مثل أنواع النباتات التي لها أزهارها وثمارها، وطريقة تطورها ثم فناؤها». لقد استخدم أركون هذه المقولة، ولكن استخدامه لها كان انتقائيا وملتبسا بعض الشيء: فهو من جهة يسحبها على جميع ابداعات الروح، ومن جهة يحدّ من مفعولها بالمقارنة مع نقيضها، أي ما أسماه بـ "التاريخوية الوضعية"، أي تلك التي يستخدمها الاستشراق والفيلولوجيا الوضعية. تاريخية العقل هي الأطروحة المركزية عند أركون، وهي بمعنى ما القاعدة المنهجية لقراءة النصوص المقدسة وتأويلها. ولكن الرجل لم يحدس مخاطرها على التواصل، وعلى الانتاجات العلمية البحتة. فعلا، إذا أردتَ أن تُضعف من سلطة شيء ما، فعليك أن تُفتّته إلى أجزاء غير قابلة للوصل، أو تُخضعه إلى صيرورة زمنيّة لا تقف عند حد ولا تملك أي مرجعية ثابتة، هكذا تتلاشى وحدته وتنحلّ شموليته. وقد قلتُ بأن هذا ما فعله أركون، أي أنه يُجزّئ العقل ويُفتُّتِه إلى هباءات لا يجمعها جامع، ولا يمكن ربطها أو إيجاد حتى قرابة نظرية ومبدئية بينها. يقول بأنه اكتشف: « أن مفهوم العقل نفسه له تاريخ. فالعقل الذي كان يستخدمه الحسن البصري ليس هو العقل نفسه الذي كان يستخدمه ابن خلدون. والعقل الذي كان يستخدمه ابن خلدون ليس نفسه الذي استخدمه محمّد عبده (الفكر الإسلامي. نقد واجتهاد، ص، 241)». بل إنه يُعمّم هذا الحكم ويسحبه على تمظهرات العقل في كل الحضارات. فمبدأ عدم تواصل العقول ينطبق حسب زعمه « على الأوروبيين أيضا وعلى كلّ البشر. فعقل القديس توما الأكويني ليس هو عقل ديكارت، وعقل ديكارت ليس هو عقل هيجل (الإسلام أوروبا الغرب، ص، 190)». الحصيلة هي أنه عوضا أن يركّز على تاريخية التعابير الدينية وعلى سيرورتها التاريخية فهو يركز على العقل ويُعيد باستمرار القول بأن العقل « ليس جوهرا ثابتا يَخرُج على كلّ تاريخية وكلّ مشروطية. فللعقل تاريخيته أيضا. وكلّ واحد من هذه العقول المذكورة مرتبط بمرحلة معينة من مراحل التاريخ بكلّ معطياتها وأدواتها. إنه مرتبط بالبيئة والمجتمع والحالة التطوّرية للأنظمة الثقافية والمعرفية السائدة في زمن كلّ مفكّر. المفكّر مشروط بقدر ما هو حرّ (الفكر الإسلامي. نقد واجتهاد، ص، 241)». هذه الأطروحة ردّدها فوكو عديد المرات في كتاباته ذاهبا بها إلى أخطر مدى يمكن أن تصل إليه. إذا كانت العقول بهذه الدرجة من التفتت واللاتواصل فإنه من غير المجدي التمادي في التفكير في قضايا إنسانية شاملة أو محاولة التمعن في مشاكل أناس لا يربطنا بوضعيتهم التاريخية وبيأتهم الثقافية أي رابط. وبالتالي فإن المثقفين الجدد المبشّر بهم يقتصرون على التفكير فقط في مجتمعهم وعالمهم الخاص « وكفّوا عن الإنشغال بالكلّي النموذجي، العادل ـ وـ الصادق ـ للجميع (le juste- et- le- vrai-pour-tous)، لكن بقطاعات مُحدّدة، في نقاط مضبوطة، حيث تُمَوقِعهم إما ظروف عَمَلهم أو ظروف حياتهم»(3) .

وفي هذا الإطار يمكن أن نفهم تركيز أركون على أطروحة مستمدة هي أيضا من فوكو ترى أن « ليس هناك من حقيقة غير الحقيقة التي تخصّ الكائن الإنساني المُتفرد والمُتشخص والمُنخرط ضِمن أوضاع محسوسة قابلة للمعرفة والدرس». لكن كما قلتُ أعلاه، أركون يطبّق التاريخية على جميع انتاجات العقل العلمي، ولكنه يستثني الوحي، أي القرآن من هذه الديناميكية. فقراءته لسورة التوبة مثلا، أفضت به إلى هذه النتيجة وهو أن التاريخ المثالي الكامن في هذه السورة هو المحرك الأساسي للتاريخ الأرضي في الإسلام، وهو بالتالي لا يخضع للتزمن ولا تَجري عليه قوانين التاريخية، إلاّ أن تعالي الوحي، والذي يبقى في حدّ ذاته اطارا مرجعيا ثابتا، لا ينبغي أن يُنسِيَنا الظروف الدنيوية للأحداث التي كانت مجرد أسباب عرضية في استثارته. أو حسب عبارات أركون المعقدة « ينبغي أن نُفكّر جيّدا بالتفاوت الكائن بين الظرفية الأولى التي حصل فيها هذا الخطاب وبين الديناميكية التي لا تُستنفد للوعي الأسطوري ـ التاريخي التي يتغذى منها ( القرآن. من التفسير الموروث إلى نقد الخطاب الديني، ص، 50)». وبعبارة أخرى يقول، أركون: « الزمن السماوي (أو الإلهي) يُقدّم الإطار والمرجعية الإجبارية للزمن الأرضي بصفته مُدّة معاشة، وليس فقط مفهوما لاهوتيا أو فلسفيا (ص، 51)». وأركون يردد دائما هذه الفكرة التي تُرجعه إلى مصاف المؤمنين حتى وإن توارت خلف ضبابية الخطابة وهي أن الوحي متعال والكتب المقدسة تُمظهر ذاك النموذج في لحظة تاريخية ما « كلام الله ـ حسب زعمه ـ لا ينفد ولا يمكن استنفاده. ونحن لا نعرفه بكليته (العلمنة والدين، ص، 82)»، وتاريخ الوحي المتتالي من موسى إلى محمد ليس إلاّ « أجزاء متقطعة من كلامه الكلّي»، ذاك الكلام الموجود « فقط في السماوات». وبالتالي فإن القرآن هو ليس إلاّ تجلّيا أرضيا « لكلام الله المحفوظ (ص، 83)».

أين هي التاريخية؟ أين هو الارتباط بالبيئة والمجتمع والحالة التطوّرية للأنظمة الثقافية والمعرفية السائدة في زمن كلّ مفكّر؟ لو أن أركون طبّق مفهوم التاريخية بجدّ لنَفى مقولة الوحي، ولما ترك لفكرة التعالي من مَجال يُذكر. لكنه للأسف شن حملته التاريخية هذه على العقل العلمي وسدّ بالتالي أي منفذ أمام المستشرقين لتسليط الضوء على ديناميكية الوحي وردّه كله إلى مجاله التاريخي المخصوص. فهو من أشد الناقدين للبحوث الفيلولوجية التي نَزعت التقديس عن الكتب الدينية وأرجعتها إلى واقعها الإنساني. ومن خلال نصوص أركون يبدو أن الرجل في بعض الأحيان يطبق منهجه على القرآن، إلاّ أنه يسارع إلى وضع حدّ لتلك المقولة ويسحبها فقط على التمظهرات الخارجية لبعض الآيات، وإلاّ إن تعدّت لكي تشمل النص القرآني في كلّيته فإنها ستقضي على قدسيته تماما، ونعود إلى أحضان الاستشراق الوضعي للقرن التاسع عشر. وهنا تطفو على السطح، كما هو مُتوقَّع، قناعاته الدينية وإيمانه التامّ بقدسية القرآن: ما مَنع الرّجُل من تطبيق مبدأ التاريخية، المُلوَّح به هنا وهناك، على النص القرآني بأكمله هو على حد قوله أن « الزمن القرآني زمن مليء، بمعنى أن كلّ لحظة من الفترة المعاشة مملوءة بحضور الله الذي يتكلّم، ويُحاكِم ويتصرّف أو يمارس فعله في القرآن (القرآن.من التفسير الموروث إلى نقد الخطاب الديني، ص، 51)». هذا هو القرآن في اللوح المحفوظ، أو في عقل الله، أو في أيّ مكان آخر قبل أن ينطق به؛ إنه القرآن السرمدي الذي لا يخضع للتزمّن، ولكن في اللحظة التي تكلّم فيها الله ودخل ذاك الكلام في التاريخ الأرضي، وقع تحيينه، وجُسّد « في " قلب" كلّ مؤمن يُمارس الشعائر الدينية يوميا، أو يمارس التأمل، أو ذكر تاريخ النجاة، أو التلاوة الشعائرية للكلام الموحى، أو السلوك الأخلاقي والشرعي المُطابق للأحكام المعيارية المنصوص عليها من قِبَل الله (ص، 51)».

أودّ أن أسأل المؤمنين الذين يُعارضون أركون ويَتّهمونه بالكفر والزندقة: أين هو الكُفر؟ أين كلّ ما يَدَّعونه من كلام أركون هذا؟ لقد أوهم الرّجُل قرّاءه، بل أوهم حتى على نفسه، لأن كلامه الحماسي من قبيل: « أنا أَخرُج الآن أو أتخلّص من نظام فكر قديم من غير أن أُبالي بانعكاسات ذلك على ديني وتضامناتي التاريخية والثقافية مع طائفتي الإسلامية (القرآن. من التفسير الموروث إلى نقد الخطاب الديني، ص، 27)»، ووعوده السخيّة: « إنني أزحزح المسائل القديمة في إطار معقوليتها الانغلاقية، الثنوية، الحرفية، الجوهرانية، أو الفيلولوجية، التاريخاوية، الوضعية، العلموية ، إلى إطار آخر مختلف وأوسع بكثير. إنني أزحزحها إلى إطار الأشكلة التعددية والمتنوعة الوجوه لمفهوم الوحي المعقد جدّا والذي لم يُفكّك بعد (ص، 27 ـ 28)»، أقول: كلّ هذه الخطابة لم يتمخّض عنها شيء؛ الوحي بَقي هو الوحي، القرآن بقي كلام الله الأبدي الذي لا تؤثِّر في أبديته حتى أسباب النزول، والمؤمنون يمارسون شعائرهم ويستمدّون أحكامهم، ويستلهمون منه مبادئهم وأفكارهم وتشريعاتهم كما كانوا يفعلونه منذ ألف وخمسمائة سنة تقريبا. أين الجديد الذي أضافه أركون؟ إن تنسيب الوحي وغرسه في التاريخية الفعلية هو زندقة وكفر عند المؤمنين؛ أركون لا يستعمل مصطلحات التكفير، فهو أبعد من ذلك، لكن من المرجح أنه يعتبر بحوث العلماء مجرّد خيالات وأوهام . وأعتقد من جهتي ـ أود أن أكون مخطئا في أقوالي هذه ـ أن الرّجُل يتلاقى بعض الأحيان، مع مواقف المؤمنين، وما دفعني إلى استنتاجي هذا هو تهجّماته الشرسة على العلماء والمؤرخين العلمانيين: فقراءته السيميائية الروحانية كشفت له (ولقرائه المؤمنين): « سوء التفاهم والتأويلات الخيالية أو الوهمية التي تُكثر منها القراءة التاريخوية الوضعية. فهي لا تهتمّ إلاّ بالزمن الكرونولوجي للوقائع والأحداث. أقصد زمن الأحداث التي جرت في تلك الفترة وسِيَر الشخصيات الأساسية كما يحاول أن يتحقق منها ويكتبها المؤرخ "الحديث" (القرآن، من التفسير الموروث...ص، 51)». فيمن يقصد أركون بالتحديد؟ هو نفسه يجيب: « أقصد المؤرخ المقطوع عن الإطار الزمني الوجودي للإدراك أو التصوّر المُرسَّخ من قِبَل القرآن [...] إن القراءة التاريخوية الوضعية إذ تفعل ذلك، ترفض أن تتغلغل إلى تلك التاريخية الخصوصية المفهومة والمعاشة كونها عبارة عن إقامة علاقة مع الحقيقة. وهي علاقة مُنعَشَة أو مُجدَّدة باستمرار من قِبَل الزمن المليء للتجربة الدينية، وذلك في مقابل الزمن المتشظي، والمحسوب، والمحدود للوجود الدنيوي (ص، 50 ـ 51)».

هذا التهجّم العنيف، والمتكرّر حتى التّخمة، على المؤرخين الوضعيّين تبريره الوحيد هو فقدانهم تلك الحماسة التصوّفية التي يمتلكها أركون، وابتعادهم، مبدئيا وطبقا لمناهج علومهم، عن الاعتقاد في المقدّس. ولكننا، في مقابل ذلك، لا نجد عنده تهجّما مماثلا على الأصوليين، كلّ ما يأخُذه عليهم هو إلتجاءهم إلى التفسير الفوضوي لآيات القرآن واستعمالها لغرض « تأسيس نظام سياسي منعوت بالإسلامي تعسّفا (ص، 52)». لقد أرجع الاعتباط أو التعسّف الذي يمارسه هؤلاء في تلاعباتهم بتفسير القرآن إلى ما أسماه بـ « لامبالاتهم الكاملة بالبحث اللاهوتي المُمارس على هيئة " فهم الإيمان على محكّ التجربة مع الزمن". وهذا هو تعريف اللاهوتي الفرنسي المعاصر م. د. شينو للإيمان». ليس لدي تعليق، أترك هذه المهمّة للقارئ.

العروسي: تقول في الصفحة 201 "لم يبق أمام أركون إلاّ مجابهة ما تبقى من حصون العقلانية، ورهانه الأكبر، يكمن في القضاء على تلك المتضادات المفتعلة، التي أرّقت كلّ المفكرين المتديّنين الذين يريدون التوفيق بين العقل ونقيضه. والوصفة التي يقدّمها أركون هي دائما مساوية لذاتها، ألا وهي الخروج من تلك العقلية " كيف تعلل هذا الحكم؟

المزوغي: هذا الحكم جاء إثر كلام حول تشبث أركون بفكرة المخيال ودفاعه عن الجوانب اللاعقلانية من التجربة الإنسانية مثل الأسطورة والسحر. وقد قلتُ بأن أركون يرفض العقل المنطقي العلمي، الذي يدعوه بالعقل السكولاستيكي، لأن هذا العقل يؤدي حسب زعمه إلى « استبعاد كل العقائد والتصورات الجماعية التي تُحرك المخيال الاجتماعي أو تُنشِّطه من ساحة علم التاريخ ( القرآن. من التفسير الموروث إلى نقد الخطاب الديني، ص، 49)». وهذه، كما قلتُ سابقا، هي من بين الثوابت الجوهرية في فكر أركون، فهو لا يفوّت أية فرصة، لكي يستعرض إدانته للعقل الوضعي العلمي ومناهضته التامة على أساس قناعات دينية مُدَعَّمة بأنثربولوجيا ليفي شتراوس وبإشراقية كوربان (Corbin). فالعقل الوضعي بالنسبة إليه: « قد تجاهل أو أساء فهم المكانة الأنثربولوجية للخيال. أقصد الخيال بصفته مَلَكة شغّالة في كلّ النشاطات الفنّيّة، والرؤى السياسية؛ وأيضا الخيال بصفته وعاء لاحتواء المعتقدات والتصوّرات الجماعية التي تمارس دورها كمخيال اجتماعي». فالرجل مقتنع بحقيقة أن الخيال يلعب دورا محوريا في حياة المجتمعات ويشرّط معتقداتهم ونظرتهم للعالم، حتى وإن نقض العقل العلمي تلك الخيالات وأظهر مدى تهافتها واجحافها وخطورتها. إنه أمر يدعو للحيرة حقا. فكل كتاباته مخترقة بهذا الدفاع المستميت عن المخيال الأسطوري، وحول هذه الأطروحة فإن أركون لم يتزحزح أبدا وقد اتهم ما أسماهما بـ « الفكر التيولوجي "الأرثودكسي" وعقلانية النخبة» بأنهما « نجحا في الإسلام كما في المسيحية في رمي العجيب المدهش (le merveilleux) أو الساحر الخلاّب داخل دائرة العقائد الخرافية والأدب الشعبي، أي ضمن مستوى من الفعالية الثقافية المتدنّية الخاصة بالأطفال والجدّات والشعوب "المتخلّفة" ( الفكر الإسلامي. قراءة علمية، ص، 187)». الخيال في نهاية المطاف ليس هو من مجال اللاواقع بل يبدو حسب قناعات أركون « أكثر واقعية من الواقع ( ص، 75)».

لقد اعترضتُ على هذه الأطروحة التي روّجها أركون في الأوساط الثقافية العربية وتساءلتُ عن مدى راهنيتها بل ومدى جدّيتها في تطوير وتحسين الذهنية العربية الإسلامية التي مازالت تعيش وتَتَغذي بالخرافة. وقد طرحتُ أمام القارئ التساؤل التالي: بين أسطورة الخلق مِن عَدم ونظرية الكوسمولوجيا الحديثة، ما الذي ينبغي أن نَعتَمِده في فَهمِنا للكون؟ وبين أسطورة خلق الإنسان، بما تَحمله من مدهش وخلاب، أعني تكوينه من تراب، ثم إسكانه الجنة، ثم خلق أنثى من ضلعه، ثم إغوائهما بأكل ثمار كان قد منعهما منه الله، أقول بين هذه الأسطورة المُرعبة ونظرية التطوّر الداروينية بماذا نتمسك الآن؟ ومَا النسق الأقدر على تفسير نشأة الإنسان تفسيرا علميا؟ أنا أرى على كلّ حال أن "مقولات" العجيب والخلاب والساحر هي مِن مجال الخيال الشعري، قد تُفيد مُتعة ظرفية وآنية، ولكنها لا تُلبّي فضول العارف ولا تُنتج، على الإطلاق، علما بحقائق الأشياء. ونحن في العالم العربي بحاجة إلى عقل تنويري، إلى العلوم والمعارف لنتمكّن من الخروج من حالة الدونية التي نحن عليها. كان على أركون أن يفعل ذلك، لكنه أبى إلاّ أن يضرب العقل العلمي في الصميم ويَسِمَه بالعنجهية والغرور.

بعد ادماج الخيال في لعبة انتاج المعنى واعتباره "أكثر واقعية من الواقع"، سألتُ ماذا تبقّى أمام أركون للقضاء على آخر جيوب العقل الوضعي؟ لم يبق أمامه إلاّ تحطيم الفوارق المنطقية ومحو المتضادات، وهكذا يتمّ ردم الهوّة التي تفصل بين العقل ونقيضه. هذا هو بالذات ما فعله أركون. والوصفة التي اعتمدها هي دائما مساوية لذاتها، وليسمح لي القارئ بالقول إنها خطابة الداعية الفاقدة للبرهان العقلاني. فعلا، فهو يدعونا بغير براهين مقنعة الى التخلي عن تلك العقلية التي ـ حسب زعمه ـ « لا تزال حتى اليوم تُقيم التضاد المطلق بين اليقينيات المبرهنة علميا من قِبَل العقل/ وبين العقائد الهُلامية، أو غير المؤكدة، أو الخيالية، أو الأسطورية، أو الخاطئة أو المؤبدة حتى الآن مِن قِبَل الأديان بشكل خاص ( الإسلام، أوروبا، الغرب، ص، 70)». الملفت للنظر هو أن أركون مكث، منذ عقود، على معتقده هذا ولم يتزحزح عنه قيد أنملة، أعني وضع كل التعابير على نفس قدم المساواة ونكران التناقضات والأضداد. في الثمانينات من القرن المنصرم أعلن أن الأضداد غير موجودة، والثنائيات المتضاربة مثل « العقل/ الإيمان، قانون الوحي/ قانون بشري وضعي، حقيقة /ضلال، صواب/ خطأ، خير/ شرّ، معنى مجازي/ معنى حقيقي» هي الآن حسب رأيه « في طريقها للإمحاء والتجاوز ( تاريخية الفكر العربي الإسلامي، ص، 24 ـ 25)». ثم رَدّد هذه الأطروحة على حرفيتها في أواخر التسعينات، دون ترّيث أو مراجعة نقدية. يقول في كتابه المتأخر " قضايا في نقد العقل الديني": « وقد استمرّ العقل الحديث قبل مجيء ماركس ونيتشه وفرويد في استغلال تلك المزدوجات الثنائية الضدّية التي طالما استغلّها الفكر القروسطي حتى شبع منها. أقصد بذلك المزدوجات التالية: خير / شر، صحيح / خاطئ، جميل / قبيح، مادّي / روحاني، فان / باق، حلولي أو مثولي / منزّه أو متعال...الخ (ص، 238)». هذه المتضادات يسميها أركون إرثا قروسطيا ثم أضاف إليه متضادات أخرى « تاريخي / أسطوري، مقدّس / دنيوي، ديني / سياسي، كنيسة / دولة، روحي / زمني...الخ».

نحن نسلّم بأن بعض المتضادات ليست كذلك ولا تفرض نفسها على العقل، ومن المرجّح أن تكون، بعد تمحيصها والتمعن فيها، مجرد تناقضات ظاهرية. لكن، تعميم النفي، أعني نفي أي نوع من التناقضات من مجال الواقع والنظر، ثم وصف مَن يبحث عن الحقيقة ويَرغب في حلّ الإشكالات وعدم الركون إلى التناقض، بأنه سجين الفكر القروسطي فهذا شيء مُحيّر جدّا. لقد قلت بأن الإصرار على تبنّي مواقف من هذا القبيل، ومحاولة ردم الهوّة بين العقل والإيمان، الحقيقة والخطأ، الخير والشرّ، لا تؤدّي، في نهاية المطاف، إلاّ إلى نوع من العدمية النظرية وإلى ترسيخ القناعة اللاعلمية التي ترى أن عهد طلب المعنى والظفر بالحقيقة هو عهد قد ولّى وانقضى نهائيا. ومن هنا نستطيع أن نحدس جوهر الرسالة الجديدة التي يريد إيصالها إلى الجميع، من متدينين وتنويريين عرب أو غربيين: « ينبغي أن نُعيد الاعتبار للأديان بصفتها أنظمة معرفية لا تزال تلعب دورا مهما في آليات وطرائق اشتغال ملكاتنا الفكرية والعاطفية ( الإسلام، أوروبا، الغرب، ص، 70)». أليس لدي الحق، والأمر على هذه الشاكلة، ثم بعد هذا السيل من الاعترافات المتتالية أن أتساءل عن مدى تنويريّة أركون؟ ألا يُرسِّخ فينا القناعة من أن مشروعه لا يَنبع ولا يَقود ولا يَطمح إلى العقلانية والتنوير؟ وما يصعّد من حدّة يأسنا هو أن أركون، ربما مستشعرا خطورة المفارقة التي حصر نفسه فيها، ادعاؤه بأن خطابه هذا « موجّه للغرب ... وليس للعالم الإسلامي»، إنه مخرج أشد نكالا من الأوّل. هذا التملص، حسب رأيي، لا يُسقط عنه مسؤوليته: فَكُتُبه مُترجمة كلها إلى اللغة العربية، وجميعها تحتوي هذه الفكرة المبدئية والتي لازمته طوال حياته النظرية. ثم إن الغرب ليس بحاجة إلى دروس في إهانة العقلانية والإجهاز على العلم، لقد تكفّل بذلك الفلاسفة العدميون ومنظرو الحركات اليمينية وأعداء العقلانية من المتدينين والكنيسة. انظر ماذا يقول فوكو بخصوص هذه النقطة. في عالم الخطاب، ليس هناك تمايز أو تفاضل بين أصناف التعابير الثقافية، ذلك لأنه مِن غير المعقول « أن نَقبَل، هكذا، وعلى عِلاته، تمييزا كذلك الذي يُظَنّ أنه قائم بين أنماط الخطاب الكبرى، أو كذلك الذي يُعتقد أنه يوجد بين أشكال وأنواع متعارضة فيما بينها، كالعلم والأدب والفلسفة والتاريخ والخيال الخرافي ( ميشيل فوكو، حفريات المعرفة، ص، 22)». لكن، كما قلت أعلاه، الشيء الذي يدعونا للدهشة أصلا هو محاولته التملص من النتائج السلبية المترتبة عن أفكاره تلك بالزعم أنها موجّهة للغرب فقط. أن يَكتب أحدهم كتابا ويُلقي بأفكاره هكذا ثم يحدّ من وطأتها زاعما أنها تخص فقط جزءا من البشرية، أما الباقي منها فلا تنطبق عليه، فهذا أمر يدعو للشفقة حقا: إنه مجرّد تحريض على الازدواجية وتقنين للنفاق ليس إلاّ.

العروسي: تقول في الصفحة 276 "لكن أركون لا يرى الأمور على هذا النّحو، بل إنه يُعارض بشدّة العلمانية، ومعارضته تُذكّرنا بأدبيات المؤمنين من الملل الدينية التوحيدية، اليهود والمسيحيّين البروتستانت والإسلاميّين على بكرة أبيهم. النموذج هو فرنسا، البلد الذي انقدحت فيه الشرارة الأولى للمدّ العلماني، ومنها انتشرت في أرجاء أوروبا وتوطّدت ". كيف ذلك يا دكتور؟

المزوغي: إن كنتُ من أصحاب النوايا الخبيثة، أو من أولئك المتسرعين في الحكم لقذفتك بقولة صريحة لأركون أدلى بها إلى جريدة فرنسية وادعى فيها بأن العلمانية اليوم تمّ تجاوزها من الناحية الفكرية (La laïcité me paraît aujourd hui intellectuellement dépassée). لكني دخلت المعمعة دون أفكار مسبقة مُقتنعا بأن أركون لا يمكن أن يكون إلا من دعاة العلمانية وهو نفسه يقر بذلك معربا أمام جمع من الحاضرين « أنا مدرّس علماني يمارس العلمنة في تعليمه ودروسه. وهذا يشكل بالنسبة لي نوعا من الانتماء والممارسة اليومية في آن معا. أودّ أن أقول ذلك أمامكم منذ البداية، لأنه يمكن أن يعتقد بعضهم بأنني لا يمكن أن أكون ضمن خطّ العلمنة بسبب انتمائي الإسلامي (العلمنة والدين، ص، 9)». قلت بأن فرنسا هي البلد الاوروبي الذي انقدحت فيه تلك السيرورة التي اعتبرها البعض مخلصة للانسان من ربقة الدين ومحررة له من أسر تعاليمه وضوابطه. لكن بالنسبة لأركون تلك الصيرورة التاريخية، تحمل في ذاتها خللا كبيرا، ومبنية على أسس غير متينة، وخللها يكمن أساسا في الجانب الابستيمولوجي المعرفي: « ففي فرنسا بشكل خاصّ نجد أن المسار الإيديولوجي الذي ابتدأ منذ الثورة الكبرى قد انتهى إلى الفصل القانوني بين الذرى السياسية والذرى الدينية دون أن تُدرس بعمق انعكاسات هذا القرار السياسي الخطير على النظرية النقدية للمعرفة (تاريخية الفكر العربي الاسلامي، ص، 12)». لقد بيّنت في كتابي بطلان هذا الادعاء من الجانب النظري وحتى التاريخي. لقد برهنتُ على أن أركون ينتقد بشدة نموذج العلمانية الفرنسية ويجرّ معه حتى التجربتين اللتين تحققتا في العالم الإسلامي، أعني تجربة كمال أتاترك في تركيا والحبيب بورقيبة في تونس. وادعى أن العلمانيين الأوائل يملكون وعيا ساذجا. المثقفون العرب والقادة المسلمون، مثل رفاعة الطهطاوي وطه حسين وكاتب ياسين والحبيب بورقيبة، الذين تجرؤوا على تبنّي الفكر العلماني هم حسب زعمه في جهل من أمرهم لأنهم « لا يَمتَلكون آنذاك الثقافة التاريخية الضرورية لتبيان المنشأ الإيديولوجي للعلمنة في الغرب ووظائفها الاجتماعية ـ السياسية، وحدودها الفلسفية (الفكر الإسلامي، نقد واجتهاد، ص، 69)». لقد وصلت حدّة انتقاداته للتجربة الفرنسية وثقافتها العلمانية إلى درجة أنه تهجّم حتى على اللغة التي يَكتب بها، أعني اللغة الفرنسية لأنها، حسب زعمه، لغة علمانية، غير قادرة على التعبير عن المُقدّس: « من الصعب ترجمة مُفردات القرآن إلى لُغاتنا الحديثة المُعلمَنة: أي المنزوع عنها غلاف التقديس (كاللغة الفرنسية مثلا) (ص، 79)». النتيجة المحققة عند أركون هي أن تجربة العلمانية في فرنسا هي تجربة فاشلة على طول الخطّ، وقد « تجاوزها الزمن ( الإسلام، أوروبا، الغرب، ص، 209)».

العروسي: تقول في الصفحة 313 "إذا قارنا أفكار أركون ومشاريعه النظرية ونتائج بحوثه بأعمال المفكرين العرب العقلانيّين فإنه لا محيد من القول بأن الرّجُل ما زال يدور في حقل الدين وهو في نهاية المطاف مُفكر مؤمن، لا يختلف عن المؤمنين إلاّ في غموض مصطلحاته، ووَلَعه الشديد بالعلوم الإنسانية " تكرر هذا الحكم عدة مرات؟

المزوغي: لم أجانب الصواب ولي في صفي أقوال زملائه المستشرقين واعترافات أركون الشخصية ولقد ذكرتُ البعض منها في كتابي وقد أوردت شهادات الباحثين الذين يتهمونه بمعاداة التنوير وبمحاولة إقحام همومه الدينية الخصوصية في صلب النقاش الفكري الدائر في الساحة الثقافية، وتحيّزه لجهة دون أخرى، أعني تحيزه للاعقل ضد العقلانية الوضعية. هذا التحيّز أفضى به في بعض الأحيان إلى اطلاق العنان لتداعياته التي وصلت إلى حد الإزدراء بالمفكرين العرب والقائهم تهما خطيرة، مثل اتهامه طه حسين وعلى عبد الرازق بالتهور والسذاجة قائلا بصريح عباراته: « لقد تهوّر بعض الكتاب وتسرّع في إدخال نظريات علمية شديدة الجدّة حتى بالنسبة للغرب الذي اكتشفها كنظرية داروين فيما يخص تطور الأنواع. يمكن أن يُقال نفس الشيء فيما يخص طه حسين وعلي عبد الرازق اللذين برهنا على سذاجتهما الفكرية عندما اعتقدا بإمكانية التعرّض لموضوعين مشحونين بالتصورات الميتولوجية والدينية والتقديسية...( تاريخية الفكر العربي الإسلامي، ص، 32)». ثم إن نكرانه على التوجه السياسي العلماني قائلا بالحرف إن العلمانية تم تجاوزها الآن، لهو أبيَن دليل على صدق أقوالي. وهذه المواقف النظرية والسياسية لها نفس مواصفات المواقف الدينية في جميع الملل. ولنا أن نطالع أي كتاب من كتب اللاهوتيين الغربيين والاسلاميين إلا وارتطمنا بأطروحات مماثلة تُلاك منذ عقود. ولذلك فإن تصنيفي أركون ضمن رهط المفكرين المؤمنين الذين يَدُورون في حلقة المنافحة على معتقدتاهم الدينية هو تصنيف مطابق لواقع الحال، ولم أتجنّ عليه بالمرة.

العروسي: تقول في الصفحة 363 خاتما كتابك "وقراءة أركون في حدّ ذاتها هي عملية مُضنية نفسيا وفاقدة للجدوى عِلميا، لأن كتابات أركون لا ترحم، فهي تعجّ بالتقسيمات والتناظرات، والاستدراكات، وبمفاهيم يصفها هو نفسه بأنها « تنفّر الكثير من القراء أو تثقل عليهم (الفكر الاصولي، ص 48)»، ممزوجة بسيرة حياة وهُمُوم شخصية، ولكن في الأخير، وبعد عناء القراءة وانتظار أن يَتمخض عن ذاك الرّكام الهائل من النصوص شيء ما، لا نحصل إلاّ على " تفاهات". رغم أنك خصصت له كتابا ضخما؟

المزوغي: أمّا أن قراء أركون هي عملية مضنية فهذه حسب رأيي أول انطباع يخرج به القارئ بعد مباشرة كتبه، وقد تحسّس هو نفسه هذه الحقيقة واصفا عباراته بأنها ( تُنفّر الكثير من القراء أو تُثقل عليهم). أما بخصوص مزج همومه الفكرية بسيرة حياته فهذه من الأمور التي لا يمكن أن تَخفى على أحد من قرائه، ولكثرة تواجدها في كتبه الأخيرة فإنني أفردت لها فقرة مطوّلة من كتابي. أخيرا، بخصوص الحصيلة التي وصفتها بالتفاهات قد أكون قاسيا في حكمي هذا، لكن أركون لا يقلّ قسوة مني في استعمال نعوت تحقيرية إزاء المثقفين العرب وحتى الجماهير العربية. (انظر الفصل الأخير من كتابي). أنا، على كل حال، لم أكن الأول الذي قال هذا الكلام، لقد أورد أركون، بصراحته المأساوية المعهودة، هذا الحكم على لسان نقاده الغربيين حينما قالوا له « أنتَ لم تأت بشيء جديد. كلّ ما تفعله شيء تافه، مَلَلنا منه، عفا عليه الزمن (قضايا في نقد العقل الديني، ص، 23)». بعيدا عن التنابز أو العنف اللفظي، أنا مقتنع بمّا أقول وقد قدّمتُ البراهين والنصوص المدعّمة. أما أعتراضك عن جدوى تخصيصي كتابا ضخما لهذه التفاهات فإنني قد أبدو لك أكثر قسوة لو قلتُ بأن تلك التفاهات، إن أصبحت حصان طروادة لبناء شهرة عالمية ولغزونا واكتساحنا، فالواجب العِلمي والأخلاقي يفرض علينا مجابهتها وإيقافها عند حدها. وهذا ما فعلت.

محمد المزوغي تونسي مُقيم بإيطاليا منذ سنة 1989. دَرس الفلسفة بجامعة غريغوريانا (Università Gregoriana) بمدينة روما وتخصص في الفلسفة الكلاسيكية اليونانية وفلسفة القرون الوسطى. يعمل منذ سنة 2000 كأستاذ للفسلفة بالمعهد البابوي للدراسات العربية والإسلامية (PISAI) بروما. لديه من المؤلفات:

1. "العقل والإيمان في الإسلام. موازنة تاريخية نقدية" (بالإيطالية)، نابولي 2004.
2. " نيتشه، هايدغر، فوكو. تفكيك ونقد". دار المعرفة للنشر،
تونس 2004.
3. "الراهن كحدث فلسفي. كانط، فوكو والأنوار" ضمن مُلتقى الجمعية الكانطية الفرنسية بعنوان: "كانط والتنوير الأوروبي"، نابولي 2005.
4. " ابن خلدون والفلسفة. تقييم نقدي". مجلة المستقبل العربي، العدد 329 يوليو 2006.
5. " السياسة والتمدّن. أرسطو وابن خلدون". مجلة الحياة الثقافية، تونس. عدد خاص بابن خلدون، العدد 173، ماي 2006.
6. "مكانة ابن خلدون في الفكر العربي المعاصر"، المجلة العربية للثقافة، عدد خاص بابن خلدون، 2006.
7. "عمانويل كانط. الدين في حدود العقل أو التنوير الناقص" دار الساقي، بيروت ـ لبنان 2007.
8. " العقل بين الوحي والتاريخ. حول العدمية النظرية في إسلاميات محمد أركون". منشورات الجمل، كولونيا 2007.
9. "العقل والتاريخ. منابع إسلاميات أركون". مجلة المستقبل العربي، العدد 342، أغسطس 2007.

ـــــــــــــــــــــــــــــ
  (1) يدور هذا الحوار حو ل أحدث كتب محمد المزوغي ("العقل بين الوحي والتاريخ. حول العدمية النظرية في إسلاميات محمد أركون)، منشورات الجمل، كولونيا 2007.
(2) بخصوص العدمية النظرية التي استفحلت في الأوساط العلمية الغربية، أستسمح القارئ بإحالته إلى كتابي: نيتشه، هايدغر، فوكو. تفكيك ونقد، دار المعرفة، تونس 2004.
(3) M. Foucault, Entretient avec Mario Fontana, in Dits et écrits I, Gallimard,