يقدم القاص السوري من خلال شخصية الصحفي الذي يود أن يضيع على سطح سفينة في البحر جرد عن اختلاف أحوال البشر وتسيد قوى الشر التي حولت الحياة جحيماً لا يطاق ليخلص إلى أن الإنسان السوي يتحول إلى رجل مريض في نفسه يحتاج إلى من يشفيه.

القبطان

حازم شحـاذة

تقدمت بطلب توظيف لدى شركة بحرية تمتلك أكثر من سبع عشرة سفينة تجارية فحددوا لي مقابلة مع قبطان إحداها صباح الخامس من نيسان..

توجهت في الموعد المقرر إلى الرصيف البحري حيث كانت السفينة راسية وحين سألت عن القبطان أرشدوني إلى قمرته في مؤخرة السفينة.

كان رجلاً فارع الطول في الخمسين من عمره أنيق الملابس حليق الذقن يشع من عينيه الزرقاوين بريق عجيب و تفوح منه رائحة عطر زكية.

سألني عن خبرتي في الإبحار فكنت صريحاً معه:

ـ نظرياً، خبرتي رائعة في هذا المجال فقد سبق لي أن أبحرت مع مينة وملفيل وستيفنسون آلاف الأميال في صفحات الكتب أما عملياً فأبعد مسافة اجتزتها داخل البحر كانت على متن (حسكة) بمجداف واحد.

ـ ضحك القبطان وضحك أكثر عندما علم أن بحوزتي شهادة في الصحافة وأنني أعمل في هذا المضمار منذ ما يقارب العقد..

ـ ألا تجد ذلك غريباً بعض الشيء..

لديك عملك الذي تتقنه وحياتك التي بنيتها خلال تلك السنوات والآن ها أنت تريد الإبحار بعيداً عن كل ذلك..

ـ ربما..

أجبت وأنا أقدم له سيجارة أشعلتها ثم أشعلت واحدة لنفسي وتابعت:

ـ منذ ثلاثة وثلاثين عاماً أيها القبطان وأنا أعيش على البر ولا أخفيك أن الأمر مرهق جداً..

الناس يتكاثرون كالفيروسات..

الأحقاد تملأ الأرجاء..

حروب لا تنتهي..

لصوصٌ كلما مات أبرياء زادت أرصدتهم في المصارف..

رجال دين يبيعون الجهلة قصوراً في السماء ليفجروا أنفسهم بين الآخرين..

عاهرات بمرتبة فنانات

قوادون بمرتبة رجال أعمال..

عقلي لم يعد يسعفني أيها القبطان..

كل شيء بات مقززاً وفي أحسن الأحوال بدون طعم..

فكرت بيني وبين نفسي..

لم لا أجرب البحر والعيش على سطح باخرة علني أنقذ نفسي من هذا الجحيم ..

هل رأيت الإعلانات على شاشة التلفاز أيها القبطان؟

إنهم يتاجرون حتى بالهواء الذي نتنفسه

كان القبطان يصغي جيداً ولم يقاطعني أبداً..

في نهاية المقابلة انشغل بالكتابة قليلاً على قصاصة ورقية وضعها في جيبي بعد أن صافحني مودعاً

اعترتني لهفة كبيرة وأنا أخمن ما كتبه..

أتكون توصية منه بقبولي كي أسلمها لأصحاب الشركة؟

عليّ إذاً أن أجهز نفسي منذ الآن..

سأقدم استقالتي وأحزم أمتعتي لألتحق بطاقم الباخرة قبيل الإبحار..

دسست يدي في جيبي ما أن ابتعدت عن الرصيف البحري وأخرجت القصاصة الورقية..

قرأت فيها اسماً ورقم هاتف وفي الزاوية اليسرى من القصاصة تعريفاً مقتضباً بصاحب الاسم..

الدكتور......

طبيب نفسي محترم..

مع خالص الأمنيات بالشفاء العاجل..