قد تكون نصوص أقرب الى عوالم النثر من الشعر، لكنها تستمد من روح الشعر الكثير. قدرة الشاعر نمر سعدي في توليف هذه الأمكنة والذكريات والأسماء بصياغة ونفس شعري يجعله أقرب الى تلك الذات المسكونة بنوستالجيا تولد الكثير من الدلالات والمعاني وتحاول أن ترسم بورتريهات متعددة لعوالمها.

خفقُ الأنفاس

نمر سعدي

نوستالجيا

أنا كائن نوستالجي.. أفضِّلُ شوكَ الماضي على حريرِ الحاضر.. كيفَ تذكِّرني بالماضي وأنت غير قادر على إرجاع لحظة واحدة منهُ؟ لماذا تعذِّبني بلفتةٍ للوراءِ وبنداءٍ على حياةٍ لن تعود؟ ألا تعرفُ أنكَ تحيلني بهذه اللفتةِ وبهذا النداءِ الأصم شجرةَ ملحٍ لا تقربها العصافير؟ إذا قالَ ناظم حكمت (أن أجمل الأيام تلك التي لم تأتِ بعد) فأنا أنقضُ كلامه الرومانسيَّ العذبَ هذا وأقولُ إن أجملَ الأيام تلكَ التي ذهبتْ بلا عودة..
أنا كائن نوستالجي كلَّما كبرتُ كلَّما ازددتُ طيشاً.

 

شعراء الظل

البشرُ الهامشيُّون هم الأكثرُ هشاشةً ورقةً وعفويَّةً على تطبيقات واتساب وفايبر، المرأة التي كنتَ تظنُّها قاسيةً أو متسلِّطةً والتي أرهقتْ الرجالَ بصدودها وعنفوانها تصبحُ شاعرةً رقيقةً وامرأةً أخرى على واتساب في رسائلها الصباحيّّةِ لجارتها أو صديقتها.. في كلِّ كلمةٍ بسيطةٍ تقولها.. مرهقة..  اشتقتُ لكِ.. كأنَّ كلامَها ترجيعاتُ موجةٍ عاشقة أو أنَّاتُ محارةٍ في محيط، الرجالُ الأشدَّاءُ المتجهِّمون يصبحون عشَّاقاً قدامى و(جنتلمانات) حقيقيِّين وهم ينقرون بأصابعهم الغليظةِ شاشاتِ هواتفهم من أماكن بعيدة، ويتركون رسائلَ قصيرةً صادقةً وخارجةً من القلبِ يحملها رنينٌ مباغتٌ وناعمٌ إلى مساءات نسائهم. كأنَّ التخاطبَ عن بُعد يصفِّي أرواحَ البشَر من الشوائبِ والنرجسيَّة.

 

فوضويَّةُ القراءة

نادراً ما كنتُ أتركُ الرواياتِ في المنتصف، لم يحدث ذلك تقريباً معي في الماضي حتى لو بلغتْ صفحاتُ الرواية 700 صفحة، ولكنني في الفترةِ الأخيرةِ تركتُ الكثيرَ من الكتب في المنتصف، روايات، دراسات، دواوين شعر وغيرها، عشرات الكتب الالكترونية والورقية، لا أعرفُ السبب، كأنهُ هروبٌ من النهايات، سواء كانت سعيدةً أو حزينةً، أو بحثٌ أبديٌّ عن فسحِ التأمُّلِ في عالمِ المادة، ولكن لكي تقرأ فأنتَ بحاجةٍ إلى الإطاحةِ بناقوسِ القلقِ الوجودي الذي يسكنُ أضلاعَكَ إلى هاويةٍ منسيَّةٍ، هكذا تركتُ رائعة الكاتب الأمريكي الشهير همنغواي (وداعاً للسلاح) بعد مئة صفحة لأقفز إلى قراءة بعض كتابات جان جينيه وبورخيس وهنري ميلر، منهم انتقلتُ إلى كتاب (اللاطمأنينة) لبيسوا ثمَّ إلى عوالم كافكا الكابوسيَّة.. فجأةً وجدتُ نفسي مشغوفاً بالشاعرين العراقي حسب الشيخ جعفر والفارسي المتصوِّف فريد الدين العطَّار، أنا قارئٌ لا منهجيٌّ، أو صرتُ قارئاً لا منهجياً، حتى أنني أغلقتُ روايةَ (عندما بكى نيتشة) للكاتب الأمريكي إرفين د. يالوم قبلَ نهايتها بقليل رغمَ تأثري وإعجابي الكبيرين بها وأعدتُ قراءةَ المجموعة القصصية الرائعة (الخيمة) للكاتب المغربي المبدع محمد شكري وصوتي الداخلي يقول: أريدُ أن أسكنَ إحدى روايات أو قصص مجنون الورد هذا.. أو أسكنَ إحدى الأغاني المغربية إلى الأبد.. كم أنتَ جميلٌ ومختلفٌ يا محمد شكري.

 

القدس

لا أذهبُ إلى القدسِ كثيراً.. أذهبُ كلَّما اشتدَّ شوقي إلى السماءِ.. كأنَّ الله أقربُ إلى القدسِ من بقيَّةِ الأرضِ.. ثمَّةَ حنينٌ لشيء ما يرتطمُ بقلبي أنَّى توَّجهتُ.. ثمَّة أنبياءٌ غيرُ مرئيين يسيرون في الطرقاتِ ويطرحونَ السلامَ على العابرين.. وخروجٌ من هذا الوقتِ إلى وقتٍ آخر.. أكثر جمالاً واتِّساعاً.. في القدسِ يتذكَّرُ كلٌّ منا أُمَّهُ وحبيبتَهُ المنسيَّةَ.. ثمَّةَ كلُّ ما يحنُّ إليهِ شاعرٌ وعاشقٌ وقدِّيسٌ ومجهولٌ.. هواءٌ ناصعٌ.. أحجارٌ معجونةٌ بدمِ البشرِ الغابرين.. أقمارٌ مائية على الأرض.. ترابٌ مجبولٌ بهالات الضوء.. أشجارٌ عاشقةٌ.. كلُّ شيء تقريباً.. وشوقٌ مضاعفٌ للسماء.

 

 

إعتراف

أحياناً أشكُّ بأني كتبتُ قصيدةً حقيقيَّةً واحدةً.. ربمَّا كتبتُ شيئاً يشبهُ التمويهَ النفسيَّ.. كأني أكذبُ على أنايَ وعلى الآخر.. أو كلَّما حاولتُ أن أغوصَ في نصِّي لا أجدُ في جوَّانيتهِ البوح الحقيقي الخبيء في القلب منذ الطفولة.. لا أعثر على الاعترافِ البريءِ الذي يعبِّرُ عني كإنسان وكشاعر.. 
القصيدةُ كتبتْ نفسَها بنفسها إذن.. وأنا مجرَّدُ ذلكَ القروي الذي لا علاقةَ لهُ بالشِعر.. والذي تشتعلُ روحُهُ بوجعٍ غامضٍ.