يرى الناقد المصري أن القاصة تكتب القصة معتمدة على أسلوب الرواية وطرائقها. خاصة رواية الأصوات. التي نجدها في الكثير من قصص المجموعة. والتي يمكن التعبير عن حركاتها/ مقاطعها بالحركة داخل السكون، بينما السكون هو ما يشكل المقاطع مجتمعة، فتشكل رؤية عامة تمثل الحالة التي تبغي الكاتبة التعبير عنها.

حركية السكون داخل «حدود الكادر»

شوقي عبدالحميد يحيى

في خضم تسارع الإنتاج الأدبي، وتعدد أشكاله، يثور التساؤل مع كل عمل.. ما الذي يضيفه هذا العمل إلي الإبداع عامة، وإلي نوعه خاصة؟ وبماذا يتميز صاحب العمل أو يتفرد فيه عن قرنائه؟.

وبالطبع ثارت هذه التساؤلات في ذهني، قبل أن أدخل علي مجموعة عبير درويش الجديدة "حدود الكادر"[i] بعد أربع مجموعات سابقة؟. الأمر الذي يوحي بأن جديدا ستقدمه في هذا المجال، والذي يمكن أن نحدده في أن كثيرا ما نقرأ الرواية، وكأنها قصة قصيرة (رقة القتل لأحمد طوسون، مثلا)،  حيث يمكن حصر الزمن الخارجي لأحداثها، في إطار اللحظة. كما قرأنا كثيرا قصصا قصيرة، اشبه بتلخيص الرواية، حيث يمتد الزمن الخارجي لها نفس زمن الأحداث التي قد تمتد لتشمل حياة بأكملها، في الوقت الذي تعتمد القصة القصيرة علي تكثيف الزمن، مثلما تعتمد علي تكثيف السرد. ونستطيع أن نجد نماذج لهذه الحالات من داخل المجموعة.

إلا أن عبير درويش تكتب القصة بطعم الرواية، معتمدة إسلوب الرواية وطرائقها. خاصة رواية الأصوات. التي نجدها في الكثير من قصص المجموعة. والتي يمكن التعبير عن حركاتها /مقاطعها بالحركة داخل السكون، حيث تتم الحركة داخل كا مقطع، بينما السكون هو ما يشكل المقاطع مجتمعة، فتشكل رؤية عامة، تمثل القصة ، أو الحالة التي تبغي الكاتبة التعبير عنها. كما أن ذلك يتم عبر لغة جد شفافة، وكأنها البساط السحري الذي يحمل القارئ، بنعومة عبر المقاطع، فلا يشعر بصعوبة في التنقل.

فإذا ما ذهبنا مباشرة إلي آخر قصص المجموعة  (داخل الكادر.. خارج الكدر)، ليس فقط لأنها تحتوي عنوان المجموعة، وإنما لأنها ، أيضا، تعبر عن إسلوب الكاتبة في المجموعة، من حيث الشكل (الأصوات)، وإنما أيضا من حيث رؤية الكاتبة للعلاقة بين الرجل والمرأة، أو بين طرفي المعادلة الإنسانية، والتي هي الهاجس الأساسي في المجموعة، أو الهم الذي تحمله الكاتبة علي كتفها، وتتنقل بنا عبر القصص والمقاطع.

فنجد في هذه القصة صوتان إثنان .. رغم تعدد العناوين ، يمكن تحديدهما في (هو) و (هي) . ولو جمعنا خلاصة ما قاله كل صوت منهما سنجد الأتي:

داخل الكادر (هي) ..... تشعر بخدعتها التي خُدعتها فيه (تشفقين علي سجائره، وقلبك وشفاهك الخدرة بنسغ النبيذ الغائر بالرغوة والرغبة في الرقص وثبات الزمن.

تتأبطين ذراعه، تلتصقين به،  تنصتين إليه، رغم اللغو الصادر من عقلك ونعته لك بالخرقاء. فبينما هي تتعلق به، لا يتحدث هو إلا عن نفسه.

عشقته من صوره، كلماته، هسيسه الحالم، تطبقين بلهفة علي أصابعه وصدره وفمه.

وبعد طول انتظار وترقب

تدركين أن الضوء تلاشي، والموسيقي خفتت، وانحصرت الكاميرا عليك فقط، وتم القطع دون أن يلفظ      CUT.

 خارج الكادر (هو) ... وترتعب من دور "المسؤول" عن جلب سعادتها، أو سلبها، تتمني لو أنها لم تتعثر بك في تلك الليلة. (نلاحظ تتعثر بك، ولم يقل تتعثر بها... بما يعني إلقاء المسؤلية عليها، وتنصله منها)   حبك، إخلاصك، تلك الألوان جديدة علي لوحاتك، تفاديتها في السابق}{ما سعيَت إليه أن تظل خارج الضوء، أو إسناد دور يسلبك الحرية في التجوال .. بالخارج}.    

{تلجمك جرأتها في خوض التفاصيل، تتابعها مثل طفل ممتعض من لهو أمه}.       

{لم تعهد أن تخترقك إحداهن وتستعمر حصنك ، وتخترق وحدتك، وتنقب في أغراضك وتفتح خزائنك الصدئة ن وتحدد إقامتك داخل كادر واحد}.

 ومن هذه التجميعة نتبين أن عبير درويش ، تضع المرأة داخل الكادر، بينما تضع الرجل خارجه. أو أن عبير تتعاطف مع المرأة، بحكم طبيعتها، وكونها.

إلا انها تعود وتبدي بعض التعاطف مع الرجل في قصة "أسئلة موقوفة"، والتي تنحصر فيها الأصوات أيضا بين صوتي الرجل والمرأة، حيث تقدم لنا من خلالها، سيرة حياة.. وحنين للطفولة. نتبينها علي النحو الآتي:

1- .. صوت مشترك ..( صُدفة) حيث يعثران علي طفلة تائهة، يحنو عليها الزوج، فتشتعل غيرة زوجته العجوز.

2-  هي (القيد الحُرْ)   إحساس بالجوع أو الحرمان... تشعر بقلقه، وعندما ينام ، تشعر { بخواء روحها، وتمنت أن تختفي من الحجرة}.

  ثم (هو) يشعر بتناومها. بجسدها المتكوم تحت الأردية الكثيرة .. وكأن الأغطية جدار سميك يحول بين تواصلهما... فيشعر { شبح ابتسامة تفر سريعا علي شفتيه بعد ألم مباغت للذي بين فخذيه}.

3 -  الوصول متأخراً .... الحجرة والمكان ينضحان بالقِدم.. بمرور الزمن .. بعد أن كان قد حصل علي جائزة الإبداع الأدبي

4 -  التأرجح علي الخيوط ..  استرجاعه ليوم لقائها ، الذي كان أشبه بالصدفة. وقبل أن {يتسرب الملل اليومي الذي بدأ في ملء الفواصل ، التي أخذت في الاتساع}... إلي أن ....{ كنت لها عاديا، فأدركت أن الخيط قد انقطع}!

وتربط عبير بين البداية والنهاية .. حين  { يحدق في صورة ابنتهما علي الجدار الفاصل بين الفراشين}.. وكأنه يستدعي الأبنة وأسباب وجوده حين يتلو ذلك التحديق يذكر { بعد ألم مباغت للذي بين فخذيه}. ولنعلم لماذا  أحني علي البنت الضائعة.. وكأنه يستدعي بها تلك الحالة، للإشارة إلي الجوع الجسدي لدي الزوج.

ويقترب من تلك الرؤيا، علي الجانب الآخر، ذلك الجوع، أو الحرمان الذي تعانيه الساردة في قصة "الحجل في البحر"، حيث تلك الفتاة التي تحلم بذاك الفتي {الطويل الذي امتطي صهوة "ماكينة" بخارية ثم انطلق} الذي تخيلته يشري طوبي الشاي، وكوبي العصير، دون أن يكون له رفيق. وفي أعماقها أن تكون هي ذاك الرفيق. ولتري الفتاة  ذاك{القط الماجن  الذي يصر علي اللحاق برفيقته علي درابزين السلم الخشبي، ويخترق أقدامي، ليفعلها علي مرآي مني وأمام حجرتي، يموء ويموء، فأتفصد عرقا، وأنا أتخطاهما إلي نافذتي المشرعة علي البحر}. ثم تعود الساردة بعد حين لتخرج مكنون نفسها، وانربط بين ما كان من القط علي درابزين السلم الخشبي، وبين جوانية الفتاة{ أغفو فوق ذراعي، أحلم بفتي "الماكينة" يرقص معي ويقبلني علي الأسفلت، أو يفعلها عنوة معي بغريزة قط أهوج}.  

وإذا كانت بعض قصص المجموعة، قد توحد فيها الزمنان، الداخل والخارجي لها، مما جعلها أقرب لملخص رواية، مثل قصتي "حياة" و " تجليات حديث عابر"،  إلا أن الكاتبة تؤكد وعيها الكامل بتكنيك القصة الفصيرة، المعتمدة علي اللحظة أو الموقف. ومنها علي سبيل المثال قصة "الحلم الحجري" التي أعتبرها أفضل قصص المجموعة، حيث  لعبت فيها بحرفية بين الواقع والخيال، فأنطقت الجماد، أو جسدت الرؤي والرؤية، في تداخل، استطاعت به أن تكثف عمرا في لحظة. تلك اللحظة التي انفرد فيها المَثَال مع تمثاله، وتخيلها فتاة نزقة، وكأن الكاتبة تستعيد حكاية بيجامليون الذي صنع التمثال وعشقه. غير أن فارسنا في قصة عبير، كان قد عاني المرض في طفولته الباكرة، حيث كان قد أصيب ب (السحائي)، والذي من أعراضه ، عدم القدرة علي تحمل الضوء أو الأصوات العالية. لذا نري النحات هنا عندما يتحدث عن أسباب وحدته، وبُعده عن الوليفة ، بعد أن اصيب في الصغر { جميعها أصوات، والباقي ظلام دامس يحمل علي عاتقه استيعابي، وألوذ إليه كلما رغبت في الحلم}، حيث يمكن فهم الإشارة للحلم، بالعملية الجسدية، حيث يُشار إليها ب(بلوغ الحُلُم). ولابد أن ذلك انعكس علي علاقته بالمرأة، فاستعاض عنها بتماثيله التي يمارس معها ما كان يمكن أن يمارسه مع فتاة تجاوزت الخامسة عشر من عمرها بيومين: { أخترق الظلام، أستكشف هوية حلمي الجديد، أمشط أناملي جيدا فوق واهبي الحلم، ثم أنفرد بأحجاري، أزيل عنها النتوءات والزوائد، أكشط التصور البعيد، ثم أراقص انحناءاته بأزميلي، لأجرف  منه الغث والسمين، ثم أمسد عليه بمبردي، ليزهو ويبعث وينفخ فيه روح الحلم..}.  ثم : {وحده بالغرفة، صمت مطبق، موسيقي معطلة برأسه، يشير إلي تثمال حجري مكتمل لفتاة يافعة، في الخامسة عشر ربيعا........................... } ثم نقرأ كلمات البداية { وحين توقفت الموسيقي، تقاطرت دموعه} وكأننا لم نغادر اللحظة.. لحظة البداية، أو لحظة اكتمال التمثال، أو لحظة اكتشاف حقيقة أن من يحدثه ليس إلا فتاة حجرية، فتسقط دموعه، وكأنه يشكو الحرمان.

قصة الأصوات
كما ذكرنا من قبل ، بان عبير تكتب القصة بطعم الرواية، تعدد استخدامها لذلك التكنيك في العديد من القصص. حيث تتحول القصة إلي عدد من المقاطع، نجحت في أن تخلق بينها التوافق، بحيث تعطي في النهاية رؤية كلية، بينما لم يكن ذلك التوافق واضح بالدرجة الكافية. فعلي سبيل المثال، في قصة "أشياء" والتي تنقسم إلي ثلاث مقاطع، كل مقطع منها ضاج بالحركة، فإذا ما نظرنا إلي المقاطع الثلاث كرؤية كلية، سنجد أنها لا تعبر إلا عن رؤية ساكنة، يمكن أن نقولها، رؤية المجتمع للمرأة.

ففي المقطع الأول  "مانيكان" نتعرف علي جسد المانيكان المصنعة من اللدائن البلاستيكية، وقد كستها (ناطقة) بالملابس والباروكة، حتي باتت تلفت أنظار المارة، سيرا علي الأقدام أو راكبي الشاحنات، مما قد يسوقنا لتلك الفتاة (أية فتاة) وقد تزينت، فتكون محط أنظار واستحسان ، ورغبة الجميع. وبعد أن ينتهي المخزون من البضاعة المعروضة، تعود (الناطقة) لتعري المانيكان، مما سبق أن ألبستها إياه، وللتعري في ذات الوقت من الجمال، فيعافها الجميع وينصرفون عنها. وكأن الفتاة الحقيقية (أي فتاة) قد تحولت إلي (بضاعة)، بما تحويه البضاعة من تقلبات.

وفي المقطع الثاني "صورة" تستعرض لنا الكاتبة صورة بهت لونها لإمرأة {تنز بالشكوي من وحدتها ولياليها المتآكلة، والذي عزز الأسي المتبدي في حدقتيها}. وقد أحاط بها مجموعة من بناتها، بينما الأب قد اختفي من الصورة ، بينما يردد دوما { بضع إنااااث، بضع إناااااث، ويشير نحو ظهره ليأكد التحافه العراء}، وكأنه يعلن عن أن الأولاد قد اختفوا من ذريته، وهو ما جعل ظهره للعراء. أو من السند أو الامتداد. لتؤكد نظرة المجتمع مرة أخري للمرأة.

بينما المقطع الثالث " صندوق اللعب"، يتحدث عن ذلك الطفل الواقف علي شاحنة تحمل الأثاث، أمام صندوق من الورق المقوي، تسقط منه دمعتان { تنزلقان إلي قاع الصندوق الكرتوني، ليصنعا بداية رقعة جديدة بجوار أخريات} مع حركة تغيير صندوق ناقل السرعة للشاحنة. لتوحي لنا بتوديع الطفل لمرحلة اللعب والطفولة، وارتحاله لحال آخر. وليقف المقطع منعزلا عن سابقيه.  ولو أن الكاتبة أضافت مجرد التاء المربوطة إلي (الطفل)، لتغيرت الرؤية، وإلتصق المقطع بسابقيه، وتم التكامل.      

نفس التقسيمة نجدها في قصة "أزمنة" حيث نجد أربع مقاطع تمثل فصول العام تسير علي النحو التالي:

المقطع الأول (شتاء)

نتعرف فيه علي  بؤس حالة الشحاذة، و تعرضها لكل أنواع المضايقات، بينما( هو ) الإبن في مرقده يستدفئ ويبول علي نفسه، ليعكس لنا المشهد الخارجي وما به من قسوة البرد وصقيعه، بفقر الداخل وبؤسه.

 المقطع الثاني (صيف)

وكأننا نري نفس الفتاة تتأرجح بين العربات عند الإشارات.. تبيع أنواعا مما يباع في الطرقات.. تتطلع إلي المولات الكبيرة التي تلفظها لتعود إلي وهج الشوارع.

 المقطع الثالث (خريف)

ونتعرف فيه علي أحدهم، وقد  تناسي الزمن .. ارتدي أفضل ما عنده .. وضع العطور النفاذة وذهب إلي مكانه المعتاد بالكازينو.. أحرق السجائر.. وشرب الكثير من القهوة.. ولم يأت أحد .. تحقق أن الزمن مضي.. وأنه وصل إلي خريف العمر.

المقطع الرابع (ربيع)

 رغم مرور الزمن .. وسن الشيخوخة.. إلا أن الحب والامتنان الذي يبديهما .. جعلاهما يعيشان في ربيع مستمر .

ونلاحظ ، أولا أن ذكر الفصول دون (ال) التعريف جعل الفصول تنسحب علي الحالة. وكأن الأفراد هم الذين يعيشون الفصل ، لا مجرد أنهم يعيشون فيه.. أي التوحد بين الشخص والحالة.

إلا أنه بالنظر إلي تكوينها في مجموعها كقصة، نجد أن الوحدة الموضوعية قد انفرطت. حيث تمثل كل حالة منها حالة منفصلة عن الأخري، الحد الذي يمكن أن يصبح كل مقطع قصة منفصلة.

بينما جاء هذا التقسيم أو تلك المقاطع، موفقا في قصص أخري، استطاعت الكاتبة فيها أن تخلق الوحدة الكلية، ساعدت في خلق عملية الاستبطان، الذي يمنح القصة عمقا أكبر، من خلال:

النظر في مرآة الذات
المبدعون، أكثر الناس استبطانا لأنفسهم. ينظرون للعالم من داخلهم. ويتجسد العالم علي مرآتهم، وربما انعكست أمنياتهم علي ما يتصورونه.

وقد شخصت عبير تلك الحالة الإنسانية، الفردية، في قصة "الظل المنفصل" ، والتي عادت فيها إلي بائعين أو بائعات الشارع (السريحة) بعد أن كانت قد تعرضت لها في قصة " أزمنة"، وما يتعرضن له من مضايقات، أو معاكسات. إلا انها هنا تكاد تدين المجتمع الذي يتركهن عُرضة للإنحراف. فتمثل تلك الفتاة بالقطة السارحة بحثا عن لقمة العيش، وينقض عليها كلب يطارها، إلي أن يعتليها، في إشارة لما تعرضت إليه الفتاة "ماجدة"، أمام صمت الجميع من حولها {وارتشفت مع فنجاني الأسئلة الحارقة، كلما مرت بصحبة أحدهم، يتبادل الجميع الرشفات الحزينة، والصمت، ونظرات التمعن والاستنكار}. بعد أن كانت قد أشارت لما يوحي بذلك منذ البداية ، {أزحت الستار لأراها تنزل من عربة تصطف علي الجانب الآخر للمقهي .. تطوي ورقة وتلقيها في طيات حقيبتها الصغيرة}.

وتلعب عبير لعبة زكية في عملية الإسقاط من جانبين. الجنب الأول ، هو محاولة مسايرة قصة اكتشاف الساردة، لما حدث مع ماجدة، بتقطيع مقولة تبحث عنها منذ الصباح، فتتذكر جزءا منها كل حين. تلك المقولة التي تستحضر مقولة السيد المسيح (من كان منكم بلا خطيئة، فليرمها بحجر)، إلي أن تصل الساردة في النهاية إلي جملتها {يا مريم البريئة من الخطيئة الأصلية، صلي لأجلنا نحن الذين نلتجئ إليك..آمين}. وهو ما يقودنا إلي الحيلة الثانية، وهي تصور الساردة في نفس موقف "ماجدة". حتي تتماهي في نفس أفعالها. فنراها في حين وصف ماجدة تذكر {تعيد خصلاتها المتموجة الحمراء إلي رأسها الصغير ، وتمسح ما علق بين أسنانها من طلاء شفاهها بطرف سبابتها، وتلعق ما تبقي بلسانها، وترفع طرفي صدريتيها المرخيتين علي الدوام من فرط ثقلهما}. وعندما تقرر الساردة الخروج من المقهي ومتابعة ماجدة، تذكر { تأبطت حقيبتي وتأهبت للخروج في إثرها، استوقفني سقوط حمالتي صدريتي المرخيتين، فرفعتهما، وهالني الطلاء العالق باسناني الذي مسحته بمنديل ورقي}. ثم خروج القطة وملازمتها للساردة، في الشوارع المظلمة، و ذلك الظل المتابع لها، دون أن يكون هناك أي أحد يتابعها، ولا وجود للقطة نفسها { أسمع مواءها، لكني لا أراها، صوتها يأتيني من الأسفل}، وكأن الرؤيا، أو الخيال، أو الداخل هو الذي يتحرك ويتجسد علي الأرض، إضافة إلي ما توحيه {يأتيني من الأسفل}.

وهي ذات الرؤية التي تجسدت أيضا للساردة في قصة "مكرر" والتي تتخيل نفسها في تلك العجوز الجالسة تخاطبها، وكأنها تري نفسها في مستقبلها، أو ما ستؤل إليه بعد كر السنين. غير أن الكاتبة لم تكشف عن ذلك التداخل، كأحد حيلها، إلا في نهاية القصة عندما تكشف العجوز عن اسمها "حسناء" لتعلن الساردة عن أن اسمها، أيضا "حسناء" ليقع التطابق، لا مجرد التشابه. وهو ما يمكن أيضا أن نتبينه في قصة "ضفيرة" حيث تتأمل الساردة تلك الصورة الكالحة التي حفر الزمان خطواته عليها، للجدة حين كانت صغيرة، وحين كانت تربي الرجال، وتقوم بكل شئ إلي أن أصبحت { تلك العجوز ذات الشعر الأشيب القصير"المجزور" كزغب الماعز الجدباء، ذات الوجه الأشبه بالخريطة المخمشة..}. وكأن الساردة تتمني، أو تعلن الثورة علي ما كانته الجدة.

وأيضا، ذات الرؤية الاستبطانية، نستطيع تلمسها في أولي قصص المجموعة "بعلم الوصول" تلك التي تراوغ فيها الكاتبة قارئها، متسائلة في خبث إبداعي، أقرب للبوح { إلي مَنْ الرسالة التي هي بعلم الوصول؟!}. بعد أن تشير إلي رؤي النقاد الذين سيتناولون قصتها، وكأنها تتحداهم { هل أكتب بعض السطور التي تقطر شجنا، وتجتر تعاطف القارئ، ومن ثم أراوغ الحدث حتي تنسج قصة}. وبالفعل راوغت الكاتبة في نسج القصة التي تبدو كما لو أنها ليست بقصة. فهي مجرد رسائل تبعثها الساردة إلي نفسها. ثلاث رسائل تبعثها، وكأنها ثلاث مقاطع، لتمثل كل رسالة فيها مرحلة عمرية في حياة الساردة، التي تعاني الوحدة بعد غياب الأحباب، لتقف بنا عند مرحلة عمرية، أو لحظة آنية، لتشكل الإطار الخارجي لزمن القصة، بينما الزمن الداخلي يتحرك عبر شريط الزمن ليشمل عمرا طويلا، ولتثبت فيه عبير قدرتها علي صياغة القصة القصيرة المراوغة.

تتحدث الرسالة الأولي عن بدايات العلاقة مع الحبيب، وكأنها تستبطن قولها في مفتتح القصة {مكبلة أنا بالانتظار، بساق وردة جافة ترقد في كتابي، وبقصاصات صفراء ممهورة بالقبلات من شفاه ذات شقوق منداة..}. وتؤكدها في الرسالة { صغيرة ، لا تملكين سوي حدقات تتحدث، تقرأ، تبكي، تختزل الأسي واللوم شعيرات دموية محتقنة...}.

وفي الرسالة الثانية ، تواصل مراوغتها، حيث تتحدث عن شخص ثالت {حين شب عن الطفولة، عن الطوق، ساهمتِ في الجذب والطرق والتشكيل عنوة، أردتِ له أن يكون مثلك، وأراد له أن يحمل أداته، حين أراد هو أن يسلك دربا ثالثا....}. لنستشف أنها قد تزوجت من الحبيب، وهذا هو ابنهما، الذي خرج عن الطوق، ولم يشأ أن يكون مثل أي من أبويه، فانطلق بعيدا .. وغاب.. لتتساءل في شبه لوم عن سبب طيران الفرخ عن عشه.. {أفرطتُ في الخشونة أم في التدليل؟}.

ولتعود في الرسالة الثالثة إلي ذلك الحبيب، أو الزوج الذي تعاني غيابه هو الآخر، ذلك الذي {سلبك الرغبة في سماع حججه، وأبي قلبك أن يخفق مع رنين هاتفه كما اعتدت ........ أمسيت ترجحين الغياب وتدعمين أرجوحة الموقف، لا دنو، ولا نأي}. فقد وصلت في وحدتها حد الملل، وحد تساوي أن يجئ، أو يغيب. غير أن طبيعتها الأنثوية، الراغبة في صمت، أو الرافضة في رغبة، بجملة شد ما هي صادقة ومعبرة عن أعماق الأنثي {تُفضلين حضوره الشحيح، أم تمقتين غيابه؟}. لتبدأ الكاتبه بعدها رحلة العذاب والفقد والتجاهل للمرأة، بين رغباتها، وتطلعاتها في البدايات، ووحدتها، ومعاناتها في النهايات. بلغة رهيفة شفافة. ومشاعر نابضة وقلوب ملتاعة هفهافه.  

شوقي عبد الحميد يحيي

Em: shyehia48@gmail.com

 

[i]  - عبير درويش – حدود الكادر – قصص – روافد للنشر ط1 – 2016 .