يحاول القاص المغربي هنا لملمة شظايا الصورة، وتجميع أمشاج حالات إنسانية أشبة بالحادثة. ويبدو السارد أشبه بمدير التصوير الذي يؤطر مشاهد تتقاطع أمامه.

الصورة اكتملت

محمد العتروس

.

الصورة تأبى أن تكتمل..
طفل يتدلى كقرد مشاكس من جذع شجرة تين، رجلاه معلقتان في الأعلى ورأسه إلى الأسفل، ويداه متدليتان.
طفلة في الركن الأقصى من حوش البيت، تفترش "الهيدورة" وتصنع من القصب عروستها، وحين تستوي قامتها تخيط لها ملابس الزفاف.
امرأة تتجمل ولا تترجل..
امرأة أخرى تترجل ولا تتجمل..
رجل معوله على كتفه، وابتسامته ملء السماء والأرض.
رجل آخر يجلس فوق صندوق فارغ من الخشب المنخور، معرض لشمس الهجير، يرتشف من كأس شايه الأسود، ويأكل إصبعه من الغيظ فينبت له إصبع آخر وآخر. الصغار يلقبونه: "بوستة". 

الصورة تأبى أن تكتمل..
رجل يبحث عن ماء الحياة في الباطن. يخرج عود زيتون معقوف من جرابه، يصوبه نحو الأرض شبه شاقولي، ويسير ميلاً أو ميلين. وحين يرتجف العود، ترتجف أوداجه، ويصرخ من شدة الفرح:
           - ماااااااء.. مااااااااء.. ماااااااااء.
ينتبه الرجال إلى المأمأة، يبحثون عن الخرفان في الجوار فلا يجدوا غير رجل يحفر.. يحفر، لينبجس في المكان ينبوع ماء عذب، يروي به العطش، وتجري ساقية، وتبرعم دالية. 

الصورة تأبى أن تكتمل..
رجل يحرث الأرض بالخنجر، يخدشها، يلكزها بعصاه، يزرع الحقد ولا يجني غير الحصى والكلاب. الحصى في الحقول والحصى في العقول. والكلاب.. كلاب كثيرة تملأ الكون نباحا.  

الصورة تأبى أن تكتمل...
رجل يجري في يديه الخير، وفي عينيه وتحت الأقدام، يغرس نخلة، وزيتونة وكرمة. يجلس قرب نار المجمر في صقيع الشتاء البارد، يلتف من حوله الصغار، يعلمهم الفرق بين العصا وبين ألف الابتداء، والفرق بين الأرض وبين السماء، ويعلمهم سر الطين وسر الماء، وسر النار وسر الهواء، ثم ينشد أغنية أمازيغية قديمة، أغنية سرمدي. ورجل آخر، لا يلتف حوله الصغار، يسب هذا و يطرش الثاني، ويبصق على ذاك ثم يركل ذلك في مؤخرته. يكره أن يرى حقل جاره يبرعم أو صغاره و هم يلعبون الغميضة بجانب الصبار، أو زوجته الجميلة وهي تنشر الغسيل.  يكره  البشر والشجر والمطر.

الصورة تأبى أن تكتمل..
ُيلمح في البرق ظل رجل يستل خنجره من الحزام، يتسلل في هدوء، و في هدوء يقطع أوصال الدالية والنخلة والزيتونة. يلمح في البرق ظل رجل آخر يحس بالنصل في ظهره كالموت الزؤام. يلتقط آخر أنفاسه، يلتفت خلفه َيلمح، في ضوء البرق الوجه العبوس. يبتسم. يقول:
الحمد لله ثم يـــــ...
              ــســــ...
                     ـــــقــــ...
                              ــــط. 

الصورة تأبى أن تكتمل..
يلطم الوجه العبوس وجهه. عينان باسمتان لا تبرحا الذاكرة المنخرمة، صورة الضحية دائما تطارد قاتلها. تتداعى الصور أمامه، ترتجف يداه، تنتفخ أوداجه، يختنق، ينفلت الخنجر من بين أصابعه ثم يتداعى مع الجسد المتداعي حين يصعقه البرق، وهو يصرخ في ظلام الليل.
أواااه... ثم يــ...
        ــســــ...
                     ـــــقــــ...
                              ــــط. 

الصورة اكتملت..
قبران، واحد عرشت على ضفافه دالية ونخلة وضللته زيتونة مباركة، وآخر  أثقله الحصى و بالت عليه الكلاب. وطفل وطفلة يتوسدان حجر امرأة جميلة تطحن القمح وتغني لهما أغنية أمازيغية قديمة، أغنية قديمة، تعلمهما سر الطين وسر الماء، وسر النار وسر الهواء، وتحكي عن النبع والحقل والدالية وعن النخلة والتينة والزيتونة وتذكرهما بأن من يزرع الحقد لا يحصد غير الريح والحصى والـــ ـ  ـــكـــ ـ ـ ــلاب. 


قاص من المغرب