يتناول الناقد المغربي هنا رواية علي افيلال الأخيرة التي يتعامل فيها ـ كعادته في رواياته الأخيرة ـ مع محكيات مستقاة من تجارب حياتية مختلفة للمهاجرين المغاربة خصوصا النساء منهم.

بين البوح بمعاناة الذات وكشف المسكوت عنه

أوضاع المهاجرين في رواية (اعترافات امرأة) لعلي أفيلال

بوشعيب الساوري


بإصداره  لرواية (اعترافات امرأة) عن منشورات نادي القلم المغربي 2007 والتي تقع في 198 صفحة من الحجم المتوسط والمتكونة من اثنين وعشرين فصلا، يكون علي افيلال قد حقق تراكما روائيا مهما يتجاوز خمسة عشر نصا. وتتميز نصوصه الروائية بخصوصية وهي جعله من أوضاع المهاجرين، سجلا أساسيا في بناء عوالمه الروائية التي تستند علي محكيات مستقاة من تجارب حياتية مختلفة للمهاجرين، خصوصا النساء منهم. وأمام هذا التراكم أصبحت روايات علي أفلال تمثل ذاكرة مهمة لحيوات كثير من المهاجرين التي وجدت طريقها إلي التدوين.
ورواية اعترافات امرأة لا تخرج عن ذلك التقليد الذي وسم به علي أفيلال نصوصه الروائية. إذ تحكي الرواية قصة امرأة مهاجرة مغربية (هدي) تنتظر ـ بعدما تقدمت في السن ووهن الجسم بسبب مرض السكري ـ حبيبها الأول والأخير الذي كان زميلا لها زمن دراستها الثانوية بالمغرب، فتحولت الزمالة إلي حب. لكن الظروف الاجتماعية المتباينة لكل منهما ـ هو ينتمي إلي أسرة فقيرة تسكن بحي صفيحي، بينما هي تتنمي إلي أسرة غنية ـ إضافة إلي سلطة التقاليد دفنت ذلك الحب، الذي لم ينطفئ لدي كل منهما. فأجبرت هدي علي الزواج من ابن عمها، أما هو فقد فرض عليه خاله الذي تكفل بدراسته الزواج من ابنته الخرساء. ثم انقطعت الصلة بينهما وكل واحد اتبع مساره في الحياة. وبعد أن رأته في إحدي الحدائق بفرنسا، ضرب لها موعدا لزيارتها. وفي انتظار تلك الزيارة التي تعيد الحياة إلي جسمها المريض وتنعش روحها. تقوم الساردة هدي بتسليط الضوء علي مسار حياتها بعد زواجها من ابن عمها، والويلات التي جرها لها، إلي ان أصبحت مريضة بداء السكري، وامتناع ابنتها عن الزواج بسبب ما شاهدته من فشل في علاقة والديها. انتقلت إلي فرنسا لمتابعة دراستها لتكتشف أن زوجها، الذي كان يدرس الاقتصاد، قد أصبح نصابا يتحايل علي القانون ويزوّر أوراق الإقامة مستغلا نساء ضعيفات. وهو ما سيقوده إلي السجن. تابعت دراستها إلي أن أصبحت طبيبة، بينما هو توالت انحداراته وواصل انهياره خصوصا بعد وفاة والديه علي إثر حادثة سير في الوقت الذي كانا في طريقهما إلي زيارة العم المريض بالمستشفي فمات الثلاثة في يوم واحد، عاد الزوج من فرنسا وتولي تبديد ثروة والديه إلي أن أفلس.
تحفل الرواية بمعالجة العديد من القضايا التي لها صلة بأوضاع المهاجرين بالتحليل والتفكير والتأمل عبر الحوار الذي يتم أثناء عملية سرد الحكاية بين الساردة وصوتها الداخلي، وأهمهما قضيتان تتفرع عنهما العديد من القضايا:
ـ قضية سلطة التقاليد وخصوصا ما يتعلق بالعلاقات الاجتماعية التقليدية وآثارها السلبية علي الأجيال الجديدة، حيث تسود تقاليد اجتماعية يصعب التخلي عنها علي مستوي العائلة والتحكم في الأبناء وتوجيه مستقبلهم والتأثير عليه دون مراعاة المشاعر والميول، من خلال استجابة الأب التلقائية لطلب أخيه بتزويج ابنته هدي (الساردة البطلة) من ابنه دون أن يستشيرها. تقول: كان أمر الأب بالزواج بابن العم لا مرد له. (ص13) وإبراز تبعات ذلك الاختيار، من عنف الزوج ليلة الزفاف. تقول الساردة: انقض علي كما ينقض الوحش الضاري علي فريسة ضعيفة. (ص 74) واستمر ذلك العنف في حياتهما المشتركة بفرنسا، فتعيش هدي معه في غياب تام لأي عاطفة تجاهه، خصوصا بعد اكتشافها لاحترافه النصب والاحتيال الذي سيقوده إلي السجن، واستمراره في ذلك بعد خروجه. وأكثر من ذلك كان من تبعات تصرفات الزوج أن أصيبت هدي بداء السكري. لكن الرواية تبرز كيف قاومت هدي علي الرغم من معاناتها وكيف استطاعت تحقيق أهدافها، بدراسة الطب إلي أن أصبحت طبيبة. كما تبرز الرواية انعكاسات ذلك الاختيار علي البنت سخاء التي كانت نتيجة لذلك الزواج والتي قررت عدم الارتباط بأي رجل كان، وقررت أن تدرس بدورها الطب وتتخصص في أمراض القلب.
ـ المسكوت عنه في حياة بعض المهاجرين، بإظهار الوجه الآخر لصنف من المهاجرين يتظاهرون بالالتزام ويوهمون الناس بأنهم يكدون ويجتهدون بالمهجر. لكن في حقيقتهم يقومون بأعمال مخالفة للقانون. وقد مثلت الرواية لذلك بشخصية توفيق الزوج الذي فُرض علي هدي استجابة للتقاليد. والذي أوهم والديه بدراسة الاقتصاد، لكنه كان يعيش علي النصب والاحتيال والتزوير واستغلال النساء الفقيرات استغلالا ماديا وجسديا. تقول: بل كان نصابا ومحتالا، يعرف كيف يحتكر، وبمهارة، القادمات من ربوع محيطهن المتخلف ليكافحن فقرهن، بكل ما تحتم عليهن الحاجة إليه، فإذا بهذه الحاجة تدفع بهن إلي زوجي (ص 81). كما سلطت الرواية الضوء علي فئة من المهاجرات اللواتي هاجرن من أجل تحسين أوضاعهن المعيشية، فوقعن تحت حبال الاستغلال المادي والجسدي من أجل الحصول علي أوراق الإقامة.
 يفتتح السرد في رواية اعترافات امرأة بمشهد انتظار الساردة لحبيبها القديم، الانتظار الذي يكون فرصة لنبشها في ذاكرتها من أجل بعث ذلك الحب القديم وإحيائه عبر تقنية الاسترجاع والتذكر وغيرها من التقنيات السردية التي تضيء تلك العلاقة القديمة. وإبراز كيف انبعثت ولم تنس علي الرغم من مرور السنين وكبر سن طرفيها وعلي الرغم من افتراق طرقهما الحياتية وتغير أوضاعهما الاجتماعية والصحية، تلك التجربة التي تعيد الحياة إلي الساردة. تقول: ذاب وتلاشي كل ما كنت أحس بوقعه ثقيلا علي ذاتي. غدوت بسرعة، سليمة معافاة، لا أشكو ضعفا ولا ألما، لا بالظهر ولا بالساقين والركبتين.. ولا عياء مما أحمل من طول الأعوام التي عشتها بعيدة من هذا الذي قال إنه سيأتي. وتبعا لذلك كان السرد فرصة لإجراء مقارنة بين حاضر جسد هدي وماضيه، مع التأكيد علي ثبات القلب ووفائه، بالمقارنة مع الجسد. تقول: كل هذا غير فتنته تراكم الأيام إلا من القلب، لم يبد عليه ما بدا علي الجسم والوجه. (ص 13) من خلال استعادة الساردة لتجربة ماضية ومعاناتها بالتأمل فيها انطلاقا من وعي حاضرها بمتغيراته وشروطه.
يتطور السرد وينمو عبر حوار بين الساردة ونفسها بواسطة أسئلة محفزة للذاكرة علي الاسترجاع والتذكر؛ استرجاع قصة الحب وتشعباتها الكثيرة؛ كيف خرج الحب إلي الوجود أثناء فترة التعليم الثانوي، وكيف نما وتطور، وكيف تكسر بعد الحصول علي شهادة الباكالوريا، وكيف عاد للظهور بعد عمر طويل. فهناك ساردان في سارد واحد؛ صوت يتميز بالذاتية وهو الذي يعبر عن الساردة البطلة هدي، وصوت يعبر عن عقلها ينهج الموضوعية والتحليل والتأمل. لذلك نجد السرد يتميز بسمتين متلازمتين وهما الاسترجاع والتذكر المصحوبين بتحليل لعلاقة الحب القديمة الجديدة. فالسارد الثاني محفز للساردة البطلة علي متابعة الحكي. ليصير السرد بذلك تأملا في تجربة ماضية لم تنته بعد، ما زالت آثارها قائمة وتبعاتها بادية في حاضر الساردة، بعد المسافة الزمنية، وجعل الساردة البطلة تستعيد التجربة بقلبها وعقلها، استرجاع مشوب بالحنين والشكوي والندم والتحسر، وكذلك بالتأمل والتحليل. هناك استرجاع وبوح مصحوب بتحليل مفعم بالمرارة والأسي عن الساردة البطلة هدي. وينبني السرد علي الحوار القائم علي سلطة السؤال عبر التنقيب في الدواخل: هذا الحوار الذي تشاركك فيه كل هواجسك الداخلية رغبة في توضيح ما لا تريد توضيحه بطريقة أو بأخري (ص 57) هناك تحفيز علي السرد:

ـ أفي ما يثير شهيتي للكلام؟ أم أن الجدول نضب نبعه؟ والضوء خاب وهجه؟
ـ بل فيك ما يثير دمك الحار إلي المزيد من الكلام. (ص.87)
وقد مكن الطابع الحواري للسرد من التصرف في جزئيات الحكاية بتقديم بعضها وتأخير الآخر حسب المناسبة، مع الإشارة إلي ذلك، مما جعل السرد يتميز بسمة وهي الاستشراف التشويقي الذي يشد القارئ ويغريه بمتابعة خيوط الحكاية. تقول مثلا: هذا الحديث لك فيه شهية كبيرة. لكن ليس أوانها الآن . (87)
هناك تعاون بين الساردة وصوتها الداخلي مما منح الرواية حوارا سرديا أضفي عليها جاذبية وانسيابا في الحكي الذي أنتج متعة في القراءة، سرد يتراوح بين الذاتية والموضوعية عبر حوار بين العقل القلب، بين الماضي والحاضر، بين الذات والواقع، بين الحداثة والتقاليد. بالإضافة إلي القضايا الهامة التي عالجتها مثل مشكلة المعاناة مع التقاليد ووضع المرأة المهاجرة وما تتعرض له من عنف واستغلال، تتميز رواية اعترافات امرأة بطريقتها الجديدة في السرد القائمة علي الحوار بين الساردة وصوتها الداخلي؛ حوار يتناوب فيه صوت العقل بتحليلاته وتأملاته في تجربة حياة مليئة بالمعاناة، وصوت القلب الذي يسعي إلي البوح والفضح والاعتراف.

كاتب من المغرب

 
الهوامش
ـ علي أفيلال، اعترافات امرأة، منشورات نادي القلم المغربي، الدار البيضاء، 2007.