رسالة الأردن: "نقاط لقاء" و "صح النوم" في نوفمبر عمان

لمراكز الثقافية الأهلية تعرض عضلاتها في "نقاط لقاء"

طارق حمدان

منذ ستينيات القرن الماضي ومعظم الدول العربية تعتمد نموذجا واحدا في تنظيم العلاقة مابين الثقافة والمؤسسة، والثقافة والأفراد، بحيث كانت المؤسسة الثقافية ـ ولاتزال ـ تابعة كلية للدولة التي تقدم الرعاية والدعم المادي، وتشرف على (السياسة الثقافية) دون أي هامش استقلالي للمؤسسة، تلك السياسة لم تعرف تطورا ملحوظا، وظلت تدور في دائرة ضيقة كانت تخنق من بداخلها في كثير من الأحيان، الأمر الذي أدى إلى تقلص في الفضاءات الثقافية، وبالتالي انعكس ذلك على المثقف والفنان بشكل خطير، وفي ظل تلك الأجواء بدأ بعض الأفراد والمهتمون بالشأن الثقافي (بغض النظر عن الأهداف) بإنشاء مراكز ومؤسسات ثقافية غير حكومية (أهلية)، حاولوا من خلالها النظر إلى الخارج، وخصوصا إلى أوروبا كشريك من الممكن أن يقدم لهم الدعم اللازم، وان يتيح لهم حركة أكبر في ساحة ظلت ضيقة طوال عشرات السنين، ففي العاصمة الأردنية عمان نجد الآن الكثير من المؤسسات والمراكز الثقافية التي تنشط على صعيد الثقافي والفني، بمشاركة مؤسسات وجمعيات غير حكومية (NGO)، وجد فيها الكثير من المثقفين والفنانين شراكة حقيقية تحقق لهم نوعا من التبادل والتفاعل الثقافي، بالإضافة إلى ترويج إنتاجهم وأعمالهم بشكل جيد، بينما نظرت إليها المؤسسات الرسمية الحكومية "بريبة"، وجد فيها الكثير أنها "نوعا من الغيرة من جهة منافسة نشطة"، وهذا مادلت عليه إجابة مديرة مؤسسة "مكان" ومنظمة مهرجان "نقاط لقاء" في عمان "علا الخالدي"، حين سألناها عن سبب عدم تقديم العروض في المراكز والمسارح التابعة للمؤسسات الحكومية كوزارة الثقافة مثلا؟؟، فكان ردها بأنهم "خاطبوا وزارة الثقافة لإقامة عروضهم،وكان الرد من قبل الوزارة أن جميع المسارح مشغولة ومحجوزة!!". 

" نقاط لقاء" هو اسم المهرجان الذي انطلق قبل خمس سنوات في عدد من المدن العربية والأوروبية، حيث بدأ المشروع في العام 2002 كمهرجان صغير جمع بعض الفنانين من البلاد العربية والعالم، وهو من تنظيم "صندوق شباب المسرح العربي" في بروكسيل، وهي مؤسسة معنيّة بالترويج للفن العربيّ من مختلف ضروبه. نقاط لقاء هو في الأساس مهرجان إقليميّ للفنون المعاصرة متعددة الأساليب، ويجري في الوقت ذاته في عدة مدن عربية وأوروبية.

في دورته الخامسة، تأخذ عروض مهرجان "نقاط لقاء" مدى واسع، لتشمل في وقت واحد كلا من عمان ودمشق وبيروت والقاهرة ورام الله والإسكندرية والمنيا وتونس والرباط، وذلك طيلة سبعة أسابيع بدءا من الأول من نوفمبر/ تشرين الثاني 2007، على أن تمتد إلى كل من بروكسل و برلين. مئة ليلة عرض مسرح ورقص معاصر، خمسون معرض تجهيز فني و ثمان و أربعين ليلة عروض أفلام اقتسموا برنامج المهرجان، فسحات من الإبداع حبكتها المديرة الفنية للدورة الخامسة لمهرجان "نقاط لقاء"، السيدة فري لايسن، بمشاركة أعمال متنوعة لفنانين من هويات مختلفة.

وكان المهرجان قد انطلق يوم 4 نوفمبر الماضي بعرض للفنانة الفلسطينية "كاميليا جبران" والتي قدمت أعمالا من آخر نتاجها الفني ـ البوم "مكان"، وتألف العرض من عشرة أعمال من تأليفها ـ قصائد عربية مغناة مع عود واحد ـ عبرت عن تناقض وتعدد طبقات تجربة الفنانة عن اللامكان، كما وشارك في المهرجان فرقة "بيكيا " المصرية، المعروفة بموسيقاها التي هي مزيج من عدة أساليب متنوعة ومتباعدة: الدرمز آند بيز، والتكنو الكلاسيكي، موسيقى الفنك والتريب هوب، والإلكترونيكا و الآمبيانت إلكترو ـ والتي تجعل من الصعب تصنيف النوع الموسيقي الذي تندرج تحته الفرقة. ومن البرازيل برونو بيلترآو ومجموعته "غروبو دي روا نيتيروا" التي تتكسر عندها تقاليد وقوانين رقص الشارع و الرقص المعاصر، مصاحبةً دوماً بالسخرية الخفيفة والصحية.

كما ضم المهرجان العديد من الفنانين في مختلف أنواع الفنون (السينما، المسرح، الفن التشكيلي، الموسيقى، الرقص) و منهم: من مصر "أمل قناوي"، من تونس "نجيب بلقاضي"، من المغرب "بشرى ويزغن"، من فلسطين "خليل رباح"، من لبنان "روي سماح "، من سويسرا "ستيفان كايغي"، وكان هناك العديد من المشاركات من الأردن منهم: عريب طوقان، لينا صعوب، سماح حجاوي، مها ابو عياش، بالإضافة إلى السينمائية "ساندرا ماضي" التي ستقدم العرض الأول لفيلم "قمر 14".

وفي هذه الجولة من "نقاط لقاء", تم إطلاق مشروعين يستمران ويتطوران في السنوات المقبلة، وهما مكتبة الـ "دي في دي". والمشروع كناية عن مكتبة متنقلة تضم أفلاماً من العالم العربي ستجول على المدن خلال فترة المهرجان. وثانياً مشروع تحت عنوان "غير مبوب", وهو عبارة عن لقاء 6 راعين فنيين من ست مدن, يقدمون برامج فنية تتحاور مع المدن التي ينتمون إليها, يجمعون فنانين ومثقفين من خلفيات متفاوتة، ليعكسوا أفكارهم وأحلامهم عن مدنهم. 

"صح النوم" في عمان.. هل هي مجرد استعادة؟
هل هي "صح النوم" التي عرضت في البيكاديلي؟ مخطئ من يعتقد أن المسرحية التي تنتشر على أشرطة الكاسيت اينما كان، هي ذات المسرحية التي قدمتها فيروز على مسرح الارينا في بداية نوفمبر الماضي. "صح النوم" التي عرضت للمرة الأولى على مسرح البيكاديلي العام 1970، وتوقفت عروضها بسبب وفاة جمال عبد الناصر، عادت إلى الحياة مجددا في حلة جديدة بفضل زياد الرحباني وفيروز، فيبدو أن زياد الرحباني استطاع أن يقدم هدية ثمينة لفيروز، بعد أن كانت أمنيتها أن تعود إلى المسرح بعد انقطاع دام ما يقارب الثلاثة عقود، حيث قام زياد الرحباني بالإشراف على المسرحية وإنعاشها، وهنا الإشراف يعني أولا الشغل على الموسيقى وتوزيعها بحلة جديدة، اختيار الممثلين وتوزيع الأدوار، مراجعة النص وتعديل القليل منه، بالإضافة إلى مساعدة المخرج "بيرج فازليان"، وهو نفس المخرج الذي اخرج صح النوم من بداية العام 1970.

الطريق من عمان إلى مسرح الأرينا مليء بأشجار الصنوبر. مسرح الأرينا مليء بالسيارات الفارهة، وحضور كثيف ينتظر على أبواب المسرح لتفتح الأبواب. فعلى مدى ليلتين، امتلأت قاعة مسرح الارينا التي تتسع لحوالي أربعة آلاف شخص، بحضور كثيف جاء معظمهم من فلسطين المحتلة (أراضي الـ48) بالإضافة إلى جزء كبير من (أثرياء) عمان استطاعوا أن يدفعوا مايعادل 200 دولار!! ليشاهدوا نجمتهم الكبيرة "فيروز" وهي تقدم مسرحية "صح النو "، فها هي "فيروز" تعود إلى الخشبة لتمثل دور قرنفلة، ابنة "الضيعة" المسكينة التي انهار سقف بيتها، وتعيش تحت "شمسية" بانتظار حصولها على المعاملة التي تسمح لها ببناء السقف، والمشكلة في الرخصة التي تحتاج لختم والي كسول لا يهتم إلا بنومه، ينام شهرا كاملا ولايستيقظ إلا ليوم واحد عند اكتمال البدر، فيختم ثلاثة معاملات من طلبات الأهالي الكثيرة، الذين يصطفون على باب قصره عند كل شهر.

الوالي هو أنطوان كرباج الذي يظهر على الخشبة ليقول "ضو القمر فات من الشباك، وشوشني قلي صحا، صوت الدبكة دربك عهاليل صرخلي قلي صحا، بس الغبرة يظهر مارشت منيح، حاسس بدي .. بدي .. بدي .. اعطس" ويلفت النظر حضورا آخر تمثل ب "ايلي شويري" الذي لعب دور "زيدون المستشار" وهو الدور الذي كان لعبه الراحل "نصري شمس الدين". يختم الوالي في كل شهر ثلاث أختام قبل أن يتعب ويعود إلى سباته الشهري، وعمليا لايمكن انجاز أي شيء دون ختم الوالي، عبثا يحاول الأهالي طرح مشاكلهم في حضرته وهو "اذن من طين واذن من عجين". خلال نوم الوالي تسرق قرنفله الختم وتختم كل معاملات أهل القرية، وتقوم بعد ذلك برمي الختم في بئر مهجور كي تتخلص من فعلتها التي من الممكن ان تكلفها حياتها: "يا هالختم، يلي عليك حبر الظلم، حبر العتم، حبر الضحايا العتيقة، حبر الدم، انزال علبير ونام بالبير". وضمن حوارات كلها غنائية ممتعة وطريفة تدور أحداث "صح النوم" تحت إخراج "بيرج فازيليان". المسرحية التي تحكي قصة فساد السلطة وظلمها، بدت وكأنها صالحة لإسقاطها على أي بلد عربي عانى وما يزال يعاني من ذاك الوالي، الذي تستجديه قرنفلة لاصلاح سقف بيتها، وهنا السقف استعارة واضحة لأسقف كثيرة هدمت واهترأت على امتداد المساحة العربية.

المسرحية جاءت من تقديم "جمعية الأيدي الواعدة" ومن تنظيم شركة "أنا الأردن I Jordan " التي استضافت على مدى السنوات الماضية عددا من الفنانين العرب والعالميين كان منهم فيروز، بالإضافة إلى تنظيمها لعدة مؤتمرات منها "منتدى الاقتصاد العالمي".

محليا وعلى الساحة الأردنية كان هناك عدة انتقادات حول ارتفاع سعر التذاكر، وحول ما إذا كان اسم جمعية خيرية هو مبرر كاف لرفع أسعار التذاكر، التي يجد فيها حتى ميسور الحال الأردني صعوبة لشرائها، حيث تراوحت أسعار التذاكر ما بين "40 دينار لتصل إلى 125 دينار " أي ما يعادل راتب كامل لموظف شركة، كما وأثيرت أيضا انتقادات حول الجهة المستهدفة من هذا العرض، "هل الساحة المحلية هي المستهدفة أم غيرها؟" حيث كان من اللافت حجم الجمهور الكبير الذي جاء من أراضي الـ "48" لحضور الحفلة، مما دل على حجم تسويقي هائل استهدف تلك الشريحة. كان تصفيق لم تشهده عمان في حفلة فنية من قبل، الأول عند رفع الستارة لتظهر فيروز وبيدها "شمسية"، والثاني حين رفعت يدها لتودع الجمهور الذي صرف ساعة ونصف، وهو يشاهد "قرنفلة" التي يسمعها كل يوم. 


tarikil@yahoo.com