يقودنا الشاعر الفلسطيني المغترب في رحلة خاصة نحو الموت، تكتب نشيدها الحميم، في حكي مسترسل لا يتوقف تتغاير فيه اللغة وتتحاور بين السردي والغنائي، بين المناداة والمناجاة والتصوير. هي تغريبة شاعر اختار أن يخط رؤاه من الغربة القاسية والتي تذكره بوطن مضمر في ثنايا الوجع.

نشيد الموت

رامي أبوشهاب

ما عاد ينقصني شيءٌ 

لأنطلق نحو صيد حزني المتوقع

أمضي في غاباتِ غثيان مدني

حيث

تملكتني رغبةٌ في أن أعدّ الموتى

خمسة،  عشرة،  عشرين ... ربما أنا أخطأت العد

وأسقطتُ العالم مقابلَ أن أجدَ نفسي

تلمستْ رأسي فعويتُ كذئبٍ  

وهممتُ نحو موتي المُؤجل

 سقطتُ في زقاق

لا يشبهني

وهناك نحرتُ ما استطعت من حزني

وشربتُ نخبي الأول بعدَ الأخير

وفي جولتي الأولى

تملكتني رغبةٌ أخرى...

لا للبكاء..

 إنما للضحك كوني اصطدتُ حزناً فاتراً كان يكفي لأن يلبي لي حاجتي

نهضتُ من موتي وسرتُ

تعريتُ من المرآةِ والحجرِ

تعرت مني

السُّنبلةِ وسجادةِ الصلاة

تقربتُ إلى سُعال موتي

المُنتظر

لن أنتظرَ ما سيأتيني

إنما سيأتيني ما أنتظر

تواطأتْ معي كلُّ القططِ الشّريدة

كونها تعاني مثلي من شبق ٍ مزمنٍ في معرفةٍ أصول الحب

حيثُ أنّ شباط قد أُعدم في السجن

بتهمةِ هتك عرضِ الأحياء 

كلُّ ذلك كان

في وطنٍ حائرٍ نحو تحديد جنسه

 بين ذكورة وأنوثة

آه قد حانَ موعدُ الغداء

اخترتُ كرسياً في حديقة المدينة الصّفراء

جلستُ كي تأكلني شطيرةٌ فارغةٌ

وتنهيني بعد أن تحتسي معي شراباً

غازياً اُستورد خصيصاً

كي يساعدَ على هضمي

أو لنقل على هضمِ جُثتي التي

ثقلت جراء تضخم الحزن في أوردة دمي

الصّدئة

في المساءِ أعددتُ ما بقي من حزن ، حملته على كتفي وغنيتُ... بكائي

توقفتُ في مُجمع الحافلات

كي أعودَ إلى قبري

عفواً منزلي/

في منطقة الضواحي المغبرة بأطيافِ الموتى الهازئين بالأحياءِ النائمين

مررتُ قربَ متحف الموت، كان يغلقُ أبوابَه بعد أنْ تقيأَ زوارَه المحتضرين

أقام حفلتَه السرية للأحياء العالقين في بَرزخِ الرّؤيا المُؤقتة للتاريخ

و الذين يشكون إلى ما لانهاية من الضّجر الصّحي

عليك أنت أيها القارئ

بأن تكون متعادلاً مع كونك حياً على أهبة أن تموت-  أو تكون ميتا على شفا أن تبعث حيا ـ       لأن بقية من حلم لمأفون صاعد من تلة الذهب

معهُ

سبع نساء وثماني حقائب وتسع جنائز

.......................................

.......................................

أيتها اللعنةُ الحلوةُ اتركي لي شيئاً من بهائك

كي أتباهى فيه بين من تبقى من الأراملِ وصوتِ المطر وعاصفةِ خَجلى

الرحمة لي

 أيها الموتُ المنبعثُ لي من وردةٍ على قارعةِ ممر العمر الذي انقضى

دون أن أفتتحَ فيه نشيداً يجنبني أن أبحثَ عن شاعرٍ أو رجلِ دينٍ يلقني ما يُجنبني هولَ الارتطام بأنني ولدتُ لأموت

سليني من أي حجرٍ جئتُ؟  ومن أي نقطة ماء تشكلت حويصلاتي الهوائية لأكون كائنا بذنب مطاطي؟

 يقهرُ ما تبادرَ من لُجة الظّلام الهُلامي العميق

وأي فخارةٍ كسرت لتزهر يداي من بين شقوق المصادفة ؟!

يا وقعَ الظلام على أذني حين تمضي رحلتي الأخيرة، وأنا أنصتُ لصرير ثلاجة سوف تتركني معلباً كفرحٍ وجودي أخير  

ما الذي يأتيني من خلفِ هُتافات البكاء الرّخيم؟ وما الذي ينتظرني بعدَ أن أتشرنقَ بلوني الأبيض الأخير؟

أرنو إلى من تساقطَ قربَ ترابي الرّطب

ها أنا هنا في غرفتي التي اكتفتْ من رائحة إبطي الذي طالما اعتقدت أنه شهي لغريزةِ أنثى لم تكتفي بعد من الحب

ها أنا ما زلت أتكئ على نافذتي كلَ صباحٍ كي أدركَ أنني هنا في الحيز المُتسع من الزّمان والمكان، وبأني لم أسقط في ممرات الألمنيوم نحو صُعودِ ملحميٍّ لكينونتي المُلتبسة كوني كائناً أسطورياً يليق بمقامي ثلاثة أيامٍ وليلة واحدة، وانقضي كما تنقضي وجبةٌ في مجمعٍ تجاري مُكيف

هي تشابهاتٌ بدائيةٌ لرائحةِ التراب حين نشتمُها وتمتصُنا في رمزيةِ القصيدة المعلقة على براكين سؤالٍ واحد

متى ينبغي لنا أن نكف عن انتحارنا اليومي؟ ونوقن أن الدعوةَ الأولى هي الأخيرةُ للعشاء الرّباني المنتظر؟!

 لم تنتهي الرحلةُ يا سادتي الذين ينتظرونني في المقهى، فلم أعدْ ما يكفيني لأكون متمكنا من جسدي وهو يصيخ السمع لصوته العابر نحوي

في البياض الفجائي الذي هوى عليّ كسواد منتظر، ولكن لا مُحتمل

شاهدتُ رائحةَ الصباحاتِ حين أُشكلتْ علينا كونها لا متشابهة، و في كونها لامنتهية في مترادفات المتوقع و اللا متوقع

لعل الشمسَ هي من نفتقدُها حين نعبرُ في صورتها الأخيرة و للانتحار في الدفء الزائد

ونبقى مع ذلك نعاني من قشعريرةٍ قادمة، ونحن في أتون العبور المُتماثل بيني وبين من كان وبين من سيأتي، والذي لن يأتي كونه سيكون غائباً – عفواً - معتذراً عن حضورِ كرنفال عرسنِا الجماعي الذي فقد بوصلتَه حين تركَنا نمضي كل في لحد.... في آخره صورٌ لروائحَ تعلقتْ بنا وحملنَاها من الجد السّابع بعد الألف، وإلى من لن يكون، وإلى الذي ليس مُقدر له أن يكون شاهداً على ما نتخذ له من شعرية التناسي والتأسي والتأجيل

دعيني في ملكوتكِ الوردي واستبقي لي من ليمونكِ على باب مطبخكِ العتيق، و شيئاً من وجعي المقدود من كل قدمٍ وطئتها، وأنا عائدٌ من نفسي إلى نفسي، وصاعدٌ نحو موتي الأبدي

للأوطان ...

مذاقاتٌ لا ينبغي لنا أن نتحسسَها كثديٍّ تمنيناه على عجلٍ كي لا يقبضَ علينا في مخالفةٍ طارئةٍ لما هو سائغٌ وشرعيٌّ ومقبول

حان الأوان أو لم يحن

فلست معنياً بأن أكون حاضراً كي أشهدَ أفولي أو أشهدَ تحولي

 إلى ذراتٍ من ذهب مُصفرّ

على أورقة الشِّعر المجنون

لست معنياً بأن أكونَ ضمن الحاضرين لوداعي لأني علمتُ

 أن اليوم هو اليوم الأول

 كي أكون غائباً أو متورطاً بالحضور...

 عفواً إن تشاكلت عليّ الأمور  ....

rabushehab@qf.org.qa

شاعر فلسطيني مقيم في قطر