توشك هذه القصة المفعمة بنوستالجيا الحنين إلى ماض قريب لكنه يبدو موغلا في القدم أن تكون أهجية لواقع يعمره القبح، وأغرودة القاص لسينما الزمن الجميل.

سعاد حسني

شريف صالح

يعيش بكل حواسه في زمن الأبيض والأسود. الفتى المراهق، هكذا يرى نفسه رغم أنه في أولى جامعة، مهووس بالسينما، يهرب من المحاضرات إلى الصالات الرخيصة، سينما رومانس المجاورة لمسرح الهوسابير، والسينما الصيفية في ميدان الجيزة، وسينما السيدة زينب قبل تجديدها، وعلي بابا في بولاق أبو العلا. 

يقبض على تذكرة بجنيهين، هما كل ما في جيبه عدا تذكرة الأتوبيس. ينتظر مبحلقاً في ملصق بالأبيض والأسود. هدى سلطان تملأ المساحة كلها بعريها وجسدها الأبيض وهي تغوي رشدي أباظة في "امرأة على الطريق" أو سهير زكي بشعرها الأسود المنسدل وعينيها المكحلتين وجسدها الخالي من العظم، تهز بطنها في حركة خالدة، لو اجتمع العالم كله لن يستطيع أن يهز مثلها. أما نجوى فؤاد فتعلم الخيل كيف ترقص بسيقانها.  

عندما يفتش في كتبه القديمة ويعثر على تذكرة سينما، ورقة باهتة مصفرة دوّن عليها التاريخ وحفلة التاسعة مساء وعنوان الفيلم، يبتسم ويشعر بالامتنان لأن تاريخه لم يضع عبثاً. في هذا الفيلم لمح "سمارة" تحكم الملاءة اللف حول خصرها وتسير في الشارع شبه المعتم وحدها، سمانة قدميها تهرب من تحت حافة الملاءة ، خلخالها يرن بالشهوة العظيمة على أسفلت الطريق، رنات تمزق قلبه، يردد بين روحه الجملة الخالدة: "أنت بتلعبي بالنار يا سمارة"! لو استطاع لاخترق الشاشة ولعق الأسفلت وراءها.

إنهن مثل إلهات، حوريات قصص، أيقونات وضعهن الفتى المراهق في كنيسته الخاصة. نساء هاربات من لوحات عصر النهضة، كي يتخففن من بقايا الثياب ولزوجة الألوان الزيتية، ويعدن إلى سحر الأبيض والأسود. علق الفتى صورهن على جدران قلبه وراح يتأمل الجسد الإنساني حين يشع جمالا ودلالا واكتمالا. وفي كل ليلة يصطفي إحداهن خليلة لأحلامه.

أدار الشريط المثقوب ما بين روحه وعقله فأضاءت شاشة الذكريات.. تعجبه التفاتة هند رستم وهي تمضي، واثقة من جسدها المصقول المنحوت بإتقان، في نظرتها إغواء قاتل موجه إلى الفتى نفسه. فيأخذ نفساً عميقاً يبرد روحه، وحواسه كلها مفتوحة ومستثارة. لديه ولع خفي بمفاتن شويكار حين تتغنج وبرلنتي عبد الحميد إذ تشد جسدها في فستان السهرة الأسود. يتابع متحمساً ناهد شريف تتمايل على شاطئ البحر وتلف ملاءة سوداء ما إن وصلت إلى حبيبها حتى طرحتها حول قدميها لتقف أمامه عارية إلا من قطعتين. مبالغة في الاحتشام أمام الحارة.. وفي التهتك أمام الحبيب، وهو وحده يراقب كل شيء. عشرات من وجوه الحسان عشقها إذ تشع نوراً وبهاء رغم ظلال الأسود، لكنه ظل مفتوناً أكثر بالجسد مكتمل الأنوثة، لا نظرات فاتن حمامة ولا تنهدات ماجدة. حتى مريم فخر الدين لا تثيره فهي تبدو مثل بجعة طويلة الأطراف شبه نائمة في كل الحالات. 

أعلن أمام الملأ، بعد أن أنضجه النظر، وذاق حلاوة كل أنواع البياض المؤنث، أنها هي من بينهن جميعاً، زوزو ونعيمة وشفيقة، هي أميرة حبه، خليلة كل أحلامه. الجسد المكتمل روحاً وفتنة، شجناً ومرحاً. واستعار من الشعر كله شطراً لكعب بن زهير "بانت سعاد فقلبي اليوم متبول".

من هي منى زكي وحنان ترك وهند صبري؟ طفلات الملون، ذكوريات الطباع. لا علاقة لهن بالأنوثة، هذا الفيض الدافئ الساحر؟ أين هن من شقاوة وطراوة سعاد حسني؟ آنذاك كان الزمن أشبه بأرجوحة في حديقة، كان للأنوثة سحر وفتنة، ما بين الأبيض والأسود، درجات من الأبيض ممزوجة بهالات من الأسود، طبقات رمادية تبلغ روعة القصيدة في تباينها وانسجامها. جسدها رغم رقته كان مرشوقاً في شاشة فضية يفيض بالشهوة. وهو في البعيد يشم صورها، يلامسها بأصابعه إذ تتحرك. وأبداً لا ينتبه أنه مسح غباراً عتيقاً عن زجاج تلفزيون صغير. 

الآن أصبحت السينما نظيفة ومكيفة، أسعار التذاكر توحشت، لكنه امتنع عن الطواف حولها على قدميه. لم يعد فتى ولا مراهقاً، لا يجدر به أن يخبر أحداً عن عشقه الخفي لصور متحركة. يجول في شوارع وسط البلد متحسراً على نسوة المدينة اللاتي انكمشن في أجساد طفولية، أو ضخمة هزلية. يرى عارضات ممصوصات تكشف عيوبهن شاشة بلازما وراء زجاج محلات الأجهزة. فيغني مع نفسه "زوزو النوزو  كونوزو". 

ما أروع هذه المرأة القصيدة، في عينيها كل الحزن، كل الحب والدفء، السحر والإغواء، الطفلة والمرأة. سوادها عميق وغامض وبياضها حميم. كانت بالنسبة له الأنثى الأخيرة، آخر كتلة منحوتة على مقاييس الإغريق  قبل أن يشوه الجمال دعاة المساواة وتجار المرمر المغشوش، وألوان الديجيتال. 

في شارع طلعت حرب كان الفتى المراهق، هكذا قلبه لا يعترف بمرور الزمن، واقفاً بين سينما مترو وميامي، ألقى نظرة على عصر الملصقات الملونة. رجال ليسوا أكثر من "كومبارس" بلا حضور ولا طاقة خفية، أمثال عادل إمام وأحمد حلمي واللمبي، يسيطرون على الملصق بحركات عصبية ملتوية وسخيفة، بينما المرأة مجرد وجه يتلاشى بعيداً وراء سيقانهم الممتدة، مثل وجوهم المستطالة.  

سمع في قلبه سعاد تغني "بانوا بانوا بانوا.. على أصلكوا بانوا".  فمزق الفتى آخر تذكرة سينما قديمة كان يحتفظ بها. مطربات وكليبات وعارضات. نعيش الآن على إيقاع الهمبرغر والماكدونالدز، كل الصور مبتورة متداخلة ومشوهة، الموسيقى صاخبة تتلاءم وجنون الأضواء الزرقاء الحمراء في حفل مخنثين يتوارون من أنفسهم حتى لا تفضحهم الكاميرا. تعساً لزمن أيقوناته من السيلكون والجص والجيلاتين، والنفخ والعدسات اللاصقة والشعر المستعار. كائنات ممسوخة متشابهة تكرر نفسها على مدار الساعة، تخفي بشاعتها وراء كتل الألوان الثقيلة. فتش فيها الفتى جميعاً فلا أحس نحتاً يُلامَس ولا بهاء يعلق على جدار القلب. لا حلاوة ولا شقاوة، ولا حتى كبرياء السندريللا وهي تتناول السم بمذاق المسقعة.  

تلفزيونه الأبيض والأسود الصغير أصبح هو الآخر مهزوزاً، خطوط عرضية سوداء غليظة تمر باستمرار تهز الصورة،  حتى نسخ الأفلام القديمة نفسها صارت باهتة ومبتورة وصوتها مشوهاً. حرب عنيفة تشنها على الأبيض والأسود مسدسات الليزر وكائنات الفضاء الفضية وألوان فاقعة ثقيلة. 

العالم كله أوغل في تفاهة لا تحتاج إلى مقاييس. لم يعد منتبها إلى سعاد حسني وهي تطلب من الفتى الوسيم أن يفتح لها "سوستة" الفستان، ليفيض ظهرها جمالاً على الشاشة، ثم تتحرك بعفوية وهي تخلع فردتي حذائها العالي تباعاً وتدفعهما في الهواء في لامبالاة. أما الفتى الوسيم فيراقب ببطء الفاكهة الناضجة تتوارى قليلاً حتى ترتدي قميص نوم أحمر وإن بدا غامقاً على شاشة لا تعرف سوى لونين. ببساطة تسترخي على الفراش وتترك، وقتاً، ساقيها ممدتين عاريتين في عين كاميرا تتحسس تضاريس الأنوثة بكل الشهوة. بينما الفتى الوسيم يقبل جبينها امتناناً على هذا الوقت الخاص جداً، فتلمع عينيها بالحب والشقاوة. أطفأ النور وأغلق الباب ليسود ظلام..كم تمنى الفتى المراهق أن تبقى عيناه معلقتين قليلاً على هذا السواد اللذيذ الذي لف جسد السندريللا العاري. 

أغلق الفتى عينيه طويلاً ثم تسلل في الظلام وأشعل المصباح مرة أخرى، ليصدمه منظر امرأة تعاني السمنة والكهولة، كانت ملقاة أسفل بلكونة في برودة لندن. المنظر كله كان بالألوان وبالحجم الطبيعي. انتفض الفتى وهز حواسه كلها كي تطرد هذا المشهد من ذاكرته. وقبل أن يغمض عينيه مرة أخرى وينسحب من الصورة لمح بعيداً عن جسدها المسجى فردة حذاء السندريللا. 

8/11/2007