يكشف لنا القاص المصري تناقضات المظهر والمخبر في شخصية الشيخ المهيب، مستفيدا من منظور الطفل الذي تمتزج فيه البراءة بالشيطنة وحركية علاقات القوة بتعرية فساد الشيوخ.

نواعم

خالد حسين عاشور

كنا نرتعد حين نراه. يصحبه الفتى الذي استخلصه لنفسه من بيننا ببطء. جلبابه الأزهري دائماً كالح، عمامته أيضاً كذلك، ملفوفة بلا انتظام وقد ضاعت خيوط زرها من زمن.  يجمعنا بكُتابه كل يوم بعد صلاة العصر في الجامع الكبير أخر القرية، نخشى حسابه ونرجو ثوابه دائماً، نقول لأنفسنا أن ضربة الشيخ تميت، وأن دعوة منه على أحدنا كفيلة بإدخاله النار خالداً فيها كما أكد لنا آبائنا، فالشيخ جمعة بركة ودعائه دائماً مستجاب! نحفظ ما يردده علينا كالببغاوات في خوف، أما فتاه فلا يحفظ ولا يمسه السوء، الفتى ناصع البياض، أملس كفتاة، شعره ناعم يسقط فوق جبينه، ردفيه ممتلئان في استدارة، يرتجفان خفيفاً وهو يمشى في دلال، نسميه بيننا سراً "نواعم"، لا ننطق بالاسم أمامه حتى لا يصل إلى المارد الأزهري الشيخ جمعة، لأنه حينئذ سيدخلنا جحيمه من أوسع الأبواب إذا ما تجرأ أحد ومس فتاه بسوء، حتى ولو بلفظ!

كنا نشك..! فقط نشك..!

لم نتيقن أبداً مما نسمع حينها، نسمع كلاماً من هنا وهناك، الصبية الذين سبقونا وتركوا الكتاب هم الذين قالوا، قالوا أن الشيخ جمعة دائماً ما يستخلص فتى من فتيان الكتاب، لم نفهم بالضبط لِمَ يستخلصه، ولكن حين كنا نرى الفتى "نواعم" نعرف كنه الاستخلاص الذي حدثونا عنه!

يجلس الفتى دائماً جوار الشيخ مخرجاً لنا لسانه وهو يبتسم، نخافه مثل الشيخ تماماً لأنه إن وشى بأحد منا سوف يناله عقاب لا يحتمله. يحدثنا الشيخ جمعة كثيراً عن الجنة في كلامه، يقول أن بها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، يضحك حتى تسقط عمامته الكالحة وهو يقول:

- يطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ...
يتنهد قبل أن يكمل:
- أجمل ما في الجنة هم الغلمان...

لم نكن نفهم ما يرمى إليه ذلك الشيخ الأزهري، فنصمت وننتظر حتى ينتهي من تحفيظنا.

قبل صلاة المغرب بقليل يطردنا الشيخ من المسجد، ولا يبقى أحداً غير فتاه معه، يقول دائماً أنه سيُسمع له على انفراد بحجرته الملحقة بالمسجد لأنه ليس مثلنا!

حجرته صغيرة رأيناها أكثر من مرة من الخارج، الوحيد الذي كان يسمح له بدخولها هو الفتى الأشقر "نواعم"، للحجرة نافذة منخفضة تطل على الشارع، نسترق النظر أحياناً إلى داخلها من خلال شباكها الخشبي المتهالك الذي يسمح لنا برؤيتها من الداخل حين لا يكون الشيخ بها ونحن عائدون بعد أن يطردنا، لا ننظر طويلاً لأننا كنا نخاف أن يرانا. أو يلمحنا فتاه!

كنت أكره الساعات القليلة التي أقضيها بالجامع بصحبة الشيخ. ما إن أخرج حتى تكون العتمة قد أوشكت على أن تعم القرية، أعود إلى لعبة "الأستغماية" مع أقراني، بعض الليالي كان جدي يُحضر شاعر السيرة الهلالية جابر أبو حسين، ما إن أسمع بمجيئه حتى أتقوقع بجانبه أسفل الدكة التي يجلس عليها عمى جابر أبو حسين مطرب السيرة الهلالية، لم أكن وحدي الذي يلتف حوله، يجلس أقراني إلى جانبي، كنا نحب السيرة الهلالية كثيراً، أكثر من كلام الشيخ جمعة، نصمت لغناء العم جابر وهو يغنى:

- "بعد المديح في المكمل
- أحمد أبو درب سالك
- نحكى في سيرة وأكمل
- عرب يذكروا قبل ذلك
- في سيرة عرب أقدمين
- كانوا ناس يخشوا الملامة
- رئيسهم أسد سبع ومتين
- يسمى الهلالي سلامة"

أنام وأنا استمع إلى سيرة الهلالي، في الصباح أجدني على فراشي بالبيت، أقضى الليل كله وأنا أحلم بالهلالي وسيرته، أتمنى أن أكون مثله أو أحد فرسانه، أناجيه في أحلامي، أخبره أنني أريده أن يأتي معي كي نقاتل بنى إسرائيل لنأخذ منهم ثأر أبى وأعمامي الثلاث الذين ماتوا في الحرب التي أسميناها فيما بعد بالنكسة!

تنبهني جدتي بعد العصر إلى ميعاد كتاب الشيخ جمعة، أحمل مصحفي وكسرة خبز مغموسة في السمن أأكلها حين أجوع، دائما ما يصادرها منى الشيخ جمعة إذا رآها. يوم الجمعة أيضاً يسحبني جدي للصلاة خلف الشيخ، والذي له نفس اسم اليوم، يصرخ الشيخ كثيراً وهو يخطب متوعداً من لم يُخرج له الزكاة. الزكاة دائما تخرج له دون غيره. يأخذها من المحاصيل التي يزرعها الناس، يقول أن من لا يعطه الزكاة أثم قلبه، مثواه النار مع المشركين، الناس تخافه كثيراً وتعمل له ألف حساب.

سمِعته في الخطبة أكثر من مرة يحذر المصلين من عقوبة اللواط، يؤكد أن فاعلها يلقى من أعلى مكان بالمدينة  أعلى مكان في قريتنا هو مآذنه الجامع الكبير والتي لا تتعدى عشرة أمتار أما في الآخرة فعقابه مع الله عسير. لأنه يهز عرشه وأشد وطأة من الزنا.

أذكر بالضبط تفاصيل ذلك اليوم الأسود الذي رأينا فيه ما رأينا، طردنا الشيخ يومها قبل المغرب كعادته، لم يكن أحد منا يريد أن يلعب "الأستغماية" لغياب البعض، فكرنا ماذا نفعل، قالها أحدنا وقذف بها في أذاننا الصغيرة، قال أنه سيسترق النظر عبر النافذة حتى يرى الشيخ وفتاه وما يفعلان، جميعنا ارتعدنا من الفكرة برغم بساطتها، غير أن ذات الفكرة لو طبقت ورآنا الشيخ أو فتاه ستكون العاقبة وخيمة، تجرأ الذي قال واتجه نحو النافذة وهو يخطوا على أطرافه، تبعناه بهدوء وفي خوف، رأينا الوجوم والرهبة على وجهه بعد أن نظر من خلال الفتحات التي بالنافذة الخشبية. حين نظرنا بعده وجمنا مثله وأكثر، تسمرنا في أماكننا، الفتى "نواعم" منبطح على بطنه عار تماماً والشيخ فوقه، الفتى يئن كفتاة في لذة والشيخ فوقه يحتويه بجسده الضخم، جسد الفتى أبيض به مناطق حمراء من أثر الشيخ، الدقائق التي مرت بعدها مرت بطيئة ونحن نرتجف من الخوف، تركنا أرجلنا تعدوا مبتعدين عن الجامع، تقابلنا عند النهر، ظللنا ننظر إلى مجراه دون أن ننطق بكلمة، أخيراً تكلم صاحب الفكرة، فكرة جديدة سوداء أتته ساعتها، قال أنه سيفعلها مع "نواعم" بالغد، سكتُ أنا والبعض، غير أن منهم من تراجع متفقاً معه على التنفيذ، ثأراً من "نواعم" والشيخ.

في اليوم التالي انتظرناه بعيداً عن بيت الشيخ جمعة.

كنا نعرف أنه يفوت عليه يومياً ليأخذه إلى الكُتاب، ينادى عليه فتخرج له زوجته لتسلمه إليه. يقول أنه مسن، يستند على "نواعم" في مشيته.

اختبأنا بين عيدان الذرة. رأيناه أخيراً، قادماً يتبختر في الطريق الواصل إلى بيت الشيخ، قطعناه عليه ونحن نغنى:

ناعمة يا غُريبة...

المرة الأولى التي تجرأنا فيها وقلنا اسمه السري، نظر هو إلينا متوعداً بأن يخبر الشيخ حين يراه، أخبرناه بما رأينا بالأمس، بكى حينئذ كمومس، التف الصبية حوله وسحبوه إلى داخل أعواد الذرة، ألقوه على بطنه ونزعوا عنه ثيابه، قالوا له إن لم يأخذوا دورهم سيفضحونه، استسلم هو بعد أن خلع ملابسه تماماً، ابتعد بقية الصبية وبدأ كل منهم دوره، الآخرين كان عليهم مراقبة الطريق، كل الذي يخرج كان يغنى قائلاً:

ناعمة يا غُريبة...  ناعمة قوى يا نواعم...
حين جاء دوري رفضت أن أفعلها!

لم أرفض لخوفي من الله. أو أن ألقى من أعلى مكان في المدينة كما أخبرنا الشيخ الملعون، فقط هربت مبتعداً لأنني كنت أكره نواعم، وأكثر منه كنت أكره الشيخ جمعة. 

قاص من مصر
K_metwaly@hotmail.com