تطرح هذه المقالة القصيرة التي يترجمها الكاتب المصري ويعلق عليها مجموعة من استقصاءات ديريدا حول عملية الكتابة وما تنطوي عليه من محو وتثبيت.

جاك ديريدا: خوف الكتابة

محمد سمير عبدالسلام

الكتابة عند جاك ديريدا ترتبط ارتباطا وثيقا، بالتكرار الأول للحظة النشوء أو التكوين. هذه اللحظة الثرية المليئة بالتناقضات، وطاقات اللاوعي الحادة، بين ميول التجميع لاستعادة التكوين، وميول المحو، والاستبدال اللانهائي للصورة المستقرة للعمل، فهي كتابة تنشأ و تنتهي من هذا التوتر، والخوف الذي يناظر تلك اللحظة، ويليها، وكذلك الفرح بالأرض البكر المتجددة خارج المرجع الثابت، هذا المرجع الذي يلج مخاوف الكتابة كما يصفها ديريدا في هذا المقال كعنصر لا واع يحافظ شكليا على النظام، هذه بنيته؛ ولكن وصف ديريدا برأيي يذهب به في اتجاه مكمل للمحو الذي بدأته الكتابة بنوع من الفرح، فهو يواصل تدمير الفاعل أو المرجع، ويواصل حركة الاستبدال الكامنة فيه، وكأنه يسخر من نفسه، ومن الكتابة اللعبية معا،  يكشف عن انشطاراتها الداخلية في تخليها عن المركز، ولهذه المخاوف التي يتحدث عنها ديريداأهمية كبيرة؛ إذ تؤكد أن اللعب التفكيكي لا يمكن أن يكون بديلا للذات الفاعلة، والمدلول، والمرجع، لكنه تحول مستمر لهذه الأشياء، وإعادة لتناقضات لحظة النشوء، في اختلاطها بعوامل الهدم، في حالات متكررة يصاحبها القلق.

ومثلما يرصد ديريدا حالة الذوبان، أو التداخل بين كل من الصوت، والكتابة، والدال والمدلول، والنص، والقراءة، والمركز، وحالة اللعب الاستبدالية الكامنة فيه، نجده هنا يتحدث عن حالة نصف النوم الحاملة لمخاوف الكتابة بوصفها حريصة على المرجع لكنها برأيي تحمل دلالة استمرار المحو حتى للكتابة الأولى نفسها. إنها طاقة تناهض لعب الدوال من خلال عملية غير واعية تسقط هي الأخرى في لعب آخر، بتداخلها الأولي مع ميل حالة اليقظة عند ديريدا إلى استعادة حضور اللاوعي مرة أخرى، فهى تحفز اليقظة في سياق الغياب، وتشبهها في ميل كل منهما لهذا النشوء الملتبس المصاحب لكتابة تتداخل فيها طاقات اللاوعي، لتعيد تسمية نفسها في كتابة، أو لعب، أو قلق، أو استبدال.. الخ.

يرى ديريدا أن الدال يمحى تلقائيا، في لحظة ولادته، كما أن المدلول يعمل فيه من قبل بوصفه دالا، ووجود المدلول في لعبة الإحالات يجسد حالة اللعب التي تمحو الحد الذي كانت تنتظم العلامات انطلاقا منه. (1) هل تتحول طاقة فقدان هذا المدلول المرجعي، إلى طاقة مدمرة مضادة للكتابة؟ هل يختلط حلم الإيروس اللاواعي بعدوان يناهض الاستبدال، وإعادة لحظة النشوء؟ هل هو حلم الاكتمال المؤجل، وقد انقلب إلى سلطة عصابية تنشطر عن تحولاتها وتناثرها الخاص؟

مثل هذه الأسئلة يولدها حديث ديريدا الذي يكشف فيه الوجه الآخر لبهجة اللعب، في تداخلها المعقد مع المخاوف المصاحبة لرصد التحول الكامن في بناء المركز.

إن ديريدالا يميل في حديثه لوصف ذي اتجاه ثابت لكنك تجد في حديثه عن الكتابة التفكيكية نشوءا لا ينتهي، وتجد في مخاوف نصف النوم نزوعا نحو المرجع، ومواصلة لحركة المقاومة في الاستبدال واللعب.

ولا يمكن عزل هذا الوصف للكتابة ومخاوفها عند جاك ديريدا بتداخل الغرائز اللاواعية عند فرويد، والتي يمكن أن تؤول اللحظات الأولى لظهور الحياة وما يسبقها، وكأن فعل الكتابة عند ديريدا يحاول القبض على هذه اللحظات المفقودة، فيقرر دائما في حالة اليقظة أن يتمسك بيقين البكارة، ولا يتخلى عنه أبدا.

وطبقا لفرويد فإن كلا من طاقة الإيروس الذي يهدف لتوحيد الذرات المفتتة، وغريزة الموت الأكثر ميلا للحالة اللاعضوية الأسبق، تحاول إعادة الحالة السابقة لظهور الحياة، ويؤكد فرويد أن ظهور الحياة هو سبب استمرار الحياة، والسعي نحو الموت، وتصير الحياة صراعا وحلا توفيقيا بين الاتجاهين(2).

هكذا يصير التجسد الأولي للمكتوب عند ديريدا حاملا لطاقة الحياة، وظهورها المؤدي لتلك المخاوف، وهذا التعقيد في اتجاهات المحو والنشوء الانفعالية المصاحبة للكاتب حيث تحمل إليه الفرح والرعب والتعلق بالمنطقة الجديدة من الوجود لتجاوزها. هذا التجاوز برأيي هو المولد الأكبر للخوف. وفيما يلي ترجمة كاملة لنص ديريدا.

خوف الكتابة

في كل مرة أبدأ الكتابة، ينتابني إحساس بأنني أتقدم باتجاه أرض بكر جديدة، لم أكن فيها من قبل. هذا النوع من التقدم يحتاج إلى إيماءات يقينية، وقد يفهم بأنه عدائي، مع احترامي للمفكرين الآخرين، وزملائي. وبعيدا عن الجدل الطبيعي، فإن الإيماءات التفكيكية قد تبدو حقا كنوع من الزعزعة، أو التخريب، أو حالة من القلق، أو تحتمل جرحا للآخرين، ومن ثم ففي كل مرة أحقق فيها هذا النوع من الإيماء، تتولد لحظات من الخوف، ولا يحدث هذا الأمر أثناء انخراطي في فعل الكتابة. عندما أكتب أشعر بأن هناك رغبة ملحة أقوى مني تتطلب وجوب الكتابة بالطريقة التي أكتب بها.

ولا أنكر شيئا كنت قد كتبته، بسبب الخوف من بعض العواقب المحققة، وأقول عندما أكتب : لا شيء يرعبني. وهذا ما يجب أن يقال أيضا عندما لا أكتب.

ولكن ثمة لحظة غريبة جدا تصاحبني عندما أذهب للنوم، وبالتحديد بين بدايات النوم، والنوم الكامل؛ في تلك اللحظة التي هي نصف النوم تحدث المفاجأة، فأعيش حالة من الرهبة تتولد عن الذي قمت بكتابته، وأخبر نفسي: أنت مجنون لأنك كتبت هذا، أنت مجنون لأنك تهاجم ذلك الشيء، أنت مجنون لأنك تناقش هذا المرجع النصي، أو المؤسسي، أو الشخصي. يكمن في لا وعيي نوع من الرعب أستطيع أن أشبهه بأخيلة الطفل الذي يفعل شيئا كريها، وقد تحدث فرويد عن أحلام الطفولة حين يرى الشخص نفسه عاريا، مذعورا، لأن كل من حوله يدرك هذا العراء.

على أية حال ففي حالة نصف النوم، يتكون لدي انطباع بأنني قد ارتكبت جرما، أو أمرا مخجلا لا يمكن الجهر به، ولم يكن علي أن أفعله. ويأتيني شخص ليخبرني: لكنك مجنون؛ لأنك قمت بعمل هذا، وأكون مصدقا لهذا الأمر بالفعل في حالة نصف النوم التي تتضمن دلالات سلطة تأمر بإيقاف كل شيء، وإعادته من جديد، وحرق الأوراق، فما أقوم به غير مقبول. ولكن عندما أستيقظ وأكون في حالة وعي، وعمل بشكل يقيني، أقترب بدرجة أكبر من اللاوعي عن حالة نصف النوم، ففي الأخيرة هناك حذر، ويقظة باتجاه الحقيقة، فضلا عن إيحائها بأن ما أقوم به جاد بدرجة كبيرة. ولكن في في حالة اليقظة والعمل، يصير ذلك الاحتراس نائما حقا، ولكل من الحالتين قوة كبيرة، ولهذا أفعل ما يجب أن أفعله (3).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 1 راجع جاك ديريدا الكتابة و الاختلاف ترجمة كاظم جهاد دار توبقال ط 1 عام 1988  ص 104.
2 راجع فرويد الأنا و الهو ترجمة د محمد عثمان نجاتي دار الشروق ص 66 و 67.
3 حديث جاك ديريدامنشور بعنوان:Fear Of Writing  على الرابط :
http://www.youtube.com/watch?v=qoKnzsiR6Ss