رأي في مؤلفاتي

الآداب تستفني:
"مارأيكم في مؤلفاتكم"
(شارك في الاستفتاء كل من: ميخائيل نعيمة، نازك الملائكة، سلامة موسى، ذو النون أيوب، عمر فروخ، مارون عبود)
جواب الآنسة نازك الملائكة:
ماذا يمكن أن يكون رأي شاعر في ديوانين له صدر آخرهما منذ خمس سنوات؟
الأمر فيما أرى يتوقف إلى حد كبير على مدى التطور الذهني والنضج العاطفي الذي اكتسبه الشاعر في السنوات التي تلت إنتاج هذين الديوانين.
فإذا كانت ثقافته ما زالت نامية، وحواسه الجمالية سائرة إلى الاتساع والاقتراب من الدقة، كان لابد أن يعدل هذا أحكامه على شعره السابق إجمالاً فيحيد بها عن الرضا. وقد يدخل فيها شيئاً من القلق والميل إلى اعتبار القصائد أعمالاً غير ناضجة.
ولعل هذا هو السبب في موقفي الحالي من شعري في "عاشقة الليل" و"شظايا ورماد"، فأنا الآن أملك قدرة كاملة على معاملتهما معاملة موضوعية خالصة وقد أتناولهما بالنقد الشديد في كثير من قلة الاكترث، وكأنهما لم يشغلا حياتي إلى آخر حماسة فيها سنوات طويلة. ولم يكن هذا البرود الموضوعي في وسعي يوم كتبت القصائد، فقد كنت إذ ذاك أعيش في حدود المقدرات التي أنتجتها وحشدت لها قواي الذهنية والعاطفية جميعاً.
وقد يلوح موقفي هذا مناقضاً لما يعرف من جنوح المرء إلى تبرير أعماله وتنزيهها عن الخطأ والضلال، فالمرء لا ينتقد نفسه على اعتبار أنه يملك تصحيح موقفه إذا أراد، وهذا هو القانون.
على أن حالتنا هذه لا تخرق القاعدة إلا على صورة ظاهرية. فمن الذي يوجه النقد في حالتي؟ أهي عاشقة الليل تنقد عاشقة الليل؟ كلا. لأن عاشقة الليل بعواطفها وأفكارها وكآباتها قد مضت مع عام 1947 وأنا الآن إنسان آخر يكاد لا يرتبط بالفتاة الأخرى إلا بالذكرى. والزمن قد أضاف إلى عاشقة الليل إضافات واسعة عميقة في جهات مختلفة فغير طباعها وملأ ذهنها بثقافات جديدة وأغنى حياتها الداخلية بمئات الخبرات والتجارب والصور، ورسم ونحت حتى صنع بضعة أشخاص في مكان الفتاة القديمة التي عاشت سنة 1947.
ومن بين هؤلاء الأشخاص المتعددين في داخل النفس ينبري واحد يسلط أحكامه على الواحد السابق في برود وقلة اكتراث. وهذا الشخص الجديد يعد نفسه أقرب إلى النضج من الأشخاص السابقين، لأنه يعلم بأية تجارب قد مر وأية امتدادات جديدة قد اكتسب.
وهكذا يبدو أن الزمن هو الذي يصنع علاقاتنا بالأشياء، وأن الحقيقة نسبية إلى حد كبير. فما نظنه اليوم مثلاً عالياً للجمال قد يصبح خلال السنين القادمة فجاً في نظرنا. والأمر يتوقف على مدى نمونا وحيويتنا ونضجنا.
إن أكداس الأفكار والتجارب والمواقف التي تضاف إلى حياتنا تمنحنا قمماً جديدة نشرف منها على الأشياء، فتتغير نظرتنا إلى الوجود، ونكتسب آراء وحماسات جديدة وتتسع النقطة التي تربطنا بالموضوعات، وهذا هو الذي يمنحنا الحرية في نقد أنفسنا نقداً موضوعياً ترتفع فيه درجة حساسيتنا بعيوبنا وأخطائنا.
الآداب، س2، ع2، بيروت، شباط 1954.