الأبعـاد الأربعـة فـي الأدب

نازك الملائكة

أصبحت نظرية الأبعاد الثلاثة للأشياء تعدّ من مخلفات العصور السالفة، التي لا سبيل إلى الاحتفاظ بها، فمنذ أنشتاين بدأ "الزمن" يتحول إلى بعد رابع له امتداده وعمقه وقيمته الكبيرة مثل أي بعد من الأبعاد الثلاثة الأخرى. وربما كان المناسب ان نقف لحظات عند هذه النظرية قبل أن نعرض لتأثيرها في الأدب والفن. بقي الزمن قبل هذه النظرية يعد فراغاً وهمياً ابتدعه الإنسان، فقد كانت الأشياء تملك ثلاثة أبعاد: الطول، والعرض، والارتفاع. وربما كان أول ما أثار فكرة البعد الرابع في الذهن البشريّ، ما لوحظ من أن احتفاظ أي شيء بأبعاده الثلاثة أمر شبه مستحيل، فالمباني الضخمة والصخور الكبيرة تنهار وتتفتت وتتغير أبعادها، والناس ينمون ويكبرون، ويعتريهم النحول والسمنة والطول، وتتغير ألوان بشرتهم، ولا شيء يحتفظ بأبعاده ثابتة، مما يجعل فكرة الأبعاد الثلاثة ناقصة، وكأنها تحدّ الأشياء كلها في لحظة زمنية واحدة ربما كانت أقصر من لمح البصر، وربما تغيرت الأبعاد كلها في اللحظة التالية، مما يجعلنا أحوج إلى أبعاد أخرى أكثر ثباتاً وأوسع شمولاً، بحيث تنطوي تحت جناحها هذه التغيرات كلها، ومنها ننتهي إلى أن ندرك الأشياء بأبعادها الحقيقية.
وبزغت فكرة "الزمن" فجأة، وسماه أينشتاين "البعد الرابع" وبذلك كان أول من عده شيئاً مرئياً، بعد أن كان وهماً غير محدود، ولا صورة له في الذهن. ومنذ نظرية البعد الرابع أصبحنا نستطيع أن نرى الزمن بجزئياته، كما نرى صوراً مبعثرة متقطعة من شريط سينمائي كبير. وإيضاح هذا أن نقول إن هذا الكرسي في هذه اللحظة من الزمن يملك ثلاثة أبعاد، كما تملك الصورة الواحدة المتقطعة من شريط سينمائي جموداً ذا بعدين. ونستطيع أن نضيف إلى الكرسي بعده الرابع حين تكون صورتنا له جامعة للحظاته الزمانية كلها منذ صُنع، فإذ ذاك تكون مجموعة التغيرات التي اعترته هي الزمن، وهي تقابل حركة الشريط السينمائي التي تكسب الصور المنفردة حركة رائعة، فنراها تبتسم وتتحرك وتفكر. وسرعان ما شغفت فكرة هذا البعد الرابع طائفة رجال الفكر والأدب، فعكفوا عليها يدرسون إمكانياتها الأدبية، وما يمكن أن تقدمه لمملكة الفن. وكان أحد المفكرين الذين افتتنوا بها ج. و. دنّ (Dunne) الذي أصدر سلسلة كتب مبنية عليها نالت شهرة كبيرة بين الأدباء، وإن كان قد ألبس أفكاره ثوباً علمياً من المعادلات والرموز.
وليس غرض هذا المقال أن يعرض لتفاصيل نظرية دنّ، فأنا معنية بالناحية الأدبية منها، وهي تكفي لإيضاح أثر فكرة البعد الرابع في آدابنا الحديثة. وقد يكون خير شرح عملي لهذه النظرية مسرحية "الزمن وآل كونوي" Time and the Conways للكاتب المسرحي المعاصر ج. ب. بريستلي (Priestley) التي كانت في الواقع تطبيقاً ناجحاً لبعض إمكانيات النظرية. وسنرى أن الزمن فيها قد استحال إلى بعد رابع، وأن بريستلي مهتدياً بدنّ قد منحه حركة طولية الامتداد، استحالت معها لحظات الزمان إلى محطات كبيرة يسير قطار النفس على امتدادها كيفما شاء رواحاً ومجيئاً.
وتلوح المسرحية أول وهلة قصة حياة أسرة من الطبقة المتوسطة، وهي حياة اعتيادية لا تهزها مغامرات ولا أحداث كبيرة، وإنما يعيش أفرادها كما تعيش أكثر الأسر. ويفتتح بريستلي مشاهد القصة بمساء اليوم الذي تبلغ فيه كي (kay) كبرى أخواتها الحادية والعشرين من عمرها في سنة 1919، ومن أجلها تقيم الأسرة احتفالاً. وقد اختار المؤلف للبطلة أن تكون فتاة مراهفة الحس تحب الأدب وتوشك أن تشق طريقها نحو ما "كانت" عازمة على أن يكون مستقبلاً جيداً في كتابة القصة. وخلال لحظات الحماسة الأخيرة، بينما كانت الأم تنشد أغنية لشومان، أحست كي باندفاع الشعور في أعماقها فبدأت تكتب فصلاً في قصتها الأخيرة. وفجأة...غامت عيناها...ورأت حلماً.
ويكون "الحلم" هو الفصل الثاني من المسرحية، فترى كي أسرتها في عام 1939 بعد عشرين سنة من الليلة التي تحلم فيها، فإذا الزمن قد عبث بسعادة الأسرة عبثاً قاسياً مرّاً: البطلة نفسها قد أصبحت صحفية تكتب للجماهير لكي تعيش، وأختها المفضلة قد ماتت (منذ) سبعة عشر عاماً، ووالدتها قد فقدت ثروتها، ومثل هذا. وأقبح ما في الأمر أن أفراد الأسرة قد تفرقوا وانشقوا وفقدوا عواطفهم الودية القديمة. وينتهي مشهد الحلم بحديث بين كي وأخيها المقرب "آلان" الذي هو أعمق شخصيات المسرحية وأروعها، وقد وضع بريستلي على لسانه فلسفته القائمة على فكرة البعد الرابع.
وتفيق كي من الحلم ويبدأ الفصل الثالث، وفيه نرى بقية الاحتفال بمولد كي الحادي والعشرين. إلا أن كي نفسها تحس أن ظلاً قاتماً قد هبط على نفسها فهي تذكر أنها حلمت بشيء فظيع، إلا أنها لا تذكر الحلم بتفاصيله، وإنما تعود إليها جزازات منه بين حين وحين فترتعش وتقلق وتنتفض انتفاضاً غريباً لا تدرك أمها سببه. أما الأسرة فتمضي تحلم بالمستقبل. ويفلح بريستلي في إثارة ما يسمى بالسخرية المسرحية (Dramatic Irony) في نفس المشاهدين والقراء الذين يعلمون مقدماً أن هذه الأحلام كلها ستتحطم خلال السنوات العشرين التالية.
هذه هي الخطوط العامة للمسرحية، وقد رأينا أن الزمن كان المحور الذي قامت العقدة عليه، وإن كانت حركته ذهنية امتدت في حلم كي. ولكي نفهم هذا الحلم الغريب، لابد لنا أن نستعين بنظرية دنّ التي سماها (Serialism) فهي السبيل الوحيد لتفسير ما قد يلوح وعياً خارقاً بالمستقبل البعيد. ذلك أن دنّ يعتقد أن الإنسان إنما هو "سلسلة من الملاحظين في سلسلة من الأزمنة" وهو يسمي وعينا الاعتيادي باسم "الملاحظ الأول" ويسمى الزمن الذي نعرفه باسم "الزمن الأول". ثم يقول إن الملاحظ الأول فينا يفقد نشاطه حين ننام، ويفيق مكانه الملاحظ الثاني الذي يملك مقدرة خارقة على الحياة في ما يسميه دنّ "الزمن الثاني" وهو حرية حركية واسعة على امتداد الزمن الأول تمنحنا قابلية جبارة على أن ننتقل بأذهاننا حيثما شئنا في الماضي أو الحاضر أو المستقبل، كما صنعت كي كونوي حين انتقلت وهي في سنة 1919 إلى سنة 1939، وشهدت الواقع الفظيع الذي ينتظر أسرتها الآملة الطموح.
ولابد لنا أن نلاحظ  أن بين الملاحظين الأول والثاني فرقاً جوهرياً، هو أن الأول عاجز قاصر بحيث لا يرى للأشياء في اللحظة الزمنية الواحدة إلا ثلاثة أبعاد، أما البعد الرابع، فهو لا يراه إلا على هيئة تغيرات بطيئة تعتري الأشياء في الزمن، في حين يستطيع الملاحظ الثاني أن يرى الزمن بعداً رابعاً للأشياء، يتحرك في لحظة كما يتحرك في سنة، أما هذه الحركة على امتداد البعد الرابع، فهي عند دنّ تفسّر أشياء كثيرة منها ما نراه أحياناً في أحلامنا من صور غريبة باهتة من عهود الطفولة المنسية، وما نلاحظه في أحيان أخر من صدق أحلامنا حول المستقبل، فقد يصدق أن نرى أنفسنا في مكان غريب لا نعرفه، ثم يحدث خلال أسبوع أن نرى المكان نفسه كما جاء في الحلم.
وهذه الفكرة المبتكرة، الغريبة إلى حد يفتن الخيال، معاكسة للفكرة الشائعة في الزمن، وهي الفكرة التي قامت عليها الآداب كلها منذ أقدم العصور، وقد لخصها بريستلي بقوله: "كل ما هو موجود في الواقع هو اللحظة الحاضرة، فالماضي قد تلاشى وأمس قد أصبح مع العصور، وهم كلهم قد ذهبوا إلى ليمبو. والمستقبل لم يصل بعد، ولا يمكن أن يقال إن له هيئة أو صفة، وإنما هو كالماضي لاشيء. وبين هذين "اللاشيئين" يقوم حدّ موسي هو اللحظة الحاضرة." وهذه الفكرة "الشائعة" المبتذلة عن الزمن قد كانت فكرة كي، التي جلست تحدث أخاها قائلة إن آل كونوي الشبان المرحين قد "ذهبوا" إلى الأبد، وإن في العالم شيطاناً كبيراً يسمى بالزمن، وظيفته أن "يضرب" البشر ويبلى عواطفهم ويطمر شبابهم. وهي أيضاً الفكرة التي قام عليها أدب العصر الإليزابيثي في الأدب الإنكليزي، ولعلها تفسر كونه عصر قلق وتحرق وانغماس في ملذات الحس.
واحتال بريستلي، لإتمام تطبيق نظرية دنّ، بأن خلق شخصية "آلان كونوي" البديعة، وقد كان هدفه منها أن يخلق إنساناً مؤمناً بأن الزمن بعد رابع يمكن أن نتحرك على امتداده، وبأنه يحيا كله في كل لحظة، فالماضي لايذهب إطلاقاً، وإنما هو موجود كله الآن، والمستقبل في اللحظة ينتظر كاملاً، في مكان ما، ونحن فيه كلنا بماضينا، بحاضرنا، بأبعادنا الثلاث كلها. وحين كان "آلان" مؤمناً بهذه الفكرة المريحة اكتست حياته باطمئنان رائع الجمال، لايعكره همّ ولا قلق ولا بغضاء، حتى إنه كان غاية في الصفاء والهدوء حين كانت أسرته كلها ترتجف بين فكي الشقاء في ذلك المساء من سنة 1939.
ومن هذه الحرية الحركية نستطيع أن نستمد سعادة عميقة كاملة تعزينا عن لحظات الأحزان وساعات الألم والمرارة. فنحن نستطيع مثل "آلان كونوي" أن نجد العزاء عن أي عذاب نعانيه بأن ننظر إلى اللحظة المظلمة على أنها "معبر" ذو أبعاد ثلاثة، لا بعد رابع لها، ومعنى هذا أنها لحظة عابرة، لابد أن تمحوها لحظة تالية سعيدة هي أيضاً ذات ثلاثة أبعاد. أما الزمن "حياتنا كلها" فهو مجموعة هذه اللحظات كلها منذ المولد حتى الوفاة.
من هذا نستنتج أن الفرق بين فكرة بريستلي ودنّ عن الزمن، والفكرة الشائعة عنه، يقوم على أن بريستلي ودنّ يعتقدان أن حركة الزمن أشبه بحركة الموجة تسير صعوداً وهبوطاً حتى تبلغ مقرها الأخير. ونحن على هذه الموجة أشبه ببجعات صغيرة تصعد وتهبط معها، وقد اعتدنا أن نسمي قمة الصعود بالسعادة وقرار الهبوط بالألم، ومن ثم نمضي في صعود وهبوط دائمين، دون أن نستطيع أن نقول: "نحن على القمة" أو "نحن في القرار"، لأن هذا القول ليس إلا نظرة ذات ثلاثة أبعاد لما هو ذو أربعة أبعاد، وهو الموجة النشيطة المتحركة التي لا يمكن أن تسمى موجة حتى تتجرد من حركتها.
وقد أخذ "آلان كونوي" على أخته "كي" أنها تجرد الحياة من بعدها الرابع، وبذلك تجردها من الأمل والجمال وتملأها يأساً وذلك وحده هو المسؤول عن شعورها بأن آل كونوي الشبان المرحين قد ذهبوا إلى الأبد؛ ذلك أن الماضي والحاضر والمستقبل عند "آلان"، تملك كياناً خارجياً مفصولاً عنا، وتعيش كاملة في لحظات الزمن كلها؛ وبريستلي يشبه هذا الكيان المستقل بالمحطات، ويشبهنا نحن بالقطار، والمحطة السابقة التي غادرناها أمس لم تمسح من الوجود حين غادرناها، وإنما لاتزال قائمة تملأها ضجة الموظفين وحقائب الركاب فكذلك الماضي الذي خلفناه لم يزل حياً، نشيطاً في مكانه، ومثله المستقبل فهو المحطة التي لن نصل إليها بعد، وهي كذلك قائمة، وليس من المعقول أن تخلق في لحظة وصولنا إليها.
على هذه الفكرة الأخيرة بنى الكاتب الإنكليزي الكبير هـ. ج. ويلز قصته الخيالية "آلة الزمن" (The Time Machine)، وقد ذهب فيها إلى أبعد مما ذهب بريستلي ولاشك، فجعل بطل القصة يخترع (آلة) تتحرك في الزمن، فإذا ضغط على بعض أزرارها انطلقت به كما يريد إلى أعماق الماضي، أو آفاق المستقبل. إلا أن غرض ويلز لم يكن ذا علاقة بالزمن، فقد كان الهدف الأول للقصة فيما يبدو أن تدرس المصير الذي ينتظر الوجود، نتيجة لانقسام المجتمع البشري اليوم إلى طبقتين اجتماعيتين تكدح إحداهما من أجل راحة الأخرى.

الكتاب، س6، ج3، مج10، القاهرة، مارس 1951.