الشعر والموت

بقلم الآنسة نازك الملائكة (بغداد)

نازك الملائكة

لعلّ كل متتبع للشعر المعاصر يتذكر تلك الهتافة المتحشرجة الخصبة التي أرسلها أبو القاسم الشابي وهو ينازع في أيام احتضاره الأخيرة:
               جفّ سحر الحياة يا قلبي الباكي
               فهيا نجرّب الموت هيّا
فهذا بيت يلفت النظر بما يتخذه من موقف تجاه الموت يخالف الموقف المعتاد للمحتضرين، فهو بدلا من أن يعرض استسلام الشاعر لهذا الفناء الذي لا بدّ منه، يصوره لنا وكأنه يقبل عليه باختياره في لهفة وشوق. ولفظة "نجرّب" عميقة الدلالة هنا لما تتضمنه من إيجابية وقوة، وذلك لأن التجربة فعالية إرادية يقوم بها الإنسان واعياً، وهي بهذا تختلف اختلافاً جوهرياً عن الموت الذي هو استسلام سالب لا مفرّ منه لعوامل الانحلال والسكون. فإذا كان أبو القاسم قد سمّى رحلته إلى هذا العالم " تجربة "، فهو إنما يضع أيدينا بهذه اللفظة على موقفه من الموت وبالتالي على موقفه من الحياة.
وقد كانت تجربة الموت تملك بالنسبة للشابي كل ما تملكه التجارب الحيوية من متعة مبهمة وغموض مغر، وفي وسعنا أن نتثبت من هذا من بمراجعة لقصائده حيث نجده يذكر الموت عندما يتحدّث عن الجمال والحياة والشباب والأمل والربيع. ونموذج هذا قوله في قصيدة "تحت الغصون":
         فلمن كنت تنشدين؟ فقالت للضياء البنفسجيّ الحزين
        للشباب السكران، للأمل المعبود، لليأس، للأسى، للمنون.
فقد جمع في البيت الثاني الشباب والأمل واليأس والأسى و (الموت) في سياق واحد، هو سياق الفناء والسكر بالحياة الكاملة التي لا يتم جمالها في نظر الشابي إلا باجتماع الفرح والألم والحركة والسكون فيها. وهذا هو التفسير لما قد يلوح غريباً من أن الشاعر يجعل حبيبته تذكر الموت في اللحظة التي اكتملت فيها سعادتهما، ذلك أنه كان يؤمن بأن الحياة العميقة الكاملة لا تصل قمتها من الإدراك والوعي حتى تندغم بالموت، وتفهمه فهماً جمالياً خالصاً. وقد كان جزءٌ من جمال حبيبته أنها تشاركه هذا الإيمان، كما كان الاعتقاد عينه هو الذي قوّى (بروميثيوس) على احتمال آلامه الجسيمة الرهيبة، ولذلك جعله الشاعر يرى في الموت "ذوباناً في فجر الجمال".
إن مظاهر عشق الشابي للموت تنتشر عبر شعره، ... هاك مثلاً هذه اللوحة الباذخة التي يرسمها لموته في قصيدة "النبيّ المجهول":
      ثم تحت الصنوبر الناضر الحلو تخطّ السيول حفرة رمسي
      وتظل الطيور تلغو على قبري ويشدو النسيم فوقـي بهمس
      وتظل الفصـول تمشي حواليّ كما كـنّ في غـضـارة أمس
في هذه الأبيات تخلو تجربة الموت من المرارة الرهيبة، فالشابي يذكرها في هدوء حالم، وكأنها ستقوده إلى عوالم خفيّة مسحورة يشتاق إلى أن يجوبها. وهذا عين ما نستطيع استخلاصه من القصيدة المشهورة "الصباح الجديد"، فالأبيات الأخيرة فيها تذكرنا بحرارة الفرحة التي تنبثق في قلب غلام حالم يعبد البحر، وقد أتيح له أخيراً أن يبحر في سفينة شراعية بيضاء ذات صباح دافئ ربيعيّ الشمس.
هذا الموقع الذي يقفه الشاعر من الموت يعيد إلى الذاكرة موقف الشاعر الانكليزي العذب جون كيتس John keats الذي يمكن أن نسميه شاعر الموت المفتون الأكبر. فهو يقول في إحدى قصائده: "الشعر والمجد والجمال أشياء عميقة حقاً. ولكنّ الموت أعمق. الموت مكافأة الحياة الكبرى". ويهتف في قصيدة مشهورة: "كنتُ نصف عاشق للموت المريح، وناديته بأسماء عذبة في أناشيد عديدة". ثم يضيف بيتين: "الآن أكثرَ من أي وقت آخر، يبدو لي أن من الخصوبة أن أموت". ويدل كيتس على جنونه بالموت حتى دون أن يتحدث عنه مباشرة ويكفي أن نشير مثلاً إلى قوله في إحدى مطولاته: "كان هناك موت حيّ في كل انبجاسة من النغم".
ذلك أنه يصف هنا الحياة بالموت دون أن يلوح له هذا متناقضاً على الاطلاق. والحق أننا نشعر أن الألفاظ "أموت. موت. ميّت" كانت تسكر حسّ كيتس وتبدو له متفجرة بالجمال كما يلوح من هذه العبارات التي نقطفها من قصائده:


"مولد أزهار غير منظورة، وحياتها، وموتها في سكينة عميقة".
"قال هذا وخطا بخفة، في لون من المـرح المملـوء بالمـوت".
إنها تعيش مع الجمال، الجمال الذي يجب أن يمـوت".
"إلى بعض الأرواح المنفردة التي استطاعت أن تبعثر شبابها في الغناء وتموت".

وثمة شاعر ثالث وقف الموقف عينه من الموت، هو محمد الهمشريّ (ذلك الشاعر الموهوب الذي كان موته خسارة شعرية كبيرة رزئ بها الأدب العربي الحديث). إن إحساس هذا الشاعر بالموت أكثر تميزاً منه عند الشابي مثلاً، حتى يكاد يقرب من كيتس، وكأن أي حادث يرتبط بإحساسه لابد أن يذكره بالموت، وهكذا نجد أن سعادته بالرجوع إلى قريته في قصيدة "العودة" تعيد إلى ذهنه ذكرى القمة العليا للحياة التي يبلغها الإنسان بالموت:

               أمـوت قريـر العيـن فيــك منعّما
               يخدرني نفـح مـن المـرج عاطـر
               و يلحفنــي هـذا البنفسـج و لتكـن
               مسـارح عينيّ الربى و المخاضـر
               وآخر ما أصغي إليه من الصدى
               خريرك يفنى وهو في الموت سائر

ولعل هذه الأبيات تذكرنا باللوحة الجميلة التي رسمها أبو القاسم لقبره، فهنا نجد العطر والبنفسج وخرير الماء وشاعراً يموت سكران بالجمال، مخدراً بالعبير. هذه العذوبة التي يجدها الشاعر في تذكر ساعة الموت تعيد إلى الذاكرة قول كيتس في إحدى رسائله إلى صديقته فاني: "هناك أمران خصبا الجمال أحلم بهما: حبك وساعة موتي".
والهمشري لايقلّ عن كيتس تولهاً بالفناء، حتى أنه كتب ملحمة كاملة سمّاها "شاطئ الأعراف" وتحدث فيها عن رحلته الأولى بعد الموت نحو الحياة الأخرى. والقصيدة تكاد تكون أغنية حب موجهة إلى الموت لا أثر فيها للحسرة ولا للذكرى، وكأن الشاعر يلتذ بكل لحظة من لحظات موته إن صح التعبير.
أما الشاعر الانكليزي روبرت بروك Rupert Brooke الذي مات قتيلاً في الحرب العظمى، فإن حبه للموت لم يكن حبّ عشق كحب الشابي وكيتس والهمشري، وإنما كان حب صداقة، فكان خالياً من تلك الحدة الحسية التي لمسناها في شعر زملائه وسبب هذا في رأينا أن بروك لا يرى في الموت غرابة تجعله يبالغ في حبه فهو شيء اعتياديّ له ما للحياة من جمال وفيه ما فيها من إزعاج لا أكثر.
وقد ترك هذا الموقف أثره في شعر بروك الذي يتجه اتجاهاً يختلف عن اتجاهات الثلاثة الآخرين. فهو مثلاً يتحدث في إحدى قصائده عن "شاعر" ميّت لقي حبيبته في جهنم، فراحا يركضان عبر شوارع الجحيم سروراً باللقاء... ثم اكتشف فجأة أن عينيها فارغتان، وأحس مكان شفتيها القديمتين برودة ثلجية. وأدرك أخيراً أنهما ميتان كلاهما. وفي هدوء تام يتخيل بروك في قصيدة أخرى موت حبيبته والطقوس الرومانية التي ستقيمها أسرتها عند دفنها. ولا بد لنا أن ننبه هنا إلى أن هذا الموقف يخلو كليّاً من رغبة الإيذاء التي تدفع أحياناً بإنسان مهجور إلى أن يتخيل موت هاجره تشفيّاً أو إغاظة، فبروك يصف موت الفتاة لمجرد اللذة التي يجدها في وصف الحادث بصفته الإنسانية. والموت عنده حدث اعتياديّ لا يستدعي الجنون، وهذا أمر يجعل استعماله للانتقام والتشفي ضرباً من العبث المستحيل. وفي قصيدة ثالثة يتخيل بروك أنه قد مات، ولا يصحب تخيله هذا أي حزن، وإنما مقصد القصيدة أن تصف رعشة مفاجئة تسري بين الزملاء الموتى ويدرك الشاعر منها أن حبيبته ماتت ووافت علم العدم.
ألا يبدو من هذا كله أن الموت عند بروك يتجرد من فكرته المحزنة المخيفة تجرداً كاملاً فلا تبقى منه إلا الحقيقة العارية؟
وهذا يجعل موقفه منه مختلفاً عن الموقف المألوف بين الناس. فهؤلاء يجعلونه خاتمة، بينما يراه بروك في أكثر الأحيان بداية فنية لإمكانيات متعددة. وهذا يعيد إلى ذاكرتنا قصيدة كيتس الفذّة هايبيرون Hyperion وفيها نجد أبولو الإله الجديد لا يبلغ مرتبة الألوهة إلا بعد أن يموتdie into life وبهذا يكون الموت خطوة نحو الحياة الكبرى.
بعد هذا الاستعراض السريع لمظاهر الولع بالموت في شعر الهمشري والشابي وكيتس وبروك ... سنحاول أن نتساءل عن العلاقة المبكرة الممكنة بين هذا الولع الغريب بالموت، والوفاة المبكرة التي أردت الشعراء المذكورين وهم في غضارة الشباب قبل الثلاثين. وربما كان ممكناً أن يكمن بعض السر في حالة كيتس والشابي في مرض السلّ الذي ماتا به في سن السادسة والعشرين، فالمعروف أن هذا داءٌ عاطفيّ تصحبه أعراض من الحساسية والعذوبة وحدة الانفعال. غير أن الهمشري وبروك قد ماتا فجأة لأسباب عارضة، فتوفي الأول في عملية جراحية بسيطة أحسبها الزائدة الدودية، ومات الثاني قتيلاً خلال الحرب، وهذا يبعد أن يكون المرض هو السبب في حب الموت. فماذا نعلل هذه الظاهرة الغريبة؟ ولم كان هذا الحب الخصب للموت عند شعراء ماتوا في ريعان شبابهم؟ أكان الغرام بالموت يتصل بالوفاة المبكرة عن طريق الإيحاء على وجه؟ أم كان نتيجة لإدراك غامض للموت المبكر الذي ينتظر في زواية من زوايا المستقل القريب؟ لكي نصل إلى أجوبة هذه الأسئلة، سنلاحظ أولاً أن بين الشعراء الأربعة صفة مشتركة يملكونها جميعاً على شيء من التفاوت هي حدة الإحساس أو القدرة على الانفعال العنيف. وهذه صفة لا يملكها المتوسطون من الناس، ولعل هذا من حسن حظ الإنسانية، فالانفعال كما سنرى إسراف في الطاقة لا ترضاه الطبيعة. والحق أن الطبيعة تبغض الإسراف في الجهات كلها. وتعمل جاهدة على رد الحياة البشرية إلى الاعتدال الذي يضمن لها البقاء.
ومن السهل أن نمثل لهذا الإسراف في الانفعال بالإشارة إلى قصيدة "العاشق الأكبر" The Great Lover لبروك، وقد عدّ فيها الأشياء التي أحبها حباً شديداً على كثرتها، وسنعجب حين نجدها تشمل الصحون البيضاء، والأكواب، والغبار، والسطوح المبللة تحت ضوء الطريق، وأقواس قزح، ودخان الخشب المحترق، وقطرات المطر المختبئة في الأزهار الدافئة، ونعومة الأغطية، وخشونة الشفوف، والغيوم، والجمال اللاعاطفيّ الذي تملكه آلة ضخمة، ورائحة الثياب القديمة، والألم الجسمي وهو يتحول إلى الهدوء، والنوم، والأماكن العالية، وأشجار البلوط، وأشياء أخرى كثيرة غير هذه. وهذه أشياء منحها الشاعر كثيراً من الانفعال الذي يختزنه سواه من الناس للأحداث الكبيرة في الحياة. فالإنسان المتوسط يدرك في أعماقه أن هذا التبذير في الإحساس مضرّ بحياته، ومن ثم يبتعد عنه ويحرص على الاقتصاد في العاطفة.
وفي حالة الهمشري تجبهنا الحدّة العاطفية في تلك الصلاة الملتهبة التي أرسلها إلى "جتا الفاتنة" في عالمها اللامنظور، وتلوح لنا في وضوح ونحن نقرأ قصيدته البديعة في "النارنجة الذابلة". وكلا "جتا" و"النارنجة" رمالٌ منهارة لا يقيم عليها الإنسان المتوسط الحكيم سعادته، فالأولى وهمٌ مطلق والثانية مجرد نارنجة فانية.
وقد كانت انفعالية الشابي أكثر اتساعاً من انفعالية الهمشري حتى كادت العواطف تصبح عنده مرضاً ناهشاً، فعاش الشاعر يلهث وأتعبه الشعر حتى قتله. إن الشعر قد كان هو السلّ الأكبر في حياة هذا الشاعر المشتعل، ومن أجله عاش يتعذب بكل جمال يمر به، وإن كان عذابه لذيذاً.
أما كيتس فنحن نحتاج إلى أن نقف عنده وقفة أطول، فقد كان الانفعال بالنسبة إليه هو الموضوع وهو غاية الحياة كلها. وهذا يخالف الموقف الشائع الذي لا يرى في العواطف إلا عَرَضاً يصاحب الأحداث ويستحسن الإنسان المتوسط أن يتجنبه جهد الإمكان. ويكفي، لكي نشير إلى المكانة العميقة التي يحتلها الانفعال من حياة كيتس أن نقطف بيتين رائعين وردا في قصيدته انديميون Endymion. قال:
"أواه، هل وُجد قط ذلك الإنسان المنفرد الذي أحبَّ ولم تقتله الموسيقى؟".
إن المضمون الفكريّ الذي تنطوي عليه هذه الصرخة العاطفية الغنية بالمعاني هو أن اجتماع الانفراد والحب والموسيقى في حياة أي إنسان كفيل بأن يثير انفعاله إلى درجة قاتلة. غير أن كيتس كان يتحدث عن نفسه، وقد كان يدرك في مرارة أن الموسيقى لم تقتل من الناس كثيرين غيره.
والحق ان كيتس قد كان يملك قدرة خارقة على الانفعال يندر مثيلها حتى بين الشعراء والفنانين الكبار، وكأنه كان متجهاً بكيانه كله إلى أن يحترق ليكون شاعراً عظيماً. إن ألفاظه تنبجس بالعواطف الغريزة والإحساسات الحادة حتى يكاد القارئ المرهف المتذوق لا يقوى على أن يقرأ كثيراً من شعره في جلسة واحدة. وقد عالج كيتس قضية الانفعال في أساليب مختلفة في شعره، على نطاق عام حيناً، تفصيلي حيناً آخر. وأول ما يلفت نظرنا أن شخصياته في القصائد القصصية كانت كلها شخصيات مرهفة شديدة الحساسية تذهب في القدرة على الانفعال المركز إلى حدود بعيدة تكاد تصبح شاذة. وهكذا نجد أن "بورفيرو" و"مادلين" و"لاميا" و"ليسيوس" و"انديميون" و"سينثيا" و"ساترن" وغيرهم كانوا كلهم متوحشين في حبهم وكرههم وسخطهم ورضاهم، وقلما كانوا يعرفون الوسط. إنهم أناس يعيشون بعواطفهم ويأكلون قلوبهم.
وهكذا نجد انديميون Endymion في القصيدة الوحشية الجمال التي تحمل اسمه يغرم بسينثيا Cynthia غراماً عاصفاً لا مثيل له ويترك قلبه نهبة لكل جمال يحيط به مهما صغر، حتى يكاد يتعذب بحبه لأشياء مثل الفراشات وزنابق الماء وضربات قاطع الأخشاب في غابات لاتموس. أما قصيدة لاميا Lamia فهي تنتهي بمعانيها اللاشعورية المكتنزة إلى أن التفكير يقضي على الحياة عندما يحاول أن يقتل العاطفة: لقد كانت لاميا أفعى تحولت إلى فتاة جميلة بقدرة سحرية، غير أنها كانت مخلصة في حبها للطالب ليسيوس عاشق الشعر والفلسفة، فبنت له قصراً مسحوراً جدرانه من الموسيقى. وفي يوم الزواج، خلال دعوة صاخبة بالعطر والموسيقى والألوان يتدخل أبولونيوس أستاذ الفلسفة فيحدّق في لاميا تحديقة ثابتة طويلة تكشف عن حقيقتها الخيالية وتهدم الجدران الموسيقية للمنزل، وإذ ذاك تصرخ لاميا وتتلاشى. وإلى هنا يكون الموقف غير غريب بالنسية للقارئ، فماذا في أن يهدم الواقع الملموس خيالات من هذا النوع؟ غير أن النتيجة التي انتهى إليها ليسيوس هي الموضوع الهام بالنسبة لكيتس. ذلك أن ليسيوس قد مات حالاً عندما فقد حبيبته المسحورة، وسدىً حاول أبولونيوس إنقاذه. وقد كان هذا هو سرّ كيتس أيضاً...
هذه المبالغة في بذل القوى النفسية لا بد أن تؤدي بالشاعر إلى أن "يستنفد" قواه الروحية والشعورية في بضع سنين، ثم يقف لاهثاً فجأة ويضطر إلى أن يموت. فالانفعالية تشبه الاحتراق، لأنها تجعل الشاعر ضعيفاً تجاه مظاهر الحياة المحيطة به، فكل جمال يعصف بقلبه، وكل اتساق يملأ مشاعره بالحماسة الطافحة، وهذه حالة تصبح فيها قيمة الأشياء المحيطة بالشاعر أغلى من حياته نفسها.
وهكذا كان الانفعال أول طريق إلى الموت في حياة هؤلاء الشعراء، لأن رصيد الإنسان من الطاقة العاطفية محدود بحيث إذا بالغ في صرفه انتهى إلى "إفلاس" انفعالي مبكر. وهذا الإفلاس هو الباب المؤدي إلى الموت. ولنتخيل كيتس أو الشابي من دون انفعال. إنهما ولا شك يموتان ...
ولعل هذه الحقيقة تبيح لنا أن نعتقد أن هذا الولع الذي صبّه شعراؤنا على الموت كان يتضمن إدراكاً باطنياً سابقاً للخاتمة المبكرة، تسوقهم إليه ملاحظاتهم الخفية لانعدام التوازن بين المبذول من طاقتهم العاطفية والرصيد الكامل منها في كل حياة إنسانية. وكأن الواحد منهم كان يشعر بأنه يقتل نفسه شيئاً فشيئاً حينما يسرف في طاقة الانفعال.
ولا شك في أن هذا يلوح حماقة للمتوسطين من الناس وهم أغلبية البشر. غير أن منطق العبقرية إجمالاً ينسجم مع ما سمّاه نيتشه بالرغبة في الفناء للتفوق على الذات. وهي رغبة غير واعية لايد للشاعر الانفعالي فيها، لا بل إنه يسرف لكي يموت. وهو يمنح الأشياء كلها قيماً جمالية أعلى من القيم التي يمنحها إياها الفرد العاديّ، ويؤدي هذا "المنح" إلى الموت. ومن ثم يتكون في حياة الشاعر الانفعاليّ مثلث من القيم زواياه الثلاث هي الانفعال والشعر والموت. فالشاعر يحب الانفعال لأنه يؤدي إلى الشعر. على أنه يلاحظ أن الانفعال هو الموت لأن الأول طريق محتّم إلى الثاني،.. ومن ثم تبدأ مرحلة من الغرام بالموت نفسه تقابل الغرام بالشعر حتى تصبح الألفاظ الثلاثة في معنى واحد. إنها مرحلة يندعم فيها الطريق بالغاية التي تنتهي إليها في وحدة متينة لا انفصام لها.
وربما كان رأينا هذا محض "جولة" جبنا فيها جهة وحشية من جهات التعليل الأدبي. ولعل الموضوع يحتاج إلى أن نواجهه مرة أخرى...

الآداب، س3، ع7، تموز 1954