دور "المثقف" الآن وغدا!!

السيد نجم

ربما لو أمكننا تحديد ملامح صورة المثقف "العربي" الآن ـ أقول ربما ـ يمكننا أن نستشرف رؤية ما حول دوره.

الملاحظ أن المثقف في العالم العربي، على الأقل خلال القرنين الماضيين تحديدا، يقف في أي بقعة من الوطن الكبير على أرضية مشتركة، وملامح متماثلة هنا أو هناك. فلم يكن المثقف العربي معزولا عن العمل العام والحكومي أو السلطوي، بل يمكننا أن نلتقط تلك الأسماء التي تعد ضمن فئة المثقفين، ومنهم من كان سياسيا، أو رجل دين، أو أديبا ثم كان أيضا رجل علم.. حتى يمكننا أن نصفه أولا بصفته ثم نضيف إليها كلمتين (ومثقف واع). فقادة الحركات التحررية والنزعات الإصلاحية السياسية، كانوا كذلك.. "عبد الرحمن الكواكبي" صاحب كتاب "الاستبداد" عمل موظفا حكوميا (محافظ أو والى إقليم حلب)، يتبع السلطة في الشام، ومع ذلك يعد من المثقفين الرواد التنويريين. ولسنا بصدد التقييم السياسي حين نقول "محمد بن عبد الوهاب" قاد حركة سياسية فاعلة على أرضه سياسيا، بينما يعد صاحب رؤية ثقافية ما.. وهناك "محمد عبده" بدا مثقفا فقيها من خلال عمله كمفتى لمصر.. وغيرهم. ما أعنيه أن القائم على الأمور السلطوية غالبا ما كان ضمن المثقفين، أو من جهة أخرى.. الكثير من المثقفين نجحوا في أدوارهم التنويرية الفاعلة من خلال السلطة أو بواسطتها.

إلا أن الصورة الآن وبعد الحرب العالمية الثانية في القرن الماضي، وان تعاظمت في العقود الأخيرة من القرن العشرين وحتى الآن، وضحت الصورة وكأن المثقف لم يعد يملك ما يعارضه بحدة أو بوضوح. سقطت فكرة مواجهة المحتل بكل أشكاله، ولعله العالم الأول والرئيسي في فاعلية المثقف! ثم تضاءلت وخفتت الأهداف والشعارات الكبرى، أو الأهداف القومية، مثل "القومية العربية، والوحدة العربية". كما انسحبت الممارسة الديمقراطية بدراجات متفاوتة في البلدان العربية. وجاء الجيل المثقف الآن الذي يقول بتسييس الأديان (مسلم ومسيحي). وهناك ميلاد ملامح وضغوط النظام العالمي الجديد، حيث أكدت الرأسمالية على دور الفرد ولم يعد هناك بديلا عن هيمنة قطب عالمي وحيد "الولايات المتحدة الأمريكية"، بعد أن سقط الاتحاد السوفييتي.

لعل الإشارات السابقة، عنيت بالرؤية العامة، أما الرؤية الخاصة بكل مثقف "كفرد في مجتمع"، يمكن النظر إليه بالنظر إلى معاناة الفرد العادي واللهاث نحو لقمة العيش، والضيق بهيمنة المؤسسات الحكومية الثقافية، التي تعتمد على فكرة التوازنات في أفضل أحوالها كرؤية سياسية، حتى إذا جاء مثقف بفكر خارج الجماعة، يعد من الشطط والانحراف البياني. ربما حالة "د. نصر أبوزيد" صورة عملية (حتى وان اختلفنا معه في بعض ما انتهى إليه، هذه قضية أخرى). يكفى الإشارة إلى غلبة فكر الدين السياسي، في الشارع العربي الآن، نظرا للفطرة الدينية للأفراد، ونظرا لفاعلية أصحاب تلك التوجهات إلى العمل على توفير ضرورات الحياة للأفراد: سواء في الطعام والشراب، أو التعليم أو الصحة.. وغيرها. بينما الحكومات تعانى من ضيق ذات اليد (الفساد)! ما دور المثقف الآن إذن؟

ومع ذلك يبقى للمثقف الواعي دوره، على المستوى الفردي/ والمستوى الجمعي. لعلني ممن يقتنعون بأساسيات نظرية "الانتخاب الثقافي"، حيث يعرض صاحبها "أجنر فوج" أستاذ الانثروبولوجى في جامعة "كوبنهاجن"، التي تؤكد أن الثقافة يمكن أن تتطور في اتجاهات مختلفة تبعا لظروفها الحياتية أو المجتمعية. وتتميز بقدرتها على تفسير السلوك العفوي أو اللاعقلاني الذي تزخر به كافة المجتمعات. كما تركز على أهمية تجارب الانتخاب الصغرى وصراعات القوى والظواهر اللاعقلانية، ودورها في التطور الاجتماعي.

بمعنى مباشر، أن قيام المثقف بدوره التثقيفي مجردا وعن قناعة، كفيل أن يفعل بناء على فكرة التراكم والتوليد أو التكاثر، أن يضع لبنة في بناء مجتمعي معقد، تنمو وتبرز الثقافة فيه من خلال: ظواهر يمكن أن تنتشر داخل المجتمع، مثل الشعيرة الدينية أو أسلوب في الفن أو طريقة في الصيد. وهى تعتمد على ثلاث عمليات:

أولا: أن تنشأ الظاهرة (وهى محاولات المثقف وتوجهاته)، وهو المعروف بالإبداع أو التجديد. في كل مجالات الإبداع والتجديد.

ثانيا: ثم تأتى عملية انتشار الظاهرة من فرد إلى آخر، أو من جماعة إلى أخرى، وهو ما يعرف بالنقل أو المحاكاة أو التكاثر. وهو ما يلزم معه ضرورة استمرار العملية الإبداعية/ والتجديد، والاستفادة بمعطيات الثورة التكنولوجية الجديدة.

ثالثا: عملية الانتخاب، والمقصود هو أي آلية أو عامل مؤثر في انتشار الظاهرة من حيث الكثرة أو القلة.. وأكثرها شيوعا الاختيار الواعي من جانب البشر.. وهى نتيجة التفاعل.

وبتلك الآليات لن يشعر المثقف إذن بالضلال أو التيه، فهو قدر المثقف أن يسعى، فكل معطيات الإبداع والابتكار والفكر الجديد المتنور قادرة على التفاعل والتكاثر والنماء.. بشروط مجتمعية هامة: النهوض بالتعليم وتوفير كافة السبل لتحقيق خطة المجتمع وطموحاته (والتجربة الكورية الجنوبية وماليزيا شاهد على ذلك).. وأيضا تفعيل معطيات ثورة الاتصالات والمعلوماتية في الأطر الصحيحة.. المناخ الديمقراطي القادر على تفعيل "الجمعيات الثقافية، والمؤسسات الثقافية الخاصة، ضمن منظمة مجتمعية تؤمن بالرأي والرأي الآخر".. وأخيرا "تسييس الثقافة" بمعنى إدراج برنامج ثقافي شامل للأحزاب والتجمعات السياسية، يرعى احتياجات المواطن من جهة، والبحث برؤية مستقبلية من جهة أخرى.

والآن ليس على المثقف سوى المحاول ومداومة العمل، مهما بدت الغيوم كثيفة!! 


باحث من مصر
Ab_negm@yahoo. com