سُؤالُ المُثَقَّفِ بَيْنَ مِطْرَقَةِ السُّلْطَةِ وسِنْدانِ الثَّقَافَةِ

شهادة

مصطفى ملح


     لقد تمّ التّراجع عن مفهوم المثقف العضوي بالمفهوم الاجتماعي الغرامشي، الذي كان يوجّه أسئلته الفكرية لقيادة الحملة تلو الأحرى ضد القبح والطبقية واغتصاب حقوق الكائن. كان المثقف واحدا من دعاة الديمقراطية والمناصرين لحقوق الإنسان والحالمين بالفعل والقوّة بمجتمع الإخاء والمساواة، حينما كان صوته مسموعا وقلمه منغمسا في وجدان الجماهير وكيانه جزء لا يتجزأ من المحيط الذي ينتمي إليه. كان الهزار الصداح بلسان الناس، والقربان المرفوع لأجلهم، والزعيم الذي يقود بالرّيشة والقلم والقيثارة والقصّة والدّراسة والبيان، يقود حماسهم إلى جهة الفعل المنظم داخل قلب المجتمع، وكان قلبهم النّابض الذي يمشي عوضا عنهم في المظاهرات ويأتمر بأمرهم في المؤتمرات ويدافع عن حقهم الطبيعي في حصّة الأوكسجين وقطعة الخبز المغمّس في بياض الحرية.

فماذا حدث الآن؟ وكيف انقلبت الموازين واختلت إيقاعات الحياة؟!

لقد انحسر دور المثقف، بلا مراء، لأسباب سنلامس بعضها، لاحقا.

في العصر الجاهلي كان الشاعر فارس القبيلة ومزمارها الذي يوقظ حواسّها الباطنيّة. كانت ولادته حدثا تاريخية وعرسا رمزيّا. عند الإغريق كان الكاتب منتجا للحكمة، وملخّصا لخبرات الحياة المعقّدة، وكان بالتالي نصف إله يحارب لأجل إشراقة شموس الوعي والعقل. في العصور الوسطى كان رمزا لبناء الحضارة والمسؤول عن إقامة معمارها المجازي بما أتيح له من اطلاع على سرّ العقل وملامسة جوهره.

ووقوفا عند منتصف القرن العشرين يتّضح بجلاء دور المثقف في التّغيير.

ولابدّ من تسجيل بعض ملامح العصر التي أتاحت للمثقف هذه المكانة وبوأته ذاك المركز:

ـ ارتفاع منسوب النّسغ الإيديولوجي وهيمنة الجدل الفكري.
ـ انقسام العالم إلى كثلتين متضادتين: غربية رأسمالية داعية إلى تحرير رأس المال وممجّدة للمبادرة الفردية، وشرقية اشتراكية طامجة إلى بناء (عالم) تنتفي فيه، بالتدريج، الفوارق بين فئات المجتمع.
ـ ظهور الفلسفات الشّمولية؛ تلك التي تتّسم بالنسقية والسّعي إلى الإجابة عن كل أسئلة الكائن.
ـ انشار الفكر الماركسي الذي كان يبدو أنه الأقرب إلى صياغة معادلات كامل: الانشغال بالسياسي (التّغيير) والفكري (تفسير وتأويل أحدات العالم وقراءة الحاضر على ضوء مُجريات الماضي) والفنّ (اقتراح نظرية أدبية اجتماعية ستتطوّر مع لوسيان كولدمان وبشكل أعمق مع جورج لوكاتش).
ـ ارتباط الفكر بالماهية والغائية واعتبار أي فكر ذاتي هو محض لغو واحتقار لانشغالات الجماهير.
ـ هيمنة مفهوم الالتزام؛ إذ لُزِمَ المثقف بالانخراط في قضايا محيطه بالقدر الذي يتيحه له موقعه.
ـ انتعاش المجتمع المدني بمختلف تلاوينه وإسهامه في إثراء الحياة الثقافية، يومئذ.

أما الآن، فإننّا، كما يعرق الدّاني والقاصي، نعيش عصر انتكاس الفلسفة وسقوط القطبين اللّذين كانا يخلقان نوعا من التوازن على مستوى ميزان القوى الدّولي، أمام ذيوع فكر وحيد شرس يدّعي القدرة على قيادة العالم إلى الجنّة/ الجحيم! ثم أن الدّولة، بمختلف مكوّناتها، لا تنظر إلى المثقف كفاعل أساسي في حقول إنتاجيّتها، بمعني إنها هي من قامت ببناء أكثر من سياج بينها وبين الإمكانيات الثرية المدهشة التي يمكن تقديمها واقتراحها، خاصّة وأنه بحكم موقعه ورؤيته الأكثر انتماء إلى جهة المحبّة والعدل والنّاس والشّمس يكون المهيّأ أكثر من غيرة في المساهمة في الدّفع بقاطرة التنمية الفكريّة والوجدانيّة للأمّة.

والدّولة، بأجهزتها الإعلامية ومنظورها الذي اتّضح أخيرا، تحصر (الثقافة) في مفهوم ضيّق، شوفينيّ، يعوزه الكثير من إعادة النّظر والتّعديل والمساءلة النّقديّة الجادّة. لقد أصبح مفهوم الثقافة يقتصر على بعض الأشكال الفولكلوريّة التّهريجيّة، وإحياء أنماطا للثقافة التّقليديّة نكاية بكل أفق للحداثة والتّقدّم، علما بأنّ تلك الأنماط، في معظمها، تنحاز إلى تمجيد الخرافة ومدح قيم الفساد وتعظيم الأولياء والتّمسّح بالأضرحة والتّغنّي بقيم السّفور والدّعارة... وكل هذا يتمّ تحت غطاء التّراث، والاهتمام بدخيرة الأجداد الفنية!

أضف إلى ذلك أنّ الإعلام، مرئيا ومسموعا ومقروءا، موجّهٌ بصورة تنسجم مع النيّة الجديدة للدّولة: نية إلغاء دور المثقف، وجعله ديكورا من لحم وعظم، نتذكّره فقط في أربعينيّة موته ونكيل له بعض المراثي! كان طبيعيّا والأمر كذلك أن (يخرج) المثقف، مؤقّتا ربّما، من زحمة الحياة الثقافية التي أصبحت محطّة إقصاء واغتيال لكل أزهار الجمال، بعدما كان يفترض فيها أن تكون محطّة استقطاب وزرع لديناميت التّغيير في حقولها الشّسيعة.

وهذا، ربّما قد يفسّر بعضا من الارتكاس، الواعي بالتّأكيد، الذي يعلنه مثقّف اليوم، حفاظا على ما تبقّى من ماء الوجه. وهكذا أثر هذا الوضع على الأدباء، صنّاع المشاعر في ورشة الجمال، إذ ارتكنوا إلى الذات يستنبطون منها أوكسيد الفضّة ويحفرون بإزميل حواسّهم الشّخصيّة صخرة الذات. إنّ المطّلع على الآثار الأدبيّة سوف لن يجد أدنى صعوبة في تأويل ما حصل: العودة إلى الذات؛ تلك التي فجّرت موقفين اثنين متناقضين:

ـ هناك من يرى أنّها مؤشّر على نكسة داخليّة وتخَلٍّ عن دور المثقّف في المشاركة حتّى ولو لم تكن الظروف ملائمة.
ـ وفريق ثانٍ يرى أن المثقف يحقّ له الانسجاب على اعتبار أن الانسحاب موقف ممّا يجري ورفض له، قاطع.

وبين الرّأيين، كليهما، يبقى الإشكال متأجّجا. ويبقى، في كل الأحوال، الاعتقاد سائدا بأن الأمّة لا يمكنها التّنقل في مدارج العمران بالمفهوم الخلدُوني دون إشراك ضمائرها الحيّة: مثقّفيها. 


شاعر من المغرب