المثقف بين اللاسلطة واللاثقافة

غالية خوجة

بلا شك إشكالية المثقف والثقافة والسلطة من أهم القضايا المحورية لحياتنا المعاصرة.. لماذا؟ لأنها القضية الأكثر حساسية والأشد دقة لتأسيس الإنسان والعالم والوجود الكينوني والحياة بكل تضاريسها النفسية والروحية والسلوكية الممتدة إلى المستقبل. تتعدد المفهومات وتختلف تبعاً للتصورات الواقعية والمحتملة لدى كل إنسان وطاقته المعرفية وتنشئته الحضارية الذاتية والموضوعية التي تكملها جماليات الأخلاق.

فمن هو المثقف؟ وما دوره؟ ما وظيفته الاجتماعية والتاريخية والثقافية والسياسية؟ بسؤال أدق: ما وظيفته الإنسانية؟ تعددت المفاهيم حول المثقف منذ الدلالة الأولى لحضور هذه الدالة لغوياً وزمنياً، ومع كل دورة للمعنى في الزمكانية يتبدل مفهوم هذه اللفظة تبعاً للوعي الذاتي والمجتمعي بأبعادها. وطبقاً للدلالات المسقطة عليها ضمن بنية إبستيمولوجية ما. فمثلاً كان الشاعر لسان القبيلة لأنه كان يمثل سلطة من نوع ما تاريخية ومجتمعية تشبه إلى حد معقول الوسائل الإعلامية المعاصرة. ومع مرور الوقت والتبدلات الأخرى انضم المثقف إلى هذه الوظيفة، واتسعت الاختصاصات بين مؤرخ وكاتب موثق ومستشرق ومستغرب والخ. ومع نمو الوعي الإنساني وابتعاده تدريجياً عما أسميه مراهقة الوعي وسذاجته، ظهر ما أسميه بالوعي المضاد القاصر.. كيف؟ ولماذا؟

للقارئ حين يعيد نظرته الفلاشباكية إلى الماضي ويستقرئ بنياته المتعددة بوعي مضاد ناقد وفاعل وموضوعي أن يكتشف كم مر زيف على التاريخ وكم تلاحقت أكاذيب التوثيق وكم نخر ذلك الحضارة القديمة. وأغلب الذين سجلوا، وما زالوا، نتبين أنهم سجلوا ما يريدونه من وجهة نظرهم، أو ما يريده الآخر كائناً من كان هذا الآخر: سلطة أم مصلحة ذاتية أم مآرب أخرى، بعيداً عن المصداقية الواقعية المقبولة. وقلة هم أولئك الذين انتهجوا المصداقية الرؤيوية والفعلية في مواقفهم وقيمهم ومبادئهم وقناعاتهم وحياتهم.. وأظننا لسنا بعيدين جداً ـ والبعد هنا مسافة زمنية في عمر الكون أو مسافة ميتافيزيقية غير منفصلة ـ عن الفيلسوف سقراط وطريقة موته التي فضّل فيها الموت بالسم كي لا يفقد الضوء ويموت في عتمتين! ولسنا بعيدين عن حادثة الحلاج وموته مسلوخاً، وقد نكون قريبين من أحداث معاصرة لا تختلف كثيراً عن تلك النهايتين، بل قد تكون أشد مأساوية منهما كونها تموت كل ثانية أكثر من ستين مرة موتاً روحياً ومعنوياً يختتمها الموت الفيزيقي عادة.

على هذه المقدمة السريعة، وعلى هذه الإيقاعية من المقايسة المختزلة، أستطيع القول بكل تأكيد بأن المثقف ليس هو ذاك الإنسان المتعلم الببغائي، وليس ذلك القارئ الحافظ، وليس ذاك الكاتب الذي امتهن الكتابة بشكل أو بآخر لغايات لا تمت للكتابة بالأصل، وليس هو النجم الذي ترصعه الوسائل والوسائط والوساطات والمخاتلات وأطياف النفاق.. وليس هو من يلتقط المعلومات مشافهة بين مقهى وإذاعة وندوات وتلفاز وصحافة، وليس، وليس.

المثقف إنسان واع بحركة الأزل والأبد والمتغيرات السابقة لهما، وما بينهما، إضافة إلى وعيه بالمتغيرات اللاحقة لهما، واع بدوره الإنساني في دينامية هذه الحركية لينجز ما يستطيعه من ضوء في هذه المتغيرات التي كلما تنزح إلى الظلمة يدفع روحه مقابل أن يترك في مجراها لحظة من إشعاع لا ينطفئ، ولذلك هو لا يفعل مثل الآخرين العابرين الذين لا يرون الليل ويتجاهلون النهار، ولا يرون النهار ويعمون ويعمهون في الليل!

برأيي، قبل الحديث عن السلطة، علينا أن نتساءل: أين هو المثقف الحقيقي؟ وما سلطته؟ ولماذا تخلّى عن رسالته وليس عن وظيفته؟ بلا شك هناك طاقات مثقفة حقيقية مشتتة في الزمان والمكان، تتداعى إلى عزلتها لتحافظ على نقائها وهذا أضعف الإيمان لكنه ليس الأجدى حتماً.. وليس بالضرورة أن يؤدي الخروج من العزلة إلى الصدامات اللا منطقية مع الواقع والمجتمع والسلطة، فعصور الثورة والتمرد والعصيان مضت إلى غير رجعة. وعلى المثقف أن يمتلك أسلوباً إبداعياً في التعامل مع الآخرين للوصول بهم ومعهم إلى الأفضل. ولن يتم ذلك ما لم يع المثقف رسالته وكيفية إيصالها والمسؤولية المترتبة على هذه السلوكات المثقفة بالرؤيا والقائمة على ثقافة وحضارة إنسانية بدأت منذ اللحظة الأولى للانفجار الكوني وحضور الأرض في مدارها، والنجوم والكواكب في سماءاتها، ومن موشور آخر للرؤيا، تمتد هذه السلوكات بالمثاقفة لآلاف السنين القادمة أيضاً. وعجبي من إنسان يسمونه مثقفاً وهو متعدد الأمية سواء في العلوم والمعارف والآداب والتاريخ والتكنولوجيا، أم في وعيه لتأسيس ذاكرة ثقافية، حضارية، وإنسانية قادمة.

سابقاً، كان الشاعر العربي موسوعة متنقلة. واليوم، المثقف هو جهل أميّ وتخلف مسرطن متنقل! نراه بلا موقف حتى تجاه ذاته، فكيف سنطالبه بموقف تجاه العالم؟ إنه مصاب بشيزوفرانية عنقودية، يقول ما لا يفعل، ينظر ويكتب ويتفلسف دون أدنى قناعة فيما يقوله أو يكتبه.. مثلاً: هو مع المرأة، مع الحداثة، مع العدالة، مع المساواة، مع كل المبادئ الجميلة، لكنه أول من يسيء إلى المرأة فيعتبرها كائناً متخلفاً عقلياً، ناضجاً جسدياً، معوقاً لا يستحق أن يكون في مكانه المناسب لكفاءاته العقلية والإبداعية لا في المجلة ولا في السلطة ولا في الاقتصاد ولا في. وأول ما سيخطر للرجل المثقف حين يلتقي امرأة ليست زوجته (الفراش). ونادراً ما نرى إنساناً مثقفاً يحترم طريقة تفكيرها المتناسبة مع طريقة حياتها. بشكل عام، رجلنا المثقف يدافع عن حقوق المرأة ـ مثلاً ـ لكنه يقمع زوجته وابنته وأخته وأمه والمرأة الندية التي لا تقبل الانتقاص من إنسانيتها وعقلها! وبالمقابل، وبشكل عام، امرأتنا المثقفة، غالباً، ما ترث العقل الذكوري المجتمعي ابتداء من أمها وأبيها، فتفهم الحرية على أنها تحلل. وتضيع الإنسانية في تضارب المفاهيم إلا من رحم ربي وأيقن أن المثقف ذكراً كان أم أنثى يحمل رسالة تجاه نفسه أولاً، وتجاه الناس كافة، تالياً.

والسلطة هي من هذا المجتمع، وصدق القائل: "كما تكونوا يولى عليكم". ونادراً، ما تظهر سلطة مثقفة تعي دور الثقافة كمحرك مغير ومتغير يسبق السياسة. السياسة بلا ثقافة عدم، جهل، وظلم... والثقافة بلا ثقافة أشد خطراً من سياسة بلا ثقافة! وما دام ما نسميه تجاوزاً بـ (المثقف العربي) قد قبل بالتراجع والتخلف وتحقيق ما أمكن من المصالح الشخصية بأساليب ما أنزل الله بها من سلطان فهو غير مؤهل ـ بكل تأكيد ـ لتأدية أي دور، أو أي وظيفة، فما بالنا بالرسالة؟!

وبرأيي، السلطة الواعية المثقفة تتسع لكل تنوع حضاري غايته النقد الموضوعي للصالح العام، وليس لمآرب شخصية هدفها العدائية والضدية والاستيلاء على السلطة! ومن يؤيد هذه السلبية بحجة المعارضة من أجل المعارضة فقط فهو ضال وهدام... لماذا لأنه كالجاهل الذي يفعل بنفسه ما يفعله العدو بعدوه، فكيف إذا امتدت آثاره إلى الوطن والإنسان؟

أنا مع المثقف الواعي لدوره الإيجابي في التغيير والذي يبدأ من الحوار مع الذات، ومع الحوار مع الآخر، من خلال أنا وأنت وليس إما أنا وإما أنت! وهذا، بالتالي، ينتج شبكة علائقية جديدة للحوار مع الموروث الإنساني لغربلته والاستفادة من المضيء منه لبناء ذاكرة المستقبل... وهذه حداثة نهضوية بكيفية ما لا سيما إذا ارتكزت على الإنتلجنسيا العربية الطامحة إلى كل تغيير نحو الأفضل، المنتظرة لتلك الطاقات الفاعلة المشرقة بكل القيم الباذخة بالنور.

وللمبصر لهذه الأحوال المتشابكة بالعتمة أن يرى أقصر الطرق بين العتمتين طريق المرايا! كيف؟ على المثقف أن يقف أمام مرآة روحه، ونفسه، وفكره، وموروثه، ومجتمعه، ليكون على نفسه حسيباً، ثم ينتقد بكل نزاهة ما حدث ويحدث، ويعيد تفكيك البنية الحياتية والمفاهيم الفكرية والدلالية والإبداعية ليركّب الكون من جديد. وتركيبية الكون والحياة بكل مفاعيلها ومحتملاتها وميكانيزماتها وأبعادها المرئية واللا مرئية تحتاج إلى وعي بالمفهوم لكل من السلطة والثقافة.. فلا يجوز أن تكون السلطة متسلطة بطريقة الشخصية الملحمية جلجامش كما لا يمكن للثقافة أن تكون موظفة في التغيير المستقبلي حين تكون انكيدو مثلاً! ولا يمكن أن أقبل بمثقف يرضى لنفسه دور سيزيف، ولا أن يكون سارق النار.

على المثقف أن يكون النار والشعلة وخفايا الضوء اللا مرئي. وعليه أن يدير سلطة العقل بلا ديكتاتورية. أن نختلف برقيّ وحضارة وحوار يعني أن الثقافة سلطة، والسلطة ثقافة. أن تقدم ما يفيد الإنسانية يعني أنك مثقف سلطوي. أن تجيد فنيات الحوار وجماليات الإضافة للتجربة الإنسانية على الأرض يعني أنك مثقف وسلطة. وهكذا... علينا أن ننتج نقداً مثقفاً بنّاء لنكون في الاتجاهات المؤدية إلى متواليات النور والروح. حيث اللا فناء. ألا يكون المثقف، آنها، متصوفاً بطريقة مختلفة عن الثقافة والسلطة...؟ المثقف الحقيقي لا يريد سلطة من أجل السلطة، بل من أجل التحاور والتغيير... وهو لا يريد السلطة منفرداً، بل يريدها شريكاً مع الآخرين...، مع هؤلاء الذين ينتظرون منه الرسالة وأداءها وكيفية تركيب هذا الكون بدءاً من إشارات الاستفهام ولا انتهاء بإشارات التعجب وأسئلة الكينونة والحضور الأوسع والأشمل والأجمل في ذاكرة الإنسانية. وهذا لن يتم إلا إذا استقرأنا ما بناه أجدادنا كهوية حضارية استفاد منها الغرب أكثر منا، للأسف... كما لا بد من إعادة تقييم للمرحلة الهامشية التي تعيشها أمتنا، وبالتالي، مثقفونا، وسلطاتنا. وأذكر، هنا، ومن تجربتي، بأن السلطة في بعض بلداننا العربية تحاول التثاقف والنهوض تجاه الضوء قدر المستطاع. لكن الفساد الناخر الذي أفرز حتى بين المثقفين مثقفين سلطويين هم الذين يباعدون بين المثقف الحقيقي والسلطة الواعية وذلك بغية إنجاز أكبر فرص من المكاسب الذاتية!

لم يعد المثقف يثق بالمثقف.
لم تعد السلطة تثق بالسلطة.

ولابد من صحوة عاجلة، صحوة تفكيكية وتركيبية تعيد ترتيب الأصالة بحداثة، لتفتتح على الوعي الموجود وعيه اللا موجود، فتتفتح دالة المثقف والسلطة على دلالات الثقافة والسلطة بمفاهيمها الأشد نصاعة وصدقاً وحيوية وانفتاحاً على الآتي. ومتى أتقنّا كتابة المحذوفات بالمحذوفات نكون قد اقتربنا من المكتوب في اللا مكتوب، واستبصرنا: أين نحن؟ ماذا نريد؟ والأهم: كيف ننجز اللحظة وكأننا ننجز كل الأزمنة لنكون العولمة الإيجابية لا العولمة السالبة التي دمرت العالم. أثق بأننا قادرون على امتلاك الآتي فيما إذا استطعنا تجذير الحاضر.

أثق بأن المستقبل لأمتنا مثقفاً وسلطة فيما إذا وقفنا أمام المرايا وضافرْنا أرواحنا لنكوّن الكون من جديد. 


شاعرة سورية مقيمة في الإمارات
ghaliauae@yahoo.com