الثقافة.. المشروع المؤجل..

محمد زهير

لراهن الثقافة في العالم العربي اليوم تشعبات كثيرة، كل تشعب منها هو في حد ذاته مشكلة. فالثقافة بمعنى أعم هي مجموع القيم الرمزية والمادية المهندسة للذوات والمجتمعات. فهي لذلك قيم لصيقة بأي مجال من مجالات الحياة.. من ثمة فهي معيار مركزي لقياس التطور الذي لا يتراكم اطرادا دون جعل القضية الثقافية في صميم الانشغالات الحيوية للمجتمعات.. وهو ما لم يتحقق بعزم وحزم وتخطيط وتنفيذ في واقع العالم العربي، إذ ظلت مشاكل الثقافة تتفاقم لتعطي صورة غير مريحة عن هذا الواقع، من خلال وضع الثقافة فيه، حيث لم تتخلص السياسة وكل المؤسسات الأحادية النظرة، من اعتبار الثقافة مصدر إزعاج، خاصة حين تمارس دورها الحقيقي في المساءلة والنقد.

إن مؤسسة السلطة في العالم العربي، وفي أي موقع كانت، لا يهمها من الثقافة إلا ما يتجاوب معها، وليس ما هو ثقافي حقيقة. لذلك فهي لا تحرص على حماية الثقافة وتوفير شروط النماء لها، بل تتركها عرضة لمشاكل كثيرة، مادية ومعنوية، من مظاهرها اليوم اكتساح قيم الاستهلاك السطحية، والتشكيك في القيمة الثقافية الحقيقية، وتهميش صوتها أو إقصاؤه بأساليب كثيرة، لئلا يتموضع في مركز التأثير ويكون له مردود إيجابي في المجتمع والحياة. ومقابلة حال الثقافة بحال الرياضة والغناء المبذول ـ مثلا ـ تكشف عن مفارقة فادحة.

هذه الصورة المركزة جدا، تجعلنا أمام مشاكل منهجية مضاعفة حين نريد الاقتراب من الوضع الراهن للثقافة في العالم العربي، في شبكتها العلائقية مع مختلف السلط والمرجعيات. تبدأ هذه المشاكل من عتبة التحديد التقريبي لمفهوم المثقف ولمفهوم الثقافة، وتزداد استشكالا حين النظر إلى علاقة المثقف بالذات والزمان والتاريخ والمجتمع والسياسة والحياة وبالثقافة نفسها، في سياقاتها الكونية وفي شروط العالم العربي، الذي تجمعه التسمية وتفرقه الخلافات والتوترات، ويعتريه ما يعتريه من الاختلالات البنيوية الحائلة دون تخلصه من كبواته المتلاحقة.

إننا نجد أنفسنا في مواجهة مشاكل منهجية لا يمكن الغض عنها، حين البحث في مفهوم الثقافة والمثقف، ونجد أنفسنا كذلك أمام مشاكل أخرى، حين البحث في الشبكة العلائقية للثقافة ووظيفة المثقف، وما آلت إليه الثقافة راهنا في العالم العربي.

ننص على هذا للإشعار بأننا لا نستسهل الخوض في قضية عويصة شديدة التعقيد كقضية "سؤال المثقف بين ثقافة السلطة وسلطة الثقافة". ومن ثمة فإن ما نبديه في هذه المساهمة من رأي، ليس سوى مدخل للخوض في هذه القضية، التي تستحق فعلا تكثيف التداول بشأنها، أولا لأهميتها الفائقة، وثانيا لما يحيط بها في العالم العربي اليوم، من التباسات ومغالطات، إما بسبب محدودية الإدراك لتداعياتها، وإما بسبب التلبيس والمغالطة المقصودين من بعض الجهات، عند إثارتها، لكونها قضية صراع وتجاذب بين طرفين أو أكثر، ما دامت تتصل بالسلط المعنوية والمادية، ولا تتحرك بمعزل عنها.

إن أي تحديد لمفهوم المثقف يظل نسبيا لا يحيط بكل العناصر المؤطرة له، كيفما كان تمثلنا للمفهوم. لكننا لأجل التقريب الضروري الضابط للتناول، ولأجل التركيز الجامع بين المفهوم والوظيفة، ننص على أننا نقصد بالمثقف كل من يتوفر على رصيد معرفي وخبرة في مجال من مجالات العلم والفن والسياسة والاجتماع والحياة، مع ذكاء في التلقي والفهم والتصريف، وعمق إنساني هو أساس الثقافة وغايتها. فالثقافة دون عمق إنساني فاقدة لمعنى وجودها ومبرره، بل قد تكون في هذه الحالة عامل تخريب. وهذا ما يدعونا إلى الربط بين الثقافة وثقافة الثقافة، للتمييز بين ثقافة الفردانية والانتهاز والتبرير.. وبين الثقافة المتأصلة من ذات متجذرة في تربتها الإنسانية، فهي من ثمارها المتطلعة إلى قيم الحق والخير والجمال. فثقافة الثقافة عمق إنساني بالأساس، وبعد قيمي تشاركي. وهذا يعني أن المثقف ليس فقط من يتوفر على رصيد معرفي وخبرة عملية وقدرة على إنتاج القيم المادية والرمزية.. بل هو أيضا من يتوفر، في تلازم مع ذلك، على نزعة إنسانية هي عمق الثقافة الأصيل، والميثاق الأخلاقي الضمني بين المثقف والفضاء التداولي للثقافة.

هكذا تكون الثقافة معرفة نظرية، وخبرة عملية، وقدرة على الإنجاز، ووعيا مدركا، واختيارا إنسانيا مقاوما لكل سلط العسف والوصاية والنكوص، السلط المعيقة أو الحائلة دون حركية الإنسان المبدعة واختياراته المسؤولة الحرة. أعني أن ليس ثمة ثقافة إنسانية دون بعد نقدي مستفز لحوافز الحياة، منحاز إلى قيمها الأصيلة، التي يختل بدونها الوضع الإنساني وتختل شروط الحياة.

إن التجاذبات والصراعات بين الثقافة ومختلف السلط القسرية، التي لا تقبل إلا ما يطاوع توجهها ويتلاءم معه، مصدرها ليس الثقافة في حد ذاتها، بل ثقافة الثقافة. أي الثقافة حين تقوم على أرضية مبادئية، وتتوفر على عمق إنساني، فتنحو إلى المساءلة والنقد والمراجعة، أيا كان نوع إنتاج الثقافة وشكل تعبيرها وطبيعة ممارستها. وهو اختيار يجعل الثقافة عرضة لكثير من العسف والعنف اللذين قد يصدران حتى ممن تساند حقهم وتقاوم من أجل العدالة لهم. ومن صور العسف والعنف اللذين يطولان الثقافة في العالم العربي اليوم، تهميش الآداب والفنون والعلوم الإنسانية، والتهوين من شأنها، بزعم تعارضها مع ثقافة تكنولوجيا المعلومات والاتصال مثلا. وسأعود إلى هذا الزعم لاحقا.

ونحن حين ننظر إلى المثقف باعتباره حامل قيم يدافع عنها ويعمل على مداولتها وترسيخها، فإن نظرتنا تشمل كل تنوعات وأشكال الثقافة والمثقفين: فالكاتب الذي ينتج أعمالا راقية في أساليبها ومضامينها، والشاعر المبدع، والباحث الذي يستطيع تحقيق إضافته العلمية المفيدة لمسار البحث العلمي، والعالم الذي يفيد الإنسانية بعلمه، والاقتصادي المدبر بحس اجتماعي راق، والفنان الذي يرتقي بالذوق ويرهف الحس ويحفز إبداع المخيلة ويوسع من ضيق العالم، والسياسي غير الانتهازي المؤسسة مواقفه وسلوكاته على مبادئ الخير لصالح الجماعة.. كلهم مثقفون عضويون بمشاركاتهم التي تأتلف جميعا في دعم وإنتاج وتداول القيم الإنسانية الأصيلة، التي هي النواة والهدف.

والثقافة إنما تمتلك هويتها الإنسانية وجدارتها الثقافية بحرصها على تلك القيم. هذا هو الأساس والغاية، سواء كان مصدر الثقافة فردا أو جماعة، وسواء انتسب المثقف إلى مؤسسة أم لم ينتسب. فالقيمة الإنسانية هي الانتساب المشترك لكل المثقفين المنشغلين بها. والقيمة الإنسانية يختلف التعبير عنها باختلاف الخطابات وأشكال التعبير الثقافية. ففي الأدب مثلا، يدخل في مستغرق ثقافة الثقافة الحرص على الصيغة الفنية للتعبير الأدبي، أي يدخل ضمن القيمة الإنسانية شكل التعبير الفني عنها. لذلك فالارتقاء بالشكل التعبيري باعتباره قيمة جمالية، هو في صميمه ارتقاء بالقيمة الإنسانية، التي تختل باختلال التعبير الجمالي عنها. فمن شروط الحرص على القيمة الإنسانية الحرص على إجادة التعبير الفني عنها من رؤية المبدع الخاصة وإبداعيته المفارقة.

في مرحلة سابقة كان مجرد انحياز الأديب إلى القضية الإنسانية يضفي على خطابه قيمة تقديرية خاصة. لكن بعد ذلك انتبه إلى أهمية تثقيف خطابه بأن يوفر له كثافته الإبداعية النوعية، مستجيبا لمقتضيات الكتابة بما يضيف إليها. والوعي بمقتضيات الكتابة هو المعادل الرمزي للوعي بقضيتها الإنسانية، على أساس أن الارتقاء بالتعبير عن هذه الأخيرة، هو ارتقاء بالتعامل معها. والقيمة الجمالية في كل الأحوال، تقع في صميم القيمة الإنسانية ولا تنفصل عنها.

إن الخطاب الثقافي كلما وعى بخصوصياته الذاتية وبضرورة تحقيق مسافته الخاصة من القيم والمرجعيات السائدة ومن المتداول المألوف، إلا وأمكنه أن يتقدم أكثر. لكن وضعية هذا الخطاب في العالم العربي مسيجة بالكثير من الإرغامات التي تلخصها المفارقة ـ إن لم نقل التعارض ـ بين مطالب الثقافة وبين واقع شرطها الذي تكسرت في كيان كل حركاته النهضوية النصال على النصال، مما يجعل الثقافة في العالم العربي تستنزف الزمن في ترميم صدوعها التي ما فتئت تتجدد، بدل أن تنخرط بفاعلية في بناء الذات الجماعية، فتتقدم في سياق ذلك، في بناء نفسها وترتيب شروط زمنها الذي لم يجد بعد زمنه.

لقد صارت الثقافة، وعلى وجه الخصوص ثقافة الآداب والعلوم الإنسانية والفنون، مهمشة اليوم مغضوض من شأنها بمزاعم تعارضها مع ثقافة تكنولوجيا المعلومات والاتصال مثلا، وكأن هذه الثقافة الأخيرة ليست من صلب الثقافة وأدواتها، التي إنما تثمر نتائجها الإيجابية بتوظيفاتها المدروسة وفق المطالب الإنسانية. وكأن تكنولوجيا المعلومات والاتصال متعالية عن أي تأطير ثقافي، ومتعالية عن الإنسان مبدعها لأجل أن تستمثر في صالحه وليس بقصد استلابه وانتهاب جوهره. وكأن تكنلوجيا المعلومات والاتصال متعالية عن ثقافة الثقافة، مكتفية بنفسها نافية منافية لغيرها. بل وكأن العالم العربي انخرط فعلا في زمن هذه التكنولوجيا بعد أن اجتاز إليه من نهضة إلى أخرى!. إن مثل هذه المزاعم لا تزيد وضع الثقافة في العالم العربي إلا ارتباكا، بإظهار الثقافة ذات العمق الإنساني، متخلفة عن العصر غير منسجمة مع معطياته وقيمه. وهل نحتاج إلى تأكيد أن أي مجتمع لا يبني تطوره على أسس عميقة ما لم يهتم بالعلوم الإنسانية والآداب والفنون الراقية، اهتمامه بكل أشكال المعارف المنتجة للقيم الإنسانية والعاملة على تعضيدها ودمجها بنيويا في السلوك الثقافي للإنسان. إذ ليس ثمة مجتمع إنساني دون ثقافة إنسانية.

وحتى الآن لم تتح في العالم العربي، للثقافة فرصتها الفعلية الحقيقية لكي تبلور مشروعها المتكامل والمندمج في كل مجالات وبنيات المجتمع والحياة، ولكي تساهم بفعالية في المراجعة والنقد وإعادة البناء. وما دامت هذه القضية الأساسية الكبرى لم توضع في مركز الاهتمام، فلن ننخرط في مسار الزمان المتطور وحركيته التي تتحدانا بأن نكون أو لا نكون. وتلك هي القضية.  


قاص وناقد من المغرب