هنا يتناول الناقد المصري رواية محمد البساطي الأخيرة (الجوع) التي نشرت كاملة في العدد الخامس من (الكلمة) بالتحليل والكشف عن طبيعة بنيتها الدائرية.

دائرية البناء ورهافة السرد

في رواية (جوع) لمحمد البساطي

يسري عبدالله

يتسم المشروع السردي للكاتب محمد البساطي بزخم و رادة كبيرين، كاشفاً عن تنوع سردي خَلاق، وهذا ما يجعل تجربته السردية واحدة من أهم التجارب في مسيرة القص العربي لا لزخمها و تنوعها فحسب، بل لكونها أيضاً حاوية على مغامرة تقنية ورؤيوية متجددة. وفي روايته الأخيرة (جوع) لا يبتذل الكاتب عنوان روايته، ولا يتعاطى معه باعتباره كافياً وحده لتخليق حالة أولية من التعاطف (الزائف)، بل يستبر جوهر هذا الواقع (الآسن) محاولاً إعادة قراءته من جديد، ولذا فإنه يصدر الرواية بمقطع دال "ادخلوها بسلام  آمنين"، حيث تبرز المفارقة بين العنوان الكاشف، والمقطع المفارق/ الساخر، حيث لا يجد الداخل سوى "الجوع" كتيمة مركزية تتكئ عليها الرواية. يبدو الكاتب مسكوناً بالمكان، يملك قدرة التوظيف الدال له، واعياً بطبيعته، ولذا فهو يفرد له المقطع الممهد للنص، والذي يصبح بمثابة التقديمة الدرامية للرواية Exposition، حيث التوصيفات المتعددة للمكان المركزي في النص (بيت زغلول)، والمكتوب عليه المقطع المشار إليه (ادخلوها بسلام آمنين)، رغم الفاقة والبؤس الشديدين: "واجهة البيت من الطوب الأحمر ـ انتفخ أسفلها بسبب الرطوبة، وتساقطت بعض حجارتها ـ فجوات كبيرة جرى ترقيعها بالأسمنت ـ الباب من الخشب السميك، كتب على الحائط فوقه بفرشاة في لون أبيض.

ادخلوها بسلام آمنين"(1)

يتشكل النص من تنويعات/ حركات ثلاث (الزوج/ الزوجة/ الابن)؛ تتقاطع في مناحي متعددة، متجلية في طرح التيمة المركزية في النص، وكذلك في الشخوص المحورية بداخله (زغلول/ سكينة/ زاهر)، وصولاً إلى مشهد الرواية المركزي، والمكرور في مناطق عدة من الرواية: "كعادتها حين ينفد العيش من البيت تصحو سكينة في البكور و تقعد على المصطبة، .......، يلحق بها زوجها و الولدان و النعاس لم يفارقهما، كانا في الثانية عشرة و التاسعة، الصغير ـ رجب ـ يرمي بنفسه ورأسه على فخذها و يروح في النوم، الكبير ـ زاهر ـ يقرفص جنب حلق الباب و زوجها بالطرف الآخر من المصطبة يسلك أسنانه بعود قش."(2) ولعل هذا المشهد المركزي يكشف عن أمرين ـ في رأيي ـ أولهما وعي الكاتب بطبيعة البيئة التي يكتب عنها، حيث ثمة عالم رتيب يتغير ببطء شديد، وثانيهما إشارته من طرف خفي إلى زمنية السرد داخل الرواية، حيث يمكن أن نتعاطى مع هذا المشهد باعتباره نوعاً من الاسترجاع للمواقف السردية، حيث تبدو قعدة سكينة على المصطبة وكأنها نقطة الارتكاز التي يتحرك عبرها السارد الرئيسي Main narrator مستخدماً الفلاش باك Flash back، ومستعيداً ما حدث، وما يدعم هذا أننا لسنا بإزاء زمن تتابعي/ خطي في هذه الرواية، بل نحن أمام أبنية دائرية يتحرك في سياقها الشخوص.

*  *  *

في تنويعته الأولى (الزوج/ زغلول) نلحظ ثمة تحولاً درامياً مبرراً ـ في رأيي ـ في الشخصية المركزية في هذا الفصل/ التنويعة، حيث يصبح سماع (زغلول) لحوارات التلاميذ بمثابة نقطة التحول في شخصيته، ويكون هؤلاء التلاميذ ممثلين حينئذ لما يسمى بالشخصية الحافزة أو المحركة Catalyst Character، وهي تلك "الشخصية التي تحدث تغييرا أو تمزقا في الموقف الدرامي الراكد."(3) ثمة سارد رئيسي قابض على زمام الحكي في النص، مستخدماً ضمير الغائب الذي أتاح له قدرة الغوص في سيكولوجية الشخصيات التي يحكي عنها. حيث يلتقط الكاتب عائلة معدمة في الريف المصري، حيث ثمة شخوص يتضورون جوعاً (زغلول/ زاهر/ سكينة/ رجب)، أملاً في لحظة شبع مبتغاة غير أنها لا تحين، وإذا حانت فسرعان ما تنتهي، هذا هو المسار السردي الرئيسي في رواية البساطي، والذي تدعمه عدد من الحكايات الفرعية التي يضفر بها الكاتب روايته (حكاية سامية بنت خليل في التنويعة الأولى/ حكاية عبده الفران في الثانية) مثلاً.

في تنويعته الأولى (الزوج) تصبخ الإشارة إلى (الشخصية المركزية/ زغلول) ممهدة للحكي عنها، حيث يصف الكاتب شخوصه جيداً، فزغلول يعيش على هامش الريف، يبدو غير مكترث بما تعانيه أسرته من شظف العيش، غير أن تحولاً درامياً مبرراً يطرأ عليه، حين يتعرف على مجموعة من (المتعلمين)؛ حيث يقف على تخوم طرح الأسئلة، و نرى ثمة وعياً جديداً يتشكل، يكون من جرائه أن يصطدم زغلول بالحاج (رضوان)، فزغلول ينطلق من بكارة (السؤال)، ورضوان من رسوخ يقيني، يُقصي الآخر (زغلول) و يصادره، و بالفعل يضرب زغلول و يقطع جلبابه، و يخرج كسيراً: "جذبه الشيخ و كفه الممتلئة مرفوعة تتأهب لصفعه، بإصبعها الوسطى خاتم بفص كبير، سطع لحظة في ضوء الشمس و همست المرأة المليحة و كانت تقف بباب المحل:

ـ ذهب عيار 24 ـ لمعته ـ أعرفه و لو على بعد مترين.

فوجئ الشيخ بالجلباب ينشق بسهولة في يده، بدن زغلول العاري شديد الشحوب، وعظام صدره بارزة، و سرواله بلون الطين، دفعه الشيخ بعيداً عنه و عد لاهثاً على الدكة:

ـ الكافر ـ أنا ـ أنا إللي يتقال له الكلام ده.

كف الأخرون عن ضربه ـ أنفه ينزف، و رأسه به ورم في حجم البلحة وشفتاه منتفختان، وحول عينه كدمة حمراء."(4)

تبدأ التنويعة الثانية (الزوجة) بالمشهد المركزي نفسه (قعدة سكينة على المصطبة)، والذي يتلوه حدث سردي يدفع بالنص إلى الأمام، لنصبح أمام انتقال سردي دال، حيث يبدأ السارد الرئيسي في الحكي عن بيت الحاج (هاشم)، وما به من سر الخادمتين، وفي هذه التنويعة تتكشف مصائر الشخوص داخل الرواية، وتبدو شبكة العلاقات محكومة بالإخفاق، فالحاج (هاشم) يموت، مثلما مات من قبل الحاج (عبد الرحيم)، لينقطع خيط الأمل لهذه الأسرة المعدمة في إمكانية تجاوز محنة الجوع، لتعود إلى النقطة الأولى نفسها، وهذا ما يؤكد فكرة (الأبنية الدائرية) التي يتشكل منها النص، فلحظات (الشبع) مستعصية و(الجوع) يظل جاثماً على الأنفاس: "جاءت سكينة جرياً و خلفها الولدان، احتوت زغلول وكان ينتفض بين ذراعيها، ومشت به إلى حجرتهم، أرادت أن تعطيه كوب ماء فردها بيده، لم تصبر حتى يهدأ تماماً وذهبت إلى حجرة الحاج. غابت قليلاً ورجعت، نظر إليها مستفهماً، قالت:

ـ رحمة عليه."(5)

و بموت الحاج هاشم تنتهي التنويعة الثانية نهاية دالة، تختمها مقولة سكينة "كنا أكلنا لقمة قبل ما نخرج" ـ قبل الخروج من بيت الحاج هاشم بعد وفاته. ومثلما ابتدأ الفصل بسكينة انتهى بها، ففي البداية تجلس على (المصطبة)، و تبحث عما يسد الرمق، و في النهاية تتمنى لو أنهم أكلوا قبل الخروج من بيت الحاج هاشم بعد وفاته!!..

وفي التنويعة الثالثة (الابن)، يطل علينا مشهد الرواية المركزي منذ البداية، وفيها نرى الإشارة إلى (زاهر/ الابن) الباحث عن حل لأزمة الجوع، لتبدأ علاقة حميمة بين (زاهر/ الابن) و(عبده الفران) المتعاطف معه، حتى يصلا إلى اتفاق ضمني يأخذ بمقتضاه زاهر العيش (الكسر) كل أربعة أيام:  ـ تعال اكنس الفرن و املأ حجرك. دخل زاهر ـ فوجئ بالرجل الذي لم يره من قبل قصيراً محني الظهر، لحست النار ذراعه وجانباً من رقبته وحلمة أذنه، وأخلفت جلداً ميتاً ـ كان واقفاً أمام فوهة الفرن بسروال طويل وصديري، سحب جلباباً  ترك المقشة لزاهر، وقعد بالمدخل يدخن سيجارة. انتهى زاهر سريعاً، ووقف جنب طاولة العيش الكسر منتظراً، رمقه عبده الفران و قال.

ـ خد على قد ما تقدر.

ونهض ليساعده، فتح زاهر حجره على سعته، وغرف الرجل بكفيه مرات، وزاهر قال.

ـ كفاية ـ كده على الآخر."(6)

وفي هذا الفصل نلحظ توازياً بين نهوض زغلول من قعاده على المصطبة وحدوث أي بادرة تحول في حياتهم، فعندما يأتي زاهر بالعيش يخرج زغلول إلى العمل، وهذا فهم عميق لسيكولوجية الشخصية الروائية من قبل الكاتب. ولا يغفل السارد الرئيسي الغوص بداخل شخصياته الهامشية، متجاوزاً بها تقنية (البطل المساعد)، فعبده الفران ليس مجرد متعاطف مع (زاهر) بل نراه يقيم علاقة حميمة/ مدهشة مع (النار)، يؤنسن من خلالها (نار الفرن)، فهو "يعمل الليل و ينام مع طلعة الشمس، يجاور النار، يرمقها خلال فوهة الفرن، و يرى ألسنتها عندما تتراقص و تستقر، هما أصحاب- هو و النار.

ـ عمرك سمعت حاجة زي كده؟

ـ هو والنار.

ـ آه ـ هو وهي. ـ يطمئن لها و تطمئن له ـ حين تصدر فحيحاً يلتفت إليها، ويجدها تشكو من قطعة جذر رطبة وغليظة ترفض أن تشتعل، وتنفث دخاناً كثيفاً يكتم لهبها، ويمد حديدته ويسحب قطعة الجذر شديدة السواد، ويجدها استراحت، ويعود لهبها يرقص، وغناؤها يطقطق

ـ آه ـ بيقول كلام عجيب ـ قال النار بتغني."(7)

وكذلك تبرز شخصية (عبد الله) الذي يمثل (البطل المساعد) والذي يحتفظ بصداقة وطيدة مع (زاهر). وقد أجاد السارد الرئيسي حين جعل من عبد الله (طفلاً) رقيق البنية، حيث يسبغ عليه زاهر (الحماية) ـ في اتفاق مسكوت عنه ـ مما يدعم فكرة العلاقة بينهما رغم مغايرة الظرف الاجتماعي.

في (جوع) يبدو البساطي قابضاً على زمام نصه، مراوحاً بين الحكاية الأم/ الإطار، و الحكايات الفرعية التي تتناسل منها، صانعاً بنية روائية متجانسة، يعيد فيها قراءة الراهن بصورة مغايرة. هنا نرى حنكة الروائي الذي خَبُر هذا الفن و عركته التجربة الحياتية بتنوعاتها، لنصبح أمام رواية تعري المأساة و تعمقها، يبدو فيها البساطي مقتصداً في سرده، تحمل جمله وهجها الخاص، و شحناتها الحاوية لزخم فكري و عاطفي دال.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) - محمد البساطي: رواية ( جوع)،الناشر  مؤسسة أخبار اليوم، 2007، ص 5. 
(2) - المصدر السابق نفسه، ص 7. 
(3) - د.إبراهيم حمادة: معجم المصطلحات الدرامية والمسرحية (مرجع) مكتبة الأنجلو المصرية ط3- المصطلح رقم 313 ،  3 1994- ص156.               
(4) - رواية (جوع)، ص 38. 
(5) - المصدر السابق نفسه، ص 92. 
(6) - المصدر السابق نفسه، ص 98.   
(7) - المصدر السابق نفسه، ص 100.