ترقب القطار/ الحلم في هذه القصة للقاص السوداني يبعث ذكريات ضمتها تلك المحطة المهجورة. ويبدو العجوز حارسا على هذا الماضي الكامن فيها ومستشرفا التغيرات التي تحدث حولها.

محطة القطار المهجوره

أمير حمد

هناك موتيف متكرر في حياتي أكثر من حبي لألبرتين، يشبه بالأحرى الفجر في رباعية "فنتوي"التي تبشر بحلول الفجر السرمدي، وأقصد موتيف التذكر الذي لا يعدو أن يكون المادة الخام لعمل ... كوب الشاي، والأشجار التي يمكن رؤيتها أثناء التجول. *بروست (البحث عن الزمن الضائع)*

لابد أنني من تلك الطيور التي لا تعيش في موطنها" *رواية موسم الهجرة إلى الشمال* للطيب صالح.

طفق قرص الشمس يتوارى رويداً رويداً طي الشفق، فارتعش الأثير إثر نسمة تهادت من الشمال، وإنتعشت المحطة المهجورة كأنها أفاقت بعد سبات سنين على وقع هديرعجلات القطار:

ياقطار الشمال

ياقطار الجنوب

ياقطاراً صدئت بلون المحطه

نمت، استرحت أمام  البيوت.

إلى شيئ ما في قبة السماء، رفع غراب المحطة رأسه الأقرع، وقد تكوّم في زاوية بسقف غرفة ناظر المحطة، العجوز. لقد ظلاّ ينتظران أوبة الحياة سدى... طال الأمد بهما منذ أن بارح القطار والمسافرون هذه المحطة بلا أوبة، وتبعهم طاقمها العجيب: الناظر، وبائع التذاكر والمراقب، ما عدا العجوز والغراب الذي هبط منذ سنين على ا لسقف، فأدمن الوحشة والصمت حتى كاد أن ينسى النعيق، كما فقد العجوز إحساسه بالزمن وإقتصر على مجيئ القطار.بهدوء نهض العجوز من كرسيه قبالة منضدة خشبية، وإجتاز غرفته المتبعثر فيها، الزمن الرمادي وأشياء مهملة على الأرض، وخزينة ملابس عتيقه، و سرير خشبي إلى جوار كرسي خصصه للضيوف، لم يعهد لأحدهم زيارة بإستثناء ( الحسين )، الذي عكف على إتيانه بمؤوتته الشهرية، ومجاذبته الحديث، في همهمة، عن القطار، وأخبار الحياة بعيداً عن الوادي. بلا إنقطاع كانا يتحدثان ثم ما يلبثان إلى فيغيبان ثانيةً في ذكرياتهم عن القطار:

ياقطار الشمال،

ياقطار الجنوب،

ياقطاراً صدئت بلون المحطة

نمت، إسترحت أمام البيوت.

إنساب النسيم هادئاً، عبر المحطة المقفره، فاائتلفت أسارير العجوز لتتأرجح لائحة المناورة الصدئة، وتمايل جاروف مسند عليها. لكم تسائل عن جدواه، فالرمال لا تفتأ تترادف يوماً  إثر الآخر. لم يعر العجوز نعيق الغراب إنتباهاً، فقد كانت نظراته مشدودة إلى الشمال... حيث تهب نسمة الحياة، وإرهف أذنيه عسى أن يسمع هدير عجلات  القطار. في تلك اللحظة كانت الريح الخفيفة تدغدغ بانوراما الوادي بأشباح أشجار السيال المطوقة بمحطة القطار، ومضارب البدو التي تلوح في  الليل كمصابيح زيتية كابيه. لا يدري العجوز كم من الأعوام إنصرفت منذ أن كان يحث السير إليهم فيحدثونه عن أنباء الشمال، ويغدقونه (بالرطب)، ومواويلهم، ويعربون بين الفيتة والأخرى عن قلقهم من زحف المباني، والرمال، وتلاشي المراعي، وتمشيط السيارات لها، دونما إكتراث.... اللعنة لا أرى القطار، لقد تأخر كثيراً، لا شك أن اسماعيل وراء إحتجابه، بسبب سكره... " همس العجوز...... لو يدري كم من السنين إنصرمت على وفاة اسماعيل سائق القطار...

ياقطار الشمال،

ياقطار الجنوب،

ياقطاراً صدئت بلون المحطه،

نمت، استرحت أمام البيوت.

كان ا لعجوز، والحسين، والغراب، بمثابة الحياة نفسها، في هذا الوادي المقفر، أما البدو

فقد إنكفأوا على ذواتهم، ولم يعد يزورهم لهرمه. كان كعادته يرتب مهملات، ما يتعثر فوق

قدر مهمل أو يسيل الرمل على رأسه، من صدع  بالسقف " سيحل القطار، فأخنى على اسماعيل

بعصاتي، لكم حذرته من الشرب....". لا شيئ يفتقده هذا ا لعجوز فكلما أجهز الفراغ عليه

طفق يجلو الغبار عن المقاعد الشاغرة بصالة الإنتظار، ويرسم في مخيلته صف المسافرين،

والعمال. وباعة عصير الليمون وسط ضجيج أبواق السيارات، وغرف التذاكر، وتذمر الباعة:

فول بريال، بملاليم،.... مامن مشتر؟ كدسوا أموالكم ستكوون بها...".

إلى المحطة أو مومس المدينة" كما كان يصفها الحسين كان يتوافد كل ضروب المسافرين: العجزة والصبيان، والنساء والموظفين المبعوثين إلى تخوم الجنوب،  وعمال الشحن، والمزارعين المحملين بسلال البصل، والعرسان الذين يحلمون بقمرة خاصة  بهم، إثر أن يلفظ القطار أنفاسه الأخيره كمضاجع شارف الذروه، وتدحرج عجلاته مودعةً المحطة. لقد كان في حوزتهم دائماً مذياع، يتذرعون به في سماع الموسيقى والأنباء، إلا أنهم ـ والعهد على الحسين ـ كانوا يصطحبونه معهم، للتغطية على" آهات زوجاتهن لا سيما وأن الأمر رهين بفض البكارة....

يا قطار الشمال،

يا قطار الجنوب،

يا قطاراً صدئت، بلون المحطه،

نمت، استرحت أمام البيوت.

نحى العجوز السماور مِن النار، الموقدة بخشب السيال، وأخذ يحرك بملعقة خشبية، تثار الشاي والحبهان في طاسة بعد أن صب الماء الساخن فيها، بيد هرمة مرتعشة. " إذا جاوز حل الجبل، وقرية المسالمه، فلن يعتريه مطب آخر..." همس العجوز، فيما كان يحدق فيه الغراب الذي بدأ وكأنه يريد أن يشاركه شرب الشاي. لقد كانت تلك القرية المطلة عل الجبل، بقعة لحوادث حركة  مريبه، لتبوئها حافة الجبل، الأمر الذي أودى بحياة كثير من سائقي الشاحنات، و السيارات المخمورين. أما القطار فقد كان يمر بعيداً عن الحافة الجبلية، عبر طريق يُسر له بين الشعاب الجبليه، بعمليات تفجيرية، ظن القانطون أنها صدى لإنقلاب عسكري جديد، أطاح على عجل بحكومة سابقة، كما عهدوا دائماً.... ظل هذا القطار يجتاز القرى ا لمتناثره، وبعض المدن الأثريه فيتوقف ليلفظ المسافرين الضائقين ذرعاً بالحياة في ا لقرى، إلى خضم جديد. كانوا من المزارعين، الذين هجروا حقولهم لشح المطر، وإنحسار النهر فأمسى مايزرعونه من عشب للحيوان وفاكهة لا  تدر عليهم بما يكفلهم، وحيواناتهم. لكم تشابهت هذه القرى في مآسيها، وأفراحها إثر إجتياز القطار للوادي. كان الخريجون يندفعون إليه، جنباً إلى جنب المزارعين، والعاطلين عن العمل، وأصحاب الحرف ليحققوا أحلامهم بإرتياد المدن، والهجرة أبعد ما يكون. كان حلول  القطار بمثابة منعطف جديد في حياتهم ... يحل محملاً برسائل من الخليج، وأوروبا وأمريكا، وجزر نائية أشبه ما تكون

بالأساطير في تصورهم. يحل القطار ثم ينأى تاركاً خلفه  الريح وذراع الصحراء الممتد أبدا، مغطيا الأودية الأثريه، حتىيصعب على السواح تخيل أن هذه البقاع كانت قبل آلاف السنين، حاضرة عريقة لا تضاهيها حضارة أخرى. كان البعض يؤول إختفاء الحصون والأهرامات، والمعابد، بإنفجار  السد العالي.... طي قمرات القطار، ظلوا بتقاسمون طعامهم، ويتسامرون بذكرياتهم، وتطلعاتهم إلى رحم الغيب في المدن الكبرى... كان القطار يطوي قراهم في لحظات وجيزة، فيتذكرون عناء ايام بحالها يجهدون أنفسهم فيها لقطع تلك المسافة... ظل القطار يقذف بهم في أحضان المدن، فيأوبون، وقد تغيرت سحنتهم بالجد، والتنكر لما ألّفوه..... فيتكوم كل منهم في مقعده، دونما حديث مع الآخر، منفرداً بأكله، ومحلقاً في الأفق الذي يستاقه القطار، كأن لا أحد يعنيه بالقاطرة سوى ذاته، ذاته فحسب.

يا قطار الشمال،

يا قطار الجنوب،

يا قطاراً صدئت بلون المحطة،

نمت، استرحت أمام البيوت.

أخذ العجوز يجوب المحطة، بيده طاسة الشاي، مقلباً نظاته بين ا لغرف المقفره، والسور الدائري المشرف على السقوط، فيما عكفت الريح تسرح  الوادي الذي لاح طي الأف القمري خضماً ساكناً تتوزعه أشجار السيال كأشرعة تشارف الغرق. أحس العجوز بالحياة تتدفق رعشات في جسده.... مامن  ثمة روح تقاسمه نشوته البالغة إلا غراب المحطة المتقند حول نفسه، يكاد ينعق، إلا أنه يكتفي بترهل منقاره. لقد هرم العجوز وتخاذلت ساقاه عن حمله، فلم يعد تهمه مضارب البدو النائية عن المحطه، والدانية في الليل بنارها الخفيفه، ولا الأنغام المتسوله، التي كثيراً ما كان يعشق رؤيتها عند الغروب، مشرئبة

بأعناقها إلى أشجار السيال الهزيلة. "غيلان مسخت في هيئة أغنام " هكذا كان يصفها ... لقد كان منذ صباه مأهولاً بالخرافة، يتحرى كل سانحة ليثبت ما يتهيأه، من غرائب ... حتى أن ناظر المحطة، أوشك أن يسرحه من وظيفته، حينما ادعى بأنه رأى مخلوقاً في هيئة قرد، برأس حصان، معتمراً قبعة بين أذنين طويلتين، جالساً إلى منضدة الناظر، يدون تحت ضوء متقطع، ملاحظاته عن محطة القطار. إثر أن رشف آخر قطرة من الشاي، أكمل كديديان، نوبته الليليه، ودلف إلى غرفته، وأوقد مصباحاً زيتياً، فانحسرت الظلال الكثيفة إلى منتصف ا لجدران، وتراءت ملامح الأشياء كنشار على الأرض المعتمه... كان العجوز محيطاً بكل حفائر هذه  المحطة، يراها طي مخيلته، فيتقافز فوقها برشاقة، ودرية، لكأنه يراها في وضح النهار:  العلب الفارغة، قطع الحصير، ندف القطن المتناثره، الخشب المتآكل، وركوته النحاسيه... لكم كان يثمن من قدر هذه الأشياء المهملة، ويحتاط لها من مداهمة اللصوص... فيتلمس عكازته الغليظة إلى جانب مخدعه. بهدوء تمدد فوق سريره الخشبي، وقبل أن ينفث ضوء المصباح ويشعل ذاكرته لتؤانسه في الليل، نظر إلى كرسي الضيوف المقفر"، وتهيأ صوت هدير عجلات القطار" ....

يا قطار الشمال،

يا قطار الجنوب،

يا قطاراً صدئت بلون المحطة،

نمت، استرحت أمام البيوت.

كان اليوم الذي افتتح فيه ناء محطة القطار، قائظاً إزدادت فيه ألسنة القانطين طولاً من العطش وإحمرت مآفيهم. لاأحد يدري ماذا دهى الحسين" في ذاك اليوم، فقد أجرى لسانه البذيْ من جديد، ساخراً من سحنة القانطين التي إزدادت سواداً بفعل لسعات الشمس... كان يصرخ بأعلى صوته" هذه أعمالكم ياأولاد الكلب، تنسحب على لونكم، بنتنها..." انحسر الظل تحت الأرجل تماماً، وداخت الكلاب والأغنام حتى تقاعست عن الحركه، فبدت ككتل هامدة... أما الحسين فقد ظل يتحرك في خفة، لا يستشعر لحرارة الشمس اثراً... ويصرخ بصوته كالعادة، في سب الناس، والتشكي من أقداره اللعينة، بعدما فقد أبناءه الثلاثة.، اثنان قتلا في حرب الجنوب، وثالثهم تهاوت مكتبة الجامع العتيقة فوقه، فقضى نحبه تحت دفات  الكتب الصفراء. كان الأفق لهيباً في ذاك اليوم... حتى الغرف ما عادت تقي بسقفها الطيني الرطب، من ألسنة ا لشمس... وبدت الأشجار المتناثرة على الطرقات كظلال مطبوعة على الجدران... ما من نسمة تحركها. لاذ الناس بالنهر... فكانوا يقذفون بأنفسهم فيه وقد تناثرت الأسماك الميتة على الشاطئ  المتيبس، بفعل الجذر. عُرف ا لحسين بنحسه... حتى أن إبتهالاته إلى السماءكانت تأتي بمفعول مضاد... لذا تمنى القاطنون أن يبتهل هذه المره، إلى السماء فيدعو لوقف هطول المطر.... ! فربما تتجمع الغيوم، فيهطل.

تمادى الحسين في صياحه، وشتمه، حتى كان ا لناس يضعون أصابعهم في آذانهم لحدة صوته، و لعنه لهم "ياأولاد الكلب، لن يستجاب لكم.... بأيديكم تستمنون وتصافحون، وتدعون... أنتم ظهيرة الجنس في البصات المزدحمه... سواد بشرتكم من سواد أعمالكم هذه هي القيامه، في غير وقتها، لم تطق صبراً عليكم، فلتأخذكم دون رجعه... يامضاجعي الغلمان، وسارقي المخازن، والأسرار من ا لقلوب... قلوبكم هواء، وحديثكم خراء فلتأخذكم المدينة التي تحلمون بها بلا أوبه... فلتأخذكم مشرعة أبوابها كمومس محترفه... اللعنة ياأولاد الكلب".

من كل صوب تجمع القانطون ليشيدوا المحطة بلا مقابل، وأخذوا ينادون " بالنفير "، في  طرقات الحي. كانت الآمال التي عقدوها لحلول القطار، تزلل من وطأة العمل. تجمعوا من كل صوب مشمرين عن سواعدهم ، لحمل الطوب وجرار الماء... حتى النساء تجمعن بأيديهن الدفوف، يلهبهن بإيقاع حماسي فأثرن همة المرض والمسنين فطفق صرح المحطة يعلو رويداً رويداً كجني منفلت من قارورة سحرية... أخيراً حل القطار فإصطفوا على جانبي القضبان، وأتى البعض بطعام، ظاناً بأن القطار من الآكلين... كان لهدير عجلاته وقع سحري  في آذانهم، خلدوه في ألحانهم ورقصاتهم، لاسيما الفتيات فقد إبتكرن رقصة بإسمه، ووقعتها بأنفاسهن العطيره فيتمايسن، وتهتز نهودهن، ويتثنى الخصر كغصن ندى فيما  يدرن وجههن الخلاسيه الرائعه يميناً، ويساراً، ثم ما يلبثن فيستقرن في إتجاه الشمال.. .. " الشمال الحياة ".

حل القطار بآمال القانطين، محملاً بهبات الحقول والمنسوجات والجازولين، فانتعشت البقعه لفترة وجيزه تقاعس فيها المزارعون، وأصحاب الحرف عن أعمالهم. كانت الأيدي تشير دائماً إلى إتجاه القطار، ودخانه السامق في الأفق كأحلى ما يكون من أمنية تحتضنها بركة السماء. ذاع صيت المحطة فعشقها المدرسون الموفودون إلى تلك البقعة لا سيما أساتذة التاريخ واللغة العربية... وظلوا يروجون لها بالمقالات الطوال، لا يهمه عناء الكتابة في عمق ا لليل، فسحر المحطة تحت أشعة القمر وتبوؤها فضاءاً سعيداً مطوقاً بلون الرمال التبري كان أثمن ما يتقاضوه من ثمن.

فجأة إحتجب القطار، فإعترى القانطين ما يشبه يقظة من سبات عميق، وألفوا أنفسهم في العراء، إلا فئة ما إستطاعت  أن تنمو كنبت شيطاني...إثر يأس طويل حل القطار... حلّ ثانيةً، ولكنه محملاً بالجنود فحسب، فأيقن موظفو المحطه بأفولها فسرحوا أنفسهم من وظائفهم وتغرقوا في الإصقاع دونما أوبةً إلا العجوز، الذي غلبه الأمل بعودة القطار... لم يكن يهمه عودة القطار في حدّ ذاته أو المحطه... بقدر يحدو به الحنين إلى الحياة التي كانت تدب هناك، بالمسافرين: الأسود والأبيض وأسيل الخد، والمفصود، والبدو، والجنوبيين... كان العجوز يرقب الحياة هناك، عن كثب لاسيما الوادي المتعاظم بأشجاره المتناثره، والبدو، " وطاقم " المحطة العجيب الذي اختفى كسحالي الوادي. مامن ثمة روح الآن سواه وسط المحطة المقفره، ينسرب بينهما نهر ذكريات عتيقه. ربما ألف العجوز حياته هذه وأمست أوبة القطار محض حلم... إلا أنه لم يكن يحلم البته... يغمض عينه فيتراءى كل شيئ كلوحة بيضاء، دونما حدود... شاحبه تبدو ملامحه، شاحبة وهو نائم تحت ضوء القمر المنسل عبر النافذة، لقد تعود أن يعقد ساعديه فوق صدره، أو يضع يمناه على جبينه... لا يهمه في هذا الجسد النحيل إلا جبينه المرهق بالذكريات، التي أمست، بمثابة زاد يقتات منه، ويتقوى به على راهنه. ذكريات مموهه ماعدا القطار، والمحطة وأشياء ما تنقشع أساريرها في عمق الليل.

شق تباشير الفجر صوت محرك سيارة ما، وصرير كابحها مثيرة الغبار. إنتبه العجوز من نومه، وصدرت منه آه عميقه، ظاناً قدوم القطار، أخيراً. كالمخبول طفق يتقافز، متجهاً بجاروفه نحو القضبان... ولكن سرعان ما سقط الجاروف من يده، حينما رأى ( الحسين ) غارساً كفه في خاصرته، ومتكئاً بالأخرى على مقعد سيارة": تايوتا... تايوتا حديد ياباني... " ظل العجوز يبحلق فيه، وفي الفضاء الممتد خلفه كدهاليز مشرعة أبداً.... في تلك اللحظة، ركن العجوز إلى اليأس وتهالك جالساً على الأرض،  عسى أن يسمع هدير عجلات القطار... أخذ الحسين ينزل مؤونة العجوز... ففاتحه العجوز  قائلاً :. الحسين، أين حمارك الوفي ..." باع الحسين حماره لهرمه وملأه الطريق العام برازاً، ولأشباع الحمر رفساً وكدماً، كما أنه لا يفتأ يثب فوق اتان، فيحبلها، ويبحث من ثم عن أخرى، حتى إزداد عدد حمير القرية...كما أن الحسين لم يعد يطيق ركوب ظهره الخشن " تايوتا، حديد ياباني " قال الحسين وهو يمرر كفه عليها برفق كأنها خدّ طفلة. كان العجوز يبحلق فيه، وفي سيارته، دون أن تنفرج شفتاه ببنت كلمه. حينما أخطره بشأن حماره، تنكر العجوز له في دخيلته... كيف يبيع صفو شبابه، لمجرد هرمه. لم يعد العجوز يفقه مجريات الحياة... فلقد تغيرت... لحظات وتلاشى الحسين طي سيارته، مثيرةً الغبار خلفها... فأطبق الصمت من جديد على الفضاء الممتد، والمفاوز. لقد تغيرت الحياة، همس العجوز لذاته، وهو يتخيل أوبة الحسين ثانية لقد فقد إحساسه بالزمن، وإكتفى بالقليل، القليل، ثمة الكثير تلاشى، في حضن الماضي، إلا هذه الرمال الممتدة على مرمى البصر"... ظلت كمرأة يحدثها طيلة السنين، فتجاوبه بإبتسامة ماكرة .. تغيرت الحياة كدأبها، حتى " الحسين " صديق عمره أمسى كسحالي الوادي، تنصو لوناً، وتلبس آخر، لتقاوم... إنه كغيره من القانطين، ليس بموسوعه صد الريح القادمة من  الشمال. توقف  الرجل عن قراءة المسوده، المشرعه بين يديه في المقهى ونظر بتمعن إلى جليسه قبالته، الذي ائتلفت أساريره لمعرفة المزيد من التفاصيل. كان دخان السجائر، والقهوة بينهما يتسامق في غنج، فيما تعالت ثرثرة فتيات مع النادل، في زاوية شبه معتمة.

صرف الرجل نظره لبرهة، ونظر إلى واجهة المقهى الزجاجية التي كانت تجلوها ندف الثلج المتهامي برفق، فبدى من وراءها، الطريق العام، وأرومة الأشجار مؤتلفين بزينة العام  الجديد، وبأقواس إضاءه نيلونيه، وفسفورية حادةٍ. واصل الرجل القراءة ببطء : في ذلك اليوم، في تلك اللحظة حدث في المحطة المهجورة شيئ غريب، ليس بالحسبان، حدث خاطف إلا أنه ظل قابعا في ذاكرة القاطنين أمدا طويلا ...

ـ النفير: العمل الطوعي في اللهجه السودانية.

ـ المقطع الشعري هو جزء من قصيدة للشاعر فوزي كريم