في سلسلة ملفات (الكلمة) نقدم هذا العدد أول ملف عن فنان تشكيلي، هو الراحل الكبير حسن سليمان، الذي كان نسيج وحده في عالم الفن التشكيلي المصري، حيث جسدت مسيرته الخصية مجموعة من القيم الفنية والفكرية الباقية.

حسن سليمان: قيم فنية وفكرية باقية

صبري حافظ

هذا هو الملف الأول الذي تعده (الكلمة) عن فنان تشكيلي، وإن جاء دون طموحات المجلة في هذا المجال، لأن كثيرا من الذين طلبنا منهم المساهمة في هذا الملف لم يتمكنوا من إنجاز مساهماتهم في الوقت الملائم. ومع هذا فإن ما وصلنا وما يضمه هذا الملف يؤكد أهمية هذا الفنان وأهمية إسهامه الفني والمعرفي والموقفي على السواء. فلا يمكن إذا ما تناولنا حسن سليمان الذي رحل عن عالمنا في شهر أغسطس الماضي ـ أن نفصل الفنان والمثقف عن الموقف. فقد كانت مواقف حسن سليمان جزء لا يتجزأ من مجموعة القيم الفنية والفكرية التي أرساها في حياتنا الثقافية على مد فترة إسهامه الخصب فيها. أقول هذا هو الملف الأول الذي تعده الكلمة عن رسام وفنان كبير رغم أن الكثيرين لم يسمعوا به منذ أن اصبحت آلة الشهرة الإعلامية جزء من المؤسسة السياسية المسيطرة، تعمل وفق توجهاتها وحسب أولوياتها ومصالحها، وليس وفق معايير الفن والقيمة. ومع هذا يظل حسن سليمان من القيم الفنية والثقافية والإنسانية الأصيلة في عصرنا، وفي بلدنا المنكوب مصر الذي تطفو الهوام على سطحه، وتطن مزدهية بجهلها وأميتها بصورة مزعجة تدفع الأصلاء الكبار، والمثقفين الحقيقيين، والفنانين المبدعين، للعزوف قرفا عن المشهد برمته. وحسن سليمان ـ وهو من أكبر فناني مصر قيمة وقامة ـ هو الدليل المجسد على ما في الواقع الثقافي من خلل مر فادح. وهذا الحكم الذي قد يبدو إطلاقيا ليس حكمي وحدي، فقد قرأت مؤخرا حوارا مع جورج بهجوري قال فيه أنه ـ أي جورج نفسه ـ أكبر فنان مصري معاصر، باستثناء وحيد، هو حسن سليمان. فلو كنا في واقع ثقافي وحضاري سليم وصحي، لكان حسن سليمان مدار اهتمام هذا الواقع ومركز تقديره، ونموذج المثقف المستقل الصلب الأصيل الذي يحتذى لا في مجال الفن التشكيلي وحده، ولكن في مجال الثقافة الأوسع.

والواقع أنني كتبت مقالا صغيرا عن حسن سليمان قبل أكثر من عام من وفاته، وبمناسبة نشر أسامة عرابي بورتريه جميل عنه في (اخبار الأدب) وجهت فيه تحية لفنان أحببته وقدرته عن بعد ـ فلم تتح لي الظروف الاقتراب الشخصي الحميم منه ـ منذ أن عرفته في مطالع الستينات في زياراته القصيرة السريعة إلى (المجلة) أيام عملي بها مع أستاذنا الكبير يحيى حقي، إلا أن رحيله قبل شهور أتاح للكلمة أن تعد هذا الملف عنه. وكان ما دفعني للكتابة عن حسن سليمان ـ وهو جدير بالكتابة عنه في كل وقت ـ هو أن بورتريه أسامة عرابي ترك في نفس القارئ شيئا من تلك التهمة الشائعة والجائرة والتي يرددها الهوام كثيرا بشأن حسن سليمان، وهي ترفعه وعزلته وأحيانا احتقاره للآخرين. ولكن هل كان يمكن لفنان حقيقي إزاء واقع غارق في الفساد حتى التخمة، مترع بالخلل القيمي والفني على السواء، إلا أن يعتزله ويترفع عليه ويحتقره. إن موقف حسن سليمان ذاك هو الموقف الوحيد الصحيح لأي فنان حقيقي يرفض الانحناء للتيار، ولايريد الولوغ في الفساد الذي ينتشر مع الهواء في كل موقع، ويتعفف عن أن يبدد وقته في محاربة طواحين الهواء، أو أن يعرضها لأوساخ كلاب الحراسة التي تحافظ على مواقعها ومكاسبها. فلم يكن حسن سليمان طوال حياته المديدة من الذين يجرون وراء المكاسب، أو الذين يسخرون الكلمة لخدمة أي شيء غير قيم الفن والفكر الأصيلة. وإنما من الذين يبحثون بجد عن القيمة، ولايهمه إلا الإخلاص لفنه وتقديم المثال النادر والأصيل في وقت عز فيه المثال.

ولأن حسن سليمان فنان أصيل وإنسان نقي فإنه يعرف متى ينزل إلى معمعة الواقع، ومتى ينأي بنفسه عن أوساخه. فعندما كانت في الواقع الثقافي قيم صحيحة وأصيلة، وكان لهذه القيم حراسها الحريصين على سيادتها فيه، كان حسن سليمان في مركز الحياة الثقافية وسمت نشاطها. وأذكر أن استاذنا الكبير يحيى حقى كان يعتز بأنه أول رئيس تحرير لمجلة (المجلة) التي رأسها قبله أكثر من رئيس تحرير ـ من حسين فوزي إلى محمد عوض محمد إلى علي الراعي ـ يرسي تقليد أن يكون للمجلة الأدبية مستشار فني يشرف على إخراجها الفني والطباعي حتى تجيء في صورة راقية تسر العين. وقد اختار حسن سليمان لهذه المهمة، من بين كثيرين. فقد كان حسن سليمان منذ هذا الوقت المبكر من أبرز فناني مصر وأكثرهم موهبة، حينما كان فنانون كبار مثل عبدالهادي الجزار وكمال خليفة وأنجي أفلاطون وغيرهم لايزالون أحياء. وكان يحيى حقي هو الذي لفت نظري لجماليات التقشف والتشكيل الصارم عند حسن سليمان في لوحات مثل الجرن، أو الرقصة الدائرية التي كانت تزين صالون بيت يحيى حقي نفسه. بل لقد كان حسن سليمان ـ الذي فتح (المجلة) على الفن التشكيلي العالمي الرفيع، وكان يضع على أغلفتها لوحات لكبار فناني العالم ـ هو الذي قدم الجزار وخليفة وأفلاطون وغيرهم إلى الجمهور الثقافي العريض من خلال (المجلة) واختياراته لأغلفتها.

وقد أتى حسن سليمان بالفنان سعد عبدالوهاب ـ تلميذه الذي أصبح فيما بعد أحد أبرز مخرجي المجلات ـ ليقوم بتنفيذ تصوراته وتخطيطاته. ومن يعود لأعداد (المجلة) قبل حسن سليمان ـ أي أعداد الخمسينات ـ ولأعدادها بعده في سنوات الستينات ـ يدرك النقلة النوعية التي أحدثها حسن فيها، في وقت كان التصميم الجرافيكي ـ لا في مصر وحدها بل وفي العالم من وراءها ـ مازال في مهده. ولأن النقلة التي أحدثها حسن سليمان في (المجلة) كانت واضحة لمن له عينان وعنده ذوق، فقد حذت مجلة (الكاتب) حذو المجلة، وكلفت حسن سليمان بنفس المهمة، فتغيرت (الكاتب) بصريا كما تغيرت (المجلة) من قبلها.

إذن فحسن سليمان من هذا النوع النادر من المثقفين والفنانين الذي يعرف متى يلعب دورا في الواقع الثقافي ومتى يعتزله وينأى بنفسه عنه. فحسن سليمان من الفنانين القلائل الذين يصدرون عن وعي فني وفكري واضح. ومن يقرأ كتابه الجميل (حرية الفنان) يدرك حدة استبصاراته وعمقها. لذلك فإن اعتزال حسن سليمان للواقع الفاسد في العقود الأخيرة الماضية هو موقف فكري واضح ومتكامل. هو نوع من إعلان الرفض والمواجهة الصريحة للفساد ولخلل القيم الثقافية. فهو رفض الفنان الذي يعتز بكرامته وبفنه ويترفع بسببهما عن كل صغار. لأن القيمة الفنية عنده لاتنفصل عن القيمة الأخلاقية، فكل منهما صنو الآخر كوجهي العملة الواحدة.

وقبل أن يجف الدمع على فقدان الشاعر الكبير محمود درويش، فاجأنا خبر رحيل الفنان الكبير حسن سليمان في الشهر نفسه، لايفصل بين الرحيلين أكثر من أسبوع. وحسن سليمان فنان كبير بأي معيار من المعايير، لا يقل أهمية عن محمود درويش، وإن لم يسمع به إلا القلة القليلة من المهتمين. بل يمكنني أن ازعم أنه بدون أمثال حسن سليمان لايكون هناك أمثال محمود درويش في الواقع الثقافي، بالرغم أنه من المرجح أن الإثنين لم يلتقيا أبدا. لأن الكثير من القيم الأصيلة التي أفنى حسن سليمان حياته في تكريسها، ودفع ثمنا باهظا لتأسيس مكانتها المحورية في الضمير الثقافي هي التي رفدت شعبية محمود درويش وحمته من الانجراف في تيار السياسة حتى الاحتواء. فقد كانت قيم الإخلاص للفن، وإعلاء قيمة الحرية، والوعي بإنسانية العمل الفني وانفتاحه على تعدد الرؤى والتوجهات، والحرص على حرية الفنان واستقلاليته من القيم التي أخلص لها حسن سليمان وبلورها في سلوكه وإبداعه على السواء. وكان الالتصاق بالواقع واستلهام جوهره، والتغني بتفاصيله إلى حد الارتقاء بها إلى أعلى الآفاق الإنسانية هو الذي وسم مكانة حسن سليمان الفنية، وراد تجربته التشكيلة التي اتسمت من البداية بالتغني بالمفردات المصرية والشعبية البسيطة من الجرن إلى حيوانات القرية وبشرها وطيورها وطقوس حياتها اليومية، وتحويلها إلى أيقونات فنية إنسانية ذات دلالات فكرية وفلسفية لا تخطئها العين دون أن تتخلى عن بساطتها، أو أصالتها.

لكن عزوف حسن سليمان عن السياسة بمعناها العملي الردئ، فقد كان له موقفه الفكري والسياسي الناصع، وابتعاده عن أدران المؤسسة وملوثاتها كان مسئولا إلى حد كبير عما عاناه من ظلم وإجحاف طوال العقود الثلاثة الأخيرة. فقد كان حسن سليمان شديد الاعتزاز بنفسه والحرص على كرامته، والابتعاد عن مواطن الزلل والشبهات. وكان شديد الوعي في الآن نفسه بدوره كفنان في ترسيخ مجموعة القيم الفنية والإنسانية والفكرية الضرورية لمسيرة الفن الحرة المستقلة. فقد كان حسن سليمان يدرك أن الفنان الحق هو ضمير أمته، وأن مكانته تلك لا تتحقق إلا بإخلاصه الشديد لفنه وتجويده المستمر له. وهذه القيمة الناصعة من القيم الأساسية التي كرسها في الحقل التشكيلي، في زمن انتشرت فيه قوى التبعية للمؤسسة الفاسدة والمفسدة لكل شيء.

وكان ـ وما أسوأ أن تتصدر كان أوائل الجمل ـ شديد العزوف عن الشهرة الزائفة، ورأس المال الرمزي المغشوش الذي طردت عملته الرديئة العملة الجيدة من سوق الفن التشكيلي في مصر. وخاصة في عهد «السيد الوزير الفنان» الذي أدار الفنون التشكيلية على هواه، واستخدم إمكانيات الوزارة الهائلة في إسباغ أهيمة زائفة على أعماله، وأعمال تابعيه المحدودة القيمة، وهو نفس الاستخدام الذي أحبط الكثيرين من الموهوبين والفنانين الحقيقيين، وأجهز عليهم. لكن المفارقة المؤسية هي أن كل سلطة المؤسسة وكل أموالها لاتستطيع أن تصنع فنانا، أو تسبغ عليه مكانة لايستحقها، كما أن الإغفال والإهمال ومحاربة الموهوبين لاتستطيع أن تنال من مكانة أي فنان حقيقي على المدى الطويل. لذلك سيظل حسن سليمان فنانا كبيرا، بل أحد أكبر فناني مصر في القرن العشرين، وستبقى أعماله إضافة حقيقة لضمير الحركة التشكيلية المصرية والعربية على السواء. وستنسى الحركة التشكيلية كل ذوي النفوذ ومن كرستهم المؤسسة الفاقدة للمصداقية حتى ولو ملأت أعمالهم مخازن لجنة المقتنيات التي عينوا بأنفسهم اعضاءها، ورعوا بتويجهاتهم فساد ذوقهم واختياراتهم. فقد عادت أعمال «السيد الوزير الفنان» من مزاد ثازابي الدولي دون أن يشتريها أحد، بينما تباع نفس اللوحات في السوق المحلية ـ لأسباب معروفة ـ بأرقام خيالية. وحظي معرضه الأخير في الولايات المتحدة بتوبيخ نقاد الفن التشكيلي الأمريكيين، وإهاناتهم السخيفة للفن المصري إذا كان هذا هو أفضل ما في جعبته، كما قالت لهم الدعايات الزائفة. فأين هذا كله من حسن سليمان الذي اعتز بكرامته، ورفض المشاركة في تلك اللعبة القذرة، وتوارى عن الأنظار لعقود طويلة.

كان حسن سليمان مثقفا واسع الاطلاع على الآداب والعلوم والفلسفات. وكان حريصا على متابعة ما يدور في الواقع الثقافي، وتحديد موقفه منه رغم عزوفه الظاهري عنه. ولكنه كان قبل كل شيء فنانا كبيرا له فلسفته في الفن والحياة. وقد شاءت المقادير ـ كما ذكرت ـ أن أعرف حسن سليمان عن قرب في سنوات الستينات، حينما كان أحد أبرز نجوم الحياة التشكيلية في مصر مع كبار من أمثال عبد الهادي الجزار وكمال خليفة وحامد ندا وأنجي أفلاطون وتحية حليم وآخرين. حينما أختاره أستاذنا يحي حقي ليكون المستشار الفني لمجلة (المجلة). عرفته عن قرب وعرفت سعة معرفته بالفنون والآداب معا، ودماثة خلقه، وترفعه عن الصغائر. وقد ساهم حسن سليمان بحق في تشكيل ذائقة جيل بأكمله، دون أن يدرك كثيرون منهم هذا الإسهام، ألا وهو جيل الستينات. ولم يترك بصمته الفنية على جيل تشكل وعيه وذوقه في ذلك العقد الستيني فحسب، بل واصل تأثيره الكبير في الحركة التشكيلية ورعى الموهوبين الحقيقيين فيها. فالفنان المرموق عادل السيوي مثلا ـ وهذا مثال واحد من أمثلة كثيرة ـ وهو من أبرز فناني الجيل التالي له، يعترف بتلمذته على يديه، وبدور تلك التلمذة في تشكيل قيمه الفنية والفكرية والأخلاقية معا. فقد وعي حسن أثناء عمله بالمجلة دور يحيى حقي الكبير في نقل القيم الفكرية والأدبية والأخلاقية التي تربى عليها ورادت مسيرته للأجيال التالية له، فهكذا تتأكد تلك القيم وتزدهر، وتواصل الفعالية في الواقع من بعده. لذلك سيبقى حسن سليمان فاعلا في ضمير الحركة التشكيلية المصرية، وستبقى القيم التي كرس حياته لها: قيم الأمانة والأصالة والاعتداد بالفن وحده، حية وفاعلة في الواقع الثقافي المصري والعربي من بعده. لذلك لا أقول وداعا، وإنما سلاما على روحك النقية الطاهرة!.