في هذا الديوان الشعري المكثف، يوكد الشاعر المصري المرموق مكانته كأحد أبرز الأصوات الشعرية المصرية، وينفخ بقوة الشعر عوالم من الدلالات المتراكبة شعريا ورؤيويا ووجوديا فيما يبدو وكأنه عادي ويومي ولايدل على شيء، فيضيئه لنا الشعر ويفجر ما فيه من دلالات.

لا شىء يدُلّ (ديوان شعر)

محمد صالح

أوّل الرّبيع
أورقت شجرة التوت فى الحديقة
وارتفعت عالياً إلى الشرفة
حملته الخضرة الدانية على الذكرى
كان ضحى
كان الربيع فى أوّله
عندما حملها بين يديه
وزرعها هناك
مرّ وقتٌ طويلٌ إذن
يمكنه بعد أسابيع
أن يمدّ يده إليها ويأكل

النّساء
كنّ يأتين فى الضحى
بصحبة أطفالهن المعلولين
يعبرن القنطرة الخشبية
ويمشين بخطى متوسلة
إلى الِبركة فى مواجهة الضريح
وعندما يؤذّن لصلاة الجماعة
كن يلقين بالأطفال فى الماء
ثم يخلعن عنهم الملابس الصغيرة الملونة
ويتركنها على الشاطىء هناك
قبل أن يضعن النذور
ويتبرّكن بالمقام
وكان يتعيّن عليهن
أن يفعلن الشىء نفسه لأسابيع
وكنا نذهب إلى هناك لمشاهدة النساء
ونرى الأطفال يتعافون
أسبوعاً بعد أسبوع

صورة فى إطار
كنت فى العاشرة
لست صبياً بعدُ
ولم أعد طفلاً كذلك
وكان أخى يكبرنى بتسع سنين
وهو يراهق بشدّة
فى ذروة مراهقته
شدّ شعره بالصابون
وصبغه بالأوكسجين
وقد التُقطت له آنذاك
صورةٌ بالأبيض والأسود
لا أدرى كيف أعاد المصور تلوينها هكذا
فإذا أخى أشقر
وعيناه خضراوان
وضع أخى الصورة فى إطار
وجُنّ بالغناء
أراد بالفعل أن يكون مطربا
وكانت به عِلّةٌ غريبة
أنه يقرأ
لكنه لا يكتب
وقد استخدمنى لصغرى
كاتب أغان

لا شىء يدُل
لا شىء يدلّ عليها الآن
ربما كانت هنا
ربما كنا نصعد إليها
على درجٍ خشبىّ
ينتهى بشرفة مكشوفة
تبدأ من عندها الحقول
وتمتدّ إلى آخر ما نرى
هل تعلّمت شيئاً
فى مدرستى الأولى
ومتى تركتها لأتعلّم
تحت سماوات من رصاص؟
لا أذكر
أذكر للآن المدى الأخضر
لا شىء يدُلّ الآن

سدّ من طين
صبيان فى الظهيرة
خلف سدّ طينىّ
ينحنون هكذا
بكل ما يقع بأيديهم
وبأيديهم
ينشلون الماء
يمكن رؤية كم هم سعداء
يمكن رؤية عوراتهم مكشوفة
يمكن بعدها
رؤية الأسماك والأصداف

امرأتان
قبل سنوات بعيدة
راجت فى ناحيتنا مجلّة جريمة
اعتدت فى تلك السّن
أن أقرأها لامرأتين
غاب عنهما زوجاهما
قرأت لهما ذات مرّة
جريمة خيانة
كان الزوج غائبا
وكانت الليالى طويلة
وكانت المرأة تواعد الرجل الآخر
وتكتب له رسائل عارية
اعتادت أن توقعها بقبلة حقيقية
استمعتا بشغف إلى الرسائل
وبدتا مستثارتين
وربما تحاضنتا
وهما تحملقان فى شفتى المرأة المكتنزتين
بلون طلائها المفضل
بدتا على الورق
أكثر تطلّباً وشهوة
أخيرا انتبهتا لى
خزيتا قليلا
وأغرقتا فى الضحك

سرعان ما يأتى الصيف
تأتى الكرّاكات
وتطهّر مجرى النهر
يبدو وقد حُفّ شاطئاه
أعمق مما نظنّ
ونحن نسبح على مائه
لكنّنا سرعان ما ننسى فى الصيف

تأتى البلابل
وتبنى بيوتاً فى طين الشطّ
تضع بيضها فى الداخل
وتملأ الفضاء بالشّدو
بلابل خضراء فى متناول اليد
لكنها سرعان ما تطير فى الصيف

ترفع الفتاتان أذيال ثيابهما
وتخوضان فى الماء
تضىء بشرتاهما تحت الشمس
وينعكس ماء القرار
رائقاً مثل بلّلور
لكنه سرعان ما يعتكر فى الصيف

سكّة البحر
على طول الطريق من البحر
تأتى جموع الصبايا
بجرارٍ مرفوعة على الرأس
صبايا بأعناقٍ طويلة
وقدودٍ فائرة
بجرارٍ بيضاء
وجرارٍ بيضاء بلطخات حمراء
ثَمّ على طول الطريق
صبايا ووشوشات
وضحكات منطلقة
وثَمّ فضوليون وعشّاق
على هذه الطريق
كَمنَ أبى لأمى
وضع الجرّة عن رأسها
وحملها إلى الدار

النّوْل والدّولاب
مات أبواى فى الوباء
وهو دون العشرين
وجد أخى الأكبر نفسه أبا
حتى تبقى الدار مفتوحة
ترك أخى دراسته
وعمل على النّول
كان النّول لأبى
يجلس أخى فى صدر الغرفة
ظهره إلى الحائط
ويرتفع السّدَى أمامه إلى قرب الباب
تعمل ساقاه صعودا وهبوطا على الدّوّاسات
المشدودة إلى النّير
فيما تتناوب يمناه ويسراه حَدْف المكّوك
وتتحرّك رأسه فى الاتجاهين
على ذات الإيقاع
أجلس أنا على العتبة
وأدير الدّولاب
ننسج معاً مقاطع زاهية
من قطنٍ مصبوغ

حجَر وقشّ
قشٌّ ذهبىّ
درجٌ من حجرٍ أبيض
ينحدر إلى الماء
الصفصاف يميل على الماء
يتوضّأ فى الماء الجارى
الصبية يلهون على الجسر
والفتيات يملن على الماء

الفردوْس
يزرع الرجل قطعة أرض
على الشاطىء الآخر
يزرع ما لانزرع هنا
يزرع الرجل فاكهةً
وقصب سكر
ويعيش وحده فى كوخ هناك
يشعل ناراً من حطب أشجاره
ويضع إبريقه على طرفها

ظلّ الجمّيز
كانت شجرة جمّيز
تنمو على حافة ترعة
تمرّ من أمامنا
للمقهى تحتها مصطبةٌ خلفية
تطلّ على سكّة الحديد
هناك يجلس الرجال
يدخّنون فى الأصيل
تمرّ القطارات فى ساعات معلومة
بعضها لايلوى على شىء
بعضها يتوقّف
يأتى عمّى فى ساعةٍ معلومة
يجلس إليهم
وتتهلّل الوجوه
لعمى وجٌه وضىء
وسريرةٌ بيضاء
يأتى دائما بشىء لامرأته وأولاده
ينتظر إلى أن يجتمعوا
ماذا يجرى بينهم هناك
يعود عمّى وقد تغيّر كثيرا
يمضى مطرقا
لايلوى على شىء

فى مديح الخالة
كان لايزال طفلا
عندما ماتت خالته
وذهب مع أمه إلى هناك
ورأى الناس تبكى
وفى غمرة انفعالهم
بكى طفلى أيضا
وحمل معهم الجسد المسجّى إلى هناك
ثم وقف بينهم والدموع فى عينيه
يتلقى العزاء
كان الخلاء شاسعاً
سمع عويل النسوة على البعد
وبدا طيّبا
أن يشدّ كل هؤلاء على يده
وعندما عاد من هناك
كان طفلى أكبر

الطّفل
عندما دُعينا لرؤيته أوّل مرّة
تمنّينا نحن جَدّيه
أن تكون له ملامح أبيه فى طفولته
لكن الطفل كان صورة من أمّه
وكانت ابتسامته العذبة
هى كلّ ما دلّنا عليه
شعرنا بغصّة وكأنه ليس طفلنا
ونقمنا أكثر على الكنّة
لأنه لم يولد فى دارنا
وكأنه لو ولد بيننا لكان شبهنا
فيما كان الطفل فى المهد
يستلقى فى هدوء
ويتطلّع إلينا
وكأنما يحدّق فى فراغ
فجأة رفس منامته وعرّى قدميه
كانت له قدمان جميلتان
وكان له لدهشتنا
إصبعٌ سادسٌ نحيل
ينام على إصبعيه الصغيرين
تماما كما كان لجدّته
وفى الموضع ذاته حيث استأصلته
بدت قدما الطفل
مثل معجزة حدثت لتوّها
انحنينا نقبلهما بامتنان
واندفعنا نحتضن الطفل

الشُّباك
هل رآه أحدٌ منا يدخّن؟
لا أدرى
لكننى كلما تذكّرت خالى
تذكرت شبّاك غرفته
الشبّاك العالى
بين السرير والدولاب
بنصفه السفلّى
الموصد دائما
وقاعدته العريضة
التى تضرب بعيدا فى الجدار
وقد كساها بالورق
ووضع عليها أشياءه
الطربوش القانى
العصا الأبنوس
بيدها الناعمة
المخروطة من قرن الجاموس
إلى جوارها صحف الأسبوع
مطويةٌ بعناية
وصفوف
من علب سجائر فارغة
اعتدت أن أراها هكذا
نظيفةً ولامعة
كأنّما فرغ منها للتوّ

زيارة إلى منزل الخال
هذا ما بقى من طابقين
وإحدى عشرة غرفة
وزريبة واسعة
كومة أحجار
هل يمكن نسبتها إلى الدار
هل وضعها أحدهم هناك
هل يمكن أن تبيد حياة بكاملها
وتصير إلى لا شىء
الناس
والطيور
والبهائم
ماذا يفعل طفلٌ
عاش هنالك
ورأى؟

هنا حيث تضوّع الشَّهد
هنا حيث كانت حقول
وجداول
وأشجار توت
هنا حيث نوَّر البرسيم
وطنَّت النحلات
وتضوَّع الشَّهد
ورفرفت فوق رؤوسنا فراشاتٌ بيض
هنا
تقوم بيوتٌ متلاصقة
وتسيل مجارير

آخر النّهار
جمرةٌ متّقدة
يعلوها رمادٌ كثيف
رماد نهار بطوله
تلمع فى أطرافه
شراراتٌ مُشتعلة
تومض ثم تنطفى
ويحُلّ ظلامٌ شفيف

حياة أخرى
لو حدث هكذا
يكون شيئاً حسنا
تفتح الباب وتجدنى
باب الشّرفة مفتوح
الشمس فى منتصف الصالة
وأنا مستلقٍ هناك
وساقاى بطولهما على الطاولة
الكتاب فى حجرى
وإلى جوارى سجائرى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ أول الربيع
(2) ـ النساء
(3) ـ صورة فى إطار
(4) ـ لا شىء يدل
(5) ـ سد من طين
(6) ـ امرأتان
(7) ـ سرعان ما يأتى الصيف
(8) ـ سكة البحر
(9) ـ النول والدولاب
(10) ـ حجر وقش
(11) ـ الفردوس
(12) ـ ظل الجميز
(13) ـ فى مديح الخالة
(14) ـ الطفل
(15) ـ الشباك
(16) ـ زيارة إلى منزل الخال
(17) ـ هنا حيث تضوع الشهد
(18) ـ آخر النهار
(19) ـ حياة أخرى

صدر للشاعر
(1) ـ الوطن الجمر             (على نفقته).
(2) ـ خط الزوال               (دار سعاد الصباح).
(3) ـ صيد الفراشات           (الهيئة العامة للكتاب).
(4) ـ حياة عادية                (الهيئة العامة لقصور الثقافة).
(5) ـ مثل غربان سود         (دار ميريت).