في قراءته لرواية الكاتب الكاتبة المصرية الموهوبة نجوى شعبان الجديدة يكشف الكاتب المصري عن مدى نضج استراتيجيات كتابة الرواية التاريخية عندها وهي تمد جذور التجربة المصرية في قلب أفريقيا، وتفتح الوطن على العالم.

الإبحار في الأزمنة

لوحة نيلية عتيقة موشاة بزخارف أسطورية

عمار علي حسن

بعد سنوات خمس من صدور روايتها ذائعة الصيت "نوة الكرم" عادت نجوي شعبان لتضيف لبنة جديدة إلي مشروعها الروائي الذي تنسخ خيوطه علي مهل وروية، وتعرض فيه صورا من تاريخنا الشعبي عبر حكي عجائبي يطل من أعطافه واقع مختلط بالأساطير، ويسير في جنباته بشر متعبين تحكمهم سلطة غاشمة، وتتعايش في رحابه الكائنات كافة ناس وحيوانات ونباتات وجمادات، وتحل فيه العديد من المتشابهات والأضداد، لتتفاعل كل هذه العناصر علي أكتاف سرد لافت، يعطي صانعته مذاقا خاصا في المشهد الأدبي المصري الراهن. وهذه اللبنة الجديدة هي رواية "المرسي" التي صدرت مؤخرا عن دار العالم الثالث، والتي تبدو متصلة ومنفصلة في آن عن سابقتها "نوة الكرم"، ووجه الاتصال يكمن في انتماء الاثنين إلي "الرواية التاريخية" التي اشتد ساعدها في الآونة الأخيرة حتي تم اعتمادها رافدا من روافد علم التاريخ، وكذلك في بنية الجملة السردية عند المؤلفة، حيث الشاعرية النسبية، والإحكام المصنوع بتدبير صارم، والخلو من الحشو، علاوة علي بعض الغموض، الذي إن كان ينطوي علي سحر أخاذ وثراء ملحوظ، فإنه يفرض علي المتلقي ضرورة بذل جهد فائق كي يحتفظ بيقظة تامة وحضور كامل يؤهله للإمساك بالخيط الرئيس أو العمود الفقري للرواية، من دون أن يفقد فضيلة تذوق مواطن الجمال فيها، وهي عديدة.

أما وجه الانفصال أو الاختلاف فيكمن في أن "المرسي" أسلس وأجلي من سابقتها، لسببين أساسيين الأول هو أن المؤلفة تبدو هنا أكثر سيطرة علي شروط حكايتها سواء ما تعلق بطبيعة السرد أو بتفاعل الشخصيات الرئيسية والثانوية، فالرواية انقسمت إلي فصول ستة، احتوي كل واحد منها علي عناوين هي في الغالب الأعم إما أسماء أبطال العمل مفردة، أو في علاقة تفاعل، أو بإضافة الشخص إلي المكان، أو بوصف الحالة والسلوك. أما الثاني فيتكئ علي قيام المؤلفة بتثبيت خلفية حكايتها بعناية اعتمادا علي ذكر بعض الأحداث التاريخية المعروفة التي تشكل إطارا زمنيا للرواية، وكذلك الشخصيات الشهيرة مثل النديم ومحمد عبده وألمظ واسماعيل صدقي أو المؤسسات المعروفة (مستشفي قصر العيني) والتركيز علي حيز مكاني يمتد من السويس والقاهرة في مصر حتي جنوب السودان، ويسيح غربا إلي دافور وشرقا إلي الحبشة، مرورا بتوشكي والشلالات ومعبد أبو سمبل ودراو وصحراء العتمور، ثم ذكر بعض المعلومات المفيدة مثل بعض أحياء الخرطوم، وطبيعة حياة طائر الكركي، ورواق الطلبة السودانيين في الأزهر الشريف.

ولهذين السببين فإن "المرسي" ليست مجرد نسائل حكي كقطع الأرابيسك الصغيرة المتجاورة التي تفصل بينها فراغات كثيرة، كما هي الحال في "نوة الكرم" بل تبدو في بنائها العام كقطعة خشب كبيرة موشاة بالزخارف والنمنمات المتواشجة أو المعشقة بعناية. و "المرسي" تعتمد علي إبحار في الأزمنة، وتنقل سريع في الأمكنة، دون أن يفلت خيط السرد الأساسي من الرواة المتعددين، وأولهم المؤلفة ذاتها، ثم شخصيات الرواية التي تحكي بطرق مختلفة، فها هي ميشيل مثلا تورد قصة توارتية ثم تتبعها بالقول: "أوه نسيت تقديم نفسي" وتروي سيرتها، أو تقول المؤلفة بعد فقرة استهلالية بلغية: "وتواصل الحبوبة حكيها". وهناك من يحكي عن غيره، وكثيرون يروون حكاياتهم الشخصية. وتبدأ بعض الفصول بالدخول مباشرة إلي الحكي، وبعضها يبدأ بتمهيد قد يكون تعريفا للمكان ووصفا له، أو مثلا شعبيا دارجا مثل ذلك الذي يقول: "عجب العجايب حبل الست والرجل غايب". وهناك حرص عام علي بدء أجزاء الحكايات بمفاتيح من أقوال مأثورة مقتبسة من كتب "كليلة ودمنة" و "مصر الخديوية"، أو منسوبة لأعلام مثل جرترود بيل وجورج سانيتانا ومختار العطار وواصف بطرس غالي. ويبقي الاختلاف الجوهري بين "نوة الكرم" و "المرسي" هو كون الأولي تدور أحداثها في القرن السادس عشر وتمثل مدينة دمياط "الكوزموبوليتانية" آنذاك المكان الرئيس لها، لنري الكثير مما كان يدور علي الشاطئ الجنوبي للبحر الأبيض المتوسط وفوق مياهه، ويشكل البعد "المتوسطي" للحضارة المصرية. أما الثانية فتدور أغلب وقائعها في القرن التاسع عشر وتظهر ثنايا سطورها البعد الأفريقي لمصر، والدور الذي يلعبه النيل العظيم في تكوينها الاجتماعي والجغرافي والحضاري.

وترسم الرواية معالم حياة زاخرة بمسرات الآدميين وأوجاعهم، ويتحرك أبطالها علي ضفتي وادي النيل وفي الصحراء ذهابا وإيابا بين مصر والسودان، فتنطلق القوافل من الثانية شمالا، وتسير التجريدات العسكرية والبعثات من الأولي جنوبا، فيمتزج شعبيهما في علاقات متعددة الصور والأشكال، ويجدا نفسيهما في مواجهة المؤامرات والمخططات الاستعمارية الرامية إلي نهب خيرات الوادي الخصيب. وتنطلق الرواية من لحظة وصول قافلة قادمة من أسيوط إلي دارو في وقت يتجه فيه مرسال إلي صعيد مصر لإحضار القبطان العوام الذي ساهم في اكتشاف منابع النيل، كي يفض نزاعا نشب نتيجة إصرار الأجانب علي استبدال عاج الفيل بخرز زجاجي ملون. ثم تنتقل من هذا المشهد الأول إلي عرض حكايات تتوالي علي مهل، وتشكل مسارات متوازية، تأخذ في المجمل الأعم شكل أنصاف الدوار المتجاورة، حيث يسرد كل فصل جزءا من الحكاية الأساسية، ويظل مفتوحا ينتظر استكمالها في فصل آت، ليس بالضرورة الفصل الذي يليه.

وتقوم الحكاية الأم وما تلده من حكايات صغيرة علي أكتاف شخصيات تنتمي إلي زمانها، المعتق بالأساطير والأحلام والأمنيات العريضة في تحسين شروط الحياة. وأولي هذه الشخصيات هي الحبوبة/ الجدة وهي امرأة سودانية عجوز عاشت ما يربو علي قرن من الزمن وتدعي حكاية، وتبدو اسما علي مسمي، لأنها تمتلك قدرة هائلة علي التخاطر تجعلها تعرف كل ما يدور من وقائع وأحداث لشخصيات الرواية في مصر والسودان وبلاد الحبشة. ثم تأتي شخصيات تنتمي إلي أسرتين أساسيتين الأولي تضم الجدة ماكيدا وهي أميرة حبشية وبنتها حكاية وحفيدتها شامة التي أحبت طبيبا يعمل في الدائرة الاستوائية، وسافرت معه إلي السودان فمات بمرض فتاك وعملت هي ممرضة في السودان وتعرضت لحادث اختطاف وافتدتها جدتها التي كان جدها قد خسرها في لعب القمار. وحين تحل شامة بالحبشة تدلنا الرواية علي بعض أخبار الرهبان المسيحيين المصريين الذين كانوا يعيشون في الحبشة آنذاك. والثانية تضم زينب الدارفوية صانعة الحصر وبنتها عجوبة وحفيدتها غنية البارعة في تركيب السموم العطرية، والتي تعمل جاسوسة لحساب الفرنسيين وترسل إليهم رسائلها تحت جلود الجمال الحية الذاهبة في قوافل من مصر إلي السودان، ولغنية هذه عبدة أو خادمة تدعي مرحبة، التي تعمل دوما علي التسرية عن سيدتها، فتأخذها إلي ساحرة "سيدة روحانية" تدعي كاجورة لتدخل بنا الرواية في عالم أسطوري مذهل.

لكن الأسطورة تبلغ ذروتها في مطلع الفصل الرابع من الرواية وتمهد لها المؤلفة باقتباس عن لورانس العرب يقول: "إن التاريخ لا يتكون علي أية حال من الحقائق، فلماذا القلق" لنعرف بعده أن بعض شخصيات الرواية مثل الوجيه وغاية هما شخصان كانا يعيشان في مطلع القرن التاسع عشر، وماتا ثم عادا إلي الحياة، وهنا تخبرنا الرواية: "بعد أن لقيا حتفهما، كل في حادث يخصه، هام كل من الوجيه وغاية دون هدف في الفضاء، ليصبحا مثل زومبي خرج من القبر بتصريح للقرن 21، صدق عما يقال إن الشياطين تتشكل!!.. هكذا أخبرهما الإله سيت، لما وجدهما ضائعين في الفضاء، كل روح تهيم بلا رفيق والقلوب ملؤها الشر، يغلق البرزخ (المطهر) أبوابه حيالهما، تائهين لا مقر، لا سكني، لا راحة من أي نوع، فتلقاهما الإله سيت إله الشر كأنها بديهة غابت عنهما أن الشياطين تتخذ هيئات غير متوقعة.

وتحفل الرواية بشخصيات عديدة لها وضعها ودورها في بناء الحكاية الكلية وفي تقدم الرواية إلي الأمام باتجاه النهاية، وفي صناعة مساحات التنافس والصراع بين الأفراد من أجل الظفر بالنصيب الأكبر سواء من الثروة أو المكانة أو النفوذ في مجتمعات تتسم بندرة كل شيء. ومن بين هؤلاء "حسان الجواب" الذي يؤدي التواشيح في مولد أبي الحسن الشاذلي بحميثرة، و "ميشيل" التي ولدت لأب سوري وأم فرنسية جاءت إلي مصر في رحلة سياحية، وجدها ظل بمصر حتي واتته المنية. وهناك "زينب الدافورية" التي تصنع حصرا ترسم عليها وجهها الذي ينطوي علي سحر خاص، وتوجد "التومة" التي تبيع الأعشاب الطبية المستوردة من شتي بقاع الأرض، و "لام" التي اختطفت من حضن أم شابة وربتها سيدة مسيحية سودانية من أصول مصرية، و "الضو" الذي سدت أمامه سبل العودة إلي تجارة العاج فعاد إلي مهنته الأولي كقاطع طريق، و "الواسطي" الرحالة الذي يركب البحر ويصف رحلاته الطويلة الممتعة.

وهناك شخصيتان محوريتان هما "بلام الأسد" الرجل المغامر الذي يعمل في أحد المناجم، و "الوجيه" القاسي الذي يشرف علي العديد من المناجم والمواقع الأثرية، ويحلم أن تكون له فصاحة عبد الله النديم وسطوة إسماعيل صدقي وفتنة إسماعيل المفتش أخو الخديوي، ويتقمص هذه الشخصيات دوما، فتتبدل سلوكياته بامتداد الرواية. وتجري أفعال هذه الشخصيات في عالم زاخر ترسم المؤلفة معالمه باقتدار، لتحكي لنا تفاصيل العمل في المناجم، وما يجري في موالد الطرق الصوفية، والحفلات الراقصة التي يحييها الخصيان، وطرق مواجهة الأمراض الفتاكة التي تجتاح السودان، والأعشاب التي تشفي من الأوجاع أو تقوي الغرائز الجنسية، وصناعة السفن والمراكب، وأنواع وألوان الأزياء التي يرتديها الناس، والمساكن والبنايات البسيطة التي يقطنونها، طرائق العيش الذي يحيونه. والسلوكيات التي تبدر عنهم، واللهجات التي ينطقونها، والتي حرصت المؤلفة علي أن تبين معانيها، في المتن والهامش معا.

وتستعين المؤلفة بحكايات ووقائع مطولة من التاريخ إلي درجة أنها تفرد مساحة سردية كبيرة لمقارنة علي لسان "سليم" المؤرخ بين معركة طبرية بين قوات الملك جي دولوسينيان ملك القدس وقوات صلاح الدين الأيوبي في يوليو 1178 وجردة هكس التي وقعت في فبراير 1883 بين الحملة المصرية بقيادة الجنرال وبين جيش المهدي. لكن هذه الحكايات يتم توظيفها داخل النص إما لتفسره أو تجلي غموض بعضه أو تعطيه إطارا زمانيا، وهي في جميع الأحوال لا تطغي علي سرد تاريخ الناس، وهي وظيفة أساسية للرواية التاريخية تقاوم بها الفعل السيئ لأغلب المؤرخين بتسجيل أيام السلاطين وأتباعهم. خلاصة القول فإن "المرسي" تؤكد عمق المسرب الضيق الذي حفرته نجوي شعبان لنفسها وسارت فيه مطمئنة إلي الحصاد الوفير الذي تجنيه من استلهام التاريخ الشعبي وهضمه وإعادة إنتاجه علي شكل قطع سردية بليغة ترسم لنا طرائق عيش تراوح بين الواقع والأسطورة لآدميين يسابقون الزمن ويقطعون المسافات الطويلة من أجل تحسين شروط الحياة.

عن (أخبار الأدب) الكتاب: المرسي، المؤلف: نجوي شعبان، الناشر: دار العالم الثالث.