إن نهوض السرد في المجموعة على لسان راوٍ غائب تارة وعليم طوراً، مكّن القاص من التجوّل في مساحة شاسعة من الشخوص والأمكنة الذين تجمعهم تيمة الوحدة والقلق. لا يعطي القاص الأولوية للزمن بقدر ما يعطيها للحكاية. هؤلاء الشخوص الذين تجمعهم أماكن مختلفة أغلبها عابرة، يتقاسمون الهمّ ذاته، ويرغبون في الحديث ولو على هيئة مونولوجات داخلية.

مدائح القلق والوحدة

محـب جميـل

بين احتراف الكتابة الدرامية والدخول إلى عالم الأدب، أنجز السيناريست «محمود دسوقي» مجموعته القصصية الأولى «من داخل غرفة زرقاء» (دار الكتب خان ـ القاهرة). في متتالية سردية، ينسج دسوقي عالمه الخاص من خلال شخوص تسيطر عليهم الوحدة والقلق. كأن هذه الوحدة تتحوّل بدورها إلى محاولة هروب من عالم متآكل مشوّه تغلب عليه الشكليّات والأضواء المزيفة.
مع القصة الأولى في المجموعة «ميريت أصفر»، ندخل إلى ذلك العالم المتسارع المتلاهث من خلال الدخول إلى رأس الشاب الثلاثيني الذي يطلب علبة سجائر من نوعه المفضل. لكنه يفاجأ بأنه ينسى أبسط التفاصيل التي تخصّ صديقه بائع السجائر الذي يناوله العلبة. على الوتيرة نفسها، يختلط عليه الأمر في ما يتعلق بنوع السجائر المفضل لديه «ميريت» أصفر أم أزرق. لقطة عابرة في الحياة اليومية، يكثف من خلالها دسوقي ضبابية الحياة اليومية والشك الذي ينتاب البشر في علاقاتهم الإنسانية. تيمة الشك تتكرر في قصص أخرى مثل «البار»، حيث يدور حديث بين أحد رواد المكان «علاء» والبارمان «سامي» عن الجريمة التي اقترفها الأول بخصوص زوجته الخائنة.

وهنا تتجلى أهمية التفاصيل التي يسردها دسوقي، بالإضافة إلى سخريته القريبة من اللقطات السينمائية المألوفة، يقول دسوقي: «سامي ينظر إلى علاء. هناك بعض العرق على قورة سامي. لم تعد هناك موسيقى في المكان. لم يكن سامي يتوقع أن يكون الحديث الأول على هذه الشاكلة. كان يتوقعه خفيفاً بعض الشيء ربما عن مومس ترتاد المكان، أو عن أب كرهه علاء حتى بعد وفاته، أو حتى عن طائر مات وحيداً في قفصه بعد أن نسي علاء أن يطعمه لأسبوعين كاملين. علاء يتجرع من الكوب». تستمر هذه اللعبة بينهما حتى يبدأ شوقي هو الآخر في الشك في زوجته بسبب تصرفاتها الغريبة.
لا يعطي دسوقي الأولوية للزمن بقدر ما يعطيها للحكاية. هؤلاء الشخوص الذين تجمعهم أماكن مختلفة أغلبها عابرة، يتقاسمون الهمّ ذاته، ويرغبون في الحديث ولو على هيئة مونولوجات داخلية كما في قصة «تكتا كالون» وأعراض الزهايمر التي تنتاب بطل القصة، وحيرته المتواصلة في معرفة ثقب باب شقته الصحيح.
من خلال محاولاته المستمرة في التذكر، يبدأ بتخيّل مجموعة من المشاهد الإيروسية عندما اختار ثقب الباب الخاطئ. لا يختلف الأمر كثيراً عن صاحب قصة «ملل الرغبة» الذي تتحوّل لديه الرغبة إلى حالة من الروتين والتكرار عندما يشتبك في الحديث مع واحدة من هؤلاء اللواتي يشبعن رغبته مقابل بضعة قروش. لكن هذه السيدة لديها حكايتها هي الأخرى، فقد أخفت على زوجها مسألة عدم إنجابه لولديها، معللة ذلك بأنها لم تجد فرصة سانحة خلال كل هذه السنوات. نبرة دسوقي في هذه المجموعة خافتة من خلال لغة مبسطة تبتعد عن التكلّف والزخرفة الشكلية. إنها مدونة سردية بسيطة لأحلام هؤلاء المقهورين. وفي قصة «سلمى في مدينة الزجاج»، يرسم صورة ديستوبية حول الحداثة المصطنعة، وتحوّل بعض المدن الخليجية (دبي) إلى مدينة زجاجية هشة تختفي فيها العلاقات الإنسانية القائمة على الودّ والتواصل. يتم ذلك من خلال شخصية «سلمى» التي تحمل في جوانبها التباساتٍ عدة تتعلق بالاغتراب، ومسؤولية الزواج، والابتعاد عن الأهل، والتشتت، والجنس، وفهم الدين بشكل صحيح... يتناول دسوقي حالة الاغتراب والقلق التي تعيشها مجموعة من الشباب، بحثاً عن لقمة العيش والهروب من مجتمعات الضغوط اليومية. ولا يلبث أن يفضح شريحة أخرى من الكتّاب المزيفين الذين يكتبون بهدف التكسب واصطياد الفتيات كما في قصة «وحدة». هنا، تعاني الشخصية المحورية من مشكلات نفسية تتعلق بالوحدة والفشل في تحقيق الذات. لقد تحوّلت الكتابة لدى البطل إلى مجرد وسيلة لا غاية. ومع تناوب مشكلاته اليومية واستبداد الوحدة، يتماهى في خيلاته الليلية حول الجدوى من الحياة على هذه الشاكلة من الوحدة.
يبدو شغف دسوقي واضحاً بالحيوانات وطبيعة تفاعلها مع البشر في الحياة اليومية.
هذه النظرة التأملية تجاهها، تأخذ مساراتٍ عدّة كتأمل أسراب الرنجة المملحة في طبق فيه خل وزيب وليمون، والتساؤل عن كيفية اختفاء حيوان الخرتيت الأسود من الحياة. أسئلة متعددة يطرحها القاص حول تحوّلنا إلى حيواناتٍ يومية وافتراسنا لبعضنا وفقاً لقانون الغاب. وعندما نصل إلى القصة الأخيرة «حبّ الشباب»، يقلب دسوقي الطاولة من خلال اللغة المستخدمة والتناص البصري مع فيلم «الحلاقة الكبيرة» لمارتن سكورسيزي. يتحوّل قلقه بشأن البثرة بين حاجبيه إلى هوس متزايد حول انتشار العدوى في وجهه ككل. يقول على لسان البطل: «وضعت الكريم على البثرة وأنا أنظر إلى نفسي في المرآة، نقطة بين حاجبين، رأيت بثوراً أخرى تنمو في كل مكان، ولكل بثرة كريم يعلوها والكريم يحرق، والحرق يأتي بالحكة، والحكة تزيل الكريم، وتنقل العدوى إلى مكان آخر...».
إن نهوض السرد في المجموعة على لسان راوٍ غائب تارة وعليم طوراً، مكّن القاص من التجوّل في مساحة شاسعة من الشخوص والأمكنة الذين تجمعهم تيمة الوحدة والقلق.

 

جريدة الأخبار اللبنانية