يصور الروائي السوري حياة مدينة صغيرة في سوريا تعيش هلعها في ظل نظام الحزب الواحد، تفاصيل اليوم وأفكار بشرها من خلال التركيز على شخصية صبي أخرس وحماره وهما يراقبان ما يدور من عسف وخوف ورعب.

شـهادة أتان (رواية)

محمد حاج صالح

(1)

اشترى أبوه بكلّ ما يملك أتاناً فتيّة، علم كلّ من في البلدة سريعاً أنّها مخصّصة لنقل الدقيق. فالطاحون لا تبعد إلا بمقدار سماع محرّكها ذي الطقطقة المستمرّة من طلوع الشمس إلى آذان العصر.

فور وصولها نمتْ صحبة بين الأتان والصبيّ. لم تمض أيّامٌ، إلا ورأى كلّ ذي عينين ذاك التعاطف الكبير في عينيّ الأتان متى لمحت الصبيّ. ما إن يقترب منها حتى تحكّ جبينها بصدره، أو تدفع كفلها في بطنه، وهو ببسمته البلهاء يلمّس ما بين أذنيها، ويطبطب على ظهرها، ويتحدّث معها حديثاً هامساً مستغرقاً كلّ كيانه. كثيراً ما فاجأتْهم وهي ترمح بعيداً، ملقية الكيس عن ظهرها، نافضةً حافريها في وجه من يقترب، ليكتشفوا مرّة بعد مرّة أنّ الأتان الحصيفة لا تقبل حملاً إن لم تكن يد الصبيّ قد لمست جسدها، وإنْ لم تره أمامها بهيئته التي تنضح طيبةً، وهو ينظر في عينيها إعلاماً لها بأنّ الأمر عادي وطبيعيّ.

تلك أصبحت وظيفته… يوضع الكيس فوق ظهرها، فيمشي وتمشي هي خلفه، على صورتهما التي لا تتغيّر… هو بحديثه الداخلي، متمايلاً في المشي، كأنّه حمار صغير. وهي تحت حملها بخطواتها المثقلة، على بعد نخْرة نَفس واحد من ظهره. إذا ما تباطأ تباطأتْ. وإذا ما أسـرع أسـرعت. وعند العودة يركب الطريق ذاتها، متقدّماً على أتانه بنـخرة النفس الواحدة.

رآه مدير المدرسة يعتلي أتانه بالمقلوب، قاعداً على كفلها، تاركاً كلّ مسافة ظهرها خلفه، والأتان ترهون مسرورة.

" يا ولد‍ْ!‍ " صاح به.

ولأنّ الصبيّ كالعادة مشغول بداخله، لم يسمع، ولم يلتفت.

" يا ولدْ…‍ هيِيِييِيِِه يا ولدْ! "

ظلّ الأستاذ يصيح إلى أن تبرّع البعض باعتراض الأتان، ليمسكوها من شعرها المجدّل، ولينبّهوا الصبيّ مثلما هي العادة بالصراخ قريباً من عينيه.

" هيِيِيِه… يا حمار... الأستاذ ينادي عليك! "

هم يعرفون إنّه لن يتكلّم، لذا تطوّعوا بالوقوف منتظرين. ينقّلون أبصارهم بين بسمة الصبيّ البلهاء، وبين عرق الاستنفار على جانب رقبة الأستاذ، الذي يبصق الكلمات كما لو كانت حصى.

" لـمَ تركتَ المدرسة يا ولدْ ؟ "

لم تتغيّر ملامح الصبي. ظلّت بسمته تشعّ هَبَلاً وطيبة، وعيناه ترفاّن كأنّه لا يفقه. قالوا

" إنّه لا يتكلّم…أخرس…به بركة "

وتبرّع أحدهم بالقول اللئيم

" لا يتكلّم مع النّاس… لكنّه يتكلّم مع الحمارة! "

… من هنا… من قلب السوق، وبدافع من هذا الحادث ازداد تشبّث الأستاذ بفكرته القائلة: على كلّ صبيّ أن يتعلّم حتى لو سُجن ذووه عقاباً على إهمالهم، وأيضاً لإفهام النّاس أنْ بالعلم وحده تتقدّم الأمم.

أب معوز لا يستطيع التخلّي عن سحر ابنه الذي يجعل الأتان طيّعة.

وأستاذٌ مهووسٌ يرى في نفسه رسول علم.

وصبيّ وصل إلى مراهقته وهو يعيش في ذاته دونما اتصال مع الناس...

المناقشة حامية

حامية جدّاً. يلتقط منها كلمات وإيماءات، توحي من طرف أبيه بأنّه لن يتخلّى عنه من أجل خطوط على دفاتر، ومن طرف الأستاذ توحي بأنه سيعيده إلى المدرسة حتى لو اضطرّ إلى قلع عيني أبيه. والصبيّ يدخل إلى نفسه. ما الذي ستفكّر به الأتان إذا ما أجبروه؟ كيف يكون وطء الفراق عليها؟ ما الذي ستفعله عندما يحاولون وضع كيس فوق ظهرها؟

سلفاً رآها ترفس كلّ من يقترب. سلفاً رأى ساق أبيه المكسورة. وربّما رمحتْ عاصفة غاضبة، لتغيب في البادية. ربّما أوقعتْ نفسها في جبّ. ربّما حسبته ذهب بعيداً، فتركب الإسفلت مُتتبّعة أعمدة الهاتف نحو المدينة حيث الزّحمة والصبـيان الذين، يتذكّر، كيف تلاعبوا به عندما تركه أبوه لدقائق أمام المشـفى. قرصوه في مواضع عدّة، وتغامزوا بكلمـات لم يفهمها. لاعب أحدهم يديه أمام وجهه ثم خطفهما إلى مابين فخذيه، فانحنى هو، ليرتطم أنفه بيد الولد العابث. وإذ أعجبت اللعبة الآخرين راحوا يقلدون، بينما كان هو يستقيم وينحني وسط ضحكهم. لن ينسى تلك الجملة المحفورة في رأسـه عندما تركوه وهم يردّدون

" من أيّ مغارة خرجتَ؟! "

استيقظ للحظات، ليدرك أنّ الأسـتاذ وأباه، اتفقا على عودته إلى المدرسـة، بشرط أنْ يأتي أبوه ليأخذه كلّما كُلّف بطحْنة.

سـيكون افتراقه عن الأتان ليس طويلاً إذن. ومع ذلك أحسّ بغصّة من تأجّلتْ عقوبته. لكنّه امتلأ غبطة، إذْ خطرت على باله فكرة اصطحاب الأتان إلى المدرسة.

في الصبح ضجّت البلدة بالحركة. جرّارات تُشغّل. صهاريج تُملأ. أباريق شاي غلتْ. دجاجٌ استفاق وقوقأ. رائحة خبز فاحت. صوت النّسـاء والأطفال علا. وبقرة الجيران خارت. والصبيّ أيضاً تنشّق رائحة الشاي وأرغفة التنّور الذي تتناوب عليه ابنة الجيران وأمه إذا ما استشعرتْ أنّها قادرة على وجبة عـجين هذا الصباح وخبزه " قبل أن أموت! " كما تقول دائماً، بينما يدمدم أبوه بما يمكن أن يُفهم من ملامح وجهه " موتي .. وخلصينا "

لم يرتكس على سؤال أبيه النّابر، الذي أحسّه كعصا تفتل في الهواء مَقذوفة نحو قفاه، فقد بات يشعر بقوّة فريدة تنبع من الصمت

" لماذا تأخذ الأتان معك؟ أتدرس هي أيضاً؟! "

" لـمَ لا تكون أباً مثل الآباء؟! " قالت الأم بين السعال.

" اخرسي يا امرأة أنت تنفرين حتى الحجر "

... لـماذا يسأل وهو يعلم أنّني لن أجيبه؟

ولـماذا يصرخ عندما يسأل ؟

آخ... لماذا لا يكون أبوه أباً؟ ولماذا لا تكون أمه أمّاً؟!

عند باب المدرسة زفّه الطلاب وهم يصيحون:

يا عامر يا عمارهْ

يا زوج الحمارهْ

خذْ الدف وانقرْ عالطارهْ

يا عامرْ يا عمارهْ

يا زوج الحمارهْ

يخرج من نفسه معبوطاً، ويشعر بأنه في مكان غريب.

ما الذي تفكر به الآن؟

ما الذي تقوله عن عجزه بينما هم يتخاطفون ذيلها ويقرعون على الكتب بين عينيها ؟

على العكس منه كانت الأتـان ترى في الازدحام احتفال ترحيب. وبرزانة وخطو ثقيل اجتازت البوّابة الحديدية المصبّغة بألوان العلم

أسود. أحمر. أبيض. أخضر.

لا بد وأن عيونهم جميعاً معلّقة بي.

... تباطأ وهو يربطها بفرع من فروع شجرة الكينا.

ما الذي يقولونه الآن؟

ألف عين بانتظاره

... ألن يتعثر في خطواته؟

بلمحة خاطفة رأى المعلمين يدارون إجهاشاً بالضحك... والمدير يناديه بإيماءة ملحاحة، وبكلمة تتكرر بين شفتيه. كلمة لا يمكنه سماعها، لكنه يدرك أنها تستحثه... ثمّ... أخيراً يسوقه المدير، ويقرّبه من السارية، بينما أصابعه تنقل الحنوّ عبر تربيتات على لبدة شعره الكثيف

" هذا زميلكم له حق عند الدولة في أنْ يتعلّم... كلّ من يسخر منه يسخر منّي… أمّا حمارته... " نظر في عيني الصبيّ، كأنّه يحشو الكلمات عبرهما عنوةً

" ... سيربطها من الغد خارج سور المدرسة... أليس كذلك؟ " انتظر جواباً لن يأتيه، إذْ كان الصبيّ قد أغلق على نفسه وإنْ كانت عيناه تحدجان المدير بعمق.

" ... أليس كذلك؟! " كرّر نافد الصبر.

لكنّ الصبيّ كان بعيداً على الرغم من أن رأسه ما تزال تحت الكفّ الحنون. ولولا هيئة القوّة التي يلبسها المدير عمداً في مثل هذه المواقف؛ لدمعتْ عيناه إحسـاساً منه بالواجب. فالعِلم والوطن والحزب ثالوث مقدس في رأسه المنشغل دوماً بانتظام الصّفـوف، وإعداد التحيّة الصباحيّة، مؤمنا أنّ انتظام الصبية وعلوّ هتافهم يعطي البلد منعةً وقوّة.

في ظل العَلَم وقف منتصباً، مزهوّاً بقيادته لهذا الحشد من (البراعم) كما يحبّ أن يسمّيهم، ومُفكّراً بالرّسالة الخالدة التي يحملها بكلّ الجدّ، إذْ من الممكن، لو أنّ أحداً ما واتتْه الجرأة وانتقد أفكاره، أنْ يفغر فاه من عجبِ أنْ يبقى أحدٌ في هذا البلد جاهل للحقيقة. ومن الممكن أن يسحق بأسنانه الغضب كأنه سيضرب فوراً.

وكما لو أنّ الطلاب جندٌ يستعدّون للمعركة؛ شـدّ قامته ونفخ إبطيه محدّقاً من فوق رؤوس الصبية إلى الأهداف البعيدة. صرخ

أمـة عربيـة واحدة

عصف هتاف الصبية في الفضاء

ذات رسـالـة خالـدة

أهـدافنـا

عصف الهتاف

وحدة. حريـة. اشـتراكيـة

وفي الحيّ طار الحمام وتقلّبت رفوفه في السماء، منتظرة تخافت الهتاف، كي تحطّ واحدة واحدة، وفي أجنحتها نفور للفرار من جديد.

فزع الدجاج واندس كما لو أن نسراً ألقى ظلّه. ورفرفتْ أوراق الشجر فوق الأتان كما لو أن ريحاً خفقت.

مع صريف المحّالة، ارتفع العلم مشدوداً بحبلٍ فسـفوريّ أصفر، مترافقاً مع لحن البوق ونهيق الأتان التي أعجبها الاحتفال مُعتقدة أنّ كلّ شيء على ما يرام، وأنّها جديرة هي ورفيقها بالسعادة...

وسط هذا المهرجان الذي سيتكرّر كلّ صباح، كان الصبيّ أصمّ أبكم، يبتسم لصبية يعيشون في داخله يلاعبهم ويلاعبونه، وأتانه تشـهد عبثهم بعيون سعيدة، وعلى محيّاها سرور الأخت الكبيرة... هكذا بحكم الفراغ النّاشئ عن تقدّم من هم أمامه، وبدفع الاحتشاد خلفه، مشى الصبيّ مُرتقياً الدرج، عابراً الممرّ في قلب صخب لا يعيه، فقد كان في بريّة وسط زهور وعشب نامٍ يراقب أرنباً يتقافز، وبين وثبة ووثبة يحدجه الأرنب بنظرة صداقة، وشفته المشقوقة ترتعش منفرجة عن سنّين طويلتين. يثب الأرنب الوثبة التالية، وهو من فوق أتانه يهمّ بالكلام عندما وجد نفسه واقفاً في فسحة مُبلّطة بين اللوح والمقاعد، والصبيان يدورون حوله متصاحين

" يا عامر ياعمارهْ يازوج الحمارهْ "

ومن خلفه يسمع طرقاً، ليدرك عندما ينبثق من باطن نفسه، أنّ المعلّم يطلب من الصبية الأشقياء أن يجلسوا... ثانيةً واحدة ويلفي نفسه وحيداً يتلفّت كمن أضاع شيئاً للتو... ومن يده جرّه المعلم إلى مقعد بجانب صبيّتين، وفي الخلف شبّتْ أصوات.

ألأنّه جاور الصبيّتين؟! ساءل نفسه.

وعاد فوراً إلى داخله راغباً في استكمال الحديث مع الأرنب.

 

ـ 2 ـ

كان الصبيّ يتقدّم في العلم تحت بصر وغبطة المدير. وكانت الأتان تتقدّم في العلم أيضاً. فألوان العلم على بوّابة المدرسة صارت امتحاناً يومياً في عينيها الجاحظتين. أخضر ومثلّث أحمر على أبيض وأسود. دون أي حرنٍ، صارت تعلم أن مكانها هناك، تحت شجرة الكينا. من هناك تشنّف أُذنيها، المتحرّكتين أبداً، بأصوات التلاميذ الآتية من القسم الابتدائي، وهم يردّدون خلف الأساتذة جُمل القراءة وأرقام جدول الضرب مُوقّعةً ذات جرس يجعلها، إذا ما سكنت وساد الصمت، تُطبطب أُذنيها، أو تومئ برأسها عالياً وسافلاً. فإذا ما طال الصمت أكثر فأكثر أرسلتْ نهيقاً ذا نغم.

"يا ربّ السماوات ماذا فعلتَ؟!" صرخ المعلّم في وجه الصبيّ حين رأى صفحة الدفتر مُصبّغة بلون أسود تتخايل فيه حروف الوظيفة. تظهر ولا تظهر. سوادٌ على سواد.

يكرّر المعلّم: " ماذا فعلتَ؟!" وهو يشدّ أُذن الصبيّ بقسوة من يطلب جواباً فوريّاً رغم علمه أنّ الولد لن يزيد على الابتسامة البلهاء والتعبير الحياديّ في عينيه البرّاقتين. أتاه الجواب من إحدى الصبيّتين اللتين تجمّعتا في ركن من المقعد

" أستاذْ ليس لديه ممحاة… يمحو بكعب الحذاء "

تبلّلتْ عين الأستاذ بدمع الشفقة، ومدّ يده في جيبه يريد استخراج قطعة نقد ليمنحها لهذا البائس الفقير. لكنّ الإحساس بأنّه يُفرط في رقّة قلبه، جعله يُخرج باكيت دخّان مُهرّب بدلاً من قطعة النقد، قائلاً برقّة

" خُذْ ... بعْ الباكيت واشتر ممحاة ودفتراً جديداً… "

ولولا أنّ الباكيت كانت قد استقرّتْ في كفّ الصبيّ القذرة، لانْتقل شـعوره نقلةً جديدة غير عابئة، إذْ أنّ بؤس البؤساء لا يُحلّ بنهْدة ضميرٍ.

من هنا تعلّم الصبيّ التدخين مُجتذباً نفاقاً من أترابه لن يدوم، حيث أتوا على آخر سيجارة في اليوم نفسه، مُنتظرين بقلق نهايات الدروس، ليتكوّموا في المراحيض الغاصّة بالغائط. هناك يشعلون سيجارة يتخاطفونها إلى أنْ تفوح رائحة العطبة، فيشعلون التالية، والتالية… والفتيات يتلصّصن بجانب عيونهنّ مُتظاهرات بأنهنّ لا ينظرن عبر الأبواب الخشبيّة المهترئة، حاسدات الصبيان على تفريغ مثاناتهم متى ما أرادوا، فلو أنّ إحداهنّ حُصرتْ وما عاد بإمكانها حمل بولها إلى البيت، لكان عليها أن ترشي اثنتين أو ثلاث من زميلاتها ليقفن سدّاً أمام الباب المهترئ من أسفله، وإلا ما كان لها أنْ تعصر ولو نقطتين وهي تتخيّل عيون الصبيان تحملق بالشخيب النابع من بين فخذيها.

بعزّة نفسِ من لا يريد إظهار صدقته إلى العلن، سيهمل المعلّم رغبته الملحّة في معرفة ما فعله الصبيّ بالباكيت. فقد ظلّ يلاحظ بخيبة المُحسن، وبطرف عينه، الدفترَ ذاته بصفحات المحو ذاتها. لكنّ المدرسة كلّها علمت بكلّ التفاصيل من العصفورة التي يستطيع كلّ واحد استنكار زقزقتها، إنّما لن يستطيع اسكاتها.

هكذا حرص المعلّمون، بتوافق سريّ، أن تعرف أياديهم اليسرى ما أعطته أياديهم اليمنى، بوحاً هامساً بين اثنين بدايةً، ثمّ حديثاً علنياً فخوراً: أنّ يد الصبيّ تناولتْ ما فاضتْ به ضمائرهم بسرور يكفي لأن يتكلّم الواحد منهم بحنو عن مدى غبطة ذاك المحروم وهو يمتنّ بتعابير عينيه عمّا يعجز لسانه عن لفظه. وليس من ضير في أن يزلق اللسان فيلفظ: العشـرين، بدل العشرة. والباكيتين، بدل الباكيت. وكيسـي قضامة بدل الكيس الواحد. وربطتي خبز بدل واحدة. فالمبالغة في النهاية ليستْ خنجراً يجرح.

هكذا نشأت في البلدة ظاهرة غريبة، ظاهرة شفقة بهذه العائلة البائسة. كان للمدرسة شرف البدء. ثمّ انتقلت الشفقة إلى الشارع. ثمّ إلى البيوت. وأخيراً إلى الجامع، حيث تركّزت خطبة الجمعة في الجامع الكبير على التراحم والتوادّ والتصدّق. وخصّ الإمام عائلة الصبيّ بالاسم مغرورقاً بالدموع، فالجميع، أولّهم الإمام يحفظون عن ظهر قلب آلاف الحكايات التي تصبّ في جيوب الفقراء واليتامى، وإنْ بقي الفقراء فقراءً، واليتامى يتامى. إذْ لن ينبت لليتيم فجأة أبٌ كان قد مات.

كانت الخطبة تقع على والد الصبيّ وقعاً صعباً، وما إن انتهت حتى خطف حذاءه وهو يشعر بأنّه يذوب في ثيابه. وإذْ شاهده أحد الذين تحرّكت فيهم الرأفة سارع إلى اللّحاق به، وجرّه عنوة إلى موقع أبعد بقليل من آخر أزواج الأحذية المنتشرة في صحن الجامع. هناك أجلسه، وبكلّ إيمانه نزع عن رأسه غترته وبسطها، وشرع على الفور بالنداء

" لله يا محسنين لله... لله يا محسنين لله ... ساعدوا أخيكم في الله!"

طفق المصلّون الخارجون يُسقطون نقوداً ورقيّة ومعدنيّة، مُخفّفين بذلك جزءاً من الغمّ، شاعرين بأن أجنحةً تنبت لقلوبهم.

الرجل الفقير المحصور في خجله يتمنّى لو أنّ المصلّين خرجوا دفعة واحدة، ليتخلّص بأقصر وقت. لكنّ المصلّين غير متساوين في عمق إيمانهم وفي عدد الرّكعات. هذا يكتفي، وذاك يزيد.

والرجل الذي تسبّب في استعطاء المُحسنين، يكتسب صوته شيئاً فشيئاً رنّة آلية. كلّما رأى أحد المصلّين يتقافز على حذائه داسّاً يده في جيبه، أعْلى صوته كأنّه يحث على الدفع أكثر. ومع سقوط النقود على الغترة يهبط قرار صوته، كما لو أنّ الدفع لم يكن في المستوى المطلوب.

ألنْ يكون من المفاجئ أنْ يملأ السمع صوتٌ جهوري

" لمن تجمع المال يا ابن آدم؟‍… لمن تجمع المال يا من لا يملأ عيـنك إلا التراب؟‍‍‍ "

من هذا النداء برز صوفيّ ذو ثياب مُرقّعة، مُحدّقاً بالمال بقرف من يحدّق بجيفة. والرجل الفقير يتصاغر تحت لهجة الاستنكار وكأنّه هو الذي يكنـز المال.

" لمن تجمع المال يا ابن آدم؟! "

من أين أتى هذا الصوفيّ؟ ولماذا في هذا الوقت بالذات؟!

أيكون كلامه نذيراً؟ أم هو حشو مهنة المتصوفة؟

هذا ما سيشغل البلدة شهوراً. ذاك يفسّر كلّ مصيبة ستأتي على أنّها ذات صلة بكلمات الصوفيّ المُنذرة. وآخر لا يرى فيه إلا بهلولاً يهرف بما لا يعرف.

تلعثم الرجل الفقير في الحرج وهو يرجو الصوفيّ أن يحلّ ضيفاً عليه، فما دام الله قد بعثه والمال بآن واحدٍ، فإنّ حكمته قرنتهما معاً. وما عليه إلا أن يلحّ ويحلف إنّما بلا جدوى.

إذْ كان الصوفيّ كلّما ازداد الإلحاف يزداد رفضاً ولسـانه يلقي المواعظ دون فواصل كما لو أن في حنجرته آلة تسـجيل، بينما كانت لحيته التي وخطها الشيب ترتفع وتهبط، وعينه اليمنى تتغامز باستمرار.

يهذر ويهذر

" … تجمع المال لمن يا آدمي؟! أليس للوارث؟!… تبني الدور لمن وأنت ستسكن اللحد؟!… تملأ بطنك بالطعام لأيّ شيء؟! ألست تتغوطه؟!… تنكح النساء بقلبك وبعينك فهل اكتفيت؟!! لا والله لا تكتفي إلا بملء عينك تراباً… يا مجانين الدنيا زائلة والآخرة باقية فلمَ التعب والنصب؟! "

زمناً في صمت الجامع الذي خلا من الناس ومن أزواج الأحذية، ظل الصوفي يدور ويدور ناقراً بعصاه بلاط الباحة هاذياً.

أمجنون هو؟!

أيفرش عدّة العمل؟

أم هو صوفيّ من أولئك المتصوّفة الحقيقيين؟

والرجل الفقير تتلبّسه ملامح المتهم بلا ذنب جناه.

… وكانت الأتان بعد ساعتين ترقى بأناة الممرّ الضيّق، صاعدة نحو المغاور، حيث اعتاد الصوفيون الإقامة. يحثّها الصبيّ بخفق قدميه، وبعصاه الرفيعة الصافرة في الهواء.

أَكانت خائفة مثل الصبيّ؟

أم أنها بروح الحيوان تعرف أن ليس ثمّة ما يخيف؟

متجاوزةً بخطواتها فوهات المغاور، حيث تندفع رطوبة جوف الأرض، والصبيّ لا يجرؤ على الالتفات كلّما مرّ بباب مغارة، متصوّراً آلاف العيون اللمّاعة لقبائل الجنّ تحتشد خلف الظلمة.

إنّما لم لا يكون أبوه مُخطئاً؟

ويكون الصوفيّ قد مرّ بالبلدة مثلما يمرّ بها صوفيّون كُثر لا يلبثون ولا يقيمون.

لم تبق في الأعلى سوى المغارة الكبيرة التي تطلّ على البلدة كعين عمياء.

من هناك ينـزل الممرّ حَدْراً نحو سطح مفرزة الأمن... خطوة. خطوتان وتستوي مسطبة من صخر أملس أمام باب المغارة، والأتان تنهق خادشة بحافرها الصخر. يبزغ الصوفيّ قادماً من جوف الظلمة مهيباً، على الرغم من رقع ثيابه الملوّنة. بيده السبحة أم الألف وفي فمه الأذكار. تجمّد الصبيّ على ظهر أتانه، بينما كانت عينا الصوفيّ تتدرّجان من النظرة المتسائلة إلى النظرة المرحّبة. مدّ الصبيّ يده بزوّادة الطعام، راغباً بلفظ كلمة... كلمة واحدة

لكن هيهات

ابتسم الصوفيّ، وتناول الزوّادة بيد جافّة وابتسامة عذبة. ثمّ ربّت على كفل الأتان يأمرها بالذهاب.

أَكانت الأتان تدرك لحظتها ما يُطلب منها لتمشي الهوينى كما لو أنّها أُمرت أنْ تكون حريصة؟ أم أنّها كانت ستتصرّف، على أيّ حال، بذاك الحذر الذي يجعلها تبزخ مقدّمة حافراً يعي أنّه ينبغي عليه الارتـكاز جيّداً، وإلا هوى الرفيقان في باحة المفرزة، حيث السيارات تبدو من هنا صغيرة، والعناصر يبدون كما لو أنّهم أقزام.

تاتا... تاتا... كان الصبي يلفظ في داخله، وهو يرى يديه تمسكان أطراف الأرنب الذي سيظلّ يحلم به.

… خطوةٌ واحدة إلى الأسـفل لتهبط الممرّ الذي بات زلقاً رطباً بسبب الظلّ المحصور بين الجرف وبين الجدار الخلفيّ لمفرزة الأمن، حيث نبتتْ شجيراتٌ ذات أوراقٍ خضراء داكنة، ما كان لها أن تحيا هناك لولا حبّها للعزلة... ونصف خطوة ليقع أوّل حافر على سطح المفرزة. والصبيّ لا يعلم حقّاً، إنْ كان قد نهز خاصرة الأتان في إيماءة مُشجّعة على اجتياز الحرم الأمنيّ أم أنّ الأتان قد قرّرتْ وحدها رؤية ما هو ممنوع.

في الدّاخل سكنتْ رؤوس العناصر، وشخصتْ عيونهم إلى الأعلى، وهم يصغون بقشعريرة وهلع إلى الوقْع المتقدم فوق السطح. لكنّ شلل أجسادهم لم يدم سوى الفترة الكافية ليصل الوقع إلى الحافّة الداخلية. فزّوا إلى بنادقهم بفزع، مُفكّرين

لـمَ لمْ ينذرهم الحرّاس ؟

أَيكونون قد ماتوا خنقاً؟

بحذر القطط التصقوا بالجدران، بعد أن قفزوا من النوافذ قفزات خبيرة على رؤوس الأصابع، حريصين أن لا يصدروا صوتاً… أسلحتهم مُهيّأة، وعيونهم تبصبص إلى الأعلى في وَهْم أن تطلّ أشباح المهاجمين من الحافّة.

وفي الحيرة سكنوا زمناً

كلٌّ ينتظر المبادرة من رئيس المفرزة، إذْ لا مصلحة لعنصرٍ في المجازفة. أمّا الرئيس فسـيكون مسؤولاً، إما عقوبة وإما ترفيع.

راحت الأفكار تختلط في رأس الرئيس غير المعتاد على حمل بطيختين مرة واحدة، فكيف إذا تسـاوطت الأفكار مثل أفاع تتناكح. كل العلوم العسكرية تبخرت من رأسه... لكنه أخيراً اهتدى.

كانت الفكرة تتلخّص في الالتفاف حول المراحيض المعزولة. لو أنهم يصلون إليها لكانوا في وضع قتالي أفضل. من الكوى سـيطلقون، وستكون الجدران خير واقٍ لهم، إلا إذا كان بحوزة المهاجمين آرْ ب جي عندئذٍ ستتحوّل المراحيض إلى مـصهر مميت.

يهرش جبينه كما لو أنّه يحكّ الأفكار

أما إذا كانوا لا يمتلكون آرْ ب جي فإنّ المشكلة تكمن في الخطوة الأولى، إذْ عليهم قبل الوصول إلى المراحيض، أنْ يجتازوا الساحة المكشوفة

يا إلهي.

من هنا لا يظهر في المحارس أيّ من الحرّاس. إمّا أنّهم قُتلوا، وإمّا أنهم أُسروا وقيّدوا. في كلا الحالين لا يستطيع الرئيس أن يستفيد منهم… إذا صرخ، علم من هم فوق بوجودهم تحت، ليزخّ الرصاص من حافة السطح بزاوية حادّة نحو أسفل الجدار.

ياله من وضع محرجٍ!

ولولا النّهيق الذي أطلقته الأتان بحسّ مرح لبقي الاستعصاء قائماً.

كما لو أنّ نهيقها كان بوق نفـير أفزع الحرّاس الأربعة في نعسـهم، ليطلّوا من محارسهم المُعلّقة دفعة واحدة. وليتفاجأ الآخرون، من هنا، من الأسفل، كما لو أنّ وجود زملائهم أحياء أمرٌ خارق. يرونهم من هنا، من أسفل الحائط، مُتجمّدين في الدهشة فلا يفهمون لم لا يأتون بأيّ حركة.

مشهدٌ غريب أيضاً، أنْ يرى الحراس زملاءهم أسفل الحائط محترسين بسلاحهم، وفوقهم تحت السارية تشرئبّ أتانٌ يمتطيها صبيّ.

أَلا تحتار العقول هنا وتعجز عن اكتناه المشهد؟

من هم تحت ينتظرون من الحراس، ما داموا أحياء، أنْ يرشقوا المهاجمين بنار رشّاشاتهم…

لكنهم لا يفعلون!

ومن هم فوق مشدوهين لا يعون ما يرون.

مشهدٌ غريب عجيب

حرّاسٌ ثبتتْ حركة كلّ منهم في فتحة المَحرس مشدودين إلى نقطة واحدة. وعناصر مسلّحون ثبتتْ حركتهم في نصف الانتصاب إلى أصل الحائط، كما في صورة فوتوغرافيّة. وأتانٌ تنهق مُستعيدة في نفسها ذكرى غبطة ما، يعتليها صبيّ ساهٍ لا يُدرك معنى أن تطأ أتانه سطح مفرزة أمنٍ، كما لو أنّها تطأ أرضاً لله.

فجأة شرع أحد الحرّاس يضحك ضحكاً هستيرياً، عندما أحرز بلَمْعة ذكاء بأيّ عدسة عجائبيّة صُوّر هذا المشهد الغريب. ثمّ التقط رشّاشه، وطفق يطلق نحو السماء.

لا الضحك ولا إطلاق النّار نحو الأعلى، كان مُفسّراً لدى أولئك الملتصقين بالحائط.

وعندما وصل معنى المشهد إلى زملائه الثلاث في محارسـهم، التقطوا هم أيضاً رشّاشاتهم، وأطلقوا نحو تلك النقطة من السـماء. ومثله سرتْ عدوى الضحك في أجسادهم.

رشقٌ وضحكٌ

ضحكٌ ورشقٌ

ألا يعي إذن أولئك الذين انْشبحوا إلى الحائط؛ أن ليس بالحرّاس جنونٌ، وإنّما هم يرون فوق السطح شيئاً مضحكاً؟

بلى

لأنّهم وإنْ لم يتساووا في الإدراك سريعاً، إلا أن عدوى ارتخاء سواعدهم الحاملة للسلاح، وعدوى اعتدال قاماتهم بعد القرفصة المتحفّزة، أدخلتْ في نفوسهم شيئاً فشيئاً، أنّهم احترسوا ممّا لا يُحترس منه، وأنّهم وقعوا في وضعٍ مخجل يثير كلّ هذا الضحك والبهجة. لكنّهم إنْ لم يروا بأعينهم ماذا يكون هذا الشيء المتمركز هناك، فوق السطح، فإنهم لن يستوعبوا إلى أي مدى دفعهم القدر ليكونوا محطّ هُزء زملائهم.

لعنة الله على الخوف

كلّهم سيحلفون في لحظات الصدق أنهم اعتقدوا بأن المهاجمين وضعوا لهم نهيق الأتان في مسجّل ليربكوهم. وليموّهوا. وليهينوا.

متشجّعين ببعضهم البعض تخلّوا عن الحائط نافذين من ظلّه إلى الشمس، رافعين وجوههم إلى الأعلى وأكفّهم تظلّل عيونهم ليروا الأتان تدور مرتعبةً، والصبيّ طافح الذراعين والساقين، وعصاه تعلو وتنخفض وتنجرف يميناً وشمالاً، كما لو أنّها مؤشّر بوصلة يهتزّ في كوْنٍ مُضطرب.

لو أنّ أحداً رفع عينيه إلى أعلى الجرف، لرأى الصوفيّ من هناك يطلّ، ولأنشأ حكاية، مثلما ستنشأ حكايات عجائبيّة عن معجزات سيقوم بها، كأنْ يراه يرسم دائرة بذراعه في الفضاء، ثمّ يشقّ الهواء إلى نصفين في حركة حاسمة تجعل الأتان تتوقّف مُتجهة ذات الجهة التي أشّرت عليها سبّابته.

"خصيمك الله يا أخرس الشياطين!" هتف عنصر وشرع بالضحك مُلقّماً بندقيّته. لكنّ رئيس المفرزة بادر إلى تخفيض سبطانة البندقيّة بإصبعين. فالأمر في عقله بكلّ تفاصيله المبهمة، يحتوي على نوعٍ من الانتقاص له أولا، ولهيبة الدولة ثانياً، ومع ذلك هو الذي أومأ للصبيّ بمرح مُصطنع، أن ينـزل، مُلتقطاً التسمية التي أطلقها عنصره

" تعال... انزل يا أخرس الشياطين "

وبحشدٍ من أجساد وبنادق زُفت الأتان وصبيّها الذي ولج المرح قلبه بعد أن داخله شكّ من أنّهم سيسلقون جلده، فطفق يفتح فمه ويغلقه، مُقلّداً حركات أخرس يعرف كيف يغشّ، مُردّداً في داخله مع عناصر المفرزة

فوق الخيلْ فوق الخيلْ

نشد العزم نشد الحيلْ

....................

فووووووووووقْ الخيلْ

 

ـ 3 ـ

بتلك الرّوح العطوفة التي راحتْ تنتشر في البلدة مثل عدوى زكامٍ؛ انطلقت الأتان على طول الشارع الرّئيس مُتجهة نحو المركز الثقافي، حيث تتمركز الدوائر ومقرّ الحزب. رأسـها ينوس بين وضعٍ عالٍ تطلّ منه بعينين ذكيّتين على المارّة، وبين وضع خفيض تترسّم فيه وقع خطواتها على البلاطات النّازلة الطالعة. تجبرها البضائع المندلقة على سيرٍ غير منتظم، فتستغلّه هي في المرح كما لو أن الخطوات الجانبية جزءاً من لعبة. وبين لحظة وأخرى تنفض رأسها يميناً وشمالاً متلاعبة بالبالونات الملونة المعلقة في شعر رقبتها وكأنها تقول

- انظروا.

الصبيان خلفها يهتفون بما تعلموا أن يُهتف به في مناسبة كهذه، وهي أكيدةٌ من أنّ فارسها مسرور بجرّ هذا الجمع الهتّاف، مثلما هو سرورها بامتلاء بطنها الذي تُعبّر عنه من تحت ذيلٍ يلوح مُتمايلاً. مُنتصباً منخفضاً. ملتفاً. دائراً. وفي الحرج من أن تفعلها أمام عشرات العيون، تجبر نفسها على الانقباض، كلّما شرع ذيلها بالإيحاء وشرع الصبية يهتفون

" قمّط يا وريقْ الخسْ قمّطْ… هيهْ… هيهْ… هيهْ… "

إذْ ذاك تنقبض، وتدفع عميقاً في جوفها ما كان ينتظره أولاء الصبية. خيبة وراء خيبة. تهمّ ولا تفعل. ترعد ولا تمطر. يبرز مثل كمأة، وينطوي مثل فم أهتم.

البعض يهتف هنا، والبعض يهتف هناك

قمّطْ يا وريقْ الخسْ قمّطْ

.... ... أسدْ... رمز الثورة العاااربيهْ... .... ... أسدْ

ولا مَنْ يجد غضاضة. حتى رئيس المفرزة ومدير المدرسة وشيخ الجامع وضابط الشرطة وأمين الشعبة، الذين كانوا فيما سلف يُبدون في ملامحهم ثنيات غضب من القليل الموحي بنقص الجديّة، حتى هؤلاء الغُضّاب، تباسموا بسماحة وهم ينظرون جمع الصبيان يتقدّم عابثاً خلف الأتان نحو بوّابة المركز، حيث أحاط صفّان من الشرطة بصفّين من أطفال الطلائع المزرقّين برداً، بفولاراتهم وبقمصانهم الصفراء ذات الخريطة التي تشبه نمراً يشبّ، حاجزين في الوسط الممرَّ الذي رسمتْ عليه ارتجالاً نجمة داوود. بل إنّ مدير المدرسة مال إلى أذن رئيس المفرزة، ليهمس فيها بإنجازه المهمّ في إعادة هذا الولد الذي يعتلي الأتان إلى المدرسة " فلا يُعقل أبداً أن يتسرّب من التعليم لمجرّد أنّ أهله فقراء! " وليُجيبه رئيس المفرزة بهزّات من رأسه وبابتسامة عريضة، على الرغم من روح الرّزانة التي راحت تراوده منذ بدأ الجمهور يتوافد.

كانت إشارة مدرّبة الطلائع قد انْطلقتْ عبر نفْضة من يدها، آمرة بالتحيّة الطلائعيّة للضيوف الصبيان الذين أعادهم بريق النّجوم على كتفي ضابط الشرطة إلى الجدّ. انتصابٌ مبالغ به. صدورٌ بارزة إلى الأمام. أذرعٌ متباعدة. وآباطٌ منتفخة

أهلا وسهلا بيييييييييييييييييكمْ

طلائعْنا بِتْحييييييييييييييييييكمْ

ثمّ الإيقاع المرح للتصفيق المُدَوْزن بفرح طفولة على هذه الصورة: خمس تصفيقات مُتتالية بفاصلٍ زمنيّ مُتساوٍ وقصيرٍ لثلاث دفعات، وثلاث تصفيقات مُنفردة بفاصل أطول.

بدا وكأنّ تلك التحيّة كانت للأتان وفارسها الصبيّ الذي عرّم جسده كما لو كان ينـزل من رأس جبلٍ، جارّاً وراءه الصبيان الذين انْدغمت أكفّهم مباشرةً بالتصفيقة الطلائعيّة المرحة. كان من الممكن تنبيه الصبيّ، قبل أن يلج الممرّ، إلى وجوب ربط أتانه بعيداً. لكنّ جوّ الفرح أعمى الجميع، فلم ينتبهوا إلا والأتان تخطو بثقة فوق نجمة داوود والجةً الممرّ.

ومن عجبٍ أن يكتسب وقع حوافرها على الفور إيقاع التصفيق: توقيعات من الحافرين الأماميين في ثلاث دفعات

ثم ضربات متأنيّة بالحافر الأيمن

ونفْضة إلى الخلف للرأس الضخم

وسكون تمثيليّ...

فات الآوان على منعها.

وأيضاً بروح مرح وطيبة أبدت رغبتها في صعود الدرج نحو الصالة، كي ترى ما الذي سيحدث هناك. حيث الزحمة والهرج والاستقتال على انتزاع المواقع الأمامية ممن اعتقدوا أنّهم بوصولهم مُبكّرين ضمنوا رؤية صورهم على شـاشـة التلفزيون، لكن نهزةً من قدم الصبيّ أعلمتْها أنّ دربها يسير مستقيماً باتجاه شجرة السرو حيث ستُربط. ولأنّها أيسر من أنْ تُعاند، أطاعت مُجتازة باب الألمنيوم والبلّور، ليس دون عثرة بظفر الألمنيوم اللاصق بالبلاط. هي عثرة يعلم الصبي أنّها تصطنعها اصطناعاً ، لتدفعه إلى الانكباب على عنقها.

( ... تستلذْ الملعونة! تستلذْ ) أسر لنفسه وهو ينبطح على ظهرها ويحضن رأسها.

فوق... كانت الصالة تغصّ بالصخب، وفضاؤها تحت السقف غابةٌ من أعلام وصور تتدلّى. لا أحد يصغي لأحدٍ. الكلّ يصرخ ويتنقّل. والفرقة الموسيقيّة المُؤلّفة من طلاب الثانوي ذوي الزّنود المُعرّاة تتحضّر استعداداً للعزف. دقيقة. دقيقتان، وترتعش الأعلام والصور والأجساد، وحتى الدم في العروق، بضربات الطبل الذي يقرعه فتىً يعطي عزمه في زنده باسماً مغتبطاً من أنّه هو بالذات مَنْ يستطيع تغطية كلّ شيء بطبله. ثمّ تنطلق الآلات النحاسية.

لكن هيهات؟

أين قوة النّفخ مهما تضخّمتْ؟ من زند فتى يقرع بعنف جلداً مشدوداً على فراغ أوسع من برميل؟

ألا يصمت الجمع المتراصّ الصاخب إذن؟ بلى بلى. ويتعمّق الصمت، حتى أنّه لولا الصدى الذي يتركه قرْع الطبل في الفواصل، لأمكن سماع رنّة الإبرة.

وقوفاً في الممرّات بين الكراسـي وفوق الكراسـي، كانت الجموع تنتصب. كلٌّ يدفع قامته ويؤشّر بيديه ويحملق بكشّاف الضوء المسلّط، كي تلتقط الكاميرا غبطته بتوقّع مشهده على الشاشة. وحده صفّ الكراسي الأمامية كان مشغولاً بمن لا يسمح لهم موقعهم إلا أنْ يتميّزوا برصانة تجعل سحنة الواحد منهم تضطرب بين الفرح وبين الرصانة المطلوبة أمام كاميرا سيرى صورتها الناس، وبالأخصّ منهم الأهل الذين ستمنحهم الصورة نوعاً من قوّة يتباهون بها أمام الجيران والمعارف. على المُرابط هنا، أنْ يحسب كلّ حركة، وأن يرسم على وجهه تعبيراً، هو بين بين. بين الجدّ العَبوس وبين الفرح. لكن هذا الحساب المقلق هو يالضبط ما يجعل عيونهم تدور في محاجرها، مُرتعبين من أن تضبط الكاميرا ما لا يرغبون، ليرى النّاس لاحقاً المَشاهدَ تزدحم بحركات أيدٍ، ورأرأة عيون، وتمخّط خَجَلٍ، وسعال كاذب.

في الخلف كان الذيل المؤلف من الصبيان واللامبالين يتلوى، لكنه سيسكن مع أول قرعة طبل. عندها بدأت معاناتهم في الوقوف على رؤوس الأصابع، كي يروا المسـرحَ، حيث الفرقة والمنبر المُنار بأضواء تجعله يتلامع ويتبارق. وعريف الحفل ذو اللحية الشبابيّة القصيرة يتنقّل ببدلته الزرقاء وربطة عنقه المُبرقشة بين مسؤول ومسؤول، مُنحنياً فوق رؤوسهم بزهوّ الطاووس الذي يتهيّأ لنشر ذيله، وبجدّية من سيُقدم على إبلاغ الجمهور بشيء لا يبتعد عمّا قاله المتنبّي

"سيعلم الجمع ممن ضمّ مجلسنا بأنّي خير من تسعى به قدمُ "

... بحركة غدرٍ جعلت وجه قارع الطبل ينضح حقداً، أنهى الصنجُ العزف بعد لحظة واحدة من ارتخاء ذراع الطبال. وكانت صدمة صحني النّحاس ما تزال ترنّ مرفرفة بين الصّور والأعلام، عندما ارتقى عريف الحفل درجات المسرح، وذيل الألوان يتسحّب خلفه مرشوقاً من نافذة العرض. صعوداً وهبوطاً عبر ضباب الدخان وكثافة الأنفاس تنبثق حزم نور ملوّن مجتازة فضاء الصالة لتنطبع دوائر ونجوم. تتعلّق الدوائر والنجوم لصيقةً بخطا عريف الحفل، الذي اجترح الكلام فور قبضه على ساق الميكرفون، نافثاً همساً ملأ الأسماع

آلو... آآآلوووو... واحد... اثنان

وبلا تلكّؤ صدح بقصيدة على قافية الـ " يّهْ " تغصّ بألقاب الرئيس الموصولة بزر مع التصفيق. يلفظ " .... ...ـيـهْ " فتلتهب الأكفّ. الـْ....ـيـهْ. تصفيق. رمز الـْ.....ـيـهْ. تصفيق. ضمير الـْ....ـيـهْ. تصفيق. وفي آخر بيت مدّ القافية، ثمّ بتر فجأةً، ليعلن بصوتٍ مُرهق عن الخطيب الأوّل الذي رآه الحضور يصعد بخشية كما لو كان ديكاً مبلّلاً يجرّ ذيل خزي.

بدتْ عينا الخطيب هلعتان ضائعتان لا تحطّان. وعندما همس عريف الحفل في أذنه وهو يُقرّب الميكرفون من فمه، جفل كما لو أنّه سيُضرب… مرّات عديدة تهيّأ برفيف شفتيه وبتقليص قامته، لكنّ كبحاً عظيماً كان يربكه، ويلوّن شـفتيه بلون غريب كأنّه يُخنق… أخيراً. أخيراً نجح في لفظ حروفاً مُتعثّرة من الجملة الشهيرة

" أيّها اليـّ … فْفففا … قْ … أ … يّـ … هـ…ا … الـ… مُـ... و …ا …طِطِطِ …نـ …و…نننـ...نْنـ "

فجأةً راح يترنّح في عيون الجمهور. والوجوه والأضواء والأعـلام والصور تترنّح في عينيه. زال لون الاختناق من وجهه بالتدريج، ليحلّ محلّه اصفرارٌ شمعيّ وعرق يتلامع. وحين لم يعد باستطاعة جسده البقاء مُنتصباً؛ ترنح إلى الأمام والخلف، وانقلبت عيناه إلى بياضهما، ثمّ اختفى خلف المنبر، مع صوت ارتطام بالخشب... لكنّه... ظلّ يحضن المكريفون.

" داخْ… داخْ… داااااخْ… سقطْ... سقطْ ... سقاااااطْ " صاح أحد الصبيان، فردّدوا جميعاً بصوت عالٍ مثلما يردّدون الشعار في تحيّة الصباح

" داخْ… داخْ… داااااخْ… سقطْ... سقطْ... سقاااااطْ " هكذا أطلق الصبيان طيف نكتة. وكما لو أنّ جنيَّ الضحك شـرع بأصابعه المليون يدغدغ كلّ البطون، طفق الحشد يضحك ضحكاً هستيرياً لا ينطوي على احتقار لـحمدان الساقط خلف المنبر، بقدر ما ينطوي على جوّ خُلق بسحر الصيحة: "داخْ… داخْ… داااااخْ… سقطْ... سقطْ... سقاااااطْ " وكأنّ أحداً لا يسقط أبداً. وربّما كان لتوقّع اللعثمة واللثغ والتأتأة وتربّصهما نصيبٌ أيضا في هذا الضحك المجنون. فالكلّ يعلم أنّ الرفيق حمدان يصرّ في كلّ مناسبة على أنْ يلقي هو بالذات كلمة منظّمته، وفي كلّ مرّة تمتلئ كلمتـه بالأخطاء واللثغ والتعثّر واحمرار الوجه وتعرّقه. كثيراً ما صاحوا حين يُحسَّك الكلام في حلقه بلا أمل في تجاوز الجملة اللّعينة

اقفذْ عنها يفيقْ ... اقفذْ ... اقفذْذذذذ...

فيقفز اليفيق حمدان دون أن يعدم جملة لعينة أخرى مليئة بالراءات اللعينة أو الزايات الألعن... وقفزات أُخرى وأَخرى. لكنّ ما حصل اليوم لم يحصل من قبل. في المرّات الماضية كان، على الأقلّ، يُنهي كلمته المتقطّعة باللثغ والقفزات وهو منتصب، أمّا هذه المرّة فأنهاها سطيحاً.

في عمق المسرح، تحت أقدام الفتى قارع الطبل، مُدّد حمدان مرفوع القدمين على كرسيّ بعد أن خُلّص المكريفون من أصابعه المتشنّجة… طبيب يقيس ضغطه. وممرّض ينضح وجهه بالماء. بينما انتصب خلف المنبر خطيبٌ لا شكّ أنّه لا يرى في الحادثة ما رآه الحشـد، فقد كانت قامته مشدودة وفي عينه نظرة ثأرية توشك أن تجرح، ساكناً سكون عاصفة ستزمجر. وبالكلمات ذاتها التي أسقطتْ رفيقه صرخ

" أيّها الرفاق... أيّها المواطنون ........." مُوغلاً على الفور ببلاغة خطابيّة، تمتدّ فيها حروف المدّ إلى آخرها، وتنْبتر الحروف الساكنة في وقفة حادّة وجادّة، كما لو أنّ معركةً تُكسب في هذه اللحظة بالذات.

استحوذ الخطيب المُفوّه على الانتباه، وكأنّ يديه المتحرّكتين خفْضاً ورفْعاً قد شبكت أنظار الجميع. نطاسيّ خطابة كانَ. رجل منابر... يصطنع بين الصرخات وقفات هدأة. يتفرّس في الوجوه، كأنّه يحدق في كلّ عين ليرى الأثر، أوكأنّ ما يقوله هو عين الحقيقة التي سيكون من الجريمة ألا تقتنع بها عينٌ لعبتْ أو يدٌ هرشتْ.

النّوافذ الوسيعة مفتوحة إلى آخرها كي تسحب الأنفاس وروائح الأجساد لتوزّعها في الفضاء، ومنها كان صخب الآلات الموسـيقيّة قد خرج. وعبرها الآن ينفذ صراخ هذا الخطيب الثائر بشـكلٍ مُضاعف. مرّة لأنّه تلا سقوط حمدان، ومرّة لأنّه يدرك أنّ الثورة تُمسّ إذْ يصخب الضحك على وقوع خطيب من خطبائها. لذلك دارتْ كلمات خطبته عاصفة حول معنى وحيد. لخّصه في البداية ببيت الشعر

"تقضي الرجولة أنْ نمدّ جسومنا جسراً فقلْ لرفاقنا أنْ يعبرووووووووا… "

والأتان المُتوحّدة في الحديقة تحت شجرة السرو شرعت بالنهيق. نهيق، يعلم الصبيّ من نغمه، أنها مسرورة وأنها تتوق إلى رؤية ما يحدث هنا. نهيقٌ متدحرج، مرح. نهيق يُشبه لحظة الغبطة التي تجعل عضلات الأنف تتقلّص، وأعصاب الشمّ تُدغدغ، والمثانة تلحّ… مُتحيّنة تلك السكنات بين تدفّقات الخطبة، لترسل النهيق المغتبط

…الثورة قادرةٌ رغماً عن أنوفهممممم

هااااءْ هااااءْ هااااءْ...

في هذالمُنعطف التاريخي الخطير

هااااءْ هااااءْ هااااءْ...

الثورة للجماهير والجماهير للثورة

هااااءْ هااااءْ هااااءْ...

مثلما هو الجسد الواحد

هااااءْ هااااءْ هااااءْ...................

وفي عينيّ الصبي تندغم صور ثلاثة لأفواه ثلاثة

فم الخطيب الذي يمتط ّوينحسر مثل ستارة في ريح

تكشيرة أتانه وهي تنهق

شفتا أمّه وهي تتخلّص في آخر نوبة السعال من البلغم ذي الخيوط المدمّاة.

 

ـ 4 ـ

" أين أبوك؟ " تردّد الأمّ في فحيح صدرها.

" أين هوووووو؟ " تردّد آليّاً.

" أين أبوك...هااا؟ "

في بضع دقائق أنهى الصوفي دمدمته وهو يحضن رأسها نافخاً على أهدابها، بينما كانت هي ساهية مستسلمة كما لو أنها تشرب أُكسير الحياة

" هنا... هنا... " تدقّ بأصابعها مُجتمعة على صدرها.

" هنا... هنا... " تقبض على يده وتنقّلها على سلّة أضلاعها.

" هنا... هنا... " يتمايل رأسها من هذا الجانب إلى هذا الجانب وشفتاها تنغلقان على المرارة وجفاف الريق.

" هنا ... هنا ... تموء القطط‍‍‍‍... "

" أممممممممممْ يا موت تعالْ... " ولسانها يمطق كما لو أن للموت طعم حلواً.

مسح الصوفيّ على عنقها، وعلى صدرها الأعجف، وعلى الثديين اللذين لم يتبق منهما سوى جلدٍ فارغٍ وحلمتين من زبيب جاف.

ودعا في النهاية بصوت أجشّ ربّـاً قريباً يكاد يُلمس

" يا واحدْ. يا كريمْ. اشفها لوحيدها... ستشفين بإذنه إكراماً لهذا الولد ".

دمدمتْ هي في ضيق النفس، وغرقتْ من جديد بالسعال، مُخفية فمها بخرقة القماش التي تدفعها بين زفرة وزفرة إلى ما خلف شفتيها لتمتصّ البلغم المُدمّى. همّ الصبيّ بمساعدتها، ثمّ وقف في حيرته عندما حجزتْه بذراعها حابسةً سعالها لتقول بجلاءٍ، كما لو أنّ سمّ الكلمات يشفي صدرها

" ابعدْ… أنت مثل أبيك تتمنى أن تراني ميّتةً وتخاف أن يعلم هذاك

ـ مشيرة إلى السماء

_

… يا ربّي موّتني

… يا ربّي خلّصْهم منّي "

تلاقت العيون

عينا الصبيّ تبثّان قهراً دامعاً

عينا الصوفيّ ترفوان جرّة محطّمة لا يراها سواه.

وعينا الأمّ تنكسـران ندماً على كلمات لا تتفوّه بها أمّ.

"خذه معك... ابعده عني... اتركوني بحالي... " راحت الأم تهذر على الرغم من شعورها بأنها تخطئ وأنها تقسو.

... من الطرف الآخر للشارع العام، أقلعت سيّارة " نيسان " تابعة للمفرزة. كالعادة بلغتْ سرعتها القصوى في لحظات، غاصّة بصبيب البنـزين وبجئير محرّكها.

وبعنفٍ احتكّتْ عجلاتها وهي تتوقف إلى جنب الصوفيّ

" هييييهْ … أنت! أَتحمل هويّة؟‍‍‍‍‍‍ "

ما كان في نيّة عنصر الأمن على الإطلاق طلب الهويّة، وإنّما تورّط بالفرملة دون أن يدري لماذا. ولمّا لم يجد ما يقوله… لو أنّه سلّم، أو سأل عن الأحوال. لو أنّه مازح الصبيّ أو سخر منه " أهذا أنتَ يا أخرس الشياطين؟! " أو لو أنه هزج " هييييهْ... فوقْ الخيل فوقْ الخيل… " لبرّر تصرّفه أمام نفسه… أما وأنّه لم يخطر على باله، لا المزاح، ولا السـلام، ولا أيّ كلامٍ يمكن أن يُقال؛ لفظ تلك الجملة الأمنية الألوفة

" أَتحمل هوية؟ "

وكما لو أنّ الصوفيّ طُعن بأعزّ ما عنده نفض يده في الهواء، ومشى.

لبث العنصر لحظات مهاناً ينشـحن بالغضب، وقدمه تفتح البنـزين وتغلق، تفتح وتغلق، والقدم الأخرى تكبح وتخلي. تكبح وتخلي، والسيّارة تشبّ وتخمد. تشب وتخمد. فجأة فتح الباب، وركض بعنف خلف الصوفيّ الذي أظهر لامُبالاة تُغضب الحمار. أمسك بتلابيبه وراح يدفعه يميناً وشمالاً، هائجاً صارخاً

" هوّيتك يا كلبْ…"

يد عنصر الأمن تهزّ الصوفيّ هزّاً. والصوفيّ سادرٌ في لامُبالاته، مُسبل اليدين يُحدّق بعين واحدة في عيني العنصر، بينما عينه الأخرى تتغامز على عادتها كأنّ شيئاً لا يحدث.

ثم. صفعةٌ صفعتان، ويدخل ضيوف الصقّار بينهما بلطفٍ، داسّين في أُذن عنصر الأمن

" إنه صوفيّ… صوفيّ… والصوفيّ لا يُسأل عن هوية "

والعنصر يتفلّتُ بروح نمرٍ:

" ماذا لو كان عميلاً إسرائيلياً… هاااااا؟! "

"… يا أخينا افهمْ! صوفي. صوووووفيييييْ " يدسّون الكلام في أذنه، بينما لسانه يَعلق دون فكاكٍ بتلك الكلمات

"ماذا لو كان عميلاً إسرائيلياً هاااااااا؟!"

أخيراً يركض بجنون نحو السيّارة في لحظة بدتْ للنّاس أنّها ركْضة من سيجلب الكلاشنْ، ليخرط الجميع بمشطين أو ثلاثة. خلا الشارع فوراً من البشر الذين انزووا في الدكاكين، مُبصبصين من خلف الدعامات والأبواب. لكنّ العنصر أقلع بالسيّارة مُبتعداً في هيجانٍ عنيف، والسيّارة تضطرب مبرهنة أنها سيارة أمن فعلاً. تأخذ الشارع ورباً قافزة على الرصيف، ثم شاغرة عجلتين جانبيتين مثل كلب يبول، مُتسـحّبة في سـرعتها تلك على جدار المدرسة... سيحلف كثيرون إنها ركبت الجدار كما لو أنها تسير على طريق مستو، بينما كان صفير عجلاتها الأربع يحكّ الأسماع، ودخان الاحتراق يثور في زوبعة.

فجأةً انحدرت وانقلبت قلبتين في الهواء، ثم هبطتْ في وضعٍ طبيعيّ، لتنطلق في زخمها العزوم ذاته نحو المفرزة.

" الله أكبر!... الله أكبر‍‍‍‍‍‍‍‍!... " همس البعض. وشرعوا يقبّلون يد الصوفيّ، الغارق في قراءة سرّية تتراءى في رفرفة شفتيه، وتغامز عينه، ورقص لحيته.

ألف عينٍ شهدت الحدث. ألف عين رأتْ سيّارة الأمن التي لا تتوازن على أرضٍ مستوية، تنهب بسرعتها الجدار كما لو أنّها تنطلق على مدرّج مطار‍‍‍‍‍‍‍‍‍. ألف عين دارت مع انقلاب السيّارة، وعجبتْ من أنْ تأتي في النّهاية على عجلاتها وتأخذ من جديد سرعتها كأنّ شيئاً لم يحدث.

أليستْ معجزة؟

" معجزة وربّ الكعبة. أراد أن يرهب عنصر الأمن دون أن يمسه سوء " هتف سلمو مقلّداً نبرة التفخيم في المسلسلات التاريخيةّ. وشرع يفسّر، ويربط بين كلمات نطقها الصوفي وبين أحداث حصلتْ فعلاً:

هنا. هنا بالضبط. أزاح بيده رجلاً ليري الناس البقعة التي وقف عليها الصوفي. هنا بالضبط التقتْه " فرحهْ " ودون حتى سلام سألتْه عن زوجها المفقود في حرب لبنان، وبلهجة… أنتم تعرفون وقاحتها… سألته: يا شيخ ألا تقول لكَ شياطينك إذا ما كان أبو الدّراعيش حيّاً أم ميّتاً؟‍‍ تباسـم هو في وجه المرأة ومسك يدها هكذا… وحقّ الذي لا إله إلا هو حدّثتني نفسي: أيّ صوفيّ هذا الذي يلمّس بنعومة يد امرأة، وفي السوق! وقال: سيأتيك علمه قريباً. قريباً! ثلاثة أيام… أنتم تعرفون باقي الحكاية... ثلاثة ياجماعة… ثلاثة أيام بعد غياب خمس سنوات وألف إشاعة... ثلاثة... وإذا أبو الدراعيش بزيادة في الشحم واللّحم يدخل البلدة بسيّارة ب إمْ دبليو.

" ياسيّدنا حوّدْ اشربْ قهوتنا "

نادى الصقّار بصوت عال كما لو أنّه يُدلّل على بضاعة في سوق، وأمسـك يد الصوفي باحترام بالغ، وقبّل يده هو بدلاً من يد الصوفيّ، مُوارباً جسده كي يرى ضيوفه أنّه يمكنه التلاعب بذكاء في كل الأوقات. وفي نصف الحلقة المفتوحة على الرصيف لم يمتعض سرّاً سوى ثلاثة: إمام الجامع، ومدير المدرسة، وأمين شعبة الحزب. هؤلاء ... ثمّة شيء وخز كلاً منهم على حدة، شيء يهمس في بواطنهم بأنّ أمراً ما، ليس على ما يرام، يحدث.

في قلب الصوفيّ أيضاً تبرعم سؤال

" ماذا تديرون يا وِلد اللئيمة؟ "

" خذْ... " هتف الصقار، ومد إصبعين بينهما مائة ليرة ملفوفة على طولها.

تناول الصبيّ المائة، وشرع في التجوال في الساحة، مواجهاً الأضواء المُنسكبة التي تكاد تحوّل ليل أواسط الربيع بقرصة برده إلى نهار. وانشغل بإحصاء الصور. أربعون توأماً للرئيس في القماشة المشـدودة مثل عصابة حول الدكان. والصقّار يحتفي بالصوفيّ احتفاءه بأمير يرغب في شراء صقر. وفي سرّه يتكوّر سؤال واحد

(كيف أُدبّره وأجعله يدور في دائرتنا؟ )

والصوفيّ يدرك نفاق أهل المال، ويحدق بالعلامة المحذرة التي طفقت تتفجر في نار الموقد. ثلاثون صورة على حبل غسـيل. بين الصورة والصورة علم. أحصاها الولد بسبابته المشرعة وهو يتنقّل لامساً الصور واحدة واحدة، وأتانه تنخر كلما انتقلت بين صورة وصورة... خمس وثلاثون صورة ملصوقة على جدار المضافة.

وعلى امتداد السوق تهفهف الصور والأعلام، بينما تقسّم اللافتات فضاء الشارع.

(كمْ يلزمه من وقت إذا أراد أن يحصيها جميعاً )

في الصور الورقية تظهر السنّ الذهبيّة لامعة، أما في الصور القماشيّة فتحلّ محلّ اللمعان بقعة سوداء. وفيها جميعاً يكاد هسيس ضحكته أن يخرج. يكاد أن يلفظ

مرحبا

" ماذا لو أنها جميعاً قهقهت في وقت واحد؟! " فكّر الصبي. تصورها فعلاً تشرع بالضحك، وتنـزل من القماش والورق، ومن الجدران وفضاء الشوارع، لتبدأ مسيرة يقودها التمثال المنصوب في مدخل البلدة. رآه بطوله الفارع وجمجمته الضخمة وقدميه الثقيلتين يهزّ الشارع في كلّ خطوة وخلفه

هو باللآف يحمل صوره

والبشر على الأرصفة يتفرجون.

" أرجو أن لا يكون عنصر الأمن قد أغضبك يا سيّدنا " قال الصقّار وهو يغمز بعينه الحولاء غمزة؛ ما كان واضحاً من تدعو إلى التآمر. أهو أمين الشعبة أم إمام الجامع؟

" رئيـس المفرزة من أطيـب خلق الله. إذا كان العنصر قد أسـاء الأدب... فإنّه... أنا متأكّدٌ... سيعبّده ذيل العجل " قال الإمام.

" أستغفر الله ... أستغفر الله! " أنشأ الصوفيّ يُردّد.

"بلى والله… يعبّده ذيل العجل وزيادة " هتف أمين الشعبة.

" يا سبحان الله… منذ مجيئه لم يحدث حادثٌ واحد يُعكّر صفو الأمن… لا سمح الله! وهو ليس مثل غيره يضرب على الطالع والنازل… أبدا "

" وهو يا أخي عسكريٌّ ولا كلّ العسكرْ طول وعرض وهيبة "

" تصوّرْ يا سيّدنا أنّ كلّ من في الجزيرة يحسدنا عليه... كلّهم يتمنّون لو أنّه كان رئيساً لمفارزهم. إِي واللهْ... واللهِ يا سيّدنا لو أنّه كان حاضراً معنا الآن... لرأيت عمر ومعاوية وعليّ في رجلٍ واحد... عدلٌ وحلم وصدق… لو أنّك تراه وهو يطعم هذين الصقرين بروح تواضعٍ يا سبحان الله لن تجدها عند غيره... إِي واللهِ "

هكذا خطب الصقّار، على الرغم من أنّه يعلم أن الجميع يعرفون أنّه يكذب، سوى من تلك الحقيقة في إطعام الصقرين اللذين تعلّما التّمسح برئيس المفرزة كما لو كانا قطّين أليفين. فالصقّار بروح نفاق أصيلة؛ يُجوّعهما دائماً بانتظار مجيء رئيس المفرزة. وفي كلّ مرّة يتظاهر أنّه ينوي إطعام صقريه بيديه. هنا يتعطّف رئيس المفرزة مُتنازلاً عن تيبّس ظهره العسـكريّ وانتفاخ إبطيه. وما إنْ يحضر إناء البلاستيك، حتى يلفظ الجُمل ذاتها التي لم تتغيّر منذ أوّل مرّة

" امنحني… لو سمحتَ… الفرصة في تكريم هذين الجارحين "

ثمّ يلبس القفازين ويبدأ في إلقامهما أجنحة ورقاب دجاج مُناغياً بصوت رحيم، إنّما بكلمات عسكريّة

" انتبييييييهْ… استااااااااعدْ… إبلعععْ... ولَكْ واللهْ العرب عباقْره لإِنهنْ حبّوا الخيل والنسا والجوارح " فيصدق الجميع للمرّة الألف بهز الرؤوس.

وفي كل مرة كان الصقران يتأمّلان من خلف الطماشين رائحة حيوان، تماماً في الموقع الذي يتصلّب فيه الصبيّ فوق أتانه، كما لو أنّه سيشرع بخطبة لن تقلّ عما قاله طارق في جيشه.

يتأمّلان مُصيخين بهذا الجانب وذاك، ثمّ فجأةً يرفرفان بعنف خلف العماء، ويعجزان عن الارتفاع ولو قليلاً عن قرمة الخشب الثقيلة.

يرفرفان... يرفرفان... يرفرفان...

والأتان تشبّ عالياً.

 

ـ 5 ـ

على الرغم من السعال ونفث الدم، راح خدّاها يحمرّان، حتى ليمكن إحصاء العروق الدقيقة التي تتلوّى تحت البشرة الرهيفة.

" ما شاء الله تفّاح خدّك نضج "

"سبحان الله! كلّ أدوية الأطباء من غير فائدة... وحدها قراءة الصوفيّ نفعتْ "

" بنت البنوت تحسدك على حمرة خدك "

" واللهِ وباللهِ… ولا... وجه مريم المغربية! "

تتباسم. ولولا نفث الدم والسعال لاقتنعتْ أنّ صدرها سائرٌ إلى الشفاء مكتسـبةً همّة طارئة. تعجن. تخبز. تطبخ. تغسـل. وتهذر بلوم لا يفتر لزوجٍ يسهر الليل بطوله وينام النهار كله. ثمّ … في نوبة أخرى تهبط إلى يأس صمتٍ ودمدمةِ شكوى، تُرفعها إلى ربّ اختارها من بين الناس، ليسلّط عليها آفةً تأكل رئتها. تأتيها مثل هذه النوبة حين تقذف مع سُعار السعال قطع دم، فتسارع إلى تغطية فمها بخرقة مُلوّنة لتخدع نفسها. فالخرقة البيضاء تُظهر كمية الدم موفورة. تضغط الخرقة على فمها، ريثما تشعر أن كتلة الدم انقلعتْ وتوضّعت في ثنايا الخرقة، حينئذ تمسح بها أسنانها وشفتيها وتدسّها تحت الفراش مبصبصة في حرجها؛ إذا ما كانت النسـوة حاضرات… هي في الضيق والخجل، وهنّ في تظاهرهنّ بأنّهن لا يرين شيئاً. أحياناً وعندما تكون وحيدة، تبسط الخرقة وتتأمّل جلطة دمها طويلاً، وكأنّها تتأمّل روحها… وكان هو يرى أمّه تذوب وروحها تنسلّ شعرةً شعرة، لتصبح في أواخر أيامها عظاماً، يترهّل عليها جلد، وجمجمةً تتلجلج فيها عينان.

تناديه بصوتٍ واهن كأنّه يخرج من جوف قبر. يقترب منها حائراً بين الحب والنّفور. وما إنْ يلمس يدها حتى تسري فيه رعْدة غامضةٌ. يستذكر صوت الإمام وهو يفخّم

( لا تقلْ لهما أُفّ ولا تنهرهما... )

حينئذٍ يشعر بأنّه خاطئ، ويتمنى لو أنه... يركع إلى جنبها. يمسك يدها. يمسح حبيبات العرق عن جبينها، ثم يقبل وجنتها الناتئة.

بهذا كلّه كان الصبيّ يفكّر حين انتبه أنّ الجميع نهضوا وهم يُطبطبون كتبهم، ويدسّونها في محافظهم. فزّ هو أيضاً حاملاً دفتره الوحيد، وشـقّ الزّحمة مشتاقاً لأتانه التي بدأت بالنهيق.

لا أحد يمكنه أن يدرك السرّ وراء قرار المدير بتحويل دخول الطلاب وخروجهم إلى ذاك الباب الجانبيّ. المعلمون ومدرّبو الفتوّة والمُوجّهون تساءلوا ما إذا كان قرار المدير مجرّد اعتباط! لكنّ عقل المدير فيه دوماً ما يبرّر كلّ شيء بأيّ شيء.

هما الاثنان...

هو وإمام الجامع يجدان دوماً التبرير لكل شيء

" الإمام... هَهْ... إنّه قادرٌ على تزويج فرخ شبّوط بأرنب دون أن يرفّ له جفن وبمسند أحمد! ".

" الأستاذْ... هَهْ... قادر على إقناع الصينيين أنّ العرب هم الذين بنوا سور الصين العظيم، وعلى إقناع البشريّة كلّها أنّ العرب فكّروا بالصعود إلى القمر قبل قرون وقرون باستشهادات من ميشيل وزكي... دون كنىً... هكذا بساطٌ أحمديٌّ . فهو رفيقهم ".

قد يكون المبرّر العلنيّ لقرار المدير ضعيفاً ، كأن يكون كلاماً عن أمان الطلاب من الدهس

(... إذْ إنّ خروجهم إلى الشارع العامّ في حماسهم حين انتهاء الدروس، يمكن أن يعمي عيونهم، فيندفعون بين السيّارات المسرعة. حينئذ يحصل ما لا تُحمد عقباه )

لكنّ المبرّر الداخلي سيكون شديد التماسك، إنما لا يمكن إظهاره. فكيف له أنْ يترجم الأوامر الأمنية المنصوص عليها في كتاب ممهور بسريّ جدّاً، يُشدّد على اتخاذ الاحتياطات كافّة، لتقليل الخسائر فيما إذا هوجمتْ المدرسة. إذن ألا يكون حصيفاً إذا ما فكّر بسيّارة مُفخّخة، تتخفّى ضمن سيل السيّارات المارّ في الشارع العامّ. مُتصوّراً أنّ سائقها المجرم، حين يوازي باب المدرسة الكبير، سينحرف فجأة. تندفع السيّارة، بعطالة السـرعة، قافزة الدرجات الأولى. ثمّ... في الفسحة التي توزع الممرّات نحو الصّفوف، ستنفجر مُحوّلة بناء المدرسة إلى كوم من حجارة وأشلاء. متخيّلاً حينذاك جثّته مهروسة تحت الركام. ألا يحتاط إذن؟‍‍ جاوبوه؟

بلى! بلى! بلى! يجاوب الصدى في داخل المدير.

وزيادة في الاحتياط سينقل مكتبه إلى آخر الممرّ، قريباً من المراحيض حيث الروائح النفّاذة، فضمان الأمن لا بدّ له من تضحية.

مدّت الأتان ذيل نهيقها واكتظّتْ بالهمّة فور اعتلائه ظهرها، قاذفة نفسها في الزحمة، حريصة على مُلاطفة الرؤوس الصغيرة عند أسفل طاقيّات الطلائع والفتوّة. تُعضعض الهواء مطقطقة بأسنانها الضاحكة خلف الرّقاب، وحريصة أيضاً أن تضع حوافرها في موقع خالٍ من الأقدام، فإذا ما استشعرتْ أنّ حافرها مسّ قدماً؛حولتْ ثقلها واستمتعت بالهتاف

" عامر يا عماره يا زوج الحماره "

وهي كأنّها تدرك؛ تُلعِّب رأسها هكذا وهكذا.

وللفتيات عندها مداعبة خاصة. تقترب خلسة وتنخر نفساً في شعورهن، وهي تمسّ كتف الفتاة بنهيق خافت. تجفل الفتاة أو تصطنع، فيتولى الصبية المناسبة ويشرعون

عامر يا عمارة يا زوج الحماره

كلاهما اعتاد المرور بدكان الصقّار ليتفرّجا وليكملا الحلم

( ماذا لو أنّ الصقار. هكذا. فجأة ناداه قائلاً: خذْ الصقرين. إطعمهما وحافظْ عليهما. إلى أن يظهر الخليجيّون.عندئذٍ... بعهما... وبالمال الذي تحصل عليه... داوِ أمّك واعتن بأبيك السكّير. ولا تنسَ أن تشتري لنفسك ما تشتهي )

مبطوحٌ على ظهر أتانه. رأسه إلى جانب رأسها. يحدّقان بالصقرين اللذين يُهيّجهما شعورهما بوجود حيوان غير بعيد. يشتدّ توتّر الصقرين المطمّشين. يتمايلان. يصغيان مرّة بهذا الجانب ومرّة بذاك الجانب. يقفزان دون أن يستطيعا الارتفاع، ويخفقان بعنف مشتبكين بأجنحتهما.

" انْقلعْ يا ولدْ " صرخ الصقّار، وهو يدلف من الباب الخلفي للدكّان. وبدا أن نبرته الآمرة لا تكفي، فالصبيّ والأتان بقيا على جمودهما.

" يا ولدْ رائحة الأتان تقهرهما... ألا تفهم؟ "

ثمّ فطن إلى أنّ أي كلام لن يجدي. أخرج قطعاً معدنيةً، جعل رنينها الصبيَّ والأتان يتنبّهان. هو اعتدل فوق ظهرها، وهي مدّتْ رقبتها إلى الأمام.

"خذْ... استعجلْ... الدنيا مطّارة "

حقّاً كانت النقط الأولى قد بدأت تتقاطر، ثمّ راحت تتكاثر، إلى أن غطّت البلدة غلالة من مطر كثيف. والشارع الرئيسـيّ يقفر من المارّة. وحدها سيّارات الشـحن العابرة كانت لا تعبأ بالمطر. وفي البعيد، عند أعلى الجرف، كانت مغارة الصوفيّ تبدو مثل عين عوراء.

يمكنهما الوصول إلى البيت عبر طريقين، واحدٌ يتعرّج بين بيوت الفخّار المسقوفة بألواح الخشب، حيث المزاريب تقصر وتطول لتصبّ فوق الرؤوس. الثاني يختصر المسافة عابراً ساحات البيوت. إذْ لا يوجد هنا سور بيتٍ غير مهدّم. وفي هذا الحيّ العتيق لا أحد يمنع أحداً من المرور، فشريعة الناس هنا ما زالت وسيعة. شرطٌ واحد يرضعونه مع حليب الأمهات. شرط لا ينطق به أحدٌ، إنّما هو ناموسٌ ( عندما ترى امرأة عليكَ أن تغضّ بصركَ )

لكن ...؟

المطر يزخّ، والصبيّ والأتان يبتلان لكنّهما غير مُتعجّلين. خطاً بطيئة سـاهية، وفكرٌ غائص في حلم امتلاك الصقرين.

مثلما في حلمٍ تراءى للصبيّ شبح امرأة. ربّما كانت الأتان هي التي رأتْ أوّلاً ثوب المرأة يغيب، إذْ نفضتْ رأسها، ورغبت في إطلاق نهيقها لولا يدُ الصبيّ التي ربّتتْ على رقبتها بحركةٍ، تعلم هي تمام العلم، أنّها تعني الكفّ عن النّهيق مهما كانت رغبتها جارفة.

... إلى هذه الحظيرة المسـقوفة بالقصب دخلت المرأة، إذا كان ما رأياه ليس وهماً... بحذر بدأت الأتان تنقل حوافرها متكتّمة من أن يصدر لها وقعٌ. والمطر يزخّ بصخب تنقله الريح من هذا الجدار إلى ذاك، ومن هذه البقعة إلى تلك... تخطو نحو تلك النافذة الكبيرة العارية سوى من الصفائح الحجريّة التي ترسم إطاراً خالياً... قطرات المطر الغزير تضرب الجدار ضرباً، ثمّ تسيح مُشكّلةً ساقية تُسرع في الهبوط نحو الطريق خلف الحظيرة... والأتان تُدخل رأسها في النافذة مُطلّة على أكداس التبن، فيشهدان مؤخّرة محمومة الحركة. ثمّ يريان يداً تنـزل البنطال، بينما بقيّة الجسد تغيب خلف التبن. اليد ذاتها تُنـزل السروال، والقدمان تتخلّصان منه بلهوجة كما لو أنّهما لن تدخلا فيه أبداً. ينسحب ثوب المرأة أيضاً، ليلتمع ساقان بيضاوان، يبدوان في اشتباكهما بساقيّ الرجل في هيئة تحرّض الصبيّ والأتان على الانزياح جانباً، كي يتملّكا رؤية أوسع. تنهض ركبتا المرأة، وتبدو قدماها ثابتين على الأرض المُغطّاة بالتبن كما لو أنّهما لن تتزحزحا أبداً. تبدأ مؤخّرة الرجل بالارتفاع والهبوط، فيمتلك الصبيَّ إحساسٌ جديد. إحساس من ركب فرساً في سباق يكاد يفوز فيه. ينتعظ. يميل مُنبطحاً على ظهر أتانه. والشعور الغامض يُلهب كلّ خليّة في جسده، مُكتسباً لحظة بعد لحظة إيقاع هبوط وصعود الرجل فوق المرأة… مؤخّرة الرجل تصطفق بحوض المرأة، التصاقاً ونزوعاً، من الأعلى إلى الأسفل ومن الأسفل إلى الأعلى، بينما جسده هو يحفّ ظهر الأتان، من الخلف إلى الأمام ومن الأمام إلى الخلف. لاهثاً مثلما تتسارع مؤخّرة الرجل. متعمّقاً في خياله مثلما يتعمق الرجل في جسد المرأة. ثمّ … وفي حركةٍ نقضتْ إيقاع الصبيّ؛ قلعت المرأة قدميها من الأرض لتشرعهما في الهواء مثل قصبتي محراث... تسارع الإيقاع. حاول اللحاق. إنما... مرّة أخرى خرّبت الساقان البيضاوان غزْل الصبيّ اللاهث، حين تضامّتا كما لو أنّهما تهصران الرجل.

نبتة قندريس تلمّ أشواكها على نحلة

كان الجسدان قد أخذا هيئةً تنمّ عن قدوم شيء عظيم، حين أطلقت الأتان فجأة نهيقاً يفيض غبطةً، دافعةً عنقها عميقاً داخل الحظيرة، وخطمها يتقلّص عن أسنان تتقارب وتتباعد.

سكت الجسدان وكأنهما لم يكونا قبل لحظة دائبين في الحركة. ومن تحت جسد الرجل ظهر أوّلاً رأس المرأة وعيناها الفزعتان. ثمّ قفز الرجل كاشفاً عن الزهرة وهي تلتمّ ببطء وتنغّصٍ. والصبيّ يستقيم على ظهر أتانه، مبهوراً، مُحدّقاً بعينين بلهاوين. بهدوء أنزلت المرأة ثوبها وانتظرت من الرجل أن يقوم بشيء ما... وأيضاً بهدوء أخرج الرجل رزمة نقود، وقدّمها إلى الصبيّ بيدٍ مرتعشة وعينين وجلتين من أن يفزع ويستدير هارباً. كلّ شيء في الحظيرة صار هادئاً، حتى الحركة الخفيّة القلقة في عيدان التبن التي تحسّ بها الأتان وحدها؛ هدأتْ. ارتاح الرّجل لحظة لابتسامة الصبيّ وهو يتناول النّقود... لكنّ كلّ شيء عاد إلى التّوتر عندما بقي الجميع مُتيبّسين... المرأة واقفة خلف الرجل مُحتمية به... والأتان المُندفعة العنق في جوف الحظيرة العابقة برائحة التبن، ما تزال في عاطفتها التي تجعلها تُقضقض الهواء بأسنانها... والصبيّ ظلّ محتفظاً بابتسامته البلهاء مُحدّقاً بثبات.

" ابن جارنا " همست المرأة في أذن الرجل.

ماذا بعد النقود؟‍ أهو مجنون؟!

تساءل الرجل وهو يلتقط عين الصبيّ معلّقةً بساعته المُذهّبة، فنـزعها وأهداها للصبيّ بروح التمنّي أن تكون آخر ما يعطيه. لكنّ الصبيّ الذي أغلق الساعة على معصمه، عاد إلى التحديق... ومن خلف الرجل بدا على وجه المرأة ابتهالٌ ضارعٌ، والأتان مستمرة بالعضعضة.

يا إلهي ماذا يريد هذا الصبيّ؟!

" أتريد أن نذهب؟ "

هزّ الصبيّ رأسه موافقاً.

" ألن تُخبر أحداً؟ "

هزّ الصبيّ رأسه.

" لن تقول لأحدٍ…؟ " كرّر الرجل برجاءٍ.

هزّ الصبيّ رأسه.

 

ـ 6 ـ

... فوق ظهر أتانه، تحت القنطرة الكبيرة المتداعية راح يحصي النقود. خلفه غلالة المطر. وأمامه على الصخرة المنحوتة يقعي أبوه مثل بومة.

... يضحك ويضحك

يضحك ويحاول التصفيق. تتفاوت يداه كما لو أنّهما عمدتا أن لا تلتقيا.

يضحك. يضحك ويحزق

يأتيه الغثيان. يتكوّر في هيئة من سـيقلب جوفه. لكنّ شيئاً لا يخرج... لعاب دبق يتقاطر، وجهد ضائع.

ويعود إلى الضحك.

من هنا لا يرى الصبيّ أمّه لكنّها. ستكون هي الأخرى جالسة في الفراش تموء القطط في صدرها، وهي ترقب وتدمدم

( ليت الله ياخذني ويخلصني منّك )

وجد الرزمة أقلّ مما توقّع، فقد كانت العشرات والخمسات ملفوفة بأمّ المئة. عندئذ نمت في داخله بذرة سرية. هو لن يخبر أحداً أبداً، حتى ولا الصوفيّ. أما هي وصاحبها فلهما حساب

"حساب ! " ردد همساً لنفسه.

" أرى أنّكَ بدأت تكسب! " تلفّظ الأب متأتئاً ومتعثراً بالشهقات.

متجاهلاً أباه شرع الصبيّ يحث الأتان على تجاوز القناطر المظلمة التي ظلّتْ تثير فيها الخوف كلّ مرّة.

قنطرة بعد قنطرة... يا إله السماوات لـمَ بنى الأوّلون كلّ هذه القناطر؟

دهليز بعد قنطرة ،وقنطرة بعد دهليز…

وفي آخر دهليز، هناك حيث يسقط ضوء السماء من نافذة عالية، هناك يقع صيوانها. هناك يمكنها التمتّع بالتبن وعرانيس الذرة والشعير. غنى بعد شقاء. غنى اكتسبته منذ حلّ في هذه البلدة ما جعلها تتبدّل من أتان طاحون إلى أتان دلال ومرح…

سراديب وقناطر وأغنيةٌ تغنى في الأعراس

تلبقلكْ بيضا طويله

خدها هلالْ يلالي

تلبقلكْ حمدان زينا طويله

خدها بدر الكمالِ

هذا ما تبقى من ذاك الجد.

أَكان غنياً حقاً؟ أم أنها أوهام أب سكير يعزّي نفسه؟ فما إن يذكر حتى تحوم الشياطين، ويبدأ الهذيان

" من هذا الأهبل... " يشير إلى الصبي دوماً دون أن ينظر إليه.

" إليّ... " يضرب على صدره كما لو أنه يندب.

" إلى هذا ابن الـ.... الذي أكلت عقله قحبة... " يشير إلى الحائط حيث صورة الجد المبهمة خلف ذرق الذباب.

" إلى نوح... الذي لوْ لـمْ يأت بامرأة إلى السفينة لخلصت الدنيا من هذا الجنس القحب... "

" إلى... إلى آدم بيّاع الجنة... "

"تفوووو علينا أولاد الـ... "

" سلسلة أعطل من... "

" الغشيم ضيّعنا وضيّع نفسه في فروج الـ... " يكرر الإشارة نحو الصورة المعلقة على الجدار. ثمّ ينطوي ككلب يدفن خطمه بعد عواء مدّه في الليل البهيم.

" العرق يسوسْ بسبع جنوسْ " تدمدم الأم.

" قالوهااا الشرّيبه... هَأْ...أسوأ سكرة... هَأْ... تتْحصّل... هَأْ... من شرب العرق... هَأْ... والحشيش... هأْ... مع بعضْ هَأْ هَأْ… قالوها هَأْ هَأْ هَأْ… " يهذر الأب.

ولا أحد يصغي

صبيّ يتخارس

وأم مشغولة بفرقعة المخاط في صدرها

وحول الأب تدور الدنيا في مهرجان فرح. كلّ شيء يغبط الأب السكران...

القناطر الكئيبة تحوّلت في عينيه إلى عقود في قصور. ثقوب الجدران التي تُهرهِر التراب العفن الناعم صارت مخابئ أسرار. أُسس الجدران الحجرية في عقله المُهوّم تقوم على كنوز لابدّ له في يوم من الأيّام أن ينقضها ليحفر تحتها

...عندئذ سيغتني...

وعندئذ سيشتري سيارة وبيتاً وربما تزوج امرأة كالنساء...

ينهض بجسدٍ منتفخ كبالون يملأ جوف دهليز، إنّما بخفّة ريشة.

يتمايل في السكر وفي عينيّ الصبيّ وأمه.

أمّا هو فإنّه يرى نفسه طافياً بأجنحة تخفق بلا صوت

يتحدّث بلا معنى في سمعهما، لكنّه في سمع ذاته يقول حكماً

كلّ شيء جميل الآن في عينيه. حتى الأم المسلولة راح يرى فيها جمالاً لا يمتلكه إلا جسد الأنثى.

ولولا وجود الصبيّ ( لعنة الله عليه! لأخذها في حضنه و... ولتمُتْ بعدها... )

لكن الصدى الخافت في صدره كان يهمس:

ياسكير!

" هات يا ولدْ... هات ... " مد يده طالباً النقود.

.................

" هاااااتْ.... " واختطف رزمة النقود. بينما اندفع جسده إلى الجهة المعاكسة.

.......

ومن خلف القنطرة أتى صوت الأم

" تعال يا ولدي

... تعال تغدّى

... لا تسمعْ لهذا السّكير الذي نسي أنّ له امرأة وابناً

ونسي أنّ التائب العائد إلى السكر لا شفيع له عند الديّان...

تعال... "

 

ـ 7 ـ

" إذا سمعتم نهاق الحمير. تعوّذوا. فإنّها رأت شيطاناً. وإذا سمعتم صياح الديكة اسألوا الله فإنها رأت ملكاً "

كان الإمام يصرخ بالناس من فوق المنبر.

وراح الصبيّ يفكر داخلاً في لجّة خوف... نادماً لأنه لم يُطع أمه حين تمنّتْ أن لا يأخذ أتانه إلى خطبة الجمعة. قالتْ وسط هذرها الذي لا يتوقّف

" الذاهب إلى الجامع عليه أن يذهب برائحة طيّبة... ألا تعرف أن للحمير رائحة لا تزول حتى بعد سابع غسْله؟… لا تأخذها يا ولدي… اتركها. خذْ معك نيّة طيّبة. وادعو الله أن يشفيني ويخلّص والدك من سكره... اتركها يا ولدي… لا تأخذها "

أيترك أتانه؟!

يستحيل.

ما إنْ أخذ مكانه بين مُصلّيين حتى تيقّن أنّ ما قالته أمه صحيحٌ، فهو يعلم أنّ على صفّ المصلّين أن يتراصّ كي لا يدخل الشيطان بين مصلّ ومصلّ، وهذا ما فعله الرجلان الذين زاحماه في البداية تنفيذاً للشريعة، لكنهما ابتعدا فجأة كما لو أنهما اكتشفا أنّ به مرضٌ معدٍ.

أكانت رائحة قدميه المسلوقتين في حذاء البلاستيك هي السبب في نفور الرجلين؟

أم هي رائحة الأتان؟

الإمام يصرخ من فوق المنبر كما لو كان مقروصاً من روحه

ونهيق الأتان يأتي عبر النوافذ مضخماً برطوبة الجو

مباراة غير متكافئة

… الإمام يمتلك مكبّرات صوت. أمّا الأتان فلا تملك سوى حنجرتها المذمومة في الشريعة.

الإمام خبير في رفع الكلام وخفضه. ألف نغمة ونغمة. أمّا هي فلا تمتلك غير نغمتي نهيق تحتاجهما حقّاً

لماذا يصرخ كما لو أنّه يعارك؟

لـمَ لا يتكلّم بصوت خفيض مثل الصوفيّ؟

ومرّة أخرى أخرج الإمام الصبيّ من شروده بحديث بدا كأنّه موجّهٌ إليه وحده. تباطأ مُركّزاً بشدّة على نطق الحروف، كما لو أنها مسامير يريد حشرها في قلب الخشب، وكما لو أنّه يريد لموعظته أن تبقى ما بقيت الحمير

" الذي يرفع رأسه قبل الإمام في الرّكوع والسجود، عليه أنْ يخشى من أن يجعل الله صورته صورة حمار، أو يحوّل رأسه إلى رأس حمار "

أكان الإمام يرى صورة عدوّه في صورة حمار؟!

وأخيراً جاءت اللحظة، فليس من شيء أحبّ إليه من " آمين " التي تملأ قلبه فرحاً وهو يدسّها في قلب ذاك الحنين

" أللهمّ ياحنّان يا منان ارزقنا وعافِ مرضانا واجعلنا فيمن تشملهم رحمتك "

" آآآآميييينْ "

" أللهمّ قوّ شوكة المسلمين وانصرهم على أعدائهم "

" آآآآميييينْ "

" أللهمّ اكسر شوكة اليهود "

" آآآآميييين"

" أللهمّ أعنّا عليهم "

" آآآآميييين "

" أللهمّ انصرنا عليهم "

" آآآآميييين "

" أللهمّ اجعلهم ومالهم ونساءهم غنائم للمسلمين"

" آآآآميييين "

" أللهمّ حقّقْ وعدك واجعل الشجرة والصخرة تنطق: يا مسلم هذا يهوديّ ورائي تعال فاقتله "

" آآآآميييين "

" أللهمّ وفقْ أولي الأمر ودلّهمْ إلى خيرهم وخيرنا "

" آآآآميييين "

" أللهم وفق رئيس الجمهورية .... ..... وخذْ بيده وسدّدْ خطاه "

" آآآآميييين "

" يا ألله يا كريم يا منتقم يا جبّار… آمين أللهمّ آمين…"

" آآآآآآآآآآآآآآآميييييييييييين "

(فرق شاسع بين هذا الإمام ذو الكرش والصوت اللعلاع، وبين الشيخ إبراهيم، الإمام السابق. النحيل الطويل... سبحان الله نقيضان في كل شيء ) بمثل هذا يبدأ ماء الحكايات بالجريان؛

الشيخ إبراهيم أفتى بعدم جواز الصلاة على الأرض التي استولت عليها الدولة بعد الثورة، فسحله الحزبيون في الشارع ليدرك كلّ ذي عينين أنّ الزمان تغيّر، وأنّ الثورة قامتْ.

من يومها راح الناس يتحاشون ذكره. حادثة وحيدة استعصتْ فظلّت تنبق بين فترة وأخرى، لتسري سرّاً.

أكانت معجزة؟

يقولون: إنّ الشيخ إبراهيم أثناء اعتقاله الذي سـيطول، نُقل إلى المدينة، إذْ لم تكن للبلدة مفرزة خاصّة بها. هناك عُذّب عذاباً رهيباً تحمله دون أن ينطق بكلمة تَذلّل، ممّا دفع المحقّق إلى التفكير بتحطيم الشيخ. أمر عناصره أن يجرّدوا الشيخ من ثيابه. عارياً كما ولدته أمه. وأمام عينيّ الشيخ استعرض قبّة بنطاله التي صنعها بكفّه عبر الجيب، وجرّ سحّاب البنطال. هنا… يقولون: جفل الشيخ المقيد من أطرافه وغرس نظره في السقف.

وعندما مسّ لحم المحقّق لحم الشيخ، ولسانه يتلفّظ بانتقامٍ

" أُووووووه… مثل الجبسة!"

يقولون: صرخ الشيخ بصوت هزّ قبو التحقيق، فإذا العناصر يُصعقون، وإذا بالمحقّق يطير، مقذوفاً إلى الجدار البعيد ولرأسه صوت انفلاق الجبسة… ميّتاً… بعينين مبهوتتين.

" أيّ معجزة! " يسخر البعثيون

" كل مافي الأمر أن الصدفة لعبت دورها، فالشيخ الجاسوس رفس برجليه فجأة، فاصطدم رأس المحقق بالجار وحصل ارتجاج في المخ... أي معجزة أي ضراط! "

فور رؤيتها للصبيّ يبزغ من بوّابة الجامع نهقت. وهو أيضاً بنفاد صبر قفز إلى ظهرها، ونهزها، فنصبتْ ذيلها وأقامت عنقها مستعرضة كأنّها تقول أترون؟

طرقت بحافرها بلاط الرّصيف أمام دكّان الصقّار، بالحركة ذاتها التي تقوم بها كلّما أرادت التعبير أنّ كلّ شيء على ما يرام، وأنّها مستعدة لمغامرة جديدة. بينما استنفر الصقران.

(ماذا لو أنّ الصقّار... هكذا فجأة قال: خذ الصقرين أطْعمهما وحافظْ عليهما. إلى أن...)

مغمضاً عينيه يرى أصابعه تمسح على الريش، والطيران يستجيبان. واحد يخضع لحنو يده مثل قط أليف. والآخر ينقّل رأسه من هنا إلى هنا كما لو كان يحاول رؤية الحنان الذي يستمتع به رفيقه... تخيلهما سيموءان فعلاً عندما فتح عينيه على صخب العائدين من الجامع، وعلى رأسهم صوت الصقّار الضخم الذي لا يوحي به جسده الضئيل

" أتحبّ الطيرين يا ولد؟ "

ولأنّ الصبي بقي يحدّق في عيني الصقار بطيبته وببسمته الهبيلة، أعاد الصقار سؤاله وهو يكظم غيظه

" أتحبّهما؟ "

هزّ الصبيّ رأسه

" أتحبّ لو أنّك تراهما دائماً؟ "

هزّ الصبيّ رأسه

" إذن... لم لا تشتغل عندي... نأمرك بأمر ما... تنظف الطاولة والكراسي... تزيل ذرق الطيرين... تشطف الدكان... ما رأيك هاااا؟! "

" لكنّه طالبٌ عندي " اعترض مدير المدرسة.

" بعد الظهر يا أستاذ... يشتغل بعد الظهر… "

" ألا ترى أنّه يريد مساعدة هذه العائلة المسكينة؟!" تلعثم أمين الشعبة، فهو يعلم أنّ ناراً يمكنها أن تشبّ في رأس الأستاذ، ويمكنه أيضاً أن ينـزع منه أمانة الشعبة بسهولة تقليم ظفر، فالكلّ وأوّلهم الحزبيّون، يخشون تلك القدرة الغامضة " للأستاذ…!" هكذا يسمّونه كما لو كان ميشيل عفلق ثانٍ. كان يستطيع إزاحة أياً كان. وقبل كلّ شيء كان يمكنه أن يكون في أيّ وظيفة، لكنه عاف ( الكلّ شيء ) لصالح إدارة مجمّع المدارس هذا خلافاً للعرف والعادة. ترك كلّ الوظائف، بما فيها تلك الوظائف التي تدرّ لبن عصافير، مُبقياً لنفسه ذاك السرّ المبهم الذي يتداوله الجميع من أنه في الأمن السرّي. يقولون إنّه وأمثاله يرفعون تقاريرهم مباشرة إلى الرئيس

… هكذا بروح صاحب السرّ الدّفين، ابتسم الأستاذ ابتسامته التي لا يجيدها سوى من يعلم ما لا يعلمه الآخرون.

"خذْ... هذه خمسمئة ليرة... اشتر بها ثياباً وحذاءً " قال الصقار

"سيأخذها أبوه ليسكر بها" قال الإمام

"اشتر بها... هااااااا... أوعَ!"

" ... لكن ... عليكَ أن تأتي وحيداً ... " قالها الصقّار بلهجة ربّ عمل مُتسامح.

" وحيداً... يعني بلا حمارة... " شرح الإمام.

( …هنا خربتْ ) أسرّ الصبيّ لنفسه، مصمّماً على أن لا يقبل وظيفة إلا وأتانه معه. وما دامت النّقود قد أصبحتْ في جيبه، فليكنْ ديك الجيران ملكاً، ولْتكنْ أتانه شيطاناً!

" ... دون الحمارة هاااااااا " ردّد الإمام في ظهره.

من بُعد دارين وعدّة أسوار مُهدّمة اشتمّ رائحة خبز التنّور، فصمّم أن لا يدخل الخربة من الباب الحجريّ حاثّاً الأتان إلى ارتقاء الموضع المهدّم من السور، نابقاً برأسه أوّلاً ثمّ برأس الأتان، ونازلاً من الطرف الآخر نكساً برأسه وبرأس الأتان، التي أدركتْ من تحفّز فارسها وضغط ساقيه على بطنها، أنها يجب أن تنقل حوافرها بهدوء… قفزت الفتاة فزعة كأنّها وطئت أفعى

" تِفْ تِفْ... "

شقتْ فتحة ثوبها الرّجالي الفضفاض المسحوب إلى الأعلى فوق حزام عسكريّ، باصقةً في عبّها. انفكّت الأزرار عن تكور الثديين، واندفع أحدهما للمحة خارج الثوب، رجراجاً، أبيض بحلمة متوتّرة وهالة فيها حبيبات... لمّت الفتاة ثوبها، وشرعت تُغلق الأزرار، وتختلس النظر ... هو يعرف لسانها السليط الذي يمكنه أن يتحول فوراً إلى سوط، لولا الذي رآه هناك في مخزن التبن. ويعرف معنى تلك النظرات التي راحت ترسلها إليه بنفاق وغواية

" أنت أصغر من أن تنظر إلى نهدي هذه النظرة يا ولدْ! "

................................

" أَتريد أن أقول لأمك أنّك تنظر إليّ مثلما ينظر الرجال؟ أتريد أن أقول لها أنّ لك عيناً تأكل؟! "

………………

" ماذا تريد؟ "

……………

" يا ربّي؟! "

أشار نحو ثديها، فحملقتْ فيه مندهشة كما لو أنّ أخاها هو الذي باغتها بطلب كهذا… كرّر الحركة. ثمّ فرد أصابعه حول شيء كالحمامة، فيما وجهه يتورّد وعيناه تنديان، ويبدو أنفه كما لو أنّه سيعطس.

" يا ربّي!... أنت صغيرٌ على هذه الأشياء "

حدّقت فيه بوجه دعور. فتحت زرين، وانحنت تسجر التنور. مدّ هو عنقه كما لو كان يرغب في دسّ رأسه. رأى شكلهما قد تغيّر، فصُدم... رأهما يتدلّيان مثل كيسي لبن. لكنّه رأى أبعد منهما طيّات البطن وانخماص السرة. حينذاك تعمّقتْ رغبته أبعد فأبعد.

أما هي فشدت ملامحها ولفظتْ بحزم

" يكفي... ! "

....................

" خذْ... هذا خبزكم " قذفت الخبز في حضنه، ثمّ أدارتْ وجهه بيد ما تزال ساخنةً، وباليد الأخرى أمالتْ عنق الأتان إلى جهة البيت...

 

ـ 8 ـ

"لا تنهار الجبال كلّ يوم يا أخ!" ردّ سائقٌ من السائقين الذين صفّوا شاحناتهم على امتداد الشارع الرئيسيّ.

"صخرة واحدة وكوم حصى صار اسمه انهيار جبال؟!" نبر الأستاذ وسط الجمهور المُلتفّ حول السائقين على رصيف الاستراحة.

" صخرة؟!… هل هذه صخرة يا أخْ؟ إنّها بحجم تلك المدرسة… والرديم الذي انهار معها يكفي لبناء مدينة كاملة " بالغَ السائق.

وفي أعصاب الأستاذ سرت كهرباء الغضب.

" الشائعة الكاذبة هي حربٌ ضدّ الوطن. مثلها مثل غارة جويّة على هيئة الأركان " صرخ الأستاذ بكلّ طاقته لقهر الآخر بمصالح الوطن.

انْبهر السائق واتّسعتْ عيناه، وسرت عدوى دهشته إلى رفاقه الذين لم يدركوا العلاقة بين حديث مجاني في استراحة عن انهيار جرى على الطريق العامّ، وبين غارة تستهدف هيئة الأركان

... ومن خلال الجمهور الذي غرق في الصمت، كما لو أنّ صدى الانهيار ما زال يهدر؛ انْسربت الأتان، متقدّمة في هيئة فضول، وإذْ رأت السـائق والمدير يتواقفان، كلٌّ يحدق بالآخر، نهقتْ برغبة الحجز بين ديكين يوشكان على النقر.

صخب الجمهور بالضحك، وضاع التوتّر.

بعض السائقين أرادوا استغلال جو المرح الذي خلقته الأتان. قالوا

" إنّ الجرّافات فتحت طريقاً واسعة تكفي لمرور الشاحانات " أضاف أحدهم وهو يخمّن نوع العجينة التي خُبز منها الأستاذ

" حيّاهم والله... جرفوا الرديم في ساعات والحمد لله أن لا أحد تأذّى "

بدا الارتياح على سحنة الأستاذ، وهو يسرّ لنفسه إنه لم يشكّ لحظة واحدة بأنّ الدولة قادرة على حلّ أيّ مشكلة. لكنه خشي أن يبقى ذيل الكلام مُتّصلا،ً فهو لا يطيق أيّ شعور حتى لو نجم عن كارثة طبيعيّة يوحي بأنّ الدولة ستقف عاجزة

(الدولة لا تعجز عن شيء مهما كان )

... انْتباهٌ

صمتٌ

إصغاء

انْشداد نحو جهة واحدة

الطلاب المنصرفون بقمصانهم الطلائعيّة، أو ببدلات الفتوّة

سـائقو الشاحنات بثيابهم الزرقاء المُلطّخة

أصحاب الدكاكين بمعاطف الكاكي

البدو بجلود الخرفان رغم شمس الربيع

عناصر المفرزة الذين نزلوا للتوّ من سيّاراتهم بكلاشناتهم وبفضولهم الأمنيّ

معلّمون بحقائبهم الحاوية على دفاتر التحضير والبضائع الصغيرة

موظّفو الأعلاف والأوقاف، أولئك بثيابهم المُعفّرة وأولاء بجببهم النظيفة

نساءٌ متسوّقات بثيابهنّ الطويلة وعصابات رؤوسهنّ الملوّنة

كلّ من في الشارع، حتى الأتان، انشدوا وهم يشهدون عصابة من الكلاب تعدو خلف كلب

عشرات الكلاب مشرّعة الذيول. تمتدّ أجسادها وتتقلّص. سابحة كأنّ قوائمها لا تمسّ الأرض

والشارع يقفر كأنّما أُخلي لمرور موكب قياديّ. السائقون العابرون ألقوا نظرات في عمق المرايا، وانزاحوا

الكلّ لزم اليمين والصمت

وفي الفسحة الترابيّة أمام المدرسة، شهد الجميع تلاحُق الكلاب، ودخولها العراك في كتلة فوّارة من الغبار والنباح الكظيم.

ظنّ من شهد ذاك المشهد أنّ دماءً ستسيل، وأنّ جثثاً سينجلي عنها الغبار.

لكنْ لا!

فعندما انقشعت العاصفة وهبط الغبار، انسلّت الكلاب دون ضحايا. بل دون قطرة دمٍ واحدة. وتفرّقت مثلما يتفرق البشر الخارجين من السينما.

" لعب كلاب "

" فسق كلاب "

"…………"

علّق كثيرون بكلمات مازحة، كالتي تتناثر من أفواه المنفضين من مسيرة.

الصوفيّ وحده بدا مهتمّاً. يُعمل التفكير في هيئة مَنْ سيستخلص من كلّ هذه الهضاب الممتدّة بين تدمر والفرات بيضةً من ذهب

"علامتين!... أعطاكم علامتين في يوم واحد. انهيار الجبل، وفسق الكلاب... احذروا يا نايمين "

من لا يعرف الصوفيّ قلب شفته سخرية. ومن يعرفه أحسّ بنذير شؤم هامساً في جوفه

" أللهْ يسترْ! "

وفي الشارع دبت الفوضى من جديد.

الشاحنات تطلق أبواقها. الناس يتعثّرون كما لو أنّهم يسيرون في شبكة من حبال.

والأستاذ يعاوده الاختناق بالغضب

"يلْلا... كل واحد إلى شغله..."

يصرخ ويعيد

" يلْلا... كل واحد إلى شغله... حصوة نزلتْ! وكلاب تعاضضتْ! هذا كل شي... يلْلا… يلْلا... "

بتثاقلٍ راح الناس ينصرفون.

وبمناورات وصـخب راحت الشاحنات تغادر، وفي نظرات سائقيها عبر المرايا عجبٌ من هذه البلدة.

 

- 9 -

وهل يستطيع أن لا يمرّ؟!

مستحيل!

في الحال طفق الصقرن يتضاربان بأجنحتهما إذْ أحسّا روح الأتان ترفّ في الفضاء القريب.

وكما لو أنّها تمزح، نهقتْ خافقةً منخريها، مُكزّزة فكّيها.

جنّ جنون الصقرين، وراحا يصرخان. وفجأة برز الصقار من الباب الخلفي ورذاذ غضبه يتطاير مع الكلام

" كيف الخلاص منك ومن حمارتك؟ هااااااا؟!... "

أدركت الأتان أنّ شيئاً يمسّ فارسها انصبّ من فم هذا الضئيل المعروق، فانطلقتْ تهنجل، وهي تتلاعب بذيلها.

... غيوم البعوض تطوف فوق المياه والنّبت. تدور. تطن. وتلدغ. وتحت المياه أسماكٌ صغيرة تقفز، وسطح الماء يترسّم دوائر دوائر.

عشرات السواقي والمصارف كان عليها أن تقفز من فوقها، أو تخوّض فيها.

الكلاب الشبعة المستلقية في أفياء الشجيرات تحدجهما بعيون ناعسة وأعناقٍ تعتدل قليلاً، ثم تنسدل. ربما نبح كلبٌ نباحاً كسولاً. ربما... بخطا بليدة بدّل كلب موضعه من هنا إلى هناك...

وفي كل مكان غيوم ذباب. غيوم تطير وتحطّ على أمعاء الدواب المهملة. والأزيز يعلو في الهواء ويهبط نحو الكروش والأمعاء المتناثرة.

" إلى أين تظنّ أنّك وحمارتك ستدخلان يا كُرْرررر؟! " قالها رجلٌ يلبس مريولاً، كان أبيض قبل دهر، وأصبح جلداً من دم يابس.

ولأنّ الصبيّ حدّق بعينين تطفحان طيبةً وبلهاً، فإن توتر الرجل انخفض

" ماذا تريد يا ولد؟ "

أخرج الصبيّ الرسالة من جيبه ومد يده بها.

" لمن؟ "

وما إن أشار الصبي نحو جبينه حتى لفظ الرجل

" عثمان... تعال معي "

بضع خطوات، ثم فطن أنّ الصبيّ يعتلي أتاناً

" اربطها هنا... "

تردّدت الأتان، بينما ترجل الصبيّ ناظراً في عينيها، ليفهمها أنّ ربطها بخطاطيف الذّبح لا يُقصد منه أنّها سـتُعدّ له، وإنّما إرضاءً لهذا الرجل. وحين تهيّأتْ للنّهيـق تعبيراً عن خوفها، هدّأها الصبيّ بوضع سـبّابته على شفتيه.

" فهيمةٌ حمارتك! " علّق الرجل وهو يفتح باباً من شَبَك ناعم. ثمّ يُزيّق باباً من خشب.

كلّ شيء كان رطباً ومُعتماً كما لو أنّ روحاً سرّية تحبّ الاختباء هنا. أطُر النوافذ الأربع مفتوحة على أُصص ريحان ونعناع. ما إنْ تهبّ نسمة، حتى تفوح الروائح الزكيّة متغلّبة على رائحة الدم المُتخثّر في السواقي.

منتظراً راح يتسلى بالنظر إلى أطر الشًّبك خلف الأصص، حيث ماتت ألوفٌ مؤلّفة من الذباب والبعوض في الفتحات الدّقيقة المُوبّرة بالغبار والصدأ. وأبعد... خلف النّوافذ، تُخيّم غابةٌ من أشجار الكينا الضخمة، مُلقية فيئاً كثيفاً يكاد يكون قطعة من ليل.

فضّ عثمان الورقةَ، مُتراجعاً بظهره إلى مسـند الكرسيّ، لافّاً ساعده خلف رأسـه، وعابثاً بخصلات شعره الفاحم خلف الأذن البعيدة. إنّما... فجأةً استعاد وضعيّة الاهتمام، مُتقدّماً بجسده، مُتقلّصاً في داخله كأنّ شيئاً ما قد يتقوّض، مستمرّاً بالتحديق في الورقة زمناً وهو يحسِّس الوحمة الكبيرة على جبينه... أخيراً رفع رأسه بحرص كأنّه يخشى أن يرى في وجه الصبيّ ما يخافه. لكنّ الطيبة المُشعّة في هذا الوجه ذي الجمجمة الضخمة والعينين الطيّعتين جرّأتْه

" قرأتَها؟ "

في لمحة سريعة أحسّ الصبيّ أنّ في الورقة شيئاً ثميناً، فكذب بهزّ رأسه علامة الإيجاب.

" قرأتها… قرأتها؟!… وهل تُجيد القراءة يا ولد؟ "

بكلّ ثقة هزّ الصبيّ رأسه.

" أَتعلم ما تعني؟ "

هزّ الصـبيّ رأسـه بطريقة لا تقطع فيما إذا كانت تعني " نعم " أم " لا ". لكنّ عقل عثمان كان قد تعطّل وتولّف على توقّع الأسوأ

" هل أخبرت أحدأ؟ "

التقط الصبيّ ما في السؤال من تلهّف، رغم صيغة عدم الاكتراث التي تعمّدها عثمان، فنفض رأسه نفياً.

" هل تنوي إخبار أحد؟"

نفض الصبيّ رأسه بحماسٍ، ثم أداره يميناً ويساراً تشديداً للنفي، كأنّه يقول " لا … لا… أبداً… أبداً "

" ... حتى لو سألك أحد؟ "

أعاد الصبيّ الحركات ذاتها.

" ... حتى لو أخافك أحدٌ؟ "

أعاد الصبيّ الحركات ذاتها، مُضيفاً إليها تعبيراً واضحاً في وجهه ينمّ عن الإصرار.

" إذن... خذْ… "

أتكون هذه الرزمة مغشوشة كالأولى؟ أتكون أمّ المئة تغلّف الخمسات والعشرات؟!

" … قلْ لها أن لا تكتب مرّة أخرى… قلْ لها سنجد حلاً "

مازالت يده تضغط رزمة النّقود على راحة الصبيّ، محدّقاً في عينيه، بنظرة مزيجة من تفحّص وخوف. وفجأة سأل كما لو أنه يقبض على فكرة يمكنها أن تكون مفتاحاً إلى غرفة كنـز، أو بالعكس يمكنها أن تكون مفتاحاً إلى جبّ الموت

" أين الساعة؟ بعتها؟!… يخربْ بيتكْ! الساعة تساوي ألوفاً… بكم بعتها؟!… "

وبإحساس الوقوع في منطقة خطرة سحب يده كأنّه يقول للصبيّ

( إنسَ … فلتبعْها… )

" اسمعْ قلْ لها بالحرف... أعني احفظْ الكلمات التالية بالحرف... قلْ لها إنّ انقطاع الدم لا يعني أنّ الديك صاح للصلاة! ". ثم لطم على جبينه بطريقة توحي أنه تذكّر للتو

" أووووهْ... نسيت. انتظر. سأكتب لها كلمة. نسيت أنك أخرس... "

... طوال الطريق المُتلوّي بين أجمات الحمّيض والشوك، ظلّ الصبيّ يتمتم

" انقطاع الدم لا يعني أن الديك صاح للصلاة "

" انقطاع الدم لا يعني أنّ الديك صاح… "

" انقطاع الدم لا يعني أنّ الديك… "

" انقطاع الدم لا… " مُخمّناً أنّ وراء الكلمات شيئاً ما.

شيءٌ له رائحة ثقيلة...

فما يكون؟

 

ـ10 ـ

من الغرابة أن يُرى هكذا...

مُهملاً سبحته وهي تتلاوح معلقة برقبته.

متمتماً، غارقاً في سهوم بعيد. من المرجّح أنّه كان لا يرى ولا يسمع، فالذين مرّ بهم بادروه السلامَ. البعض بدأه السلام المُفخّم بصوت عالٍ

" ألسّْلااااامُ عليييكمْ " ليغتصب ردّاً بالوتيرة ذاتها.

لكنّه... ظلّ يشقّ طريقه كمجنـون يتبع خيالاً. كان سـيصدم كثيرين، لكنه لم يمسّ أحداً. حتى السائرين في الاتجاه ذاته شعروا بيدٍ خفيّة، تُزيحهم خطوةً إلى اليمين أو إلى اليسار.

وكان الصبي وأتانه يلهوان في البستان المهجور خلف السور. هنا تعرت الأشجار منذ زمن بعيد، ولم يتبق سوى جذوع ضخمة، وأغصان يابسة. لم يتبق سوى سواق تمتلئ شتاء، ويجفّ الطحلب في قيعانها صيفاً. فجأة أصغت الأتان وانتبه الصبي.

كلاب تهرّ بصوت غضوب.

... في كل سنة، كانت البلدية تعلن عبر مكبر صوت مربوط على أنف اللاندروفر عن حملتها الوطنيّة. وكان " أخو الكلبة " عماد هذه الحملة بإنكليزيّته ( التي واللهِ. والله…لا يستبدلها بستين ناتو ولا بمائة كلاشنكوف! )

أخو الكلبة ممسكاً بيد واحدة الإنكليزيّة. يمدّ نصف جسده خارج نافذة السيارة المزينة بالأعلام وباللافتة الطويلة التي تحدّد بدء وانتهاء الحملة الوطنية لقتل الكلاب.

هريرٌ غريبٌ. هرير خفيض مُشبّع بالغضب.

أهي في شجار؟

بحذر تباوع الصبي من فوق كتف ساقية. هناك رأى جمعاً من الكلاب تنبح بكلامٍ على كلبٍ يقعي خانعاً.

ينخفض الهرير ويرتفع.

يصمت البعض ويستمر البعض.

مرات ومرات تقدم البعض ليدسّ هريره تحت أنف الكلب الذليل.

أخيراً أقعت الكلاب ساكنة، إلا من اللهاث والألسنة المدلوعة.

كلب كبير يتقدم. يشرع بعواء ممدود نحو السماء، كأنّه يُشهد شهوداً يتدلّون في الأفق. وفجأة... وبشدقٍ نهمٍ قبض على حنجرة الكلب المستكين، وراح ينهش بينما عينه تنثّ هدوءاً غريباً. شرعت الكلاب الأخرى أيضاً بالنهش كما لو أنها كانت بانتظار الأمر إلى أنْ سلخ الجلد، حتى فروة الرأس.

أخو الكلبة زعيم الحملة الوطنية لا يُثَنّي. هي طلقة واحدة فينقلب الكلب عاوياً، محشرجاً، مرتجاً... ثم يخمد. وجمْع الأولاد يعدو خلف اللاندرفر ويهتف

أخو الكلبهْ... يا أخو الكلبهْ

خذْ ارواحهمْ... وحطْها بهالْعلبهْ

وكانت الأتان ما تزال تنفض رأسها، عندما شعرت به ينقبض، وأصابعه تفرك شيئاً في كفه

" أين كنتَ... ألا ترى عزرائيل يحوم حولي "

( كأن عزرائيل لا شغل له إلا أنتِ... ) قالت أصابعه.

(في كلّ يوم يقترب عزرائيل منك ولا يأخذ شيئاً!) هكذا قرأت هي التعبير الساخر في وجهه.

انتابها ألمٌ عصر روحها

عينٌ زاغتْ

صدر انطبق

وحنجرة تحشرج.

حينها علم الصبيّ كأنّما بصفعة مفاجئة أنّ أمه تموت.

زمناً والأتان تدقّ الأرضَ، وتشدّ رقبتها، ومن ذاك الارتفاع تنظر إلى حيث التحم الصبيّ بأمه... يبكيان.

الصبيّ يصحو على خببٍ

هريرٌ… ارتجاف

وفجأة يلمس عبر أضلاعها رعشةَ صنبور. ومن فوق كتفه ينْقذف الدمُ ساخناً ثقيل الرائحة.

جسـدها يرتخي

يميل

نادى همسـاً في داخله

" أمي... أمي... أمي! ... "

يحسّ بلل الدم على ظهره

يقشعرّ

يسقط الرأس مرّة ومرّة

أخيراً تجرّأ ونظر في عينيها.بدتا مُطفأتين تنظران إلى الأتان المتراقصة، ومن فمها كانت خيوط الدم تسيل.

في هذه اللحظة غمز ضوءُ النهار على العتبة ظلاً

وظهر الصوفيّ.

... بيدين عارفتين بالموت مدّد جسدها. وازن اللحاف القصير بوضعٍ لا يُظهر سوى شعر رأسها الأشيب المُتلاصق بدبق الموت، وسوى قدميها العظميتين تحت الجلد المُترهّل.

... النّاس تكثر... والصوفيّ ما يزال يُرسل نداءه إلى قبّة السماء وإلى أسطح المنازل...

الناس تكثر... والصبيّ ينشج مُقعياً تحت البرج

النّاس تكثر. لا أحد يسأل

لا أحد يتكلّم

والأتان تبادل أذنيها في الجهات.

سيّاراتٌ كثيرة تتسلّل وتصطفّ في الطرقات الملتوية بين الجدران الأثريّة. من هنا حيث لا تظهر سوى سقوفها ونوافذها تأتي في سيرها هادئةً كأنّها تزحف بلا عجلات، وبلّورها يتبارق في أشعّة الشمس.

سكون

والأتان تخطو خطوةً

أين الأب؟

أين يكون في وقتٍ تنْلقب فيه البلدة ؟

أَيكون جالساً الآن في الحانة على كرسيّ القشّ الصغير وأمامه كأس العرق؟

فزّ الصبيّ وهو يراه في لحظات كهذه لاهٍ سكران. فزّ من غير وعي، مُجفلاً الأتان التي اعتقدتْ أنها أساءتْ بشيء ما. لكن عينه وقعت فوراً بين الجموع على جسد يعرفه…بدا الجسد كأنّه جسد أبيه… وحقّاً كان.

من الغريب أنه كان ينشـج.

أَيبكي؟!

أين القسوة؟

أين هيئة التحفّز للضرب والسباب؟

أين ملمس السخرية في عينيه؟

... صعوداً مُتعرّجاً إلى المقبرة التي كلّما حفروا فيها وجدوا أنفسهم يتبعون عظام قوم سابقين. ما إن تتعمّق الحفرة بضعة أشبار حتى يظهر تراب ثقيل دسم

كِسـر جرار. أنصاف جرار، بل حتى جرار كاملة

معادن صدئة

عظام مُكوّمة. وفي النادر نقودٌ معدنيّة أكلها الصدأ

أَمن كلّ هذا العراء المُمتدّ لم يجدوا سوى تلك التلّة؟‍‍‍!

هنا… فوق… تُنتهز الفرص. تتحوّر سـويعات فتح القبر إلى بحثٍ عن لُقى أثرية تُخفى تحت الثياب. فالكلّ حفّارو قبور، إذْ ليس من عاملٍ في هذه البلدة يمتهن حفر القبور.

الكلّ حفّارو قبور

مُتكسّبو أجر لعلّ وعسى

… وحده سرحان بقي في خيال الناس محرّضاً، دون تأكيد… كلّ ما عرفوه عنه أنّه اغتنى فجأة بعد سجن دام شهراً.

أمّا هم

فما حصلوا إلا على قطع من فخّار ملوّنة، أو سكروجات ما زال الهباب المُتعمّق في مادتها يُظهر كميّات الدهن التي احترقت في جوفها، أو أختاماً أسطوانيّة من حجر يُمرّرونها على الطين المصنوع من تراب ناعم فترتسم أشكال بشر وحيوانات… صحيحٌ أن السيّاح يشترون. إنّما وكأن في محافظ السياح أجهزة تنصّت تنقل المساومةَ والرّقمَ الذي رسـتْ عليه، لينبَع رجال الأمن

ألا تعلم أنّ نبش الآثار محصور بالدولة؟

ألا تعلم أنّ المتاجرة بالآثار...خيانة عظمى؟

…الأتان تُطوّح رقبتها بكآبة.

وفي ذيل التشييع يتلبّث الأمام وجماعته. فلا بدّ للرجال ذوي الأوزان من أن يتثاقلوا. وإلا هل يستوي الأستاذ ورئيس المفرزة والصقّار والإمام وبعض التجّار وأمين الشعبة، بأولئك النّفر من الرّعيّة الذين مهما ارتقوا يبقون تحت مرتبة هؤلاء؟ تلك حال الدنيا وإلا خربتْ

" ولولا دفع الله الناسَ بعضهم ببعض … " يقولها الإمام مرخّماً تلاوتها ويشرع بالتفسير

لو أنّ الله خلق الناس سواسية في العقل وفي المال وفي الجاه وفي الوظيفة وفي القوّة… لسار الناس في جهة واحدة ومالت الأرض وانسكبتْ. تلك حكمته في جعلهم يتدافعون في كل الجهات، وتلك حكمته في جعلهم يزنون في عقولهم وفي أجسادهم باختلاف، ذاك يطول وذاك يقصر. ذاك قُدّر له أن يكون راعياً يقود البهم من الناس. وذاك لا يمكنه إلا أن يكون بهيمة. هي ذي حكمته التي تثقل الأرض من أن تميد. فاسمعوا وأطيعوا

" الإمام يخطب حتى وهو نائم " يسمعهم يتمازحون.

" يا ولد أهو عرس لأمّك أم دفن لها؟... حرامٌ عليك. أَتريد أن تحضر حمارتك دفن مُسلمة؟! "

تنبّهت الأتان مُشرئبّةً بعنقها، مدركة أنّ في كلمات ذي العمامة شيءٌ يخصّها

فحرنت

ورغم خفْق قدم الصبيّ في خصرها، وتلْويحه بالعصا قريباً من رقبتها بقيت على تصلّبها، رافضةً أن تتقدّم خطوةً واحدة.

… أومأ رئيس المفرزة برأسه المفلطح كرأس السمكة إيماءةً أمنيّة.

وبسرعة مُدرّبة تناول عنصران الصبيّ

أحدهما كان يلفظ بين عيني الأتان

" هُووووووشْ "

والآخر بالحركة ذاتها يلفظ في وجه الصبيّ

" هُسْسْسْسْسْ "

والصبيّ محمولاً بينهما يقاتل بساقيه في الهواء، ويتلفّت إلى أتانه.

" أهي أغلى من أمك؟! "

" …أم أنك مغرمٌ بها؟! "

" …حبّلتَها أم ما زالت عذراء؟! "

راح العنصران يسخران.

 

- 11 -

لا أحد

خلوٌّ وإيحاش.

أكان البيت معتماً إلى هذا الحدّ من قبل؟

أبيت هذا؟

أم هو سرداب أشباح؟!

دهليز فقنطرة. قنطرة فدهليز… وفي آخر الدهاليز مِربع الأتان ذو العقود المتقاطعة في الأعلى. هناك في الأعلى مازال الجصّ سليماً، أمّا الجدران فقد تعرت حتى من الملاط.

ما الذي يمنع هذه الأقواس من الانهيار؟

حقاً ما الذي يمنعها؟!

في الجانب الآخر البعيد الدثاراتُ الثلاث

من تحت هذا الدثار كان جسدها يرسل الأنين والشكوى وهرير السعال.

العقود ذاتها…

لكن الجصّ هنا ما زال قائماً. ما زالت بقعاً كبيرة من اللّون الفسـتقيّ باقيةً في بهائها رغم الزمن. النافذتان اللتان تطلان على الصحن الوسـيع، ما زالتا قائمتين ببلّورهما الملوّن. والأرض ما زالت مرصوفة بأحجار متراصّة.

لا أحد. لا صوت. لا شكوى. لا سعال. لا هرير.

لا شيء سوى السكون.

في الوسط الليوان ذو القنطرة الهائلة

هنا العقود ذاتها... الأضلاع المتلاقية ذاتها…

هنا متاعهم

وابور الكاز. الطحين. البرغل. الخضرة المجفّفة. صندوق الثياب.

هنا كلّ شيء يمتلكونه.

في الدهليز الأوّل من الدهاليز الذاهبة نحو مربع الأتان، تقع المسطبة المرتجلة من إسمنت وحصى

هنا يستحمّون

في أسفل المسطبة ثقب تصريف من فخار يأخذ ماء الغسيل إلى الطريق، حيث تنتشر الرطوبة صاعدة في الجدران المكسوّة برذاذ الملح.

يا لذاك الشعور الذي كان يحسّه عندما يسكب ماءً، فيشرع الأنبوب بالقرقرة كما لو أنه جنّياً يمصّ ويبتلع.

بالأمس فقط كانت كلّ هذه الدهاليز تغصّ بالناس والسجاد والحُصر والحديث الصاخب.

… ساعاتٌ قليلة من صباح اليوم التالي للدفن، وإذا بهذه الخربة تتغيّر إلى سكنٍ كأنّه قصر. في الباحة قدورٌ ونارٌ تُوقد، ونساء كثيرات يحركن وينفخن ويهذرن بالنميمة. بلْ وحتى الضحك، فمن يموت يموت لوحده. وفي الداخل، دائر مدار الجدران، زروبٌ من عيدان البردي المنسوجة بخيوط الصوف الملوّنة. وعلى الأرض سجّاد نفيس مذخور منذ أجيال لا يرى الشمس إلا في عزاء للأهل أو الجيران. ورجال يزدحمون، يدخّنون، ويتحدّثون، صخب، ودخان مُنعقد.

في الباحة يتصاعد الدخان من تحت القدور ومن التّنور، وفي الدهاليز من أفواه الرجال. صلاة جامعة. وقرآن في المسجّل. وما بينهما حديث لا ينقطع …

صخب في صخب. أمّا الآن فصمتٌ ولا أحد.

خمسة أيّام عزاءٍ

طافةٌ من الرجال تذهب وطافة تجيء. وحبل الحديث يُجدل ويجدل. أحاديثٌ لها وقعٌ في نفس الصبيّ يُنسيه أنّ له أمّاً ماتت وأتان تتحرّق.

قال الإمام والصبيّ يصغي بعينيه وأُذنيه الكتيمتين

" يوم القيامة أوّل ما يتخلّق من الإنسان عينه. ثم تتابع العينُ العظام وهي تتجمّع عظماً عظماً... أوّل العظام. يا سبحان الله!… عظمة صغيرة تحت اللسان، تتخلّق كي يتحرّك اللسان ويفيض بكلمات الندم على ما فات من وقت في الدنيا دون تسبيح وصلاة. آخرها عظام الجمجمة. يأتي بعدها دور اللّحم. وأوّله ما تحت بنان إصبع القدم الكبير، تماماً حيث الموضع الذي ضغط عليه عزرائيل آمراً الروح أن تخرج من وعائها. وآخره جفن العين الذي ما إن يكتمل حتى تبدأ العين بالطرف من هول ما ترى. أخيراً... أخيراً الجلد والشعر الذي سيقف مثل الشوك …… "

يتفوّر الصوفيّ من الداخل ثم ينفجر

" أَكنتَ معه يوم القيامة؟! استح. استح… "

يتدخّل الحاضرون بكلمات تنضح وسطيّة في ظاهرها، وينفض الشجار قبل أن يحصل.

… ومن بعيد يرفع رجلٌ صوته ورأسه

" اسمعوا… اسمعوا... بالله عليكَ أَسْمعهم "

بعد تململ وتمنّع، سينطق

" كنتُ أحكي لهم عن وصفة مجرّبة للمربوط الذي لا ينتصب عضوه… جرّبوها على ابن فلان، وابن فلان...

" إيهْ إيهْ " ينشدّ الجميع

" ... يأخذ المربوط فأساً لها قطارين من الجهتين… يعني مثل عرف الديك على الجانبين… يقطع بالفأس نفسه حزمتين من حطب. ثمّ يوقد النار في الحزمتين. من هنا ومن هنا. إلى أن تحمى الفأس وتحمرّ. فيخرج عضوه ويتبوّل على الحديد المحمرّ. ويظلّ قابضاً عليه في غيمة البخار. فبإذنه يخنق البخارُ الجنيّ ويخرجه فيبطل السحر... وبعدها سينتصب مثل الوتد... ابن سالم خرق عروسه وأدماها بعد شهرين من الزّفة... يحلفون أن صريخها كان... "

" هذا شرك! " يصرخ من بعيد أحدٌ.

"… سيعتقد من انْفكّ ربطه أنّ الفأس شفته! استغفر الله! " يؤيّد آخر.

ينبهت المتحدّث. لكنّه سيدافع

" قلنا: بإذنه يؤثّر البخار… يعني أن المربوط متكلٌ على الله سلفاً "

" الله هو مسبّب الأسباب… قد يضعها في بعر بعير… وقد يضعها في فلك من الأفلاك الدوّارة. فلا تجادلوا فيما ليس لكم… جادلوا في أيّ شيء إلا في الفقه... للفقه أهله " يعترض الإمام حاسماً بكلامه الذي يمكن أن يُفهم منه أيّ شيء، ولا شيء بآن معاً.

حينئذ يتحمس واحد من أولئك الذين وإن صلّوا خلف الإمام، فإنّهم دائمو التشكّك بكلّ ما يصدر عنه، وهم الذين لن يغفروا له اللّصقة التي ألصقها بهم. إذْ اتهم أصحاب الركعات الثماني في التراويح، بأنهم سارقو الأحذية التي تفقد من الجامع، في حينٍ تكون الأكثرية من أصحاب العشرين ركعة مستمرة في إتمام ما أمر النبي به.

"لاتخلط البعر بالجوهر. لا تجتهد برأيك… أهل الرأي انقطعوا ولم يبق سوى الـ.... أمثالك الذين…" هنا أيضاً يحجز الناس بصخبهم بين المحظور من كلام الوهابيين، وبين كلام الإمام المعتاد الذي لا يزيد على الوزْنة ولا يُنقص منها.

… يعيدون حكايات تحدّثوا بها مرّات ومرّات، وفي عزاءات كثيرة من قبل. فالناس تموت في كل الأحوال، ولا يمكن أن يجتمع مثل هذا الخليط إلا في عزاء.

يتحدّثون عن الشيوخ الذين سُجنوا بحرص شديد.

فإذا ما أحسّ المتحدّث أنّ أحداً يحفر له، نفر فوراً ودسّ في كلامه ما يجعل المتصيّد يلفظ في سـرّه

( أيا ثعلبْ! )

يروون عن حجاج أو معتمرين، أنّهم رأوا الشـيخ علوان يجمع أموالاً للأفغان.

هكذا يقولها الواحد بحياديّة حذرة: للأفغان!

"رأوه بثوب قصير تظهر منه أذيال سرواله، وبلفّة كبيرة على رأسه كتلك التي يلبسونها، وهو يصيح في أبواب الحرم: تبرّعوا لإخوانكم المجاهدين. تبرّعوا يا إخوان لإخوانكم المجاهدين في سبيل الله… "

" ... مجاهدين؟‍ تسمّيهم مجاهدين؟! ".

" هو الذي كان يصيح يا أخي ولست أنا... أنا أنقل ما قاله الناس... "

ويموّه هكذا

" مهابيل ينطحون صخوراً بقرون من وحل. والأدهى أن فلسطين لا تخطر على بالهم..." يقول الكلمات الأخيرة بثقة، حادّاً عينيه في عيني ذاك المتصيّد كما لو أنه يقول " أَرأيت؟ لا يمكنك أن توقعني… "

في اليوم الأوّل بقيـت الأتان صامتة. لم يصدر من مربطها سوى وقع الحوافر القلقة. لكنّها في اليوم التالي وبينما الإمام يهدر، ناهضاً على ركبتيه، والأسماع مصغية، والدخان يُنفث

" إذا نظرتَ إلى وجه تارك الصلاة تبيّنتَ صحّةَ ما ذكرتُ، حيث تجد ظلمة الكفر مسدولة على وجهه كأنّها غمامةٌ سوداء، وربّما أراك الله وجهه وجه حمار… "

ألا يشبه الرجلُ الأهتم ذو الجلد الفضفاض العضاءةَ؟

ألا يشبه صاحب الأنف الأقنى ديكاً يكاد ينقر؟

ألا يشبه الأحدب عنكبوتاً يتحيّن الفرص؟

ألا يشبه رئيس المفرزة سمكة تضع نظّارات؟

فلم إذن لا يُشبّه الإمام إلا بالحمير؟!

كما لو أنّ الأتان فكّرت بمثل هذه الأسئلة، فأطلقتْ نهيقها دافقاً عبر الدهاليز. وجم المعزّون

وتسابقوا إلى ترديد الآية ما إن جوّدها الإمام بصوته الجهير

" إنّ أنكر الأصوات لصوت الحمير "

ثم شرع الضحك المتفجر يسمع من هنا وهناك.

لكن رئيس المفرزة ألقى أمره في قلب الوجوم وتقّات الضحك

" اخرجوا الملعونة... اصلخوا جلدها... "

لم يكن من اللائق إخراج الأتان وسط الناس عبر الدهاليز المفروشة، وإلا كان ذلك انتقاصاً لحرمة الموت.

لم يكن ممكناً سوى فتح باب في الجدار.

لم تمض ساعة إلا وهُدم موضعٌ لباب في الجدار السميك. بابٌ خاصّ لخروج الأتان

… الرفوش والمساحي ذاتها

الفخار يتساقط. الغبار يثور. الرفوش تقذف، والرجال يتمازحون

" … يخطر ببالي أن الإمام قد ذاق ما ذاقه الراعي من حمارته "

" هاتْ. سمّعنا "

تلفّت حوله متظاهراً بالجزع

" ذات مرّة لزّها. وحين دفعه فيها رفسته على خصيته… فانقلب وطلعت روحه... "

" مات؟ "

" لا… انْصرع… اصفرّ وانقطع نفسه… "

شرعوا بضحك مكتوم وعيونهم تبصبص يمناً وشمالاً، متبادلين خيالات عن عمامة الإمام وهي تطير، والإمام ينحني على الألم بين كفّيه.

" يستأهل! " يتلفّظون بين نوبات الضحك، كما لو أن الإمام سيتألّم ويخرس إلى الأبد…

" و… تخيّلوا... لو إنّ أحداً والأمام يخطب راح يؤشر ممثّلاً أذني الحمارة بيديه… ما الذي سيفعله الإمام وقتها؟ "

يقهقهون دون حسبان.

قفرٌ… ولا أحد.

عصر الأمس قبل المولد والصمت ثقيل مثل ماء يعلو في بئر ، إثر كلمتين قالهما الأستاذ عن عصابات عميلة يجب أن تُسحق مثلما تُسحق الصراصير، خيّمت روح قلقة وسـكن المعزون. هم يعلمون أن الأسـتاذ لا ينطق عن الهوى. فلا بدّ إذن من السكون والإصغاء بعيون حيادية وبهزّ الرأس

خبرةٌ اكتسبوها في هذا الزمن الـ...

الأستاذ، مدير المدرسة

ميشيل الثاني بهيئته المؤلّفة من وجه دنيء، وأنف طويل كمدقة هاون، وكتفين ضيّقين يميلان إلى الأمام قليلاً كأنما يوحيان أن في جوانحه مرجل نار

الأستاذ... اغتبط إذْ نجح في فرض السكون الذي ملأ الدهاليز. اغتبط وهو يتأكد للمرة الألف أنه يمكنه إلقاء قنبلة سكون في الصخب.

كتف لكتف كانا يجلسان. هو بجسده المائل قليلاً وبعينيه البنّيتين الصغيرتين اللتين لا تستقران أبداً، ولا تنظران إلا بتفرّس في العيون. ورئيس المفرزة بتخشّبه ونظرته المتعالية وشفتيه المزمومتين ورأسه المفلطح. كتفاً لكتف، كأنّ استمداد الكلام يمرّ عبر قناة بينهما. الأخير بصمته، والأوّل بلسانه

" الكلّ يتآمرون علينا لأنّنا قلب هذه الأمّة

… لكنّهم خسئوا

… نعل حذاء الرئيس القائد أشرف من...

… خسئوا

هذا عرين الأسد… وليس وجر ذئاب

...هيهات هيهات أن يقارن وجرٌ بعرين.

أحذّركم من الآن فصاعداً. كلّ من يتصل أو يتعامل مع عصابات القتلة، أو يخفي معلومة عن أحد أفرادها سيعامل كما يعاملون

استمرّ الأستاذ يخطب مسنوداً بصمت رئيس المفرزة.

والصبيّ يتمنّى لو أنّ الأستاذ يختم لعلّ الحديث يعود إلى الحكايات، ويتمنّى في سـرّه لو أنّ لسانه كان كألسـنة الناس وبعمر أكبر، إذن لحكى حلمه الذي حلم به ليلة أنْ وعى ما تعنيه كلمات الإمام في البرّ بالوالدين، ولأنشأ حكايته عن الحلم بكثـير من التزويق مثلما يفعل الآخرون، كأنْ يتحدّث هكذا " مرّة حلمت… خير اللهم اجعله خيرْ… حلمت برأسٍ مقطوع أتى يتدحرج، ونحن جمعاً من الناس ننظر إليه كأنّ الأمر عاديّ. كأن رؤية رأس مقطوع يتقلّب في الأرض مرّة على قفاه ومرّة على أنفه شيء مألوف… الرأس يتدحرج ويصرخ منتقياً البعض، منتصباً على الرقبة، تالعاً العنق إلى الخلف متملّياً الوجوه، صارخاً

أنت في النار يا ولدْ

أنت في النار لأنك كنت تسرّ في نفسك كرهاً لأبيك الذي يضرب أمّك... وأنت في النار لأنك كنت تعض لسانك بغضاً لأمك التي تظل تشتكي من مطلع الفجر إلى أن تنام، ولأنك كلما سمعت شخيرها تسرّ لنفسك: الحمد لله. على الأقل لن نسمع شكواها

يدخل الرأس بين الأرجل، ثمّ يصعد السور وهو ينادي ويلتفت إلى أن ينقطع الصوت… بين مجيئه وصعوده السور أتغير، لا أدري كيف، لكنني أتغير

ثمّ استيقظ على يد أمي تهزّني وهي تسعل "

قفر ولا أحد… صمتٌ ولا أحد. لا صخب. لا دخّان. لا نار. لا سجّاد. لا أحذية متراكبة، لا نساء يهذرن فوق القدور، لا رجال يحدّثون، صمت ولا أحد. حتى الأب عاد إلى سيرته. سكر وإقياء، حتى الصوفيّ غاب في مغّارته مع تمراته مُحذّراً

" عشرة أيّام خلوة لا أريد فيها حسّاً لك ولا لها... " مشيراً بيديه عند أذنيه مع ابتسامة الطيّبة.

قفر ولا أحد

صمت

 

ـ 12 ـ

ليس غريباً أنْ تعطس، أمّا أنْ تشرع منذ الفجر بعطاس شبه متواصلٍ، فهو أمر مريب. يتوتّر الذيل. تنحني الرقبة. تلتئم القوائم. يتقوس الجسد كظهر قطّ. تسري رعدة. ينتفض الرأس، وتخرج العطسة.

كأنّ في الهواء مادّة تدغدغ.

والصـوفيّ الذي انتهتْ خلوته تتابع أصابعه حبّات السبحة، ويدرج لسانه باللهج.

والأب يتعالى شخيره مضخّماً بالصدى. بالأمس... بلْ فجر اليوم جاء يتعثّر ذاهباً بخطواته يميناً وشمالاً، مسـتنداً بيدٍ على الجدران، باحثاً باليد الأخرى عن فضاء الغرف. كان الصوفيّ يتوضّأ على مغسلة الإسمنت، وكان المؤذّن من بعيد يرسل آذانه عميقاً في هدوء الفجر.

قال الصوفيّ وهو ينفض رذاذ الماء في الهواء

" … إلى الآذان يا عاصي! إلى الآذان! "

ردّ الأب متأتئاً

" ومن قال له أن يؤذّن هالساعة؟ فلْيؤذّن بعد ساعة لن تخرب الدنيا!… "

" هي ساعة الله يا عاصي… "

" سَـ…سـ…اعة الله… سـ…اعة الله… سـ…اعة الله! أهْهـ...ها" راح الأب يتلعثم بالحروف

" بلى... هي ساعة الله "

"… يعني ترك كلّ الناس وضبّطها عليّ؟! "

" لا تكفرْ… يكفيك السكر... "

وكان الصبيّ قد نام متشوقاً

ما إن فتح عينيه حتى فزّ وراح يُعبّئ الوابور وينفّسه، منتظراً حموّ المعدن ليُعاود التعبئة، فيصخب الوابور وتستعر النار. قال الصوفيّ

" ما لكَ متعجّلاً؟! "

.........................

سخر الأب بلعثمة السكر وغضب الانزعاج

" لن يسمع… أَعْند من بغل! طالع لأمّه "

..........................

كانت البلدة ساكنة والشفق يتكشّف.

لا حركة

لا حسّ سوى قوقأة دجاج

وسوى اصطفاق باب المرحاض المشترك، الذي لم ير الصبيّ من دخله، حين قرّر أن لا يتزحزح إلا بعد أن يعرف. دقيقة واحدة وتخرج الفتاة، صاحبة عثمان، وهي تُنـزل ثوبها مُتفاجئةً من وجوده، ومن نظرته الحادّة، وكالعادة بصقتْ في عبّها

" يخرب بيت أمّك! ألا تنام يا ولدْ؟ "

ودّ لو أنّه يستطيع الافصاح ليهزأ وهو ينظر في عينيها

" انقطاع الدم لا يعني أن الديك صاح للصلاة...هااااا " لكن هيهات، فالحروف حَسَكٌ في صوف.

هزّ العلم عالياً ثم أسبله في حركة استعراضية تقول

ألا تعلمين أن اليوم يوم الاحتفالات؟

ومن تحته حفرت الأتان كما لو أنّها فرس حرب.

سـوّت هي ثوبها فارتسمت بطنها، حتى انخماص السرّة كانا بيّناً، وأبعد نحو الأسفل حيث تستدير الربوة، خيّل إليه أنّه رأى شعراً يخترق نسيج الثوب

آه… لو أنّ ...

"… اسمعْ قلْ له إنّي… قلْ له إنّ البدر اكتمل "

حدّق في عينيها مبتسماً بحدس كلب يشمشم أثراً.

" قلْ له… ولكَ عندي جائزة... أووووووووهْ نسيت إنك... إنْ لسانك... اسمعْ. مرْ بعد الظهر لأعطيك رسالة "

بقي يُحدق ماسحاً جسدها بتلك النظرة، فاستدارت وهي تتظاهر بالحرد مُلقية من فوق كتفها ابتسامة رشوة.

هتف بلسانه الثقيل:

" فْـ… فْـفـفـ… فـفـ… فتْـ… فَتـْ...حـ...يّة "

لكنّ فتحيّة المهتزّة المؤخرة، كانت قد غابت.

كمْ كان سرور الأستاذ عظيماً، حين رأى ثمرة إيمانه بالأمّة تتجلّى في هذا التلميذ المعاق

مُخفياً غبطته كالعادة؛ أمر الأستاذ الآذنَ والصبيّ بفرز اللافتات. تلك التي تقول

نعم للقائد

إلى الجانب الأيمن.

وإلى اليسار تلك التي تحتوي كلمتي

حزبنا العظيم

أمّا اللافتات التي يحتوي على مفردة

الأمّة

ففي الوسط.

حين بدأ الأساتذة والطلاب بالتوافد كانتْ اللافتات قد رُتّبت، حتى القديمة التي مضى على بعضها سنوات. وكان الأستاذ يتباهى

" غابة من أعلامٍ ولافتات… أقسم إنها ستكون من أنجح المسيرات على مسـتوى القطر كلّه "

لو أنّ أحداً غيره لخطر بباله أن يقول

سـتكون أنجح مسيرة على الإطلاق.

لكن الأستاذ يصعب عليه تصوّر مسيرات المدن والبلدات الأخرى منقوصة الزّخم، ما يعني بأنّ تقصيراً يعتري مسيرة الدولة والحزب. أيّ تلميح من هذا النوع يربك اعتقاده الجازم بأنّ كلّ شيء على ما يرام، وأنّ كلّ شيء تحت السيطرة وإلا فَلَتَتْ

( لأنها مثل مسنّنات الساعة متى ما تعطّل فيها ترسٌ تعطّل البقيّة. بلى هي كذلك. ولن يسمح هو، لو أنّ الأمور بيده، حتى لذرّة الغبار أن تدخل ساعة الدولة والحزب).

الباحة امتلأت، وبدأتْ تفيض على الأرصفة، ثم على الشارعين الجانبيين، والأتان التي بهرتها الأعلام واللافتات تنهق بسرور.

تأتي شاحنة محمّلة بالفلاحين، وصوت بوقها يتّصل من أوّل البلدة إلى المدرسة، منغّماً ومصاحَباً بالهتافات. واحدة بعد الأخرى تأتي الشاحنات لتقذف حمولتها.

فجأة. تزفر الشاحنة. يتهامد الهتاف. ينقطع البوق، وتحسّ الأسماع بفراغٍ، إلى أن يُسمع من طرف البلدة بوق جديد وهتافات جديدة.

هناك تحت السارية.

هناك. كان الأستاذ يتبختر ديكاً منفوش الريش. يستقبل الوافدين بابتسامة ملصوقة على شفتيه، تفترّ لحظة، لتزول فور انزياح المصافح وهو يبحث عن موضع بناءً على إشارة الأستاذ بسبّابته المفردة التي تختار المكان، وفْق قدْر المصافح.

وحدهم؛ رئيس المفرزة ومدير الشرطة والإمام والصقّار وأمين الشعبة… يقفون في الموقع الثابت خلف المجال الذي يصول فيه الأستاذ. رئيس المفرزة الجامد الملامح يمسح الجمهور من فوق المسطبة بنظّارتيه الأمنيّتين، مصغياً دون أن يلتفت للهمس الذي يُلقيه الصقار في أذنه. ومدير الشرطة والإمام يهذران بكلامٍ لا يتوقّف. وأمين الشعبة محصور في ذلّ إحساسه أنّه مهمل.

بإيماءة من الأسـتاذ صدحتْ موسيقى فرقة المدرسة ، فخر البلدة، والتي تستعيرها النقابات والدوائر في المناسبات. وكما في كل مرة... نافخو الأبواق بكلّ عزم وحمية ينفخون. ضاربو الطبول الصغيرة يتلاعبون بالعصيّ بين ضربة على الطار وضربة على الجلد. وضارب الطبل الكبير يقذف العصا في الفضاء، ثمّ يتلقفها ويهمي بها.

ومن تحت شجرة الكينا، حيث الرطوبة تُضخم الأصوات صدحت الأتان أيضاً بنهيقها. أرادتْ أن تعبر عن سرورها هي أيضاً

لكنّ كيف يمكن سماع رأي أتان في مثل هذا الصخب

سباق خاسر

ومع ذلك ظلّتْ تنهق وتنهق، فالكلّ يصرخ.

وعندما بدأ الناس يخرجون إلى الشارع، تخامد النهيق. وبعينين قلقلتين وأذنين يتأرجحان في الهواء راحت تتابع الحشد المنسحب.

" كيف أنساك يا غبيّة! " همس الصبيّ.

أرْخت هي أذنها، ثمّ رفرفت بها مداعبة.

أخرج من تحت إبطه اللافتة. لفّها حول جسدها. عقدها تحت العنق، وثبتها بالذيل ومن فوق الظهر.

بدا المشهد في عين الصبي رائعاً.

بهذه الهيبة دخلت الأتان زحمة المسيرة وهي تدري أنّ لها حوافر، وأنّ وطء الأقدام مؤلمٌ

مؤلمٌ جدّاً

لكنّ أحداً لن ينتبه. فالكلّ يقفز، والكل يدعس

هياج في هياج

أكان هياج ألم يشتعل في قدم

أم هياج حماس في الرؤوس

لا فرق.

فالكل يقفز ويصرخ

ولن يتنبّه أحدٌ.

أتان تشارك الشعب أفراحه، وصبيّ يُلوّح بعلمه بين الأعلام.

فمن ينتبه؟

أبداً.

العيون تلاحق رفيف الأعلام واللافتات، وتبحث عن هدير الهيلوكبتر التي تنثر القصاصات الملونة.

بشرٌ وأعلام وصور ولافتات على مدّ النظر.

زحمة وهتافات وهواء كثيف.

وبين مسافة ومسافة يتخلخل التراصّ. يركض المتقدّمون بلافتاتهم وبأعلامهم ليتبعهم المتخلّفون بلافتاتهم وأعلامهم.

مثلها مثل الآخرين كانت الأتان تهنجل ملتحقةً بالركب، وكانت تتمنّى دوماً لو أنّها تسبقهم، لكنّ إحساساً قوياً بات يُشـعرها بأنْ تنتظم.

من فوق شرفة القصر كانت الكاميرات تصوّر، ومن خلفها يتحرّك رجالٌ يشيرون بأيديهم بين لحظة ولحظة تحريضاً للحماس.

يجن الناس

ويرتفع الموج

بحر من صخب وحركة وصور وأعلام

بضع خطوات، وتنكشف الساحة أمام القصر عن منصّة مفروشة بالسجّاد الأحمر، وعليها ينتصب الأستاذ ورئيس المفرزة ومدير الشرطة والإمام والوجهاء وأمين الشعبة وبعض رجال الأمن، وبدو وفلاحون رغبوا أنْ يلقوا نظرة من فوق أكتاف المسؤولين إلى مواضعهم المحتملة في المسيرة، لو أنّهم كانوا في الأسفل كما في كل مرة

خطوةٌ، خطوتان وإذا بالأتان تطلّ من بين الأجساد المتراصّة المتهيّئة للمرور في دورها أمام المنصّة. هنا تلزم هيئةٌ خاصّة

انشدادٌ

هتاف أعلى وأعلى

انتشارٌ من غير بعثرة لإعطاء انطباعٍ بالكثرة

حماسةٌ طافحة. صراخ. هتاف بأقصى ما يستطاع

برأسـها الضخم وأذنيها المنتصبتين، وبعنقها المقوّس إلى الخلف، وبزفير الحماس من المنخرين تبارزت الأتان، وحوافرها الأربع تتراقص، وتكاد لا تمس الأرض.

لا بدّ من أنّ الواقفين على المنصّة بوغتوا. لا بدّ أنّهم لم يصدّقوا عيونهم.

فمن سيخطر على باله أنْ تخرج أتان في مسيرة؟‍‍‍

أبداً لم يصدّقوا وهم ينظرون إليها تنطلق في رهونتها، محافظة على مسافة بينها وبين مجموعة الفلاحين خلفها، والصبيّ من فوقها يتنطط، والعلم بيده يتـمايل، ويعلو، ويهبط.

أَكان قدراً أنْ تضغط الطبيعة في تلك اللحظة، لتبزخ بهدوء، وتبول على قائمتيها، وعلى تلك الكلمة بعينها في ذلك الجزء من اللافتة؟

" أَيا ابن القحبة! "

لفظها الأستاذ ذاهلاً من بين شفتين قريبتين من المكريفونات، لتنتقل عبر الأسلاك، وتُوزَّع في الأثير كما لو أنّها هُمست لتملأ كلّ أذن.

حينئذٍ تخلّق عناصر أمن، وانبروا للتصدّي للأتان وفارسها ضرباً بالهراوات وبأعقاب البنادق

الأتان تفتل في الدهشة مطرّشة

والعلم فوق رأس الصبي يرسم دوائر

وجسده يرتفع ويهبط، يتكوم ويتمدد

والأتان تفتل

متعثّرة

بازخة

لكنّ اللافتة بقيت معقودة على صدرها

والعلم بقي في يد الصبيّ مرفوعاً عالياً.

 

ـ 13 ـ

تحفّز...أصاخ... ثمّ شبّ واقفاً.

" ما بكَ... نصبت أذنك؟! " قال الصوفيّ.

..

نهيقٌ غريب. نهيق فيه نداء حارّ.

ركض

وما إنْ تجاوز القنطرة حتى التقتْ عينه بعين فتحيّة وهي تسجر التنور. وعبر الهواء المتموج الساخن رأى حماراً ينهق، ويعانق.

صفعات على الرغيف. وأبعد

رفسـاتٌ في الهواء للمقتحم الغريب، الذي راح عضوه يتنمّر.

اليدان ترقّان الرغيف. والرغيف يلتفّ على هذا الساعد وذاك،

وعمارة تتشكّل من جسدين شبّ أحدهما على الآخر.

تُنقض العمارة

الأتان تتمنّع

ترمح، والحمار يتفادى

ينقذف الرغيف في جوف التنور كامل الاستدارة

تتشكل العمارة من جديد راهجةً خلف السنا

مُتدافعة تتقلص وتتمدّد

تتأكّد الفتاة أنّ بصر الصبيّ يطفو من فوق التنّور، فتلتفت هي أيضاً.

يجنّ جنونه.

راكضاً هنا وهناك،

ملتقطاً كِسـراً من الفخار، يقذف الأتان والحمار الملتحمين

وخطم الأتان يعلك الهواء بسرعة.

( الحقيرة. لو لم تكن راضية لهربتْ! ) قال في نفسه. وشرع بسيخ الخبز يغلّ الحمار.

" غضي بصرك يا ابنتي…"

غطت الفتاة عينها بكفها، لكنها ظلّت تختلس النظر من بين الأصابع.

" يا أهبلْ هذه طبيعة ألقاها الله في الحيوان… عوضاً عن مراقبة أتان إذا حبلتْ لن تحبل سوى بكرٍّ لمَ لا تذهب معي إلى مدير المدرسة... نترجّاه ليعيدك؟ " قال الصوفي.

بكتفيه صعوداً وهبوطاً، أعلن أنّه لن يذهب.

" طيّبْ… ابقَ عند ذيلها. العلم عندها أصلح! "

… أحسّ بخطوات الصوفيّ تبتعد، وبقي هو يحملق من خلال غلالة الدموع

"يا غيورْ! " هتفت فتحية قريباً من أذنه...

" هذه أوّل مرة أرى رجلاً يغار على حمارة… يا غيييووووور! "

رجل؟

أقالت رجل؟

والرجل لا يبكي

في لحظة واحدة ومن كلمة واحدة، نما في داخله فتى آخر.

فتى ملئه إحساس غريب

تماماً كذاك الإحساس الذي كان ينتابه وهو يسمعهم يسألون

أفعلتها حقّاً؟!

يا لكَ من ولد خبيث!

كيف خطر ببالك أن تُشرك حمارتكَ في مسيرة؟!

يخربْ عقلكْ… ألم تجدْ من كلّ اللافتات إلا تلك اللافتة؟!

ألا تعرف ما هو مكتوب عليها؟!

احمدْ ربّك إنك ولد على نيّاتك وإلا صرت في خبر كان

" ربع ساعة ويكون خبزكم جاهز… أراهن أنّك جائعٌ بعد حفلة عرس الحمير "

وابتعدتْ نحو التنور بردفين يهتزّان، وشـعرها الأسود الغزير يهفهف

( أراهن أنّك جائع)

مثل كلب حراسة؛ جلس على صخرة. رأسه بين كفيه، وعيناه تتعلقان بكل حركة يتحركها جسدها. الساعدان العاريان يسرعان بالحركة المتقنة. ينحني الظهر قليلاً. الوركان يبرزان. تستقيم وتلتفت. الثديان يهتزان. البخار يدفق من الرغيف الخارج للتو.

تقدمت الأتان بحذر، يميل هو حَرداً. توقف متردّدة، ثمّ تتقدم. تضع رأسها في حضنه، فينقبض. تدفع رأسها تحت إبطه، فيحسّ أنفاسها تدغدغ روحه، وعندما تشرع بالرَّمرمة في أسفل بطنه يقهقه في داخله بكاء وضحك… والشعر الغليظ ذو الرائحة النفاذة يحفّ أنفه ويدفعه للعطاس

أصابعه تلمس، ويحسّ، يشمّ رائحة الخبز الساخن، ويحسّ حفيف ثوبها يمرّ. ومن الداخل أتته قرقعة الصحون على المغسلة الاسمنتيّة. وجدها جالسةً على كرسيّ صغير يفيض ردفاها على جانبيه، وثوبها محسور إلى منتصف الفخذين.

" زعلان؟!… من يزعل لأنّ حمارته عرّستْ؟… واحدْ غيرك يفرح. افرحْ… لأنّها وجدتْ عريساً… افرحْ يا أهبلْ…"

جلس على تختَةِ الخبز، وشرعت عيناه تمسحان ساقيها الأملسين المكشوفين

لو أنها تسمح له بأنْ يلمس، لأحسّ لا شعر. ولا زغب. تميل بجسدها لتتناول الماء. ينْشـمر الكمّ. ويظهر الساعد بضّاً ناعماً. وهو يحس... لو أنه يلمس، لا شعر. لا زغب. ينْفتح زيق الثوب عن أعلى الصدر أبيض لامعاً. لا زغب يرتعش الثديان

ويحسّ في خياله جسدها عارياً. بلا وعي مدّ يده، وفي داخله اختبطت أحاسيس غريبة. دفعتْه بعنف

" ابعدْ يا مجنون… وإلا أخبرتهم… " وعلى ملامحها ارتسمت الدهشة.

انْبهت. ضاع. وعلى ملامحة استوتْ البلاهة

" انقلعْ… يلْلا برْررررررا…"

" ....... "

" يلْلا بررررررررا... "

ما الذي سيفعله أبوه؟

هل يكتفي بصفعة أو صفعتين؟

تفوووووووو عليّ

 

- 14 -

السنة الماضية صار الكمأ مصدر رزق. وكان هو وأبوه يجوسان روابي الجبل بحثاً عن نَهْدة في الأرض بحجم القبضة أو أصغر. وكان الناس رجالاً ونساءً يسيرون في كل الاتجاهات وعيونهم تمسح الأرض.

في ساعة استراحة راح أبوه يزحف عند حافة الجرف، ثم التفت التفاتة ضبّ

" تعال أريك شيئاً "

تلك كانت برهة عطوفة قلّما تحصل

" انبطحْ... ازحفْ... على مهلْ... أوعَ… "

رأسه إلى جانب رأس أبيه، راحا ينظران إلى الهوّة العميقة، حيث نمتْ شجيرات في الشقوق. وفي فضاء الهوة تحتهما تتجوّل طيور في طواف هادئ

" انظرْ هناك… "

" هناك أرأيتَ؟… ذاك عشّ صقر… أرأيت في أيّ مكان بناه؟! مكانٌ لا يطوله أحدٌ … "

وإذ رأى في عيني الولد التماعة حذّره

" لكنّ الصقر يحسّ إذا ما كانت فراخه في خطر. ويعود من بعيد، لينقضّ من الأعالي وينتزع عين من يقترب من العشّ. الصقر له عين ترى من بعيد... بعيد "

... تماماً في نفس الموقع منبطحاً يتناوق ويراقب الطيور المحوّمة، وقلبه مازال يخفق خفقات الخوف من العقاب الذي سيناله، بينما صورة أصابعه وهي تقترب من فخذها المعرى تملأ رأسه، والغيظ الذي انفجر في ملامحها يعذبه، وإحساسه بالغلط يجعله يكرر:

أنا جحش... أنا جحش

فجأة صاتتْ فراخٌ

هاهو عشٌ، لا يبعد سوى قدر قامتين، يرتعش فيه فرخان بمنقارين أصفرين.

يرف الفرخان بأجنحتهما الصغيرة معاً. ينتصبان.

يتمايلان في اللحظة ذاتها.

يبدأان بالزقزقة في اللحظة ذاتها.

ويضعان رقبتيهما على حافة العشّ بالطريقة ذاتها.

أيكون الصقر قد أحسّ بالخطر وهو قادم الآن؟

... عائداً ينوس برأسه كما هي العادة، متخيّلاً الصقار يناديه

هيييييهْ. خذْ هالصقرين… اعتني بهما ريثما يأتي الخليجيّون.

رأى نفسـه شاباً يركب سيّارة. يلبس نظارات سوداء وثياباً جديدة. وحذاءه يلمع

لم لا؟

يتكلّم من أنفه بأبّهة

لم لا؟!

يمرّ تحديداً من جنب هذه الجارة الحقيرة... فتحية... صاحبة عثمان

ذراعٌ على نافذة السيّارة، ويد واحدة تمسك المقود. لا يعيرها اهتماماً ولا يلتفت، إنمّا يشعر برغبة عارمة في أن يرى مدى دهشتها وهي تلفظ من بين أسنانها

( شوفْ الأخرس… أيااااا ملعون! )

…لم يدر بنفسه إلا وهو على بعد أمتار من جمع من المسلّحين الذي نصبوا حاجزاً.

قطعتا خشب ضخمتين متصالبتين في كلّ جانب تتراوح بينهما أسـلاكٌ شائكة. كثيراً ما تعجّب من ذلك الالتفاف المنتظم الذي يتشعب إلى أشواك أربع عند مسافات متساوية. كيف جدلوا هذه الاسلاك، يا للعجب!

على جانب الطريق بضع سيّارات. ومسلّحون بألبسة مدنيّة يتحزّمون بالقنابل وأمشاط الرصاص، وعلى بعد خطوتين ضوء أحمر يتغامز.

اثنان في وضعيّة التهيّؤ التامّ. كلاشنٌ معلّق على الكتف بوضع أفقيّ. إصبعٌ على الزناد. وفوهة السبطانة تتجه آليّاً نحو القادم

" أين صورة الربّ ولااااا؟ " صرخ مسلّح في وجه سائق

……………………………

" أسألكْ ولَكْ حيوانْ… أين صورة الربّ؟ " وصفعة لها صدى.

…………………………..

" انقلعْ اشتر واحدة "

" اثنين… إعطه اثنين… خمسمئة لكلّ واحدة " صاح المسلّح بالرجل الذي يظهر أعلى جسده في نافذة الكشك عبر الطريق.

كلّ هذا جديد على الصبيّ الذي دلع لسانه في هيئة البلاهة، وهو يرفع ذراعيه مُقلّداً من سبقوه. يكاد يقهقه عندما لمستْ يد المسلّح أسفل بطنه. ثم والمسلّح يديره ليجسّ مؤخّرته

" هويّتك… "

….!

" هويتك! أعطني هويتك "

.!

" هويّتك يا جرو… "

" هذا ولدٌ أخرس… أنا أعرفه… " قال وجه من البلدة.

" أخراااااسْ!…والأخرس لا يحمل هويّة عندكم في هذه البلدة التعيسة؟! "

" ولد… ألا ترى أنّه ولد؟ "

" والذين قتلوا الناس كانوا أولاداً… وتعلّموا في هذه البلدة. صحْ؟! "

.......

" ألا تعرف... ألا تعرف أنهم درسوا في مدرستكم هذه؟ "

......

" يا ولدْ يا أخرسْ اهتفْ بالروح بالدم ْ ..... .. .... "

أكان المسلّح يقصد فعلاً... ؟

كيف له أن يهتف؟!

سبطانة الكلاشن تنبزه ووجه الرجل يجهش في ملامح ضاحكة، بينما صوته يصرخ آمراً بجدّ:

" اهتفْ… ولَكْ اهتفْ "

حائراً متردّداً رفع ذراعه، وقبض هواء

انحبس نفسه

وعلى شفتي رجل الأمن ظهرت بسمة شوهاء تقبض على عقب السيجارة

راحتْ يد الصبيّ تقرع الهواء كما لو كانت عنق ديك حبش. وعلى إيقاع يده راح فمه ينفتح وينغلق. بصوت رطب

«وْوّووْ ووْووْ ووْووْو وا واووْ…ووْوّووْ ووْووْ ووْووْو وا واووْ…ووْوّووْ ووْووْ ووْووْو وا واووْ…ووْوّووْ ووْووْ ووْووْو وا واووْ…ووْوّووْ ووْووْ ووْووْو وا واووْ…ووْوّووْ ووْووْ ووْووْو وا واووْ…ووْوّووْ ووْووْ ووْووْو وا واووْ…»

" يكـْ…ـفي. يكْـ…ـفي. يخربْ بيْتَكْ... هأْ هأْ هأْ... هأْ هأْ هأْ... " ضحك المسلح

وضاع صوت الضحكة ما إن شرعت الأتان تنهق.

 

ـ 15 ـ

غيمة من صمت

كتائب مسلّحة في كلّ زاوية

رجال من أهل البلدة، ومن غير أهلها، تسلّحوا ولم يعد على ألسنتهم سوى

" هويتكْ… هويتكْ وَلَكْ "

" هويّتك يا أستاذ "

" هويتك ياجحش "

الناس لا ينظرون في وجوه بعضهم البعض.

يُواربون الكلام القليل مواربة.

البقال يناول ولا يمزح.

المارّ في الشارع ساهٍ يصدم آخر، ويمضي في طريقه. الآخر يعلم أنّه آسفٌ وأنّه يودّ لو ألقى نظرة أسف من فوق كتفه، لكنّه مثل الآخرين مسلوب، يسير ويده ترفّ مُستعدّة لإخراج الهويّة في أي لحظة.

المقهى خالٍ، ومن الواجهة يمكنك أن ترى البخار يتصاعد من إبريق الشاي الكبير. وحدهم الفلاحون يدخلون بصخبهم ليرشفوا بصوت عال وهم يمطقون نكهةَ الشاي المحلّى. هم أيضاً يتهيّبون إذْ يحسّون بكثافة السكون، فيصمتون وعيونهم تسـترق النظر كما لو كانوا مذنبين.

والأتان أيضاً باتت تُلحن في نهيقها.

كلاهما بات يشعر كما لو أنّ شيئاً انكسر

من قبل كان الصبيّ يُخلل أصابعه في الشعر بين أذنيها، ملاعِباً خرزات التزيين، أو يداعب بيد حنونة خطمها. من قبل كانت، هكذا فجأة، تنتابها روح سعيدة تجعلها تتلاعب برأسها صعوداً وهبوطاً، ودوراناً بالأذنين. أو تُطلق نهيقها الفرح دون مناسبة. أما اليوم...!

هذا الصباح جاءها بوجه عابس. شـكمها، ووضع البرذعة.

هي تعلم أنّ البرذعة علامة فصل بين جسدها وجسده.

اعتلاها. نهز خاصرتها بطريقة بدتْ لها قاسية.

مرّا بالصوفي ساجداً فجهر

" سبحان ربي الأعلى. سبحان ربي الأعلى… "

ومرّا بالأب وهو يحلق ذقنه والصابون يتراكم على الشفرة، فدمدم من فم مُعوجّ.

هذا الانحدار المنكبّ نحو الوادي المحيط بالسور الأثريّ كانت تنـزله وهي ترفس بفسق وتنهق بمرح، أمّا الآن فإنها تتركّد في خطواتها حذرة صامتةً. كم ودّ الصبيّ لو أنّه يكسر الصمت بمداعبة من تلك المداعبات التي كانت تسـتجيب لها على الفور. لو أنّه مثلاً؛ يُلقي بنفسه على رقبتها حاضناً رأسها، عندئذٍ من المتوقّع أنْ تبدأ هي بتطويحه مازحةً كما لو أنها ستقذفه إلى جوف الوادي.

لكنه لم يفعل.

ساحا في الشوارع

عند كلّ زاوية حاجز.

" هويتكَ… يا فارس الفرسان " سخر أحد المسلّحين

وجوه كثيرة يعرفها شرعت بابتسامات خفيّة. لكنّ أحداً لم يتبرّع بالقول المعتاد

إنّه الأخرس. أنا أعرفه.

بين الجدّ والهزل راح المسلّح يجسّ البرذعة. يقلب أطرافها. ينحني ليرى ما تحتها. يرفع ذيل الأتان وهو يبربر

" أنتم لا تصدقون ما قد يفعله المجرمون!

مثلا...

مرة... مسكناهم... يهرّبون الحشيشة في ط…الحمير. احزروا كيف اكتشفنا أمرهم؟ أقول لكم. لاحظنا جحشاً يزحر على الحاجز. أول مرة أرى فيها جحشاً يزحر مثل بني آدم. بشرفي كان يقلّص شفتيه ويكشر ويدفع كأنّه يلد. الملاعين ربطوا الأكياس ودفعوها في...

وبشرفي من ط… الجحش راحت الأكياس تتدلى مثل… سلا ولادة... "

فجأةً اصطفق شيءٌ في الفضاء القريب، وبردّة فعلٍ سريعة أطلق المسلّح زخّة رصاص.

كلّ شيء جرى في لمحة.

كان ديكاً رغب في الانتقال من سطح إلى سطح.

لحظات سكون، ثمّ بدأ دجاجٌ يُقوقئ.

ومن حافة السطح أطلّ ديك أحمر يُنقّل رأسه من هذا الجانب إلى هذا الجانب، كما لو أنّه في كلّ مرة يريد النظر بعين واحدة، وعُرْفه الأحمر القاني يتمايل من هذه الجهة إلى هذه الجهة.

ومن هذه الجهة إلى هذه الجهة راح الرجل المسلّح ينقّل رأسه مُقلّداً.

فجأة صفق بجناحيه، وطار

لا بدّ أنّه جُنّ.

أيمكن لديك دجاج أن يطير عبر الشارع؟

انطلقتْ صلْية رصاص. انتثر الريش عاصفاً في البداية ثمّ متهادياً. وعلى الارض بقي الديك لحظات يرتعش ويسكن. يرتعش ويسكن. ومنقاره ينغلق وينفتح. ينغلق وينفتح. إلى أن انفقأت فقاعة في منقاره المفتوح، وارتخى…

" ديكٌ انتحاريّ!… لا بدّ أنّه من العصابة!…" قال المسلّح هازئاً.

ومن البيت الذي مازال دجاجه يصخب خلف الجدار أطلّ رجلٌ بثياب النوم، وفي عينيه الهلعتين استفهام.

" هويّتك…" بادر المسلّح فوراً.

وجم الرجل في حيرة واستعصاء.

" هويتك… يا أستاذْ!… هويّتك يا آدمي!… هويّتك يا حمارْ…! "

أشار الرجل إلى الداخل بطريقة ملتبسة ولعدّة مرّات. أخيراً نجح بالنطق

" هذا… بيتي "

" تشرّفنا… هويتك… "

" في جيبي… في البيت… "

" هاتها… "

………….

" احضرها يا أستاذ… ما لكْ فتحت فمك ورخيت بـ...... انقلعْ… يلْلا… "

غاب الرجل. وعاد سريعاً حاملاً الهويّة بأطراف أنامله كأنّها جمرة.

" هذه الصورة صورتك؟ "

فوجئ الرجل، وبانت على ملامحه بلاهة من يختنق.

" هذه الصورة صورتك يا جحش؟ "

أخيراً أنقذ الرجل نفسه بهزّ رأسه.

" … وهذا الديك ديككم؟! "

………………… هزّ الرجل رأسه بالإيجاب، وهو لا يدري أمخطئ أم مصيبٌ في الاعتراف بأنّ الديك يخصّهم.

تأمّل المسلّحُ الرجل مطوّلاً… ثمّ ألقى الهوية نحو باب البيت.

" خلصْ… انقلعْ… " والتفت نحو الصبيّ.

"وانت يا كرْ… انقلعْ "

أدركت الأتان أنّ صرخة الانتهار الأخيرة كانت تخصّ فارسها، فأبدتْ عزماً. شرعت بتكشيرة مطلقة مقطعاً من نهيق كانت قد أعدّته، لكنّ انشداد الصبيّ فوق ظهرها وضغط ساقيه على بطنها أعلماها أنّ خطراً ما سيحصل، إذا ما استمرّت في النهيق. انخفض النهيق مُتخافتاً غريباً في لحنه…

أَخجلتْ؟

أم أنّها استبدلته بثأر الطبيعة؟

ضغطتْ بطنها

دار الذيل، وانقذف المحصول على السلك الشائك. ثم نفضتْ حافريها في الهواء وانطلقت تهنجل. بينما ظلّ هو مشدود الكتفين، محبوس النفس، متوقّعاً رشقة رصاص… إلى أن غابا خلف عطفة الشارع

حينئذ تنفّس بعمق.

 

- 16 -

كانت ساحة البيت تغص بالنّاس.

يا للغرابة!

عرس من هذا؟!

" تعال… بحثنا عنك حتى عجزنا…" قال الصوفيّ بلهجة توحي بأن شيئاً غريباً يحصل.

" ... قلْ أللهْ...

....................................

" أمّك ماتتْ والرجل… "

..................................

" أمّك الله يرحمها … والرجل بلا امرأة مثل................ البيت بلا امرأة مثل............" يدا الصوفيّ تفركان حرجه. الأتان تتنبّه.

أذناها تتبادلان الاصغاء. ورأسها يندس بينهما.

" أبوك تزوّج… صار لك أمّ…! " قالها الصوفيّ دفعة واحدة كما لو أنه ينفض عن يده شيئاً دبقاً.

لسان الصبي المربوط أصلاً ينشف، وعيناه تثبتان على تحديقة بلهاء…

" … ألا تريد أنْ تسلّم على أبيك وعلى أمّك الجديدة… " سحبه الصوفيّ مُجتازاً الزحمة.

أمامه صخب، وخلفه سكون.

ما إنْ يُراه الناس مقبوضاً عليه، حتى ينقلبون إلى صمت

يتحوّل الصمت إلى همس ما إن يجتازهم.

الزمارة تصدح. الطبل يُقرع، والأقدام تضرب الأرض، والزعيق يعلو من هنا ومن هنا.

جبهاً تقدم الصوفيّ ساحباً الولد.

فتيات وشبّان، نساءٌ وكهولٌ يداً بيدٍ، يدبكون. يضربون الأرض بأقدامهم ثلاث ضربات متتالية ثمّ يخطون خطوتين إلى اليمين.

الفتيات بثياب زاهية. عيونهن مسبلات

الأنامل على الأنامل و............

… الصبيّ ينْشدّ بكل جسده إلى الخلف.

أهذا الرجل الأمرط أبوه؟

وفتحيّة في ثياب عرس … فتحيّة ذاتها تمسك بيده!

أتكون هي العروس؟!

كما لو أنّ تقبيل الأب لابنه أضاف هياجاً على الهياج، علا نغم الزمّارة، وراح الزمّار يوقع بقدميه على الأرض، والطبال يدور حول نفسه ويقرع بحركة مجونة. امتشقت المسدسات وارتشـق الرصاص.

وفي الأجساد استعرت النار

علوّ وانخفاض

تثنّي وانتصاب

تمايل

صدّ وردّ. والغبار يثور! والصبيّ مبهوت.

تقع عينه في عين عثمان فيطرف مرات.

يبتسـم عثمان، ويقترب. يضع يده على رأسه ويقرص خدّه. يودّ الصبيّ لو أنّه يستطيع كسر تلك اليد. ينبش عثمان في جيبه، ويُخرج رزمة نقود تتوضّع في يد الصبيّ، ثمّ يدخل إلى الدبكة ويمسك يدها ويأخذ جسده على الفور الإيقاع. يُجاريه الأب في حماسه، فتبدو فتحيّة كما لو أنّها معلّقة بينهما. يأخذانها يميناً وشمالاً وصدرها يمسّ هذا وذاك. ويستعر الفرح مرةّ ومرّة. رشق رصاص وخبط أقدام…

 

_ 17 _

صعوداً نحو المغاور

...في رأسه تختبط الصور.

أياماً والصورة لا تفارق

أكانت معجزة أيضاً؟

يتراءى الصوفيّ في علم الألوان. مزنة سريعة بقطرات كبيرة تمرّ. الدبكة تنفضّ. والناس يلجأون إلى جدار السور وإلى ما تحت القناطر. يمدون أكفّهم للماء الهاطل

ويصخبون.

هو وحده تحت الشجرة العجوز التي تئنّ تحت الريح والمطر، ينظر إلى الصوفيّ وهو يغادر ويرتقي برجاً من أبراج السور. برج مشروخ سيسقط ذات يوم. يرتقي بهدوء

تُخفيه مرّة غلالة زّخّ المطر وتنـزاح عنه مرّة. يراه أخيراً واقفاً في قطعة السماء الصغيرة بين جداري البرج المهدمين، ضئيلاً وملصوقاً على قوس قزح. يذهب القوس عالياً في قبّة السماء، ثمّ ينـزل نحو الجبل. والصبي يمسح الدمع، وينبهت عندما يرى من خلال الزغللة قطعة السماء الصغيرة خالية كما لو أنها لوح زجاج يعكس ألوان ضوء ساطع. وأبعد كان طيرٌ يمعن في اعتلاء ألوان القوس، مُتحوّلاً شيئاً فشيئاً إلى نقطة سوداء. نقطة تغيب وتظهر إلى أن تختفي تماماً.

الأتان ترتقي. تنقل حافراً يتثبّت. تمتح جسدها إلى الأعلى. تنقل حافراً آخر. وآخر. لو أنّ مزاجه كان كالسابق لَلاعبها بالهمس في أذنها

" تاااتا… تاااتا "

وَلاغْتبطت هي بحركة مداعبة، كأنْ تصطنع عثرة تجعل دمه يجمد وهو ينظر إلى الأسفل، ويضطرّ حينئذٍ على إلقاء جسده على عنقها، حيث ستحسّ هي بكلّ مساحة جسده. ربّما زادتْ رغبتها التي ستعبّر عنها بعضعضة الهواء. وربما أحسّت بذاك الإحساس العميق الذي يجعلها تعطس وتعطس...

عند باب آخر مغارة كانت نوى التمرّ مكوّمة بحرصٍ على قماشة مهترئة.

لابدّ أنّه هنا

" هوووووو… هوووووو " جرب الصبيّ لسانه الثقيل.

" هاء هاء هاء هاء هاء هاء هاء هاءْ هأْهأْهأْهأْهأْ " نهقت الأتان.

والصدى يَتَمدمد في رطوبة المغارة. موقدٌ محفور في الأرض وسبحاتٌ طويلة تتدلى من الجدار فوق دثار عتيق ولبّاد، والفانوس يُلقي ضوءاً أصفر في دائرة عمياء.

إحساسٌ يكاد يُلمس. إحساسٌ بأنفاس و

" ارفعْ يديك…" صرخ صوت من قلب الظلام.

اختفق قلب الصبيّ ونشطتْ حوافر الأتان، حين برز من الظلام ثلاثة رجال مسـلّحين. كلاشناتهم مهيّأة ومصوّبة.

كلاهما تيبّس.

" انزلْ… " قالت الكلاشنات الثلاثة وهي تشير من الأعلى إلى الأسفل.

..........................................................

" انزلْ…"

مع الحركة الثانية مرّر ساقه من فوق عنق الأتان.

" انزلْ…"

ومع الحركة الثالثة سلتَ.

الفوهات العاتمة للكلاشنات تنظر إلى صدر الصبيّ، ومنها يمكن أن تلتمع نارٌ. المسلّحون يتقدمون قدماً قدماً، والصبي يضغط بجسده على جسد الأتان.

" أين الكلب… يا جرو؟ "

(الجرو أنا والكلب هو الصوفيّ) حدس الصبيّ.

وعيناه بدأتا تألفان الظلام الممتدّ خلف المسلّحين.

دون إبطاء رسم القوس واحتار كيف يوحي بألوانه، فأشار إلى الدرع الصغير الذي يَشْكله أحدهم على صدره، حيث الألوان الأربعة للعلم تحيط بصورة الرئيس، وأصدر صوت عصف ريح، ثم خفق بيديه في الهواء جائلاً بنظره بعيداً، متابعاً شيئاً يطير موغلاً في الغياب.

" أتسخر منّا يا جرو؟ " وصفعةٌ رنّ صداها في جوف المغارة. انكفأت رقبة الأتان، كما لو أنّها هي التي صفعتْ.

" خذه إلى الأعلى… "

الممرّ الصاعد نحو أعلى الطار مُخيف لأظلاف عنـز، فكيف لحوافر أتان!

حافر يشرع بالتراجع حين يهمّ الآخر... رقبة تنحني وتنشدّ. خوف وإقدام...

ومنخر ينخر

ولولا إحساسها بأنّ المخاطرة ضروريّة لما ارتقتْ درباً أضيق من عين دجاجة.

رجل أهبل

وإلا كيف مرّ عليه الخطر دون أن يلحظه؟

ماذا لو أنّ الأتان زلقت وسـقطت؟!

أما كانت ستأخذ الصبيّ ثمّ تأخذه هو وكلاشنه نحو الهاوية؟

أهبل حقّاً...

وإلا لـمَ ظلّ صامتاً في لهاثه؟ ولـمَ ظلّت فوهة كلاشنه تمسّ ظهر الصبيّ وكأنّه سيهرب؟!

على العكس كان الرجال المتمركزون فوق فكهين صخّابين. ما إن أطلّت عليهم أذنا الأتان حتى هبوا، ليروا أيّ معجزة رفعتْ أتاناً إلى هنا! وانفجروا بالضحك، إذْ أدركوا أنّ الأتان وصبيّها أسيران في يد زميلٍ ما زال محترساً يُوجّه بندقيّته، كما لو أنّه يسوق الخطر ذاته.

أهذه ثمرة كمين استهلك أيّاماً أربعة؟

" أتعلم ما نعمل بالأسير؟ " قال رجل الأمن وهو يكاد لا يضبط انفجار القهقهة. بينما أشار آخر إشارة شائنة استجاب لها الصبيّ بتعابير هلع، جعلتْهم يتقلبون في الضحك.

" وحمارته أيضاً…" والضحك يتجدّد.

...كان ضحكهما في الليلة الأولى يأتيه مضخّماً عبر القناطر فيسري في داخله سمّ. يجمع قبضته ويضرب بها صدغه. يعضّ لسانه. يرفس التبن. والأتان تشدّ رقبتها إلى الخلف وتنخر ناظرة إلى غضبه بعيون فزعة.

ربّما راعها حاله، حينما بدأت تنهق.

تنهق وتصمت

والضحك يدرج مضخماً

ينقطع ويتّصل.

فجأة وجد وجه أبيه فوقه ينثّ غضبا

" خرّسها… سكّتْها… خيّطْ......."

الليل دافئ ساكن هنا، حيث النجوم أكبر، والسماء أقرب.

دون حرص أمني أشـعلوا مصباحين. واحد علّق بعمود الخيمة، والآخر وضع على الأرض وسط البطّانيات. للنوم سلطان، لكنّ سلطان الخوف أقوى. وعين الصبيّ خلف الجفن تشتعل. أبوه بيدٍ حنونة يدفع اللقمة إلى فمها وهي بطرف عينها تقيس ردّة فعله، وبين الاستجابة لتلك الأصابع، وبين إحساسها بالخطر الكامن خـلف عينيّ الصـبيّ الذي يعرف ما يعرف. لكنّها في النهاية راحتْ تفجّر ضحكتها متبادلة زقّ اللـقيمات مع الأب الذي صغر فجأة

وجهٌ أمرط

عينان بلا قذا

وشعرٌ مرجّل.

من سهو النعاس تنبّه. وبوحيٍ ما التفت إلى مكان أتانه التي ربطها إلى وتد، فلم يجدها. فزّ مفزوعاً وركض في كلّ الاتجاهات، وفي واد ضحلٍ رآهما تحت البدر ملتصقين. هي مثلما تكون في أوقات العاطفة؛ تعلك الهواء بحميّة متسارعة. وهو يرهز دون إحساس فيما حوله، حتى عندما وقف الصبي إلى جانبه وحرقة الدمع تموّج المشهد.

" عندكْ… اثبتْ… " وحركة مغاليق الكلاشناتْ تأتي من الخلف.

" اثبتْ وإلا أطلقنا النار… "

دقيقة من سكون.

لا حركة.

لا نفس.

وشيئاً فشيئاً راحتْ اللغود تنفث هواءً محبوساً

ثمّ تفجّرتْ في ضحك صاخب

الرجل ينسلّ من الأتان بهدوء ويسوّي ثيابه بهدوء… وزخّات رصاص مع زغرودة عرسٍ. والقهقهات تتواصل

" العمى يضربك… الحمارة للركوب! للركوب يا...! "

" للركوب يا آدمي! "

" … يا ولدْ كيف تسمح له؟! "

" ياقوااااادْ!! "

ثلاثة صامتون برؤوس مدلاة يسيرون نحو الخيمة

الأتان

والصبيّ

والرجل الغازي.

وثلاثة يهزجون بأيد تحمل الكلاشنات وتطلق

«جينا. جينا. وجيناااا… جِبْنا العروس وجيناااا »

وفي الفرجة التي ينتهي إليها الممرّ الصاعد من المغاور خطّ الرصاص شُهباً تنطلق من عناصر الكمين المتمركز في المغارة.

جبهة فتحتْ

جبهةٌ ستتلاحق نجداتها كما لو أنّ خطّة مبيّتة تُنفذ.

 

_ 18 _

" كم من الوقت سننتظر كلباً بريّاً قد لا يأتي؟ " قالها رجل الأمن الذي يبدو أنّه الرئيس

" يا ويلك إذا علمنا أنّك كنت تعرف مكانه. سنعلّقك من خصيتيك! " وابتسامته المرسومة بشفتين رقيقتين توحي بأنه سيفعلها.

" نغرز خطّافاً بهذه الخصية وثان بالأخرى ثمّ نرفعك مقلوباً. بعدها لن يبقى.... لن تجده منتصباً في الصباح لن يقوم ولو فركته على... حتى لو دفنته ألف سنة في… أتانك، خيطٌ مبلول وكيس مهترئ.

قلْ لنا أين مكانه فنكافئك… نعيّنك براتب! ألا تريد أن تكون موظّفاً عند الدولة؟ تركب السيّارة بدلاً من الحمارة، تضع مسدّساً على خصرك، تتبختر على كيف كيفك في السوق، وتصفع من يزعجك. تتزوّج... يصير لك بيت... ويمكنْ… تصير رئيس مفرزة...

أنت أخرس فعلاً؟!

أبله أم تتباله؟

كفْ عن التحديق يقطعْ عمركْ! "

رمشتْ عينا الصبيّ دون أن يكفّ عن التحديق.

( بلاهة عقله تقوّي نظره! ) أسرّ رجل الأمن في نفسه.

وفي باب الخيمة كانت عينا الأتان تصغيان بصفاء.

فجأة ظهر الصوفيّ حاجباً الشمس.

لأوّل وهلة كان ردّ الفعل جموداً ونظراتٍ لا تصدّق ما ترى. فقد صوروا لأنفسهم لحظات دهْمٍ، مطاردة، وربما مقاومة واضطرار للقتل... ثمّ بدأت الأيدي تتلمّس البنادق دون تحويل الأنظار، وفي لحظة خاطفة تُصوّب واحداً بعد الآخر وبحركات آليّة يزيحون الأمان ويلقّمون.

" قفْ...

يديك خلف رأسك. اركع… "

شيء ما كان يلتبط في الكيس الذي وضعه الصوفي على الأرض.

" ما هذا؟ " وتراجعوا خطوة.

بطرف عينه نظر الصوفيّ إلى كيسـه وراح يصفّر.

شيء ما يتلوى في الكيس، يشرع الكيس بالنّهوض أعلى فأعلى، أخيراً يسـقط عن أفعى تنهض وتحدق بعيون مرعبة، ولسـانها المشقوق يتدافع ويختفي. هلعين تراجعوا حتى مسّـوا نسـيج الخيمة. والحيّة تصوّرهم بعينين صفراوين ولسان سريع.

" إبعدها… إبعدها... "

" لا تخافوا... هي رحمانيّة… انظروا… " بحنان راح الصوفيّ يلمّس رأس الأفعى، فشرع حبل جسدها يتلوى وقشعريرة الرعب تهزّ الكلاشنات

" إبعدها وإلا أطلقنا النار "

عيناه في عينيها، وصفيره المنغّم يستولي على جسدها الهابط ببطء إلى جوف الكيس راسماً دوائر تضيق وتضيق.

" … يلْلا برررررا " وخطواتهم الحذرة تتبع خطواته، إلى أن وجدوا أنفسهم خارج الخيمة حينئذٍ تتنمّر ملامحهم، وتكتسي صرامة

" أطلقها… يا ابن الكلب… أطلقها… "

يضع الصوفيّ الكيس على الأرض بحذر وشكّ

" اذهبي يا مباركة. اذهبي بعون الله "

تنسلّ الحيّة بنعومة وهدوء. تلقي نظرة وتنطلق مبتعدة.

ويزخّ رصاصٌ. الأفعى تتقلّب. بطن بيضاء وظهرٌ مبرقع. كالبَرد ينْـتثر الرصاص فاتحاً نقراً في الأرض، وجسد الحية ينْجدل متكتّلاً في عقدة واحدة تتراقص.

 

_ 19 _

" يا ولدْ… أتريد العودة إلى المدرسة؟ الدولة سامحتك "

" الدولة سامحته! يا رجلْ ما فعله يستأهل الشنق " قال الصقار وهو يملأ فمه بضحكة منافقة.

" إذا كانت الدولة تسامحه فالله لن يسامحه. ماذا يبقى منه يوم القصاص حين يُأمر كلّ حيوان افتُعل به، أن يقتص ملء فمه لحماً عن كلّ مرة؟ ماذا يتبقى؟! عضة بعد عضّة فلا يتبقّى سوى جمجمة تتبسّم بين ألسنة النار..."

" ... عندك علم بهذا يا ولد؟! " ويضحكون متبادلين الدفع بالأكتاف.

" … وجع في عينك… العمى. انظر كيف يحملق. يا ولد اترك هذه العادة. اخفض نظرك... العمى! "

يسمع ويدرك هزأهم لكن عقله كان يتمحور حول أمنيته الدائمة

) ماذا لو أمره الصقار: خذ الصقرين... وعندما يأتي الخليجيون (

لكنّ هل يشتري الخليجيون صقرين صلعاوين نحيفين؟!

من قبل كانا صقرين

أما الآن!

كانا إذا ما اشـتما رائحة الأتان يسـتنفران بجنون عنيف. أمّا الآن فهما يتقمقمان على الجذع كما لو كانا دجاجتين. يتململان بهدوء. يفتـحان منقاريهما لاهثين بين حين وآخر كما لو أنّهما عجوزان بلا أسنان. من قبل كان عنفهما يُغطى بالطماشين، أمّا الآن فعيونهما لا يسترها سترٌ ومع ذلك تبدو منهكة مثل عيني بريص ميت. ورئيس المفرزة بانتفاخ إبطيه وبظهره المستقيم لم يعد يُرى وهو يُلقمهما. وأيضاً لم يعد أبداً إلى جملته الرّحوم

( دعني أطعم بيديّ هذين الجارحين الكريمين! )‍

أبواق سيّارات مفاجئ، صراخ بشر مهتاجين، وليس بعيداً يرتشق الرصاص غزيراً.

وجوم يشلّ الجميع. يتبادلون نظرات استفهام. والأتان دارت حول نفسـها دورات عاصفة.

أيقوم الجيش الشـعبيّ ببيان عملي في قلب البلدة؟ أم أنها هوجمت؟

تندفع من شارع جانبي سـيّارة زيل عسـكرية، تتبعها سيارات على ظهر كلّ منها جمهرة لا تختلف عن جـمهرة ملمومة بقصد الاحتفال، إنّما هذه المرة بأسلحة لا تتوقف عن الرشق و

«حيّدو إحنا البعثيّة حيّدووو…حزب البعث بعد الله نعبدووو »

تدور الأتان

تدور ورأسـها بين قائمتيها

تدور وذيلها مدفوعٌ بين فخذيها.

هجومٌ صاعق من رصاص، وصراخ، وفرامل.

قفزات هياج، وجثةٌ تقذف وسط الساحة، وسيّارة الزيل تقود السـيارات في نوبة دوران، مسـتثارة بصبيب البزين، مكبوحة بالفرامل، كما لو أن السائقين يلهون. الغبار يثور. دخان العوادم يدفق، والزمامير توقظ البلدة دجاجاً وكلاباً وبشراً.

والأسـتاذ منبـهر مخذول. هذه أوّل مرة يجري ما يجري في البلدة دون علمه. يحاول في السرّ ضبط نفسه والإيحاء بأنّ لا شيء مفاجئ.

إنما على من؟!

فالآخرون علموا على الفور أنّ ما يحدث أمام أعينهم يحدث دون علمه، دون أن يدري عنه شيئاً. و بخبث يتساءلون

" ما الأمر يا ترى؟! جثّة من هذه؟ "

أخيراً تقدم الأستاذ وأصحابه نحو سورة السيّارات الدوارة، بينما بدأت البيوت تقذف الرجال والشبان مدفوعين بأوامر المسلّحين وبأعقاب الكلاشنات

" فقط الرجال… لا تروّعوا النسـاء والأطفال! " يهتف رجل أمن مهيب، موجّهاً آوامره إلى لا أحد.

كلّ ذلك بلا علمك يا أستاذ! دنيا دوّارة! دنيا بنت كلب!

الجمهور يزداد ويزداد... والجثة المشوهة تستقطب الأنظار.

لا أحد يعبّر عن شفقة، ولا أحد يعبّر عن ارتياح. فالمسالة تحتاج إلى حلّ. أسدٌ وكومة عشب وخروف وأنتَ وقاربٌ على ضفة نهر، عليك أنْ تجعل الثلاثة يعبرون إلى الجهة الثانية. اثنين. اثنين. دون أن يسـتفرد الأسد بالخروف وإلا أكله، ودون أن يستفرد الخروف بالعشب وإلا أكله. المطلوب سلامة الجميع. هات.. هات طمئنْ كلّ هذا الجمهور الذي سِيق إلى الساحة ليتفرج على جثة عينها اليمنى سليمة. حقاً كانت سليمة. تتدلى بعصب رفيع خارجة من محجرها. صحيحٌ أنْ لا رواء فيها. صحيحٌ أنها كانت جافة تنظر إلى الجمهور في كلّ مرة بطريقة مختلفة كلّما رفست الجثة ، إنما... كانت سليمة. والجثّة مطاوعة كما لو كان حشوها صوفٌ. الذراع تتطوى من مفاصل عدة، والأصابع المنتفخة تنتشر في كل الجهات. من هنا يمكنك رؤية البنصر مفدّعٌ ومقلوب إلى ظهر اليد. من هنا يمكنك أن ترى أن لا أظافر في الأصابع. الجسد عار، ولا عضو ولا خصى. جرح غائرٌ ونزّ. والعين بعصبها تتلاوح ناظرة ببؤبؤ صاف تنظر. سيقسم الجميع أنها كانت تنظر وترى. لا بد أنها كانت ترى، وإلا لمَ أحسّ كلّ واحد أنها تتملاه كما لو أنها تتعرّف

من تكون يا أنتَ؟ من تكون؟!

ما المطلوب؟

شرع السؤال يلحّ!.

جثّة ممزّقة. مسلّحون يصرخون. رجال أمن واثقون، وفضاء رعب في بلدة باتت تفزع من فرملة سيّارة.

ما المطلوب؟ تلك هي المسألهْ.

أيبتسمون أم يعبسون؟

أيهتفون أم يلزمون الصمت؟ تلك هي المسأله.

لو أن رجل الأمن هذا يُفصح لفعلوا ما يريد، ولقاموا بالحركات التي يريد.

المسألة غامضة كالنظر في عين الشمس، والرجل عابس متفكّر، ليس لسببٍ سوى استغرابه من أنهم لا يُنشئون هوسات الهتاف.

" هذا جزاء الخونة " صرخ الرجل مفصحاً أخيراً.

ألا يتوجّب إذن على كلّ واحد منهم أن يبدأ يلوم نفسه؟

( وَلَكْ يا آدمي… يا … اعجنْ عجين الفلاحة، والتقطْ بطرف عينك الاستحسان في بسمة رجل الأمن الذي رفع الآن يديه ليصفق فوق رأسه. افعلْ مثلما يفعلْ. اهتف. اعلِ صوتك اعْليه. سابقِ الأتان. سابقها. لعنة الله عليها أما وجدتْ لحظةً تنهق فيها سوى لحظتكَ؟ سابقها… ما المانع أن تطوف مثلما يطوفون وأن تبصق مثلما يبصقون. اقتربْ. جمّعْ لعابك. اترك فرصةً تكفي لأن يلاحظوا. ثمّ ابصق. هي الصدفة فقط أن تأتي البصقة على العين المحدقة، فلا تهتم. دعكَ مما تشعر به. كن حازماً. الأمر بسيط ألا ترى؟ لـمَ لا تتزيّد فترفس الجثة؟ اخترْ جانب الرقبة. ارفسْ، اضغط فكيكَ. دعك من التأنيب. فلستَ أنت من قتله، هي صدفة أن تحدق العين بك. فلا تهتم... )

كانت الأتان تريد الطواف مثلما يطوف أولاء البشر. تهمّ، فينهرها الصبي. تُنـزل حافراً حذراً من حافة الرصيف ثم تعيده. تكرر المحاولة مرة ومرة، وفي كلّ مرة يأتيها النهي عبر ساق الصبيّ. يرمقهما رجل الأمن بنظرة لا تفسـير لها سوى التشجيع على ما شرعت به الأتان، كما لو أنها تعض على رائحة الجثة، شرعتْ تنهق من بين أسنان مطبقة، وتُرَهْون متعثرة مثلما يمكن لمن يقع تحت الرقابة أن يتَعثّر... هو أيضاً شرع بصراخ الأخرس. يضرب بقبضته الهواء مرافقاً إيقاع الهتاف. نهر البصاق مستمرٌ. ينـزلق حافرٌ، فينخفض النهيق. تتوازن ، فيعلو النهيق. انزلاقٌ ثمّ ثباتٌ والصبيّ يهبط ويعلو والعين تتلاوح في نهاية العصب...

الليلة سيحلم الجميع حلماً

حلماً موحداً.

كيف توحد؟!

كيف صار حلماً واحداً؟

كيف صار يروى على ألسنة كثيرة وكلّ راوٍ ينسبه إلى نفسه؟!

ليس من تفسير!

كلٌّ سيرويه بحيادية، كما لو أنّه يروي حادثة وقوعه من كرسي استخدمه كي يتناول عنقود الثوم المعلق. ليس من اختلاف سوى في ملامح المرأة. كل صورها على الهيئة التي تعجبه، لاشيء غير عادي في وجهها سوى إحساسٍ بشدّ إلى الخلف. حلوة. ليست جميلة جدّاً. وإنّما حلوة. فيها جاذبيّة، لا يمكن للمرء أن يجزم من أين مصدرها. أَمن ذبول أجفانها حين تكلّمت؟ أم من تلك الابتسامة الغاوية؟ أم من ذاك القوام الفارع؟ وعندما تلتفت، يظهر سرّ الملامح المغولية، يظهر الشريط الذي ربطت به شعرها مشدوداً شدّاً عنيفاً، يسحب صدغيها نحو الخلف. ستتساءل أنت إن كنتَ تحلم أم لا. ستقبض كفيّها وترخيهما مرات. تدعوكَ. وفي عينها بريق يسحبك سحباً. ستجد نفسك تلج من حدقتها، وتنـزلق خطفاً في هوة سحيقة. ستتساءل إن كنت تحلم أم لا، لكنّك لن تتوقف عن الانزلاق. أهو حلم؟. في النهاية ستصطدم بشيء صلب. ستبصر والهلع يعصر قلبك تلك العين المتدلية بالعصب، ستبصرها مجسمة بحجم الكرة الأرضية المعدة للتعليم. يأتيك منها برقٌ يصعقك مرات ومرات. سـتتمنّى لو أنك تهرب، إنما سـتحسّ بوهن من لا يستطيع حتى تحريك إصبعه. وعميقاً في جوف تلك العين سترى أشكالاً وخرائط، ستعلم أنها بحيرات وأنابيب تختزن وتنقل تهماً وندماً.

يا للعجبْ!

تتساءل إن كنتَ تحلم

وفجأة تصحو غارقاً في عرق غزير

طواف مرات ومرات… عشرة... عشرين... ثلاثين.

والملل ينتاب الناس، إذْ من أين يأتون بطاقة تكفي؟

جفّ اللعاب

ارتخت الملامح. وشرع شيء غامض ينخز.

خفت الهتاف

وضعف خفق الأيدي.

وبدوا كما لو أنهم ينتظرون الأمر بالتفرّق. ذلك ما أحسّ به جيّداً رجل الأمن الذي شبع هو الآخر من الاستعراض. لكن إباءه الذي يمنعه من أن يتلقى ولو بطريقة مواربة رغبة الناس في التفرّق، جعله يرشق من فوق الرؤوس صلياتٍ ستكون مدار تندّر. البعض أقسم أن الهواء المفتول مع الرصاصة مسّ أذنه. البعض سيقول أن رصاصة مست شأفة رأسه فشمّ على الفور رائحة احتراق الشعر. صليات متتابعات، بينما الناس يتزاحمون مثل غنم، والأتان المصعوقة تدور وتدور، تطأ أقداماً وتوقِع كوفيات. والصبيّ من فوقها مشرّع الذراع يحاول التوازن. أخيراً تنفيذاً للأوامر حملوا الجثة وقذفوا بها في صندوق الشاحنة، حيث سيعلق بصاقهم بأناملهم إلى الأبد. لا الماء والصابون، ولا الفرك بقشـور الليمون، ولا حتى الكحول والخلّ أشعرهم بالنظافة وإلى الآن تفرك يدٌ يداً كما لو أنهم مصابون بداء.

... سكون عميق. لا دجاجة شاردة في الباحة. لا بكاء طفل يأتي من بعيد. لا عواء كلب. لا قطٌ يمر. ليس سوى السكون.

راحت تنقل حوافرها بحذر. هو يعلم أنها بمشعرٍ خاصٍ التقطتْ شيئاً ما. تنبّه بكل حواسه، ومن فوق عنقها أردف ساقه. سلتَ بهدوء. ولج القنطرة الكبيرة وظهره يلتصق بالحائط كي لا يلقي ظلاً. صمتٌ وسكون كأنْ لا أحد في البيت. كأنّه سمع همساً. كأن حركة كتومة تجري هناك، لكنه رأى أباه بين الجموع. رآه هناك.

أيكون مخطئاً؟!

نعم هناك همس.

همس بات يصله محتدماً. آهات. آهات غريبة. ومثلما تسرع درّاجة في منحدر انطلقت الشهقات تتوالى...

كذّب نفسه

(لم أره هناك)

( يجب أن أخرج من هنا ) قال في نفسه.

ليس إلا زمن تجاوز قنطرة واحدة، فيحسّ بحركة غامضة خلفه. يلتفت بسرعة ليرى عثمان يلوح برزمة نقود.

تلكّأ زمناً إلى أن نادته الأتان بنهيق يضخمه الفضاء الرطب، وتردد صداه القناطر

وفي داخله شرع شيء غامض يتمزق.

... كان ما زال يبكي عندما التقاه أبوه في أول عطْفة، وإذ رأى دموعه أحب أن يداعب الأتان، فحمل الأكياس بيد واحدة، ليتيح لليد الأخرى مسّ ما بين أذنـيها بحنان للمرّة الأولى. وهي إذْ اسـتمتعت بتلك اللمسة، طفقت تدفع رأسها ذهاباً وإياباً

وفي الهواء فاحت رائحة اللحم المشوي خارجة من الأكياس

" ارجعْ لنتغدى... عندنا ضيف " قال الأب من بين أذني الأتان.

……………………………

" لماذا تبكي؟ " همس الأب، وبدا وجهه الأمرط من خلال غلالة الدمع مشوهاً وغريباً.

 

_ 20 _

يوماً بعد يوم... راقب الزغب ينمو متحولاً إلى ريش.

لصق الصخور القائمة وعلى رؤوس أصابعه، يرتعش ويتأرجح.

ما إن تدلى جارفاً بجسده حجارة، حتى صرخا كما لو أنهما يستنجدان. أما الآن وهو قريب منهما فإنّهما سـكنا قليلاً يرقبان حركته. يرفان بأجنحتهما خارج العشّ. يتزاحمان. ويعودان إلى إفساح المكان لبعضهما البعض. يحدّقان بعيـون بريئة أعلى المنقارين المثقوبين، ورأسـاهما يندفعان ويتراجعان، كما لو أنهما يحذّرانه من الاقتراب. وهو عالقٌ لا يسـتطيع التزحزح مقدار إصبع واحدة. لو استطاع نقل قدمه خطوة واحدة لأمكنه أن ينحني قليلاً ويلتقطهما، لكنْ كيف والخطوة التي تفصله عن العش صخرةٌ ملساء مثل صابونة.

الحبل مشدود للغاية. لو أنه أطال الحبل قليلاً.

الألم يكاد يمزق قدمه، والحبل المتوتر يحزم أضلاعه بشدّة.

أيصعد؟ أيتخلى عن حلمه؟

لا. أبداً...

لكنْ... ماذا لو أن أحد الأبوين عاد؟

ماذا لو رفع عينيه فإذا به ينـدفع من الأعالي؟

نقطة في سماء لامعة. ينظر من خلال أهدابه. النقطة تكبر. تكبر شيئاً فشيئاً إلى أن تتخلّق في هيئة صقر ينقضّ، وعينه الجارحة مسـلطة صوب نقطة واحدة؛ هي عينـه. يقترب. يقترب. وبينما تبدأ أجفانه بالرفرفة يكبح الطير اندفاعه الصاعق، وينتصب بأجنحة مشرعّة وذيل مفروش، ومخالب كالخطاطيف. ببطء يرى المخالب تكبر. تكبر. إلى أن يصبح الواحد بحجم جرافة. ثم يعمى. يرى عينَه تتـنازعها المخالب. ترتفع معلّقة، وعصبها يتطاول ويتطاول.

كيف سيكون الألم... لامعاً مثل شطب الشفرة؟

أم كليلاً؟

والعين تطلّ من بعيد لتنظر مكانها الفارغ مثل فوهة بئر. وربما سقطت إلى الهاوية، وهي تصوّر الأرض تأتي وتقترب، وعصبها كالذيل يتبعها. ربما ابتلعها أحد الطيرين، فلا ترى سوى ما ترى حين تضغط الكفُّ وتفرك لإطفاء حكّة. ربّما...

إذا ما طاول جسده قليلاً سيصل إلى العشّ

محاولة. ثانية... ثالثة، ورابعة... والحبل يرتخي.

أكان عالقاً؟

... مدّ يده وقبض على أحدهما. دسه في عبّه، ودفعه إلى ما تحت إبطه رغم الجنون الذي اعترى مخالب الفرخ. تناول الثاني ودسّه أيضاً.

ما أعظم سروره لولا تلك الحصاة التي نقرت هامته، وأكملت سقوطها في الهاوية.

رفع رأسه ولم يصدق. أعلى من الغبار وسيل الحصى كانت أُذنا الأتان تبدّلان موضعيهما إلى الأمام والخلف، وعيناها جاحظتان. من هنا لا يرى جسدها، إنما يمكن تخيّله. القوائم الأربعة تنغرس بالأرض، والجسد يدفع نحو الخلف. ونخيرَها المجهد يوحي بأنها ستسقط بعد لحظة واحدة.

يا أهبل

لماذا لم تربط الحبل بصخرة؟

هل يمكن لغير الأهبل أن يتدلى في قلب هوّة بحبل مربوط على خاصرة أتان ؟

بعزيمة الخوف ارتقى مقداراً يكفي لأن يرتخي الحبل قليلاً.

أتدرك هي؟

لو أنها تدرك وتتراجع خطوة واحدة!

قدرة قادرٍ جعلتها تتراجع، وهي تدفع إلى الأسفل تراباً وأحجاراً ترتطم بالحافة، فتتقافز في الفضاء هابطة. مثل سحلية التصق بجدار الصخر إلى أن توقف سيل التراب، ثم بدأ يحسّ بالحبل يتوتر.

( سامحتكِ سامحتك ) تكلم في داخله وهو يبتسم، ولولا الجهد لقهقه راغباً في هذه اللحظة بضم رأسـها الضخم وتقبيلها بين عينيها، حينذاك سـتلاعبه كما كانت تلاعبه من قبل. ستخترع حركة ما لتدفعه إلى الفرح كأن تضرب ذيلها على عنقه، وسـيهمس هو في أذنها وربما عضّها عضة مداعبة.

كان الفرخان قد توقفا عن تمزيق جلده. وكان الدم قد بلّل قميصه عند الحزام. ومن الحافة رآها تتراجع حافراً حافراً، وجسدها يبزخ تحت الجهد. أخرج الفرخين ووضعهما في الخرج. ربط الشراشيب دون أن يغلق. قلّب عينيه في السماء باحثاً عن نقطة سوداء. لكن السماء كانت صفحة بللور نظيف. فتح زيق ثوبه متفقّداً الألم تحت إبطيه، فاقشعرّ عندما رأى لون البشرة الوردي...

الشمس تميل منحدرة إلى الغروب، وعينه ما تزال قلقة تبحث في السماء. والأتان تسير بخطا هادئة، تتجنّب الحفر والصخور. أتانٌ كما هي الأتن صبورة هادئة حكيمة، تخطو خطواتها البطيئة كما لو أن الزمن سرمد لا ينتهي. تشعر بجسده يتهزز على كفلها، وبفخذيه يحوطان بطنها، فترغب لو أنه يعود إلى اللعب خطواتٌ ويدخلا غابة الكينا:

- هذه آخر نظرة!.

همس في نفسه وراح يجيل بصره في سـماء بدأت تميل إلى لون معدني محمرّ... توهّم أو رأى نقطة سوداء تجول في السـماء. وبشعور المداهَم أغلق عينيه ولكز أتانه.

فمن يدري ما الزمن الكافي كي ينقضّ صقر ؟

وبرأس منحن وكتفين متداخلين وساقين ارتفعا خوفاً؛ ولج هو وأتانه الظلام تحت الشجر. بعيداً في الأمام، تلوح وتختفي أنوار الشارع العام، وفي الخلف يمتد عراءٌ لم يعد الصبيّ يتجاسر على الالتفات إليه. خشخشةُ الأوراق اليابسة تجعل قلبه يخفق ونظره يتطاير هنا وهناك

لا سماء هنا

بل سقفٌ من دكنة كثيفة، والأغصان المتدليّة تخفي أشباحاً تتقافز من جذع إلى جذع. وعلى بعد خطوتين تصرصر جنادب الليل، وأبداً تظل المسافة خطوتين كما لو أن جندباً يحذر جندباً...

الأضواء تقترب، وحفيف العجلات صار مسموعاً, وأضواء السيارات تتلاعب بآلاف الخيوط خلال الشجر. اعتدلتْ فرجةٌ بين الأشجار متجهة مباشرة إلى النصب المقام على التقاطع، وتلألأت الأضواء. ومن الاتجاهات كافة كانت منابع ضوء تدفق حزماً من نور تلتقى على النصب. وفي الخلف كان جدار نصب عال يكتظّ بعمال وفلاحين، ينشطون في العمل.

كمْ توقف من قبل مشدوهاً والأشكال تتخلق من بين أيدي الرسامين. كان الرسامون يجلسون على الصقالات ساعات، ليرسموا عيناً كبيرة أو أصابع كفّ ضخمة، بينما كان هو يقرأ منْشغلاً بتلك الكلمات التي تأبى أن تتحوّل في رأسـه إلى معنى

الـ...ـصّـ...مّ والـ...ـبُووو...كُـ...ـمْ يقووووولون نـ...ـعـااااا...ـمْ لـ...لسـ...يّد الر....ئْـيسْ

يتهجّى ويتهجى.

وإن ينسى لن ينسى نصب التمثال

حينذاك صدمت نظرَه القدمان الضخمتان تحت طرف الشادر في صندوق الشاحنة. كان حجم القدم الواحدة بطول رجل.

كلّ شيء كان هادئا.

والناس يذهبون ويجيئون كما لو أن كل شيء عادي.

أما هو فكان مصدوماً لا يكفّ عن النظر إلى هاتين القدمين

ماذا لو أنه اعتدل وقام؟!

غابت الشمس وحلّ الظلام عندما وصلت سيّارات الأمن، وتوزّع أفرادها على الطريق من الجهتين محوّلين مسار السيارات بعيداً بين الحقول، بينما شرعت رافعة تزأر منتقلة ببطء النملة.

" لا يُعقل أن يرفع الرئيس مشنوقاً من رقبته "

صرخ الأستاذ كما لو أنه يستعيد شيئاً ثميناً. لحظات صمت وسكون لفّت الجميع

فالأستاذ معه حقّ؛ كيف لم يخطر ببالهم أن وضعاً غير لائق كهذا، يمكن أن يكون سبباً لألف تقرير. كان النصب نصف قائم عندما سرتْ حركة مرتبكة، أعادت النصب إلى الأرض. وبصمتِ من ارتكبوا خطأ فظيعاً مرّر بضعة رجال الحبل من تحت الإبطين. وبصمت أيضاً انتُشل إلى أن اسـتقام معلّقاً في الفضاء، يتأرجح فتتأرجح أجساد الرجال الذين طيّر لبّهم الخوفُ

فماذا لو أنّ… لسبب ما... انقطع الحبل؟

أو أنّ سائق الرافعة أخطأ بحركة وتحطم النصب؟

ماذا لو أنه… السائق... من ألله… أتته الجلطة أو عُمي… هكذا فجأة… في هذه اللحظة، ألا يحدث مثل هذا؟

لكن النصب انتصب أخيراً. عملاق برأس كبير وجبهة عريضة، يحي بيد مضمومة، ويبتسم الابتسامة ذاتها المطبوعة على صور القماش.

... من هنا يمكن رؤية رشاش الـ500 والرأس الآدمي خلف تصوينة من أكياس الرمل. أكان مكتوباً في اللوح المحفوظ أن يخلو الطريق من السيارات في هذه اللحظة؟! أكان مكتوباً أن يسود سكون يُكبّر خشخشة الأوراق تحت حوافرها كما لو أنه قصف أغصان يابسة؟! فجأة شرعت النار تنفث من فوهة الرشـاش، وفي الغابة دارت عاصفة. صفير يثقب. أغصان تتكسر. وأوراق تتساقط.

وعلى كتفي الطريق رمى رجال الحاجز أجسادهم، منبطحين على أفكار مشغولة بالتساؤل

( هل أُصبت أم لا؟ )

ومن مواضع عدّة ظهر مسـلّحون يزحفون ويطلقون في الاتجاه ذاته. جبهة فتحت، وفضاء معركة. كان من الممكن أن تطلق آلاف الطلقات لولا أن كشافات الضوء التي شرعت تطارد ظلال جذوع الأشجار بجنون؛ أظهرت شبح أتان يرفس بأطراف عاجزة، ورأسٍ ينوض ويستلقي. من جذعٍ إلى جذع انتقل المسلّحون. يحتمي الواحد منهم بجذع. يتناوق حذراً فلا يرى سوى المشهد ذاته

أتان مجندلة تحت نور مبهر

يتقدم مسـلح آخر يقوم بالحركات ذاتها، ولا يرى سـوى أتان مجندلة.

يلحقه آخر وآخر…

إلى أن طُوقت الآتان.

"هناك رجلٌ... " صرخ أحد المسلّحين

" اخرج وإلا ثقّبناك بالرصاص "

" قفْ... "

" ارفع إيديكْ "

" أيّ حركة! ضربنا بالمليان "

كان الصبيّ مصعوقاً يرى الظلال تتضخم

تتصاغر،

وتنمحي. ثم تظهر من جديد متداخلة في جنون.

" هذا أنت يا عامر ياعماره! " هتف أحدهم وبدأ يضحك.

تبعه الآخرون برزانة أولاً، لكنهم شيئاً فشيئاً ضجوا هم أيضاً بالضحك.

" ارفع إيديك ياولد " أمر أحدهم.

وإذ شبَّ الصبي على رؤوس أصابعه دافعاً إلى الأعلى يديه المرفوعتين أصلاً، تجدد الضحك صاخباً

ضحك وضحك

ضحك كلما هدأ زادته اشتعالاً الإشارات الساخرة، ومحاولة الصبي بأن يخرق الفضاء وهو يدفع ذراعيه المستسلمتين نحو الأعالي.

الكلاشنات أُلقيت على الأرض

والأيادي تسند البطون. وذاك الرجل بين لحظة وأخرى، يشير بإصبع ممدودة نحو الصبيّ المذهول الواقف على رؤوس الأصابع ويأمر

" ارفع إيديك... "

فيحاول الصبي أن يدفع جسده أكثر فأكثر إلى الأعلى

ويتفجر الضحك.

" ما هذا؟ ما الذي يلتبط في الخرج ياولدْ؟ "

" افتحه "

عادت الكلاشنات إلى الاحتراس

نسل الصبي خيط الصوف من العقدة. اصطفق جناحا الطيرين وهما يشقان كثافة الشجر، فارتشق الرصاص وتساقطت الأوراق، وتردد الصدى...

وفي جسد الصبيّ ارتعشت موجة أخرى من الخوف

الرقة مرة أخرى...

في 26/ 4 /2001