يطرح الشاعر العراقي، المغترب والساكن في وجع الأشياء، يطرح في هذه القصيدة الذاكرة في وجه المنفى والنسيان، ويدير فيها حوارا تناصيا خلاقا مع مسيح بدر شاكر السياب بعد الصلب، كي تطلع من رماذ هذا الحوار العنقاء الجديدة.

متاهاتُ العاشقِ في نصٍ مفتوح

(الرُّوحُ ومَتاهاتُها)

مالك الواسطي

 

المتن
(... لَمْ يبقَ لِي الآنَ إلا أنْ أُجاريكِ وأنتِ تتنقلينَ من حالٍ إلى حال، وتتقلبينَ في نومٍ دائمٍ ويقظةٍ دائمةٍ، يحسدُكِ الآخرون عليها. لا حيلةَ لي، فأنا الواقفُ ببابكِ دون حراكٍ، تفعلينَ بي ما شئتِ، وتَتْرُكينَني كطيفٍ تَجُرُّهُ عَرَباتُ الفلاحينَ إلى مساءٍ تَعلَّقْتُ فيه بين حَفيفِ ثيابِ صبيةٍ، وهي تنأى في ظلالِ البيوتِ التي تَرَكْتُ على جدرانِها الباليةِ ذكرياتِ الصِبا وهَمَّ الرجولةِ.

... بيوتاً سكنتُ ببغدادَ، حياً سكنتُ ببغدادَ، مازالَ طيفاً، تُجَرجِرُهُ عرباتُ الفلاحينَ عنوةً إلى القاع...).

النَّصُ
اِعْتَصِمْ!
قَالتْ الرُّوحُ في ضيقِها
واِبْتَسِمْ!
قالَ حُزْنِي الذي صارَ بيتاً لظلْ
واِحْتَشِمْ!
قَالتْ الكائِناتُ
وما كنتُ مُعْتَصِماً في احتشامي
وما كنتُ مُبْتَسِماً في هِيامي
وكُلِّي يُغَادِرُ كُلِّي
وقَتْلي على مَنْ أُحِبُّ حَرامْ!.
*   *   *
تَضيقُ بكَ الكلماتُ
يَضيقُ بكَ الحُزنُ
فافترشْ، قالتْ الريحُ، ظلاً
ونَمْ في ظلالِ الحَجَرْ
فدمعي يَفِيضُ بِماء الفراتِ
كفَيض الأهلَّةَ في المنحدرْ
وما عدْتُ أبغي طلوعَ النهارِ
وما عُدْتُ أهوى غناءَ الغجرْ
فَعُدْ، يا خفيفَ الظلالِ
كَطيفٍ،
أراهُ بظلٍ تهاوى على طيفِ ظلْ.
*   *   *
قالَ لي:
لو سَكَنْتَ بطيفٍ لظلي
وبِتَّ النهارَ على قطعةٍ من حجرْ
وذُقْتَ مرارةَ حُبِّي
لكُنْتَ الطريقَ وكنتَ الأثَرْ
وكُنْتَ البدايةَ في كُلِّ حينْ
وكُنْتَ المحبَّةَ في كُلِّ سرْ
وكُنْتَ الدليلَ لِمَنْ يَهْتَدي
بظلٍّ تفيَّأَ حزنَ الغصون
لكنَّ ظلِّي لظلِّكَ نجمٌ
وحُزني لحُزْنكَ عِلمٌ
ودربي،
تَزَاحمَ فيهِ الشجونْ.
*   *   *
يا ورقَ التوتِ
ويا كفَني
في وطنٍ مبخوتْ
يا ورقَ التوتِ
مَنْ هجَّنَ هذا الملكوت،
وأسْكنَ هذا القلبَ وحيداً مبتهجاً في قولٍ مسكوتْ؟
تَاريخٌ هذا!
أمْ ليلٌ يَلبَسُ ثوبَ الهاربِ في تابوتْ؟
يحتضنُ التاريخُ جروحي
احتضنُ التاريخَ بروحي
وأُغَيُّرُ مسرى الماءِ
الجارفَ في لذاتِ العُتْمَةِ والتكوينْ
في العُتْمَةِ،
يَسْكُنُنا وَطَنٌ غيَّبَهُ الترحالُ طويلاً،
في العُتْمَةِ،
يَنْسانا وَطَنٌ فَيَّضَهُ البترولْ
عَلَّقَنا في أبوابِ الكوفَةِ،
في البصْرَةِ،
نَلْهَثُ في وجَعٍ وخُفوتْ
يا ورقَ التوتِ
و يا كفني
في وطَنٍ مبخوتْ
يا ورقَ التوتِ
ترجلْ!
فالوقتُ مساءْ
والطيفُ تخبأَ في طياتِ رداءْ.
*   *   *
أحْتَضِنُ التاريخَ الموغلَ في الحسراتْ
وأمضي في الدرب الطالعِ عند الفجرْ
ألِمُّ بقايا الوقتِ العالقِ في الكلماتْ
أتَجلَّى في الليلِ ثياباً
تُوجعُ جُرحي
لكنَّ الليلَ بهيٌّ
وطنٌ،
يوغِلُ فيهِ القلبُ رهيفاً
يَتَناسلُ فيه الغَيمُ
وأنا المَرميُّ على الطرقاتِ
تراباً يتشظى فيه الضيمُ
أَسكنُ في وجعِ الأشياءْ
وأرى أنسجةً في قلبي، تتيبسُ
كالقشِ،
السَّابحِ في أتربةِ الماءْ.
*   *   *
في الشُعْلَةِ (1)، في الثورةِ(2).
قالوا....
بلْ
في البابِ الشَّرقيِّ(3)،
وعند مداخلَ سياراتِ الأُجرةِ،عمالٌ وقطيعٌ وحفاةٌ،
يأتونَ الفجرَ كباراً بحكاياتِ الأمسِ،
خَفافاً، أفواجاً وجماعاتْ.
تَجْمَعَهُمْ ضحكاتٌ متربةٌ،
يَحْمِلُها الضوءُ الخافتُ في الطرقاتْ.
لكنَّ الفَجْرَ غريبٌ يجلسُ تحت مظلاتِ المطرِ النازلِ
مِنْ أفكار الليل، يُطالعَهمْ منكسراً في ألوانِ الصحفِ اليوميةِ،
في أقولِ الصحفِ اليوميةِ، كُنْتُ أراكِ بحُزْمَةِ ضوءٍ
جاثيةً كالكلماتْ.
في العصر، أراكِ غافيةً
كالدمعِ العالقِ في أطرافِ البابِ،
أسْمَعُ صُوتَكِ،
يَخْتَرِقُ العُتْمَةَ، يَجْلِسُ بينَ يديَّ
أَبكيهِ ويَبْكي لي غُرْبَتَهُ
يزرعُ في خديَّ،
قبلةَ صُبحٍ،
شاردةً من طيفِ دعاءْ.
تَتَوسلُ هذا الوقتَ الطافحَ في الأحياءْ
تَتَوسلُ هذا الزمنَ الغائبَ في أسرارِ الماءْ
أَنْ يهدأَ حيناً
أَنْ يسكنَ حيناً
أَنْ يُطفِئَ حُزْني
في عشقٍ،
تَسْكُنُهُ كُلُّ الأَشياءْ
لا يُقْتلُ فيه،
مَنْ سافرَ في التيهِ
يَبْحَثُ عن معنى وسماءْ.
*   *   *
اِحْتَضَنْتُ الغروبَ، وكانَ الحجرْ
قبةً تَحْتَها تَسْتَريحُ،
وكانَ الخريفُ،
على السهلِ يغفو
يُدَنْدِنُ في هَدْهَداتٍ وحَيفْ
وأنصُتُ حيناً لوقع الخُطى،
وحيناً لصوتِ المزاريبِ،
تَرمي الأحاديثَ فوقَ الرصيفْ
وصُوتُكَ يأتي غريباً،
وصُوتُكَ هذا دبيبٌ تعلقَ في كُلِّ طيفْ
ويشقى المساءُ على وجنتيكَ
ويبقى المساءُ على ساعديكَ
ملاذَ المنافي لقلبٍ وضيفْ
سَمِعْتُكَ تشجو، وحيناً تُغَنِي
وحيناً تصيحْ
         «بعدما أنزلوني، سمعتُ الرياحْ
         في نواحٍ طويلٍ تسفُّ النخيلَ
         والخطى وهي تنأى،
         والصليبُ الذي سمروني عليه طوال الأصيلْ
         يَعْبُرُ السهلَ بيني وبين المدينة
         مثل حبلٍ يشدُ السفينةِ
         إلى القاع(4)».
*   *   *
يا ورقَ التوتِ
ويا كفني
في وطنٍ مبخوتْ
يا ورقَ التوتِ
ترجلْ!
فالوقتُ مساءْ
والعِشقُ يَفِيْضُ السَّاعةَ في الملكوتْ
وَتَغِيبُ اللحظةَ في حَضْرَتِهِ
لاهثةً،
كَلِماتُ اللاهوتْ.

شاعر عراقي يقيم في نابولي ـ إيطاليا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ حي شعبي في بغداد.
(2) ـ حي شعبي في بغداد.
(3) ـ إحدى الساحات الرئيسية في العاصمة بغداد.
(4) ـ مقطع من قصيدة لشاعر الحداثة العراقي بدر شاكر السياب (المسيح بعد الصلب)، وقد كتبتُها بطريقة أجريتُ على القصيدة الأصل بعضَ الحذف خدمة للنص الجديد أو هكذا أردت لها المقطع الشعري أن يكون.