يتناول الكاتب نموذجا لشعر المقاومة، متناولا خصائصه الأسلوبية والبنائية. من خلال قراءة متأنية في تجربة الشاعر منير مزيد. الذي تقدمها القراءة كتجربة تتجاوز الساكن، وتسعى بأسلوبها المتجدد الى ركوب مغامرة الكتابة التي لا تهادن في حمولتها الفكرية والدلالية.

العش المفقود بين الجداريات ومواكب الانتظار

محمود الديدامونى

عصفوران عاشقان
مازالا يبحثان عن عش
لم يجداه...
طارا في السماء بعيدا بعيدا
وجدا يد الله ممدودة...

للشعر دور كبير في تشكيل الهوية الحضارية لأمتنا العربية على مر العصور، القديمة والحديثة، وليس أدل على أهمية الشِعر في تاريخنا العربي من وصف أمتنا بأنها أمة شعر. وما ظهر من تصنيفات عدة حسب الغرض الشعري أمدنا بتسمية أعتقد أنها ملازمة لشعرنا العربي قديما وحديثا، وليست مستحدثة، وهو ما يصنف على أنه شعر المقاومة، وليس شعر الانتفاضة، فشعر المقاومة أكثر شمولية من شعر الانتفاضة كون الأخير أحد المفردات الهامة للمقاومة، فكيف لا يكون الشاعر مقاوما، وقد نذر حياته للشعر وللوطن، ومن هنا يستطيع الباحث أن يدخل إلى شعر منير مزيد من تلك الأيديولوجية الفكرية، فهو العاشق للمكان/ الوطن، والوطن عاشق له، كلاهما يبحثان عن بعضهما، وكأن كلا منهما وطن للآخر، ولأن المسافة بعيدة بينهما، طارا في السماء، لتتعانق روحيهما، متعلقتان بالأمل، لأن يد الله ممدودة، هي إذن قضية الوطن المستلب، قضية القضايا، ينزف خلالها الشاعر همومه وهموم وطنه، ولأن دارس الأدب قارئ في المقام الأول! والقراءة تحتم عليه إقامة الفهم، وضبط نتائجه. وقد تقاس القراءة الحقة بهذه السعة، لا فيما تحشد من معلومات في حصادها، بل فيما تتخير منها لتدعيم فهمها للنص. فقد يتطلب النص في هذه النقطة من الكم المعرفي، ما لا يتطلبه في نقطة أخرى. وهذا التوزيع في مقادير المعرفة، هو الذي يعطي للقراءة فاعليتها، ويؤكد للقارئ عبقريته. إذ ليس العبرة في الحشد والجمع، بل العبرة في التوزيع الذكي الذي يخدم المعنى، ويحقق للنص عطائيته المفيدة، وقد يكون قصد الشاعر ذاته دلالة أخرى غير التي اهتدينا إليها، مما يعتبر ثراء لمدلول النص وطاقاته الفنية، إن ممارسة القراءة الإشعاعية، ممارسة ممتعة. لأنها مشاركة، والمشاركة تدرج القارئ في العملية الإبداعية إدراجا مزدوجا: إدراج في صلب النص، فيكون القارئ جزءا من النص ذاته. وإدراج خارجي تكون فيه الذات القارئة هي غياب النص. ونقصد من الغياب في هذا الموطن، العمق غير المرئي من مجال النص، الذي تشكله الدلالة. فكل دلالة منها تشكل عمقا، أو كثافة نصية، لها من التوتر الإبداعي، ومن الشحنة العاطفية، ومن القصدية المعنوية، ومن السمة الأسلوبية، ومن الصياغة اللغوية ما يحددها أثرا جزئيا في التركيب الكلي للنص الإبداعي عامة. فإذا استطعنا تحديد الحزم النصية، وألحقنا بكل واحدة منها ما يناسبها من عناصر الإبداع ومقوماته، استطعنا في أثر رجعي تحديد سماكة النص الأدبي، ووضعنا الحضور إلى جانب الغياب لتأكيد وحدة الأثر الإبداعي جملة واحدة.

فعندما يكون الحديث عن الشعر، نقف احتراما لهذا السيد، لأنه يحمل مقومات البهاء، ويملك أيضا مباهج الحياة، ومجامع الشجن، فلم يعد الشعر مجرد التعبير عن المشاعر والأحاسيس والانفعالات للنفس البشرية في رصدها للحياة والواقع، بل الشعر منهاج حياة. العلاقة وثيقة بين الإنسان والشعر، وبين الشعر والوجود، فمتى كانت الحياة كان الشعر ومتى وجد الإنسان بزغت شموس الشعر تبدد العتمة، فتشرق الحياة، ويفرد الصباح ملاءة الندى. من هنا كان الشعر خصيصة مهمة من خصائص التكوين الإنساني، لأنه لغة الحياة والوجود والخيال والحلم والخلود.

ولعل أنصار قصيدة النثر يرون أنها أرقى أنواع الكتابة الشعرية، وهذا فيه كلام، ليس هذا مجاله الآن، ولعل ما فعله أدونيس من محاولة فض الاشتباك بين المتناقضات التي تكتنف القصيدة، خاصة فيما يتعلق بين الفوضى والتنظيم، مطلقا على تلك العلاقة تسمية "الوحدة العضوية" باعتبار أن القصيدة النثرية ذات شكل على أية حال.. ولا أدل على أننا بصدد قصيدة نثر تتصل بجذورها مع تلك القصيدة الإشراقية التي كتبها آرثر رامبو، فقد تأسست على نوع المعرفة الإشراقية، كما أنها تستند على الحدس الصوفي الذي هو محورها بشكل عام، ولا يمكن أن نغفل أن القصيدة لا تخلو من موسيقى تقترب في بعض الأحيان من قصيدة التفعيلة، فليس ثمة انفصال تام. ولم يكن الشاعر "منير مزيد" إلا واحد من الشعراء الذين أجادوا العزف على قيثارة الشعر في ديوانه (وجوديات) ويتجلى ذلك في قصيدته جدارية الشعر حين قال:

أمتطي صهوة جواد الكلمة
عابرا أَقَاصِي السَّمَاوَاتِ
خلال الصمت والسديم
في مملكة العدم
مستنهضا دقائق الخلق
وتفاصيل الوجود...
فالشعر هو المنهج الذي يراه الشاعر خلاصا وملاذا لأنه عبر قائلا:
ما من مرة
الجأ إليها
إلا
وتوصلني إلى الله...

وكيف لا وهو الشعر ذلك السيد الذي وصفناه آنفا، عندما نخلص له يكون الخلاص والحمى.. والشاعر هنا يحمل مقومات تجربته الإبداعية، ينصهر فيها وتنصهر فيه، ولا عجب أن يكون منير مزيد محملا بكل تلك التجربة/ القضية، لأنها الكيان ومن دونه لا وجود له، ولن أستطرد طويلا في التعريج على التجربة الفكرية عنده، بل سينصب الحديث في غالب الأحيان حول التجربة الإبداعية فنيا، من حيث كونها خطابا في مواجهة الآخر، أيا كان هذا الآخر، من خلال صور شعرية تسير أفقيا وتنمو رأسيا في خدمة الفكرة والفن في آن، فالعملية الإبداعية الحداثية، توصف على أنها بنية لغوية قائمة على منطق المفاجآت الغريبة، والتكاثف الدّلالي المعقّد، والإيقاع الدرامي المشحون بعذاب الذات على جميع المستويات الحياتية، فهل نجح منير مزيد أن يصهر كل تلك العناصر في بوتقة واحدة، لتتجلى لنا تجربته الإبداعية؟، وما المقدار الذي استطاع به أن يجذبنا كقراء لتلك التجربة؟ هذا ما سنحاول الكشف عنه من خلال قراءة متأنية لنصوصه.

تعدد الأصوات الشعرية ومعطيات المصادرة الفنية:

تتعد الأصوات في العديد من قصائد الديوان ففي قصيدة "مراث كربلائية" حيث نجد ثلاثة أصوات في هذا النص ما بين الراوي ـ الشاعر ـ القمر، في حالة تبادل الأدوار أو ما يمكن تسميته بالكراسي الموسيقية في أخذ المبادرة بالحديث، ولكن على لسان الشاعر أيضا فهو لا يترك اللجام يخرج من يده، مصدرا القصيدة بالنهى ولعل فكرة المصادرة هذه تكون دائما سلاح ذو حدين، إما أن يطلق العنان للتخيل في مواطن أخرى، أو يحصرها في جهة مغايرة فقط دون البحث عن ماهية النهى وأسبابه والتسليم برؤية الناهي، فيقول:

لا تنادي
لا أحد يسمعك
غير منازل طينية قديمة
شبعت من حكايا البشر
وشاخت من الذكريات
أن سمعت زقزقة العصافير
لا تحسبه غناءا
بل مراثي كربلائية

ولم تكن فكرة المصادرة على المتلقي بنت هذا النص وحده بل نجد ذلك في نص "فصل من إنجيل الشعر" وليس الغرض من المصادرة عفويا بل يقصد الشاعر أن يركز آليات الدفاع والمقاومة عنده وينظمها بحيث لا يضيع الجهد، ويختصر المسافة بينه وبين المتلقي، المخاطب هنا لتسريع حركية رد فعله فيقول:

من يدعي
إنه يعرف الحقيقة كاملة
.... يكذب
ومن يحاكي الضياء
يقطع رأس الثعبان
.... ويلقيه في بحيرة النيران

الصورة الشعرية:
في البداية يجب التسليم بأن لهاث الشاعر وراء الصورة الشعرية ليس من الشعر في شيء إذا لم تكن الصورة الشعرية في مكانها الصحيح وتخدم النص دلالة وشكلا، لأن الصورة الشعرية من وجهة نظري تكتسب قيمتها وجمالياتها من كونها موظفة توظيفا سليما وفي البناء اللازم للنص الشعري وليست نشازا عليه، من هنا أو من تلك القناعة سأتعامل مع بعض الصور الشعرية التي جاءت في شعر منير مزيد، ونرصد مدى قيمتها في البناء الدلالي لنصوصه، ونظرا لأن الصورة تتشكل من مفردات تمتد بين مجموعة من الأبعاد، فهي إذن لا تتحقق إلا من خلال حيز مكاني، وهذا كما يرى النقاد يدعو لعدم التمييز بين الرؤية والتفكير، فالصورة الشعرية في ذروة تجلياتها بذلك تستهدف فعل المجاز البصري بالأساس،حيث التمثيل البصري للصورة هو أساس عملية التلقي، وبذلك، تتحول المخيلة من اللفظي إلى المرئي وتصبح ذات صبغة بصرية. فيقول منير مزيد في قصيدة مراث كربلائية:

الغروبُ يَدْفنُ الجبالَ في الظِلّ
ومرآة تَعُومُ في الفراغِ الأخضرِ الغامقِ،
ضوئها يعكس حزن أطياف الأزقة المهجورة
وفي أحشاء السحبِ الزرقاء الباردة
تَنْمو أعشاب معطرة عديمة الشعور
يطل القمر
يَتباطأُ

وهى لوحات متتالية تشكل في النهاية لوحة فنية متميزة، نلاحظ ذلك الغروب الذي يدفن الجبال في الظل، تخيل حط في مكان، ثم تحديد مكاني آخر تعوم فيه مرآة يعكس ضوئها حزن أطياف الأزقة المهجورة، ويستمر الشاعر في تراتبية زمنية للصورة متوافقة مع الفكر العقلاني لتسيير الكون، من حيث الغروب وما يلازمه ثم ما يتبعه لبزوغ وإطلال القمر، وفي قصيدة "جداريه الحب والإلهام" نجد صورة أخرى:

أتمشى...
أتمشى مع سأمي
مع روحٍ قد غزاها الضباب
بحر يعلو على شواطئ نفسي
والماء يغمر حصى النزيف...

هي صورة تعبر عن الحلة النفسية ونستطيع إن نطلق عليها لوحة من لوحات النسيج النفسي في بناء القصيدة فهو يستأنس بتلك اللوحة للتكيف مع الوضع الذي يعيشه الشاعر ثم يسارع الشاعر في رسم صورة حركية أخرى عندما يقول:

في صوتك
خرير مياه خرافية
توشوش الرمل والحصى
ما يلج في حلم
سنحياه معاً
ونغادر مع أوراق الخريف...

تلك الحالة من الوجد مع التعلق بالأمل رسمت صورة عكسية تماما، وهو سؤال نطرحه من الذي ينقذ من... الحبيب أم المحبوبة؟

من يقدم لمن..؟ الوطن أم المواطن خاصة في تلك الظروف التي يستلب فيها الوطن، وفي آن واحد يهجر المواطن، وكان الشاعر يريد أن يخبرنا أنه ليست ثمة فرق كبير بين الأمرين فكلاهما استلاب، يقول:

يا منية الروح
أنقديني
لقد سئمت شتات نفسي
وأنا في الوحل
غريق
عمديني
دموعك دافئة
تكفِّر خطاياي
أحبيني
وكفي...!
بينما نجد الصورة الأجمل في قصيدة "جدارية الشعر" عندما يقول:
بين التصور والانفعالات
يسقط الظل
في كأس الحلم
ويظل الكون كله هادئا
ساكناً
متأملاً
يطرز الرؤية الفضية
تتشظى

ولم تكن قصيدة سندريللتى الغجرية اقل حظا من تلك القصائد التي أشرنا إلى قدرة التصوير داخلها، بل نجد عددا من الصور الجزئية المتتابعة، مشكلة في النهاية اللوحة الكلية للنص الشعري، وللحقيقة فإنني اعتبر هذه القصيدة لوحة فنية راقية، فيقول منير:

هذا المساء
كُلّ الطيور طارت
واختفت...
السماء لها لون الحزن
والاغتراب
وللأشجار رائحة الإنتظار
الفراشات لا تجسر أن تطير
حتى لا تفزع الزهرة النائمة
والفراغ اللامتناهي يتجمَّد.

الحقيقة أن الشاعر منير مزيد وضع أقدامنا على أعتاب قصيدة متميزة فهو لم يحفل بقضية الصوت والصدى في قصيدته، ولم يعمد للتجنيس وكأنه يحاول أن يغاير كل هؤلاء الذين يكتبون قصيدة النثر، من حيث كونها تحمل داخلها كما لا بأس به من الموسيقى الداخلية، وما يشفع لمنير في ذلك البعد عن فكرة التنغيم أو الموسيقى، فلست أتصور شعرا بلا موسيقى، لكن وأعود لقصيدة منير، يشفع لها قدرته على الاختلاف، والاختلاف الذي يصب في خدمة فنه، وهو الاحتفاء بالصورة الشعرية كمعادل موضوعي لفكرة الموسيقى، وكأنه يستعيض بفن في مقابل الاستعانة بفن آخر..فلم تكن نصوص منير مزيد من النصوص المصطنعة، بل تتجلى فيها موهبة حقيقية ويكفي للإشارة ما سقته من استشهاد تطبيقي لشعره.

ربما كانت قصيدة النثر لها سماتها التي تميزها كما عرفتها سوزان برنار، فهي أي قصيدة النثر قطعة نثر موجزة من غير إخلال، موحدة ومضغوطة كقطعة من البلور، تتراءى فيها من الانعكاسات المختلفة، إنها خلق حر، ليس له من ضرورة أخرى غير رغبة المؤلف في البناء، خارجا عن كل تحديد، وشيء مضطرب إيحاءاته لا نهائية. من هنا كان الإيجاز والتوهج والازمنية والوحدة العضوية أهم السمات الفنية لقصيدة النثر، وقد غاير الشاعر منير مزيد بعض هذه العناصر مجربا بعناصر أخرى أشرت إليها سابقا، ويبقى فقط الحكم للمتلقي على مدى قدرة الشاعر على أن يقنعنا بكل هذا الجهد ومدى جدواه فنيا، الحقيقة أيضا أنني ما كتبت شيئا من قبل يتعاطى مع قصيدة النثر، فلذلك أشعر بالإجهاد الذي يسلمني للمتعة والاسترخاء، حيث أقتنع لحد بعيد بمحاولات منير مزيد في الاستعاضة بمكون فني على حساب مكون آخر، ويقف الحديث عند حدود القصيدة النثرية ولا يتعداها.ولعل ذلك يعده النقاد تجريبا، والسؤال الذي يطرح نفسه على شعراء قصيدة النثر، هل التجريب هنا من أجل بلورة كاملة لشكل ومعيار القصيدة، أم انه خطوة في سبيل التطوير، وربما الانفلات؟

حميمية العلاقة بين الحزن والاغتراب
ما من قصيدة في هذا الديوان إلا وتدور في فلك الغربة والاغتراب وما يصاحبهما من شجن وحزن، ولما لا وهو الشاعر الحزين الذي أنهكه الفقد، فنذر حياته للدفاع عن قضيته، وكيف يتم التعامل مع شعر منير مزيد دون الغوص في أفكاره، ونلاحظ ذلك في عناوين القصائد، فهي للوطن وهى مراثي وهى للقومية العربية وهى للبحث عن موطن أفضل للشعر وللشعراء، فالعلاقة وطيدة بين كل تلك العناصر والتي تعتبر المكون الثقافي والمرجعية الفكرية التي ينطلق منها منير، ففي قصيدة سندريللتى الغجرية نلمح فكرة الاغتراب هذه، عندما يقول:

أفكر أن انتزع قلبي
أقولها باكيا

ويستمر الشاعر في منحنا مجموعة من الصور التي تسلمنا لطبيعة العلاقة بين الحزن والاغتراب فيقول:ـ

آه وحدك أيها الوهم
تلازم جنون غربتي
ودوما تذكرني
الحزن المر يأتي من هناك...
تباً لك أيها الوهم اللعين
دوما تستعذب أحزاني
تجرجرني إلى هناك
وتحاول رسم وجه الحبيبة....

وتنتهي القصيدة بصورة بديعة استطاع الشاعر أن يقنعنا بهذا التداخل الكبير وتبيين العلاقة الحتمية بين الغربة والحزن
دعني هنا
مكفناً بالأشعار
أتلذذ مع سندريللتي
بين الغابات...

حتى عندما غنى الشاعر لبغداد في قصيدة تحمل هذا العنوان كان يغنى لوطنه، يتوحد مع قضيته، هي حالة من المواربة الفنية يلجأ إليها الشاعر، فهو المغترب الذي يعانى، ويطلق رغم ذلك لأحلامه العنان، وفي كل الأحوال هو يعلن الوفاء لبغداد فيقول:

آه بغداد يا هالة الروح....!
في حزنك أنا الألم
وفي قلبك أنا النبض

ثم يقول مخاطبا بغداد أيضا:

بغداد
في ظل أهداب عيونك
تنام أحلامي ورغباتي
مدّ يدّك
خذيني إلى أرض النخيل....
حيث النخيل سيد الأبدية
حبّك سيحطّم جسمي الطيني
علّك تعيدني تمثال روح
شبحا
أو وميضا....
أنا متعب من الحزن
من الغربة
والرحيل....
آه يا بغداد

لنا أن نتخيل تلك العلاقة الحميمة بين ما قاله منير وبين الواقع النفسي الذي يجثم على صدره، ولعل تمسك الشاعر بالأمل رغم كل تلك الظروف لجدير بالاحترام، فيقول في قصيدة "فصل من إنجيل الشعر"

الشمس آتية
لا ضير في أن ننتظر قليلا...
العشب الرضيع
لا يمل انتظار حليب السماء...

خاتمة:
الحقيقة أنني كتبت أكثر من ذلك في مسودتي وتناولت جوانب عدة في شعر منير مزيد، واهتديت على انه ليس المطلوب منى أن أقول كل شيء، فلست معنيا بذلك، لكن كلمة حق يجب أن أقولها عن شعر منير مزيد، هي أنه شاعر يجيد العزف على قصيدته ويسعى جاهدا لوضع بصمة حقيقة في هذا الشأن من خلال فكرة الاستعاضة أو كسر المألوف في قصيدة النثر فنيا وتجاوز ذلك بالاستعاضة بالصورة الشعرية باعتبارها بديلا لفكرة الموسيقى الداخلية للنص الشعري، على اعتبار أن الفن التشكيلي قد يكون أكثر قدرة من الموسيقى في العملية التخييلية الإبداعية، ولا يخلو الديوان ولا شعر منير أبدا من تلك المناطق العادية جدا، بل والمباشرة التي لا تسمن ولا تغنى من جوع فنيا، ولا يخلو شعره أيضا في بعض الأحيان من الاتكاء على قاموس لغوى مكرر في بعض المناطق، هو قادر على تجاوزه، حيث قد تأخذه الصورة أحيانا، فيقع في الشرك.. والأمثلة ليست بالكثيرة لكنها موجودة...
ختاما: لا أملك إلا أن أحيى الشاعر المجيد منير مزيد على منحنا قصيدة نثرية تجاوزت حدود المألوف، وتبنى على قصيدة جادة أسس لها الماغوط وأنسى الحاج وأدونيس وغيرهما عربيا. والجميل أن منير على دراية كاملة بتطور القصيدة عند الغرب، لأنه يعيش في رومانيا وعلى اتصال وثيق بالثقافة الغربية وبشعرائها الكبار، ولعل تأثره بالحضارة اليونانية والرومانية في مسألة الآلهة التي لا تخلو منها قصائد منير لدليل على ذلك، رغم تحفظي على استعمالها، فليس ثمة مبرر لذلك وهو الشاعر المسلم الذي يحمل في قلبه هموم وطنه وعالمه الإسلامي وله العديد من الآراء الجيدة التي دار حوار بيني وبينه فيها عبر البريد الالكتروني، فلا أعرف لمنير إلها غير الله الواحد، وإنما تلك الآلهة التي تخطر في صفحاته إنما هي آلهة من نسج التأثر باليونانيين في أدبهم.. وما يدعو للقراءة عند منير مزيد هو هذا الإصرار لديه على تقديم مشروعه الشعري والأدبي دون الالتفات للرتيب أو الساكن في هذا العالم المتجدد.

كاتب من مصر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* منير مزيد ـ شاعرعربى مغترب يقيم في رومانيا