في لحظة الفقدان والوجع تستعيد الشاعرة بعضا من ملامح هوية متشظية، وأثر الفقدان الذي يخلفه الغياب، وبين تفاصيلها تستحث الشاعرة البحث عن هذه الهوية التي تتلبس ملامحها العربية هو نص يتجاوز الرثاء كي يشكل لحظة إنسانية لصوت تتقاطع فيه أوجاع المنفى والهوية والغياب.

في رثاء الغزالة

فاطـمة نـزال

 

سأعيرُ صوتي للريح

هامسة قالت...

أطلقتِ العنان للجاز يصهل في مرج ابن عامر.

الغزالة التي رقصت على سفح الكرمل، تركت خلخالها يدوزن الإيقاع

القلوب واجفة

الموت رابض على عتبة الباب،

أنا الساخرة من سطوته قالت.

 

النظرة المكحّلة كحدّ السيف تجرح بياض الموج الثائر في عكا مقلتيها.

الأساور مفضضة تستمد لجينها من معصمين عاجيين تحرسان قدَّ كنعانية في الناصرة.

 

كنت الغريبة خلف الجبال البعيدة،

أبحث عني، أختلس الوقت من الوقت لأهرب إليّ.

 

الزمن ينهب العمر، يترك علامات سوطه في ملامحي... أنا الغريبة،

لا شيء غير الذاكرة، أغرز مخالب الفقد في خاصرتها، لتبقى نازفة تُشعرني بالوجود.

أنبش الصور، أبعثرها على رفوفها، أفتش عن رائحة خبز الطابون في حاكورة البيت وصدى صوتٍ من التلال البعيدة البعيدة يتناهى إليّ

أنصت إليه :

"هلا لا ليا وهلا لا ليا عيني يا البنية

يا نار قلبي اشعلي واشوي لحم نيا"

 

ينتشلني من بؤسي وضياع صوتي ولهجتي، أنا المقيمة "الأجنبية" - بين مزدوجين- في بلاد تعددت فيها اللكنات واللهجات واللغات والسحنات، حتى انحرف لساني فلم أعد أعرف هوية صوتي، لكنتي ولا حتى شكلي.

مغربية ملامحك، تقول لي إحداهن.

تونسية لهجتك تقول أخرى،

لبنانية ؟ لا لا شامية ...

أردنية ؟؟

تغيب البلاد وذكر البلاد، تتيه تتوه.... الهوية.

 

في بلاد الاغتراب،

يشدّنا الحنين لأدق التفاصيل،

الصوت المحرك للذاكرة، حارسها...

سيمفونية الجرس المعلق في رقاب الماشية في فجر ربيعي،

صهيل الخيل ، وقع الحوافر، صرير العربة

في حواري القرية

لوح الدراس فوق القش في البيدر،

نباح الكلاب حين تشم رائحة البارود في بنادق الغرباء.

صياح الديكة،

نقرة الدربكة في تعليلة الجيران،

عزف شبابة في بطن الوادي

خشخشة الجدادة مدغدغة أغصان الزيتون، تتقافز الحبات راقصة عازفة إيقاعها مع المفرش تحت الشجرة.

مجنونة هذه الذاكرة لا تحتفظ بما استحدثته المدنية بكل سطوتها، تسخر منه، تشطبه.

عالقة في سحر البدايات وبكريتها مخاتلة كطفلة مشاكسة.

 

أأدركتم سحر الصوت حين يدغدغ الذاكرة؟

اعذروني إذ كانت هذه مقدمتي، لأصل السطر الأخير من الحكاية.

 

حين نجمع في كل إجازة سنوية مستقطعة أسطواناتها، لتكون الرفيقة في السيارة، عند نقل الأطفال الى المدرسة صباحا، عند إيابهم،

في مشوار الإجازة الأسبوعية، في جلساتنا مع الأصدقاء على شواطيء المنفى،

صوتها كان الذاكرة، صوتها كان الوطن.

 

سأهب صوتي للريح ... قالت

هذه المرة لن أسترده

سأتركه لكم وأرحل...

محتالة ريم

تعرف كيف تدوزن ترانيمها، لتحتل ذاكرتنا وذكرياتنا، تتركنا أسرى

لكل ما استعصى على النسيان.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* ألقي هذا النص في حفل تأبين ريم بنا الذي أقيم في مدرسة الفرندس برعاية صالون امتياز المغربي الاجتماعي في رام الله9/5/2014