يُسلّط هذا الكتاب الضوء على التغييرات المتواصلة وشديدة التداخل التي تترتب عن الطفرة التكنولوجية الهائلة على صعيد تقنيات المعلومات والاتصال التي تشهدها مجتمعات الشرق الأوسط. ويستطلع الكتاب التحولات الناجمة عن هذه الطفرة في الفضاءات الثقافية والسياسية والاقتصادية في إطارٍ تبادلي مثيرٍ للجدل، ويعرِض إلى التباينات والمفارقات التي واكبت قدوم الثورة الرقمية إلى الشرق الأوسط وما تزال.

«الشرق الأوسط الرقمي»: الزمن هو الحَكم

إبراهيم قـعـدوني


شهدت السنوات القليلة الماضية تطورات هائلة على صعيد تقنيات المعلومات والاتصالات وتطبيقاتها المتصلة وفي مقدمتها وسائط الإعلام الجديد وما يُعرَف بوسائل التواصل الاجتماعي، لا سيّما مع تزايد اهتمام الأفراد والمؤسسات والدول واستثمارهم في مجال الفرص الواعدة التي تقدّمها هذه التكنولوجيات من خلال الإيقاع السريع لرَقمَنةِ العالم وزيادة مستوى اتصال البشر الشبكي وما طرأ عليه من تحسيناتٍ لافتة. وإذا كانت هذه التطورات ما تزال أبعد من أن تجعل من مجتمعات الشرق الأوسط مجتمعات شبكيةٍ بامتياز، إلا أن آثارها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بادية للعيان بصورةٍ جلية. ومن الملاحظ أن التوظيف المتنامي لمختلف تقنيات المعلومات ووسائط الإعلام الاجتماعي الجديدة في الحياة اليومية أفضى إلى ظهور دينامياتٍ معقدة ما تزال في حاجة إلى مزيد من الدراسة والفهم.

يُسلّط كتاب "الشرق الأوسط الرقميّ" (Digital Middle East) الصادر في اللغة الإنكليزية بداية هذا العام عن مركز الدارسات الدولية والإقليمية في جامعة جورج تاون في قطر ودار هارست آند كومباني، لندن، الضوء على التغييرات المتواصلة وشديدة التداخل التي تترتب عن الطفرة التكنولوجية الهائلة على صعيد تقنيات المعلومات والاتصال التي تشهدها مجتمعات الشرق الأوسط. ويستطلع الكتاب الذي حرّره محمد زياني، أستاذ النظرية النقدية في كلية الخدمة الأجنبية ومدير برنامج الإعلام والسياسات في جامعة جورج تاون-قطر وشارك فيه نحو عشرة باحثين آخرين، التحولات الناجمة عن هذه الطفرة في الفضاءات الثقافية والسياسية والاقتصادية في إطارٍ تبادلي مثيرٍ للجدل، ويعرِض إلى التباينات والمفارقات التي واكبت قدوم الثورة الرقمية إلى الشرق الأوسط وما تزال.

في مقالته التي جاءت بعنوان "مسح خرائط الشرق الأوسط الرقمي"، يستعرض زيّاني أهمية فهم آليات تفاعل تكنولوجيات المعلومات والاتصال مع المكونات المُجتمعية في الشرق الأوسط وكيفية تأثيرها فيها وتأثُرها بها على حدٍّ سواء وكيف يمكن قراءة وتقييم هذا التفاعل والنتائج المرتبة في سياقه. ويطرح زياني جملةً من الأسئلة الإشكالية التي ما تزال معلّقةً ودون إجابات حاسمة. كيف يمكن فهم الأثر الاجتماعي لهذه التقنيات ضمن مختلف مجتمعات الشرق الأوسط؟ وكيف أثّرت هذه التطورات التكنولوجية على العلاقة التقليدية بين المواطن والدولة؟ وكيف تؤثّر في إعادة صياغة معادلة السلطة والقوة وتناقض المصالح والتطلعات؟ وكيف تدير المجتمعات المحلية ما يبدو أنه تناقض بين قيمها وعاداتها وتقاليدها من جهة وحداثة وعالمية ما تطرحه هذه التقنيات وتطبيقاتها من جهةٍ أخرى. وكيف يمكن فهم الأثر السياسي لهذه التقنيات في سياق ظاهرة الربيع العربي؟

الإطار المفاهيمي

قبل الولوج إلى تعقيدات "الشرق الأوسط الرقمي" يقترح زيّاني وضع إطار نظري لفهم وتحليل الأبعاد المتعددة والتعبيرات المتنوعة لظاهرة الانعطاف الرقمي من خلال جملة من الملاحظات والمحاذير والمقترحات النظرية. ومن بينها وجوب التنبّه، عند أي مقاربة بحثية لظاهرة بزوغ الفجر الرقمي في الشرق الأوسط، إلى واقع أن الشرق الأوسط كمجالٍ مكاني وزماني للدراسة ليس كلاَّ واحداً ومتجانساً مثلما تلفِت إليه أنابيلي سريبيرني، الأستاذة الفخرية في كلية الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن في مقالها الذي شاركت فيه والذي جاء بعنوان "النشاط الرقمي النسوي: إحداث التغيير في الشرق الأوسط" بإشاراتها إلى أنَّ "الشرق الأوسط يكشف لدارسه عن تمايزات ملحوظة تقريباً في أي مؤشّرٍ من المؤشرات التي يختارها الباحث"، والتي من شأنها التأكيد على ضرورة أن يراعي أي تحليلٍ لهذه الظاهرة التمايزات البينية الكثيرة في الشرق الأوسط. إلا أنه مع ذلك يظلّ ممكناً الخروج بجملةٍ من الملاحظات والاستنتاجات التي تؤشّر إلى أبرز الاتجاهات التي تُبرِزُ ملامح هذه التفاعلات وتحدد سماتها.

إنَّ ما يجعل من دراسة ما أثارته ثورة تقنيات المعلومات والاتصال في الشرق الأوسط مسألةً في غاية الأهمية ليس فقط قدرتها على إحداث التغيير، ونطاق هذا التغيير وعُمقِه، وإنما أيضاً واقع أنَّ هذه التقنيات في حد ذاتها هي جزء من صورةِ التغيير الكبرى التي طاولت البِنى والديناميات التقليدية في منطقة الشرق الأوسط وأحد أبرز تعبيراتها وتجلّياتها. وبهذا المعنى فإن السؤال البحثي هنا لا يقتصر على دراسة تأثير هذه التقنيات في المجتمع وإنما أيضاً استقراء التأثيرات المجتمعية ودينامياتها في هذه التقنيات وفي تكييفها وتوظيفها.

المواطن الصحفي

كان من بين أبرز نتائج الثورة التي شهدها قطاع تقنيات الاتصال بروز دور ما سمّي "المواطن الصحفي"، إذ بدا واضحاً كيف ساهمت التقنيات الجديدة بانخراط الجمهور في النقاش العام خارج إطار المعادلة التقليدية لوسائل الإعلام التي تهيمن عليها الدول وتحتكر خطابها. والأهم، أنها، أي وسائل الاتصال الحديثة وتطبيقاتها، وفّرت ما يشبه فضاءً لالتقاء ما هو عالمي بما هو محلي في لحظة عَولَمية امتزج فيها الواقع المحلي بتوجهات كونية الطابع في إطار علاقة مستجدة ثقافية/رمزية ومادية/اقتصادية. وهكذا تخلخلت معادلات السلطة التقليدية بدخول فاعلين جُدُد أخذوا مواقعهم في عملية صناعة الخطاب وإنتاج سرديات مضادة للسردية الأحادية التي احتكرتها الدولة في عموم الشرق الأوسط طيلة عقود وفق ما يشير إليه البروفسور آرجون آبادواري، الباحث الاجتماعي المتخصص في الشؤون الثقافية الاجتماعية.

الأثر الاجتماعي

يلفِت الكتاب إلى تركيز معظم الأبحاث والدراسات التي تتناول الواقع الرقمي في منطقة الشرق الأوسط على الانعكاسات السياسية لتقنيات الاتصال الحديثة وتطبيقاتها، وهو تركيز له وجاهته بلا شك، لا سيّما وأن المنطقة ما تزال تحت تأثير الموجة الثورية التي لعبت فيها وسائل الاتصال الحديثة، وما تزال، دوراً تعبوياً حيوياً وشكلت منصّةً رئيسيةً للسردية الاحتجاجية التي لم تكن لتبلغ ما رامته من انتشار لولا هذه الوسائل الفاعلة. إلاَّ أنَّ الأثر الذي راكمته التقنية الحديثة في البِنى الاجتماعية على مستوى الشرق الأوسط أثر بالغ الأهمية ومن شأن فهمه أن يشكّل مدخلاً إلى فهم أوسع لأثر هذه التقنيات الأشمل.

ولئن تجلّى التعبير الفردي لهذه الوسائط من خلال "المواطن الصحفي" فإنَّ التعبير الاجتماعي جاء في صورة "المجتمعات المتصلة"، وهو واقع جديدٌ تماماً. إذ ناهيك عن انخراط الأفراد والمجتمعات في عملية إنتاج الخطاب وتقويض سُلطة وسائل الإعلام التقليدية والرسمية، باتت المجتمعات على درجة من القُربِ والموصولية لم يسبق أن عرفتها المنطقة من قبل. ساهم ذلك في تمكين الفئات المهمشة اجتماعياً وإسماعِ صوتها، وعلى سبيل المثال، يتناول الكتاب آلية توظيف وسائل الاتصال والإعلام الجديدة في خدمة القضية النسوية في المملكة العربية السعودية مستعيناً بما أوردته الروائية السعودية رجاء الصانع في روايتها "بنات الرياض" التي سلطت الضوء على تعامل النساء السعوديات مع عالم الإنترنت وكيف وظَّفنه في خدمة مساعيهن لنيل حقوقهن الاجتماعية. وفي جانبٍ آخر، يلفت الكتاب إلى أهمية النظر إلى تأثير التقنيات الحديثة نظرةً متوازنةً تضع في الاعتبار ثنائية اتجاه هذه التأثيرات لجهة أنَّ الواقع الاجتماعي ومحدداته تؤثر هي الأخرى في تكييفاتٍ ملحوظة للتقنية، ويستعين الكتاب بأمثلة من قبيل رواجِ خدمة سناب شوت وتويتر في دول ذات تركيبة اجتماعية محافظة (لما تقدمه هذه الخدمات من حرمةٍ للخصوصية) مقابل رواج مواقع أخرى مثل فيسبوك وإنستغرام في مجتمعات أخرى أكثر انفتاحاً.

الزمن هو الحكم

وإذا كانت جُعبة ثورة تقنيات الاتصال لم تفرغ بعد، فإنَّ الخروج بِتقييمٍ نهائي حول مدى وطبيعة هذه الآثار ما يزال سابقاً لأوانه، فعلى الرغم من التفاؤل الكبير الذي يبديه بعض المتحمسين لهذه التقنيات والإمكانات التي قدمتها للنشاط الشبكي الذي انعكس فعلاً على أرض الواقع، إلاَّ أنَّ رأياً مغايراً يسوق هو الآخر قدراً لا بأس به من الحجج التي لا يعوزها المنطق والتي ترى أنَّ طبيعة السلطات الشمولية والمتجذِّرة في المشهد الشرق أوسطي تتسم بمناعةٍ لا يستهان بها هي الأخرى إزاء عوامل التغيير وقد بدأت بالفعل تستوعب الصدمة التي أحدثتها التكنولوجيا، لا بل إنها آخذة في توظيفها والاستحواذ عليها أيضاً.

يقدِّم الكتاب عبر مقالاته العشر إطاراً نظرياً بالغ الأهمية للمعنيين في فهم العلاقة الدينامية بين الافتراضي (الذي لم يعد افتراضياً) من جهة وبين واقع اجتماعي وسياسي واقتصادي ظَلَّ الممسكون بخيوطه يحسبونه إمَّا عصيّاً على التغيير أو أنه لا يُغيّرُ سوى بأدواتهم المعهودة.

العربي الجديد