يرى الناقد المصري أن كتابات المخزنجى تمتزج فيها بصورة مدهشة عناصر شتى، قد تبدو عند آخرين عصيّة على الامتزاج، ولكنها تعمل هنا بانسجام يدعو للتأمل: سحر البساطة فى الحكى، مع عمق المعنى والمغزى، واقعية تحتفى بالتفاصيل، تعبّر عنها لغة شفافة وعذبة، تجربة خاصة بشخصيات ومكان محددين، ولكن من منظور إنسانى شامل، رؤية تجمع بين بصر العالم، وبصيرة الفنان والأديب.

«صيّاد النسيم» .. تجليّات البساطة والعمق

محمود عبد الشكور

 

لعل السؤال الذى يطارد قارئ د.محمد المخزنجى عمومًا، وقارئ مجموعته القصصية الأحدث التى أصدرتها دار الشروق بعنوان «صياد النسيم»، هو: من أين ينبع هذا السحر الرائق الذى ينتقل إليك رحيقًا مقطرًا من خلاصة الواقع والخيال معا؟

إجابتى هى أن كتابات المخزنجى تمتزج فيها بصورة مدهشة عناصر شتى، قد تبدو عند آخرين عصيّة على الامتزاج، ولكنها تعمل هنا بانسجام يدعو للتأمل: سحر البساطة فى الحكى، مع عمق المعنى والمغزى، واقعية تحتفى بالتفاصيل، تعبّر عنها لغة شفافة وعذبة، تجربة خاصة بشخصيات ومكان محددين، ولكن من منظور إنسانى شامل، رؤية تجمع بين بصر العالم، وبصيرة الفنان والأديب.

لم يعد هذا الامتزاج معادلة مصنوعة، صار جزءًا من سجيّة الكتابة، ولم تعد الكتابة فعلًا منفصلًا عن صاحبها، صارت من تجليات الشخص والطبع، مثل صوته ومشيته وطريقة تفكيره، لا تعنى البساطة إهمال التكنيك، ولا الاستطراد المجانى، لو تأملت بشكل أعمق، لاكتشفت قوة التكنيك والبناء، ولكنه يتوارى وراء الحكاية، يشد أجزاءها، ويقيم صرحها بدأب دون أن تراه، مثل «مونة» البنّاء، وخيوط الحائك، ونغمات الموزع الموسيقى.

هى إذن بساطة ممتنعة، فى «صيّاد النسيم» بعضٌ من تجلياتها، قصص قصيرة لامعة تمسك باللحظة، تستقطرها، تثريها وتعمّقها، ثم تضيئها، تُخلص بذلك للنوع إخلاصًا واضحًا، ولكن السحر كل السحر فى طريقة وتكنيك السرد، وفى ما وراء الحدوتة، فى «أثر الفراشة» كما قال محمود درويش، الذى «لا يُرى»، ولكنه أبدًا «لا يزول«. عن الإنسان يحكى المخزنجى، والإنسان فى المجموعة قوى أكثر مما يتصور أبطال الحكايات، أو نتصوّر نحن، ذلك أن منظور الرؤية هنا مزدوج:
من الداخل ومن الخارج، بالبصر والبصيرة، من خلال واقعه اليومى، ومن خلال إرادته وعواطفه وأحلامه، لذلك تصدّق تمامًا أن يصبح شخص ما طباخًا عظيمًا فى لحظة اكتشاف للقدرة ولإرادة الحياة، ما دام أن شخصًا آخر صمد أمام محنة الفقد، يهزك من الأعماق اكتشاف الأبناء ضخام الأجسام لعاطفتهم تجاه أمهم بعد موتها، مثلما تعجب من قدرة العقل الإنسانى على اصطياد النسيم، أو التسلل عبر أنبوب مفتوح فوق السطوح.

الإنسان فى المجموعة هو الذى يتحايل على المعيشة بصيد أوزة، وهو الذى يتحوّل زَوَمَانُه إلى ثورة، وتقهر همسته الرقيقة الخرف والمرض، ويهزم دوران رجليه العنيف أعتى الرجال، الإنسان هو ساحر الزجاج الذى يرى ما فى داخل البشر، وهو السجين الذى يتمرد إلى درجة الانتحار.
هو الباحث عن طابور شمس وسط سجن الحياة، وهو الرجل الذى صار على هيئة كرسى؛ لأنه رفض أن ينكسر، الإنسان فى «صيّاد النسيم» هو عالم بأكمله من الداخل، تتصارع فيه الخلايا الخبيثة والطيبة طوال الوقت، وليس فى لحظة انتظار تحاليل المرض الخبيث، الإنسان هو المرأة العارية القادمة من الشمال على حصان أبيض لمساندة المحتاجين أمام مجلس الشعب.

بساطة الحواديت وغرابتها أحيانًا، تقابلها دراسة شديدة العمق للطبيعة الإنسانية والضعف الإنسانى، الذى نراه حتى فى هيئة مأمور القسم المصاب بالصرع، تقابله قوة الإرادة والعاطفة فى القصص الأخرى، بشرط أن تأمر أنت فتستدعى الإرادة، بشرط أن تطلبها فتأتى.
هذه حقًا نظرة متعاطفة للطبيعة الإنسانية، ليست مثالية أو طوباوية خالصة؛ لأن أساسها واقعىّ تمامًا، خذ مثلا دلالات «الصوت الإنسانى» فى المجموعة، هذه الذبذبات الخارقة يمكن أن تصنع تمردًا لشعب، وغيابها يحرم سجينًا أخرس وأصم من حرية الخروج، وغيابها فى تنويعة أخرى يحرم أبًا مريضا من التواصل مع أسرته، يفقد صوتُه معناه.
تكشف لنا حكايات المخزنجى البسيطة كنوزًا نمتلكها، يقول لك، مُستخدمًا أثر الفراشة، إنك تستطيع لو أردت، وأنك يمكن أن تكون مثل شجرة «الباوباب» المعطاءة لو اخترت، وأن المعجزة هى أنت، وليست شيئًا آخر.

«صياد النسيم» تُوظف الفصحى توظيفًا فنيًّا ممتازًا، وتطعّم السرد بعامية آسرة، تنمحى الحدود بين الواقعية والغرائبية، وبين البرّانى والجوانى، إنها بوابة تفتح على عالم متسع، سماءً وأرضًا، وعقلًا وعاطفة، لعلّ المخزنجى هو نفسه «صياد النسيم»، الباحث عن لحظة تنوير، بصنعة فن، وبموهبة فنان، وسط ظلام الحياة، وهجير القسوة والجهالة.

 

جريدة الشروق