أقرب الى وصايا الشاعر المتيم بالحرف وبالحياة، هنا يتقرى الشاعر الفلسطيني الكثير من التفاصيل التي تجعل من مشاعر الإنسان ترجمة لأفعال أكثر ارتباطا بقضايا ومصير الإنسان نفسه، تفاصيل وسير ووصايا ورؤى تستبدل الشقاء الإنساني ببعض الألق وتستعيد للشاعر صوته الدفين كي يصبح الشعر هو الملاذ.

وصايا العاشق

نمر سعدي

 

سعيدٌ أنا ليسَ ينقصُني أبداً أيُّ شيءٍ
لأُكملَ دورةَ هذا الشقاءْ
*
لم تغرْ بنيلوبي الجميلةُ وهي ترى امرأةً
بأصابعَ ولهى وعاشقةٍ
تتقرَّى بقدسيَّةٍ وجهَ عوليسَ
تدهنهُ بنثارِ الندى وبمسحوقِ نرجسةٍ مستريبْ
لم تثرها الظنونُ التي أوغلتْ في مرايا النحيبْ
*
تخفَّفْ من الوزنِ والقافيةْ
لتمشي السماءُ على الأرضِ عاريةً حافيةْ
*
شاعرٌ كلَّما كنتُ أسألُ تشرينَ عنهُ
تهبُّ عليَّ طيورٌ حديديَّةٌ
تتذكَّرُ شرفتَهُ وخطاهُ وعنوانَهُ
ديلانْ توماس الآنَ يسكرُ في بارِ
أقصى الكواكبِ عنَّا
ولا يكتبُ الشِعرَ
بل يشتمُ العاشقاتِ اللواتي
قدَدْنَ من الخلفِ قمصانَهُ
بينما ألفُ شاعرةٍ
بالنيابةِ يحلمنَ عنهُ ويكتبنَ خسرانَهُ
*
ثلاثونَ عاماً ولم أتعلَّم
كيفَ أكتمُ حبَّاً.. وأكظمُ غيظاً.. وأكتبُ شِعراً..
ولا أتألَّم
*
قالَ لي:
لم أكن ساذجاً مثلما يدَّعونَ...
أكلتُ ثمارَ الحنينِ
لأعرفَ لغزَ الشقاءِ وسرَّ الأنوثةِ
من دونِ ريبٍ
وكيفَ لعصفورةٍ مثلاً أن تصادقَ أفعى
على زهرةِ الخوخِ تنسابُ؟
كيفَ لظبيةِ ماءٍ خلاسيَّةٍ أن تقبِّلَ ذئباً؟
وكيفَ على جمرِ عينيَّ أسعى؟
*
كانَ نرسيسُ أصغرَ إخوتهِ..
كانَ أجملَهُم في قرارةِ قلبِ أبيهِ
وكانوا يحبونهُ حينَ تأوي الفراشاتُ
ليلاً إلى وردِ عينيهِ
أو حينَ تهوي العصافيرُ
من جنَّةٍ في السماءِ إلى راحتيهِ..
لتأكلَ شهداً وقمحاً
خفيفَ الخطى في الصباحاتِ كالوعلِ
وابنَ الغيومِ الشريدةِ
لكنَّهُ حينَ أغمضَ عينيهِ
قبلَ افتراسِ كلابِ المرايا لهُ..
كانَ... ماتْ
آهِ نرسيسُ هيهاتَ/ هيهاتَ / هيهاتْ
*
فسحةٌ للندامةْ
فرصةٌ كي أقولَ لإدغارَ أيضاً
بأنَّ الغرابَ الذي دقَّ بابَ القصيدةِ ليلاً
أضاءَ بعينيهِ كلَّ شموعِ الغيابِ وصارَ حمامةْ
*
فسحةٌ للحنينْ
إلى أيِّ شيءٍ بسيطٍ
تداخلَ في ظلِّ ما لا يُرى
من بكاءِ كفافيسِ
أو فرحي بانتظارِ البرابرةِ الطيِّبينْ
*
بعفويَّةٍ كاملةْ
أستردُّ الحديقةَ منها
وما تركتْ خُصلاتُ الظهيرةِ
من أقحوانٍ مريضٍ
ومن أثرٍ لا يزولُ
وليسَ يفسَّرُ في قبلةٍ عاجلةْ
*
ضعي بدَلَ القلبِ عصفورَكِ الطفلَ
غيمتَكِ المشتهاةَ
الفراشةَ منثورةً في القصائدِ
كوكبَكِ الساحليَّ...
دموعَ المساءِ المدمَّى
وعينينِ طافيتينِ
على بركةٍ لاحتراقِ الورودْ
ضعي بدَلَ القلبِ قلبَكِ
كي أتعافى من الحزنِ والموتِ
والقلَقِ الشاعريِّ الأصابعِ
لا حجراً من غبارٍ صقيلٍ
ولا شوكةً من جليدْ
*
البلادُ التي خلقَ اللهُ للهِ
لكنَّ عابرَ ليلٍ يفكِّرُ قربي يقولُ:
أجلْ.. البلادُ التي خلقَ اللهُ للهِ..
لا ريبَ في ذاكَ..
لكنني مثلاً لو أردتُ الرجوعَ
إلى البيتِ منتصفَ الليلِ وحديَ
من سهرةٍ.. هل تُرى أستطيعْ؟
في البلادِ التي خلقَ اللهُ للهِ
توجعُ قلبي الرصاصةُ مثلَ جمالِ الربيعْ
*
لا ضبابَ على شجَرِ الزنزلختِ
ولا ضوءَ في قمَرِ العشبِ
لا نأمةٌ في قطارِ المساءِ
ولا أحدٌ في النشيدِ العموميِّ
وحدي فقطْ
وبلادٌ مفخَّخةٌ بالخرابْ
لا ضبابَ على وردةِ البحرِ
ينمو سدىً ورفاهيَّةً.. لا ضبابْ
*
بحياةٍ طبيعيَّةٍ ظلَّ يحلمُ
(والذاهبونَ إلى الحلمِ لا يرجعونَ بتاتاً) يقولونَ..
ما أشبهَ الوجهَ بالسنبلةْ
ظلَّ يحلمُ ليسَ بيختٍ جميلٍ ولا بقصورٍ زجاجيةٍ
لا بمنفىً فسيحٍ ولا بفراديسَ مائيةٍ
أو ممالكَ لا تغربُ الشمسُ عنها
ولا بسماءٍ تشاطرهُ يأسهُ
لا بصيفٍ بعيدٍ يربِّي القصائدَ مثلَ اليمامِ
ولا بشواطئَ بيضاءَ من شدَّةِ الحزنِ..
عيناهُ نجما خريفٍ وبسمتهُ بسملةْ
ظلَّ يحلمُ حتى نهايتهِ
عندما ماتَ في وهمهِ/ المزبلةْ
*
لن أُعيدَ قراءةَ طوقِ الحمامةِ هذا الشتاءَ
ولا ماريو يوسا.. ولنْ
أرى غيرَ وجهكِ يلمعُ في ليلِ أحلى المجازِ
كما يستشفُّ الغريبُ الوطنْ
ولكنني قدرَ ما أستطيعُ
سأُثبتُ أنَّكِ مثلُ القصيدةِ فطريَّةٌ
وبدائيَّةٌ كحنينِ الأصابعِ والفمِ
لامرأةٍ من نعاسٍ خفيفٍ... وغيمٍ يئِّنْ
*
ثلاثُ سنينْ
هل ستكفي لتكتبَ انجيلَها امرأةٌ
من بكاءٍ وماءٍ ومن لعنةِ الياسمينْ؟
*
كيفَ سربُ قرنفلْ
تناسلَ من كعبها في فضاءٍ من الطينِ
وانهدَّ في القلبِ شلَّالُ مخملْ؟
فماذا سأفعلُ لو أخذتْ معها أغنياتي؟
وكيفَ أُربِّي البحيراتِ في معزلٍ عن يديها
كطيرِ السمندلْ؟
*
خياليَّةٌ كلُّ أشعارها وعديميَّةُ اللونِ
ينقصها مطرٌ واقعيٌّ لتنمو على مهَلٍ
ورمادٌ خجولٌ على ريشِ عنقاءَ
تنقصها لغةٌ ناحلةْ
كي تضيءَ الذي لا يضاءُ
( هلالَ الشتاءِ البعيدَ..
الطريقَ القصيرَ إلى البيتِ..
أو أوجهَ السابلةْ)
*
ستهمسُ يوماً وتخبرهُ
وهيَ تضحكُ في سرِّها
حينَ لا شكَّ ينفعهُ أو يقينْ
لماذا تشاجرَ مع نفسهِ كلَّ هذي السنينْ
*
بماذا أُلمِّعُ ليلَ القصيدةِ..
أو كيفَ أمسحُ عنها الصدأ؟
تُرى كنتُ أحلمُ بالماءِ حينَ
ترَّجلتِ لي من مرايا الظمأ؟
*
شاعرٌ ما.. غريبُ الخطى واللسانِ
بهيئةِ لوركا وبسمتهِ وانكسارِ النفَسْ
يشيرُ بعينيهِ نحوَ الوراءِ
لكيْ يستضيءَ رصاصُ الحرَسْ
*
شاعرٌ ما.. شريدٌ يفلُّ يديهِ
على ما تحجَّرَ من دمعةٍ
في الطريقِ الطويلِ إلى الأندلسْ
*
شاعرٌ ما يغنِّي لإلزا التي
لم يمتْ حبُّها عبرَ كلِّ القرونِ
ولمْ يذبلْ الوردُ في وجهها
رغمَ عصفِ السنينِ
وهالاتها لم تُمَّسْ:
طافحٌ جسَدي بالندى
وفمي نايُ أعلى البحيراتِ فيكِ..
وقلبي جرَسْ
*
ألأني أُطالبُ بامرأتي
وبحريَّتي في الحياةِ وفي كلِّ شيءٍ
وأحلمُ كالطفلِ بالمستحيلْ
بلا أيِّ ذنبٍ فعلتُ
أرقتَ دمي يا أخي.. يا قابيلْ؟
سأطلقُ في جوِّ بريَّتي
طيرَ قلبي ولو كانَ سجني الجليل
*
تتكلَّمُ عيناهُ من دونِ أن تنبسَا
ويرى قلبُهُ برزخَ الغيبِ..
تسري الفراشةُ في دمهِ
كلَّما حلَّقتْ يدُهُ..
وبأنفٍ جميلْ
يشمُّ عبيرَ الأنوثةِ عن بعدِ مليونِ ميلْ
*
أُلملمُ روحي التي علقتْ في شظايا الرذاذِ
وفي همساتِ البساتينِ أو في أعالي الجبالِ
وفي رفرفاتِ الحمامْ
على زرقةِ الساحلِّ اللازوريِّ..
عينايَ صارتْ حدائقَ
حينَ التفتُّ إلى الغربِ..
ضيَّعتُ كلَّ الكلامْ
كأنَّ السواحلَ في وطني قطعٌ من غمامْ
*
بفمي المرتبكْ
سأُلقي وصاياكِ من دونِ خوفٍ
ولا أملٍ في الشفاءِ من اليأسِ
ثمَّ أقولُ لقلبيَ: هل أنتَ لي أم لها كنتَ؟
يا سمكاً في شرَكْ؟
*
أشطبُ النجمةَ الذهبيَّةَ عن شجرٍ ناصعٍ
أشطبُ الماءَ عن زرقةِ الليلِ
أمحو خطايا التآويلِ
أمحو الذي ليسَ يُمحى..
فماذا سأكتبُ غيرَ اعترافي
بعزلةِ طيرِ السنونو الذي حلَّ في جسدي اليومَ؟
ماذا سأكتبْ؟
أرسمُ القمرَ الساحليَّ ورسمةَ كفَّيكِ أشطبْ
*
آسفٌ لا لأني بحقكِ أخطأتُ
بل آسفٌ دونما سببٍ
ربما قد قسوتُ بقولي قليلاً
ولكنَّ كلَّ فراشاتِ روحيَ طيِّبةٌ
ومشرَّدةٌ في المدى دونَ بيتْ
آسفٌ.. (شاعرٌ ماتَ ما شأنُ حزني بهِ
فأنا لا أُفكِّرُ إلاَّ بكِ الآنَ)
لي جسدٌ يتآكلُ مثلَ الحديدِ المسنَّنِ
(إن كنتِ زعلانةً) دونَ زيتْ
*
دمي في المرايا على هيئةِ القُبَلِ الطافياتِ
وصايا تلمِّينَها في ندَمْ