في نص مكثف يصيغ القاص العراقي الجميل قصة يغلب عليها الحوار بين شخصين واحد مهمل يعرف قدره رمز له بالقلم الرصاص والآخر نافخ قدره ومتوهما مكانه هو ليس فيها رمز له بالبالون في مبنى ساخر يبشّع الغرور والإدعاء ويدعو للبساطة والتواضع.

البالون الكبير

كاظم الحـلاق

 

عشت في مرحلة من حياتي بعزلة شديدة. كنت قلماً صغيراً من الرصاص شاحب الوجه. وعلى الرغم من أني مبْريّ بشكل حاد، لكن لم تمتد لي يد إنسان لتستخدمني، فبقيت مهملا منسيا في زاوية من الأرض، وقد منحتني الحياة راحة طويلة أستحقها. في أحد الأيام حدث وأن جمعتني الأقدار ببالون كبير الحجم مملوء بالهليوم في مكان عام. كان البالون يتحدث عن نفسه بزهو وخيلاء نافخا جسده الفارغ كالطاووس دون أيّ مراعاة أو اعتبار لحساسيتي أو لكرامتي الهضيمة، وهو يتضخم أكثر فأكثر، لحظة بعد أخرى. كنت أصغي إليه وابتسم في داخلي- إذ لم أضحك منذ مدة - متطلعا الى حجمه المشدود الموشك على الانفجار. وقد دار هذا الحوار العابر بيننا:

- أنا ثائر لا يشق لي غبار.

قالها البالون بنشوة وحالة تحليق دائمة.

- بالتأكيد، تشهد لك الجبال والأودية والمعارك التي خضتها. رددت.

- أنا روائي مبدع وشاعر وقاص وناقد أدبي وفنان تشكيلي وباحث في ابستمولوجيا الجمال الكوني، ولم يبلغ شأوي أحد من قبل، ودبجت عن إبداعي البحوث والرسائل الجامعية وأعمدة المجلات الأدبية. ومنحت لي الدروع والقلائد والأوسمة والشارات والنياشين بكل درجاتها ومستوياتها.

- بالطبع، تعرب عن ذلك سيرورات الخلق في القصائد والروايات التي كتبتها كما القصص القصيرة والدراسات النقدية.

- أنا وسيم جدا وعاشق غيور.

- صحيح، تعرف ذلك المنطقة التي ولدت فيها وقلوب الصبايا المنكسرات، وفيما بعد النساء الأوروبيات المولهات بك حبا في ساحات احتفالاتها العامة.

- أنا ثري ولدي أموال كثيرة.

- أجل، هذا ممهور في البنوك وحساباتك المصرفية.

- أنا مناضل، كافحت ضد الظلم طوال حياتي.

- نعم ، كل ذلك مدون في سجلات الأنظمة الديكتاتورية.

- أنا زوج ناجح وأب وجد حنون.

- صحيح، هذا ما تردده زوجتك كما أولادك وابتسامات أحفادك نادري الجمال.

- أنا شجاع وصديق مخلص وأتمتع بكاريزما خاصة ويحبني الجميع بلا منازع.

- حقا ، كثيرا ما رأيت ذلك في كلمات أصدقائك ونظرات المعجبين الحميمة المغدقة عليك من غير حساب.

- إنك قلم صغير وليس بوسعك مضاهاتي مهما كتبت، لكونك لا تملك أي شيء من تلك الأمور التي ذكرتها.

- حسناً، لا تقلق على ذلك، أنا صغير لكني استطيع الكلام بجرأة، وأنت فلتة الزمان البائس، ولن تنجب الأرض والسماء آخر مثلك.

- هل تسخر مني؟!

- لا، أبداَ...

- اذن، أنا بالون كبير بوسعي الطيران والذهاب في رحاب الدنيا حيثما ما أرغب دون عوائق تذكر. مضت عليّ السنون الطويلة أنفخ في نفسي، وحينما أتعب أو يعتريني الصداع ينفخ في الآخرون، أو أفراد عائلتي دون كلل أو معاناة. أحب النفخ كثيرا ولا يهم من هو الذي ينفخ طالما أني أتمدد وأنمو وأتوسع ولو أختنق الجميع.

- كلامك صحيح، تستحق كل هذا النمو وجميع هذه الخيرات، حتّى لو لم تبقِ للمسكين الجالس أمامك غير القلق والرصاص المحزن.

قلتها، وغرزت نفسي بجسده الضخم أنا القلم الصغير المبري جيدا والمرمي في زاوية مهملة. خرج الهواء من جوفه شيئا فشيئا وتقلص متألما الى أقصى حد وإن لم يكن في نيتي إيذاه. ومنذ تلك اللحظة تنفست الصعداء، وساد السلام بيننا، ولم يعد أحد ينزعج أو يسمع شيئا عن حكايات البالون التي طالما جعلتني شديد الحساسية، وبهذا أصبحنا نحن الاثنين مهملين ومرميين في زاوية منسية منتظرين ما تجود به الأيام والقرائح.