يؤكد الكاتب أن السلام هو البيئة الحاضنة للإحتفاء بالحياه ونقيضة هو البيئة الحاضنة للموت. ويرى أن المشاكل هي نتاج الثقة المفقودة والعداوات الآنية والتاريخية التي يتم استدعاؤها باستمرار كي تستمر النزاعات. ويشدد على أن الدعوة إلى "السلام" ظلت محفوفة بالمخاطر في كل العصور، بدءا من وصم أصحاب تلك الدعوات بالانهزام حتى تهديد حياتهم.

يا ... ســلام!!

عيد اسطفانوس

 

منذ قرون طويلة ننادي عليه ولا نسمع سوى رجع أصواتنا فقد قتلناه وهو قتلنا، قتلناه نحن بحثا، وقتلنا هو بحثا عنه، لكننا لم نجده وأعتقد أننا لن نجده، لأننا لم نسأل أنفسنا يوما هل حقا نحن نريده؟ لأن الفارق شاسع بين الرغبة في شيء وإرادة الحصول عليه، فالرغبة وحدها لا تضمن الوصول لهدف لكن يتحتم اتحاد الرغبة بالإرادة لأن اتحاد الرغبة بالارادة هو الذي يولد القدرة على ابتكار الوسائل للوصول للأهداف، فما بالنا إن كنا لا نريد هذا الشيء ولا نرغب فيه أصلا، سؤال آخر هل هذه الاعراق في هذه المناطق التي تسودها هذه الثقافات يمكن حقا أن تعيش في بيئة سلام؟ بما لذلك من تبعات والتزامات، والسلام هنا يعني الأمن والهدوء والسكينة والسلم والتنمية والتسامح والتصالح مع الخالق والتصالح مع النفس ومع الآخر، والتصالح حتى مع البيئة المحيطة جماد ونبات وحيوان.

والسلام هنا ليس حالة عابرة وإنما يعني أسلوب حياه مستدام مستقر داعم للرقي والتقدم وداعم للإسهام البشري في عمارة الكون. ولقد عاشت أمم كثيرة في حقب من الاستثناء، حالات حروب وصراعات وتوترات وما لبثت هذه الامم أن عادت إلى المسار الصحيح عادت إلى المسار الطبيعي لتعيش في الحالة الاصل وهي السلام بعد أن توافرت حالة الرغبة الملحة في الحصول عليه والاراده الصادقة في الوصول إليه، وبعد أن استبانت الفروق بين أن تعيش الأمم متوترة وبين أن تعيش الأمم في سلام، ثم بعد ذلك شرعت هذه الأمم في إيجاد الوسائل الكفيلة بالحفاظ علي هذا السلام وصيانته من عبث العابثين. ولا يحل السلام أبدا في أرض أو في نفس مع وجود ظلم أو قهر أو عنصرية أو تمييز أو كراهية، وتظل الضمائر الحية قلقة معذبه مهما عقد من اتفاقيات أو مصالحات أو تكتيكات مرحلية ويظل سلاما مريضا نهايته المحتومة مسألة وقت. والسلام ليس دائما نقيض الحرب فقد تعيش أمم ومجتمعات حالة عداء ذاتي، حروب دونما أعداء لكنها طواحين هواء عملاقة تتراقص على مدار الساعة، وتتآكل المجتمعات من الداخل وتتفشى فيها الأحقاد والكراهية والفساد وقشور العقائد، وتلك هي البيئة المثلى الحاضنة التي تفرز لهذه الشعوب حكام مستبدين يسودون عليها بالتوارث أو الانقلابات ولا يوجد أبدا أي إرهاصات للتمرد على هؤلا الحكام لسبب بسيط هو القاعدة الذهبية أن كل شعب يستحق حكامه فهم إنتاجه إنتاج بيوته ومدارسه وشوارعه وثقافته أي المنتج النهائي الطبيعي لبيئة التوتر والعنف والكراهية والتعصب السائدة في تلك المجتمعات الفاقدة لمنحة السلام التي لا تستحقها.

وتنتشر في كل هذه المجتمعات فرق من المنظرين مهمتهم دق طبول الحرب على مدار الساعة على الشاشات والصفحات ومكبرات الصوت والمنابر حتى تظل قلوب وعقول الناس على العهد حتى اليوم الأخير، تظل ممتلئة كراهية وحقد على (العدو) أي عدو فإن لم يوجد عدو خارج الحدود فلا بأس من إبتداع عدو داخل الحدود، وإن لم يوجد فليعادي الناس انفسهم وان لم يسنطيعوا فليحاربوا طواحين الهواء: المؤمرات الافتراضية والغزوات المتوقعة والعدو المتخفي المتوقع ظهوره في اي وقت واي مكان، المهم أن يظل هناك دائما عدو على الواجهة حتى لا تفرغ حنايا القلوب من مخزون الكراهية المتراكم عبر السنين لأن في ذلك خطر داهم. والمتصوفة الذين يعتقدون انهم قبضوا على لحظة حقيقة يفرون هاربين من عداوات الناس وحروبهم الى الفيافي والقفار بعيدا خشية التشويش على سلام أرواحهم المنعكس على وجوههم هدوء وسكينة،لأن السلام هو شعور ناضح من الارواح على الوجوه والنفوس والاجساد وجوه باسمة ونفوس واثقة وأجساد صحيحة أما العداوات فنتاجها معلوم وجوه غضبى ونفوس قلقة وأجساد عليله .

وبهدوءه وسلام روحة قهر غاندي إمبراطورية عظمى دونما تحريض على سفك الدماء وبسلامه الداخلي وإيمانه بقدرة الانسان على النصر وحد مانديلا أعراق متباينه وصنع منهم مجتمع متناغم بعد أن وجد السلام طريقه إلى الأرواح وحل محل العداوات التاريخية التي كان لابد من دفنها إلى الأبد حتى يتم التطلع إلى المستقبل. والسلام هو البيئة الحاضنة للإحتفاء بالحياه وتقديسها ونقيضة هو البيئة الحاضنة للإحتفاء بنقيضها الموت وتكريس أساليب تمجيده. وفي بيئة السلام تنمو الثقة بين الافراد والشعوب، وتجد المشاكل المعقدة حلولا مبتكرة لم يكن يسيرا التوصل إليها في بيئة المشاحنات والتنابذ والعداوة، وكل المشاكل على هذا الكوكب هي نتاج الثقة المفقودة والعداوات الآنية والتاريخية التي يتم استدعاؤها باستمرار، كي تظل جذوة الصراعات والعداوات بين البشر مشتعلة على الدوام، وفي كل العصور ظلت الدعوة إليه (السلام) محفوفة بالمخاطر بدءا من وصم أصحاب تلك الدعوات بالانهزام وحتى تهديد حياتهم. فقتل غاندي وقتل لينكولن وقتل لوثر، دفع هؤلاء وغيرهم كثيرون حياتهم لرسالة سلام تبنوها في مجتمعاتهم وظن من قتلوهم أن رسالتهم ستموت معهم.

لكن العكس حدث استقلت الهند وتحرر العبيد. وتنتشر في مجتمعاتنا ثقافة (الكمباوند) والاسوار المكهربة والابواب المصفحة والمزاليج الطويلة وكاميرات المراقبة وأجهزة الانذار وكل تلك المظاهر هي مظاهر الخوف وعلامات فقدانه، فقدان السلام ومعه الأمان ولا عجب إن بدأت الدول أيضا بإقامة الاسوار على حدودها ويغيب عن الجميع أن السلام لا توفره كل تلك الامكانات التي تتوافر بالطبع للأغنياء فقط، الاغنياء الذين لا يسألون أنفسهم هل قاموا بواجبهم نحو فقرائهم لتنكسر حدة الفوارق بين الناس والتي تتناسب طرديا مع كم الكراهية المختزن في النفوس الذي يتوالد وينمو كل يوم حتى يجيئ يوم الانفجار العظيم ويأكل الناس لحوم بعضهم، ولو كان الأغنياء قد قاموا بواجبهم نحو مجتمعاتهم -وهو واجب وليس هبة أو منحة- لما احتاجوا لكل هذه الاسوار العالية على بيوتهم، وكل هؤلاء الحراس المسلحين على شخوصهم .ومن الغريب أننا لا نمل النداء عليه والتشدق به تحية عابرة ونحن نعرف أننا كاذبون، ومن ثم يعود إلينا النداء كرجع صوت، رجع صوت متهكم على نداءنا المزور رجع صوت لنداء كاذب خال من الرغبة والارادة، رجع صوت متبوع بصف طويل من علامات التعجب (يا سلام!!!)