في قصص النبش في الذاكرة، التي نشر محرر باب سرد بعضها تباعا في أعداد متفرقة من (الكلمة)، يعود بنا إلى مطالع الصبا وإلى طقس تعميد يمتزج فيه المسرح وطقوس الفرجة بالدم والعنف وبدايات التمرد. فيتدفق القص بسلاسة وهو يرسم مساراته، ويشى باستبصاراته دون أن يتخلى عن أمانته للواقع.

نذر

سلام إبراهيم


جئتُ إلى الدنيا بعد أربع بنات، واحدة ماتت بعد أيامٍ من الولادةِ، هكذا أخبرتني أمي التي دأبتْ على روايةِ لحظة ولادتي التي أنقذتها من لومِ عائلتي الكبيرة، فأبي أكبر أخوته، ثم تسهب مصورةً غرفتنا في بيت جدي "إبراهيم" المنزوية في طرف الحوش الواسع والمظللة بسدرة البيت الشاهقة:

- يمه أجيت غبشة للدنيا، ووجهك يشع نوراً، طويل ورواي ومن جمالك ما خليت أحد من الجيران يشوفك حتى الأربعين!.

أنتقلنا إلى بيتنا في "الحي العصري" بعد توسع العائلة وقيام مشاكل بين زوجات الأخوة، لكنني لم أنقطع عن بيت "جدي" القديم حتى هروبي إلى الثوار في الجبل، وكان في الفاضلية جوار سوق الديوانية، أسحبُ قدميّ كلما سنحت الفرصة نحوه، أُسلم على من فيه وأقصد طرفه. وأقف تحت ظلال سدرته الكبيرة أتخيل غرفة قصتها التي جُدِدَتْ فتغيرت ملامحها، فأعيدُ تخليقها رائيا الزاوية التي خرجت فيها إلى الدنيا، شكل الفجر ولون الفضة الخفيف المتسسل من بين كثافة الأغصان، ووالدي يدور في نفس المكان الذي أقف فيه حائراً يخشى الدخول لرؤيتي، بعد أن شبعها تعليقاً في حملها الخامس كونها لا تلد إلا أناث، منتظراً خروج عمتي "نعيمة" الكبيرة من الغرفة كما روتْ لي إذ ترجاها أن تطلب الإذن من أمي كي يدخل ويلقي نظرةً عليّ. ففعلتْ. تخيلتهُ وهو في عزّ شبابه إبن السادسة والعشرين رشيقاً حيوياً لا يسعه العالم لحظتها يدخل الغرفة ويخطو وسط النساء مقترباً من الفانوس المعلق جوار فراش أمي ويرقص قلبه لمرآي غير عارفٍ ما سوف أسبب لهما من أحزانٍ وعذابات.

كنت أنصت إلى أمي مبتسماً وهي تذكرني بأنها نذرت فيما لو رزقها الله ولداً "صينية شموع وحلوى" ليوم عروس القاسم حيث يزف إلى عروسته قبل ثلاثة أيام من مقتله بالعاشر من عاشوراء، فتخرج النسوة والأطفال المزينين بقطعٍ من القماش الأخضر يلتف حول رقبتهم ويتدلى على أثوابهم السوداء. أخبرتني أنها كانت تحملني في ذلك اليوم من السنة الأولى حتى بلغت الرابعة، فجعلتُ أسير جوارها وهي ممسكة بكفي، كان الموكبُ يسير مع حلولِ الظلامِ فيشع ببهجةِ الشموعِ والهلاهلِ ناشراً الفرحَ في وجوه النسوة والمشاهدين المحتشدين على الرصيفِ في ظلام حزن أيام عاشوراء. أحاول تذكر أو تخيل أحاسيسي، فلا أصل إلا إلى أن مشاعري على الأرجح كانت حيادية تلك الأيام، غير منفعلة بما يجري حولها، مما يجعلني منفصلاً عما يجري، أشعر بعدم جدية المشهد، بل كنت أراه مشهداً تمثيلياً سرعان ما ينتهي حال أنفراط الموكب قرب رقبة الجسر وسط المدينة، فتسحبني أمي متعبةً وتعود بيّ إلى بيتنا القريب.

أكملتْ وهي توجه حديثها لأخواتي وأزواجهن المجتمعين في بيتنا المستقل بعد حفنة سنين:

- نذر صينية القاسم أول أربع سنين، وبالخامسة نذرته يضرب زنجيل ويا ريتني ما نذرته!.

قالتها وأطلقتْ ضحكةً عاصفةً جعلتهم يغرقون في ضحكٍ متواصلٍ، فالجميع يعرف تفاصيلها التي تعيدها كلما حلَّ عاشوراء. أصابني ضحكهم بالعدوى وأمي غير قادرةٍ على مواصلةِ القصة إذ يخنقها الضحك كلما حاولت الدخول فيها.

في يومٍ عدتُ إلى البيت من لعب الشارع فوجدتها منشغلة بماكنة خياطتها القديمة في الغرفة التي تتحول في النهار إلى مشغل للخياطة وفي الليل إلى غرفة نوم نتكدس جميعا فيها. طلبتْ مني الأقترابَ، فذهبتُ إلى جوارها، فراحت تقيس كتفيَّ وطولي بشريط قياس.

في مساء نفس اليوم ألبستني دشدادشة سوداء محفورة من أعلى الكتفين بمستطيلين يظهران جلد ظهري، أوقفتني أمام مرآة منضدة الأفرشة أدخلتْ ذراعها في كيسِ خوصٍ عميقٍ وناولتني زنجيلاً حديدياً له مقبض من الخشبِ تتأرجح من نهايته سلسلتان حديديان تتعشق حلقاتهما ببعضٍ، رَفَعْتُهُ أمام عينيَّ وعددتُ حلقات السلسلةِ فوجدتها سبع، ثم نظرتُ إليها. كانت مسرورةً تنظر نحوي تارةً، وإلينا في عمق المرآة في أخرى مرددة:

- الحمد لله والشكر، الحمد لله ولسيد الشهداء اللي حفظك من الأمراض والأقدار!.

ورفعتْ ذراعيها بالدعاءِ ناظرةً إلى السماءِ الزرقاء الظاهرة من فتحةِ البابِ، وإلى صورةِ الحسينِ الملونةِ بوجههِ الجميل المشرق وقسماته المنحوتة الناظر صوبنا بعينيه السوداوين من الحائط المقابل للباب، مكررةً الشكر في مرةٍ والتوسل في أخرى، وفي أخر المطاف أخبرته أن نذرها ستكّملهُ هذا العام، فها هو ولدها البكر يرتدي ثوبَ العزاءِ وستأخذه بيدها هذه الليلة إلى موكبِ عزاءِ "صاحب عكموش" ليضربْ الزنجيل حزناً على مصيبتهِ الجللِ، وسيواصل طقس التعزية كل عامٍ وسيكبرْ على حبهِ وآل البيتِ الأطهارِ، ثم رجعتْ تتأملني وتعدل وضع الثوب المثقوب على جسدي، وأوصتني أن لا أقسو على ضرب ظهري، بل قليلا .. قليلا حتى أتعّود، ثم قالت بلهجةٍ واثقةٍ:

- في البداية راحْ يوجْعَكْ لكنْ بَعْدَيْنْ راحْ "أبا عبدالله" يخليكْ ما تشْعْرْ بالألمْ أبداً.

قادتني مع الغروبِ من يدي بثوبي الأسود المفتوح من الظهر والزنجيل يتأرجح في يدي ويصدر قرقعة رتيبة الوقع مع خطواتي. كنتُ متضايقاً أشعر بالخجل على العكس من جمع الأولاد المحيطين بي في كردوس الأطفال المحاط بالأمهاتِ الواقفات على الجانبين، أخالسُ النظر إلى وجه أمي الفخورة وسط النسوة بقامتها الطويلة وقسماتها المتناسقة الجميلة وبشرتها البيضاء المضيئة. ابتدأنا المسير على إيقاعِ الطبولِ والصنوجِ والطبول، فرفعَ الأطفال زناجيلهم عالياً ليهوا بها على ظهورهم، ثم يرفعوها ثانية ليضربوا الكتف الآخر في إيقاعٍ يتصاعد على وقعِ آلات العزف المؤطرة بالنقارة، إيقاع يطغي على أصواتنا المرددة بما يشبه الصراخ:

- حسين .. حيدار .. حسين .. حيدار..!.

فعلتُ مثلما أوصتني أمي التي أراها تسير مع جمعِ الأمهاتِ على الرصيفِ مع سيرنا البطيء نحو وسط المدينة. أرفع الزنجيل عالياً وأهوي به في ضعفٍ، لكن الألم أستعر مع الضربةِ الرابعةِ وما تلاها.

كم من المرات وددت ترك الموكب والكف عن ضرب جسدي كم؟!.، لكنني كنت أفكر بعيني أمي الملاحقة حركاتي، وحركة الأطفال الذين يضربون دون أن تبدي عليهم علامات الضيق، فقط تقطيبة ألم تلم خطفا بالقسمات لحظة نزول الحديد على الظهر العاري سرعان ما تختفي مع تصاعد صراخ:

- حيدار.

لا أدري كيف أنقضتْ الأيام العشرة، كانت أمي تداري أحمرار دفتي ظهري بالكمادات الباردة ودهن الطبخ، وأعشاب لا أعرف أسماءها. لم أظهر شيئاً من أحاسيسي الداخلية وضيقي من الطقس كله، فأنا في حقيقة الأمر أستمتع حينما أشاهد هذه الطقوس، أستمتع حينما تجري خارج جسدي، وأتضايق حينما أكون في خضمها.

في العام التالي زادتْ السلاسل سلسلةً جديدةً، والعام الذي تلاه سلسلةً رابعةً. ويوماً بعد أخر بدأت أتعود الضرب وأمَلَّ نافراً من الطقس ولا سيما في السنةِ الثالثةِ، إذ لم تعد أمي تصطحبني وتعود بيّ، بل باتتْ تحضّرْ كل شيء في البيتِ لأخرج وحدي. بدأتُ أتأخر لألحق بالموكب في منتصف الطريق الذي يقطعهُ، فيخفَ وقع الضربِ ويقصر وقتَ الطقسِ والضجيج، وفي مساءٍ حارٍ من مساءات الصيفِ، لم ألتحقَ بالموكب. وقفتُ على الرصيفِ متفرجاً على مواكبِ المدينةِ في مكانِ تفرقها جوارَ المحكمةِ القديمةِ، وفي آخر المساءِ توقفتُ في طريق عودتي أمام بيت "صاحب عكموش" المضاء حيث يتجمهر الناس حول الباعة.

أجتذبتني رائحة "الدهينية"* المنتشرة من صينيةٍ يتصاعد منها البخار موضوعةً على نارٍ هادئةٍ فوق عربةِ دفعٍ. لم أكن أملك فلساً واحداً، فتلفتُ عليَّ أعثر على أحدٍ من أعمامي أو أخوالي دون جدوى. نظرتُ إلى الزنجيلِ طويلاً قبل أن أعلن:

- منو يشتري الزنجيلْ بعشرْ فلوسْ؟!.

أزحتُ ثقلاً هائلاً حينما أطبقتُ بأصابعي على قطعةِ النقودِ.

لم أذُق ألذَّ من قطعةِ الدهينيةِ الكبيرةِ التي ظللتُ أمضع بها حتى بابِ البيتِ.

دفعتُ الباب مستعداً للمواجهةِ، فرأيتها تُقبِلُ عليّ مستبشرةً أول الأمر وحينما لم تجد الزنجيل بين يديَّ، سألتني:

- يمه وين الزنجيل؟!.

ودون أرتباك كذبتُ قائلاً:

- ضيعّته في الزحمة!.

حققتْ كعادتها وكنتُ مضبوطاً في أجوبتي بحيث صمتتْ طويلاً لتقول:

- الله كريم نشوف حلّ!.

في اليومِ التالي أخبرتني بأنها ستخرجْ إلى سوق الصفافير لتشتري زنجيلاً جديداً، لم أحتملَ شعرتُ بتأنيبِ ضميرٍ شديدٍ فأخبرتها حقيقة ما جرى.

أكلت ضرباً مرتباً لكنني تحررتُ من نذرها إلى الأبدِ.

 

20-9-2018

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* الدهينية: نوع شعبي من الحلوى ممكن القول بأنه حلاوة طحين.