في نصها تتناول الكاتبة السورية المرموقة فيلم «طريق النحل» لعبد اللطيف عبد الحميد، وترى أنه اختار لغة الجمال والحب كي يواجه البشاعة والعنف. في فيلمه ينصر المخرج الفعل الثقافي كما لو أنه آخر الرمق للبقاء على قيد الحياة في أزمنة الخراب ودمار الوطن.

الجمال في فيلم «طريق النحل»

لعبد اللطيف عبد الحميد

نهـلة كامـل

 

أتريث، عادة، وأنا أكتب عن فنان أسلوبه السهل الممتنع، مثل المبدع عبد اللطيف عبد الحميد، لولا أننا نتابع تقدمه في تأليف موسوعته السينمائية الخاصة التي أدهشتنا منذ عام 1988 وتستمر في فيلم «طريق النحل» الذي يجدد في الأسلوب ويتكامل مع الموسوعة، وهو آخر أعمال عبد الحميد وإنتاج المؤسسة العامة للسينما.

بطولة البيئة

تبدو السهولة لدى المخرج عبد اللطيف عبد الحميد في غزارة إنتاج يتدفق كنهر متعدد الينابيع، لكنها سهولة ممتنعة قابلة لمقاربات ستقف أمام رؤية تتكون عن بصر طفل ريفي، وبصيرة فنان شاعر خلقت من البيئة والشخصيات وقضايا الحياة السورية أفلامها المترابطة كسلسلة والمتفردة كنوع.

عبد اللطيف عبد الحميد الذي يؤلف ويخرج أفلامه، كان من أوائل من قدموا سينما المخرج في سورية، يسيطر على عملية الخلق ويبتكر أسلوبه الخاص، ينطلق من أصالة اتحاده مع البيئة السورية إلى درجة التماهي، وقد كان طبيعياً أن يبدأ من البيئة الساحلية الريفية، حيث ولد ونشأ، مسيرة الدهشة لدى عبد اللطيف عبد الحميد أسرتنا منذ فيلم «ليالي ابن آوى» لكنه لم يستقر هناك بل اتسعت خطواته نحو البيئة السورية الشعبية حيث كان يخلق أسلوباً مركباً خاصاً بكل عمل، قد يبدأ من الواقعية النقدية، لكنه يحب أن يراها من زاوية الحكم الرومانسي كما يفعل في فيلم «طريق النحل».

يتجه عبد اللطيف عبد الحميد في «طريق النحل» إلى تصوير الحياة السورية في ظل الأزمة، يأخذ البطولة من الأحداث المباشرة للإرهاب والعنف، ويعطيها للبيئة لتكون آخر فصول موسوعته السينمائية، متقدماً في خلق شخصياته الواقعية تحت مصير قاس متأزم، تبحث عن خلاص فلا تجده إلا في الالتصاق بأرض الوطن والانطلاق من حالة حب مصيري لايقاوم كأنها ترفض المستحيل.

جديد عبد اللطيف عبد الحميد «طريق النحل» هو نتاج كل ما تقدم، فيلم في ظاهره عن الحب المتأجج حيث: «يشرق الحبيب، دوماً، قبل شروق الشمس» كما قدمه المخرج، هو حب العاشقين ليلى ورمزي وخيارهما، لكنه فيلم ناجح في جعل هذا الحب الرومانسي الملتهب وجهاً ظاهرياً، من دون اقحام لحب الوطن الأعمق الذي يجعل شعبه قادراً على تحمل الحرب والتشتت والمعاناة.

وينجح عبد الحميد بتوسيع دائرة البيئة في «طريق النحل» بأن تصبح كل سورية في ظل الأزمة، فالعاشقة ليلى نازحة من حمص والعاشق رمزي هو ابن شرطي تنقل في كل المدن السورية، والبيئة الحالية هي المناطق الشعبية في دمشق. ويضيف عبد الحميد إلى ما سبق بيئة الفن السينمائي، أي الحلم، حيث يقدم فيلماً داخل الفيلم، في ساحل طرطوس، يجسد فيه عبد اللطيف عبد الحميد دور مخرج سينمائي يصور الواقع بعين السينما.

ويتقدم عبد الحميد، وهو يوسع دائرة البيئة لديه خطوات في موسوعته السينمائية وهو يجعل قصة الحب المضطرمة بلا انطفاء قصيدة رومانسية لوطن يجب ألا تنطفئ فيه شعلة البقاء وحب الحياة.

المعشوق- الوطن

«طريق النحل» هو قصة حب ليلى ورمزي الرومانسية حيث يصعب تفسير الحب من أول نظرة، الذي ينتهي منذ اللقاء الأول بين العاشقين بعناق، واعتباره مبالغة، لولا تفهم البعد الآخر لدى المخرج، وتصبح هذه الرومانسية غير مبررة لو لم تكن في أبعادها العاطفية والفنية والفكرية مظهراً أعمق لنوازع الإنسان السوري الداخلية في بيئة تجعل المعشوق- الوطن هو ذلك الحبيب الآسر المتغلب على كل ما عداه من مغريات واتجاهات خلاص وانجذاب لا يستطيع العاشق أن يدير له الظهر.

«طريق النحل» خطوة أعمق وإلى الأمام في علاقة الإنسان السوري بوطنه، وهناك صوفية واضحة في علاقة العاشق بمعشوقه لا تفسر إلا بالحب الكبير: حب الوطن في ظروفه القاسية، هو فيلم لا يتوقف عند اغتيال الإرهاب للحب في فيلمه السابق «أنا وأنت وأمي وأبي» بل يمضي في درب الحلم.

يختار «طريق النحل» التحليق الرومانسي وهو يمشي على أرض الواقع، وهذا أسلوب طبيعي في تقديم قصص الحب لكنه أيضاً يمكن عبد اللطيف عبد الحميد من تصوير البيئة والشخصيات بشفافية حنون، وسبر عمق معاناة ترمي بها إلى تجارب قاسية وخيارات، الرومانسية لدى عبد الحميد تتجاوز العاشقين إلى البيئة الوطنية بحيث تقدم خيارات الحلم رؤية بديلة.

الإنسان السوري في «طريق النحل» موهوب وخلاق، قد لا يجد فرصته اللائقة الآن في الحياة، لكنه مصمم على البقاء، فالعاشقة ليلى النازحة من حمص تتألق في فن التمثيل، وهي تتأهب للهجرة إلى حيث ينتظرها خطيبها في السويد، أما العاشق رمزي فهو موهبة فنية نادرة في تقليد وإطلاق الأصوات الإنسانية والكونية لا تجد فرصتها بعد، لكنه ملتصق بأرض الوطن حتى الموت الذي يخرج منه حياً بعد إدخاله في براد الموتى.

والمصير في «طريق النحل» هو الخيار الذي يقف أمامه الإنسان السوري، فالعاشقة ليلى تجد نفسها أمام ثلاثة خيارات تتمثل بثلاثة رجال، الهجرة إلى خطيبها في السويد، والزواج من نجم سينمائي عربي لامع، والبقاء مع حبيبها على أرض الوطن، حيث تبدو الهجرة الخيار الآمن المناسب، وفي اللحظة الأخيرة قبل المغادرة في المطار، تعود أدراجها إلى حبيبها بعد أن تبادلت معه تلويحة الوداع، أو بالأحرى لتعود مشياً على الأقدام إلى دمشق مختارة حبها الأزلي: الوطن، على أنغام طريق النحل حيث تشكل فيروز أحد الإيقاعات الأصيلة للحياة السورية.

الجمال حلّ

يختار عبد اللطيف عبد الحميد الجمال لمحاربة البشاعة، والفن لمواجهة العنف، اسلوباً فنياً سينمائياً، الجمال في «طريق النحل» ليس أسلوباً مجانياً لجذب المتفرج فقط، بل هو ضمير الفيلم، وانعكاس روح البيئة والحب وحلم البقاء على أرض الوطن.

وتقدم قصة الحب الرومانسية أبعاداً فنية لها جمالها الخاص في عالم واقعي يضيف القسوة والعنف إلى المرارة التي يعيشها السوري لكن طريق النحل لا يبتعد عن عالم عبد اللطيف عبد الحميد الذي كانت الرومانسية والحب، دوماً، عموده الفقري، ولا ننسى أن الأسلوب الساخر والكاريكاتيرية مكنت عبد الحميد من النقد الذاتي للمجتمع السوري في أمانه واستقراره، لكنه هنا يختار الحب ويجتهد في رفع الأنقاض وغبار الحرب عن الحياة السورية، يتضامن مع كل السوريين يحب المهاجرين، ويفضل الباقين، يحتفي بجماليات المكان ويرفض تشويهه، يصلي لقدسية الجسد، ويطلق العنان للروح في أبعاد الفن والواقع.

فيلم «طريق النحل» جماهيري بمعنى جماليات المشهد والشخصيات وقصة الحب التي تنتهي نهاية سعيدة، لكن هذا لا يأتي بأسلوب السهولة الفنية، بل بعملية خلق سينمائية استعانت بعالم السينما كعالم مواز للواقع حيث يصبح «طريق النحل» صورة للحلم والواقع معاً.

ويضيف عبد اللطيف عبد الحميد عين السينما داخل الفيلم إلى عين المخرج خارجه، حيث يجسد عبد الحميد دور مخرج سينمائي لفيلم بطلته العاشقة ليلى، فيكون المخرج داخل الفيلم وخارجه ما أتاح له أن يقول: الإنسان السوري ما زال يرى وطنه بعين الخلق والفن والأمل، ويضع الحب خياراً أوّل، وأن مرارة فراق الحبيب ليست سوى مرارة فراق الوطن.

ويشكل عبد الحميد شخصيات جميلة الروح وهو يراها بعين السينما، ويقدم العاشقة جيانا عنيد «ليلى» في أبهى أدوارها وكذلك النجم اللبناني الكبير بيير داغر، أما يامن حجلي فقد كان بدور العاشق، روحاً شفافة، إنسانيته السورية طافية على تقاسيمه وسلوكه وأدائه المدهش… ويجدر بنا القول إن بصمات المصممة لاريسا عبد الحميد كانت واضحة تخلق التوازن بين جمال الروح والمظهر الخارجي وبين أبعاد الرومانسية والواقع.

وأتريث أيضاً وأنا أختم المقال، وخاصة أن «طريق النحل» يأخذ مكانته في موسوعة عبد اللطيف عبد الحميد السينمائية، فيكون جزءاً من كل أصيل يستحق التوسع، لكننا نقدمه كإضافة وخطوة متقدمة في رومانسية الحب الذي طالما صوره عبد اللطيف عبد الحميد في إطار الوطن مهما تعددت وجوهه.