يصور القاص العراقي لحظة درامية من لحظات الحرب الأهلية العراقية قبل سنواتٍ قليلة من خلال شخصية الجندي النازل في إجازة وهو يفكر بالهدية التي أشتراها لأمه. وبين هذه اللحظة وسوقهم إلى مجزرة على دجلة يحتدم النص ويفيض بالمشاعر الدفينة وأخيلة الخلاص.

أمي أولُ من يعلم

صـادق الطـريحي

 

غمرتنا شمس حزيران بلونها الأبيض الحار، فتبددت كل ما لدينا من اتجاهات، وتفرقت في ذاكرتنا اللغة التي نحتفظ بها كهوية دائمة، ثم جفت الكلمات في أفواهنا، فلم يكلم أحدنا الآخر، وكأننا جميعاً نعرف أمراً ما ولا نودّ أن نبوح به! صار الإسفلت الآن ناراً حامية وكأنه تهيأ لحفلة شواء معاصرة، غير إني ما زلت أتذكر شمس حزيران إذ تسبح كطفلة بريئة عند الفرات وقت الضحى، وأمي تخبز لنا ما تيسر من رغيف حار. ويبدو لي أنّ ذاكرتي ما زالت بخير.

خجلاً من أمي، وأنا أروي الآن ما حدث، لقد طلبوا مني أن أروي الحادثة كما شهدتها، وقد وعدتها أن أروي لها ما سيحدث خلال فترة التحاقي بالمعسكر، وأن اشتري لها هدية عندما أستلم راتبي، وما زالت الهدية في يدي، مغلفة في ورق فضيّ لماع، لقد اشتريتها قبل أن أستلم راتبي، وقلت للبائع أن يغلفها جيداً؛ لأنّ أمي أول من سيفتحها، وقد خصم البائع من سعرها إكراماً لأمي، وأمه أيضاً، فقد حدثني وأنا أساومه، أنّ أمه قد ماتت ودفنت دون أن يراها، كان في الحرب حينها، ومن كان في الحرب سيتأخر عن حضور مراسيم الدفن حتماً.

فلمن سأروي الآن ما حدث؟ وأمي أول من يعلم ذلك.

طلبت أمي من الله أن أكون حاضراً ساعة وفاتها، وطلبت مني أن أتفحص قبرها جيداً قبل الدفن، قائلة إنّ الله يجيب دعاء الأمهات، فقد دعت الله أن يرزقني (بنت الحلال) بعد التخرج في الكلية، وأن أتعين في الدولة، وأن يكون المولود الأول لي ذكراً، فاستجاب الله لها ما طلبت، وكشف عنها السوء، وهي تنتظر الآن حفيدها، وستسميه على اسم أبي، هكذا طلبت مني، وهي أول من يعلم أنني موافق على ما طلبت.

خرجت ُ من المعسكر كما خرج الآخرون، حذراً كنتُ وشمس حزيران تغمرنا بلونها الأبيض الحار، وفرحاً لأني سأصل البيت قبل الإجازة الدورية!!! وبصعوبة اتصل بعضنا بذويهم ...

نحن في الطريق إليكم!

ولكنّ الخطوط سرعان ما خرجت عن التغطية! لذا كان علينا أن نمشي بضعة كيلومترات حتى نصل السيارات، قالوا، إنّ السيارات بانتظاركم خارج المدينة، وقال آخرون، إنّ السيارات في طريقها إلينا من الموصل، ولا أحد يعلم من قال كل ذلك.

والأرض تشتد حرارة ً، تحسست حقيبة ملابسي الخفيفة، كانت الهدية بداخلها، ما كان أحدنا ينظر إلى الآخر، لكنني رأيت سحنات الجنود بدأت تميل إلى السمرة، والشمس تتوهج توهجاً مراً، سألت أحدهم أين نحن؟ فاكتشفت أنه مثلي تغمره شمس حزيران بالانتكاسة، فاختفت عني علامات الفرح، وتحولت الجنود إلى هياكل عظمية تدب على الإسفلت الحار، وكأننا في صحراء سيناء هذه المرة، قد اضعنا الطريق، وتقطعت بنا السبل، ودخلنا التيه فلا أثر لخطواتنا على الرمل أو الإسفلت ... جاءت بضع سيارات من بعيد، لم يخف السراب وجوه راكبيها ...

ـ هل كانوا بلا ملامح!!!

ـ كانوا بلا ملامح ...

ما كان معهم مثل صاحب المتجر الذي اشتريت منه الهدية قبل أيام، نزلوا بسرعة وخفة، وكأنهم جنود مثلنا، قائلين إنهم من أبناء العشائر! فقال أحدنا بصعوبة وحشرجة واضحة :

نحن من أبناء العشائر أيضاً ...

رأيت أحدهم يرمقه بنظرة غضب دون أن يشعر الجندي بذلك ... طلبوا منا أن نكمل مسيرتنا تحت حمايتهم حتى تصل السيارات، أو نحل ضيوفاً عليهم في بيوتهم، لأنّ المسلحين سيدخلون المدينة عما قريب ...

لم تفارقنا شمس حزيران الحارة بعد، وأدركت في آخر لحظة حدس، أنّ لا جديد تحت الشمس.

غالباً ما كنت أسمع أمي وهي تندب الخضر أن يحضرها إن ألم بها حادث شديد، قالت : إنّ الخضر حاضر معنا دائماً، وما علينا إلا أن نعرف كيف نناديه، منذ طفولتي وأنا ما زلت أحفظ ندبتها للخضر، ولا شك إنها تضيء الشموع الآن وتقول (ها يالخضر، جاك النذر، رجّع اوليدي العصر ...) وترجو الفرات أن يوصلها للخضر، فهي أول من يعلم إن أصابني مكروه ما ...

إلى أين يأخذنا هذا الإسفلت الأسود الساخن!! إنه لا يفضي إلى المرآب، ولا يفضي إلى مجموعة من بيوت العشائر، أعرف هذا الطريق جيداً ... أوقفونا عنوة وأدخلوا قسما ً منا في طريق ترابي سيفضي إلى أرض زراعية واسعة تفضي إلى دجلة! حاولت أن أكلم جندي بجسم نحيف يقف بجانبي، وقبل أن ينتبه لي كان قدره أن يكون مع تلك المجموعة ... انتبهت لصوت أحد الجنود وهو يقول لي : لا تحزن إن الله معنا ...

حينها أنزل الله سكينته علي، وتيقنت أنّ أمي ستحصل على هديتها ...

دفعونا بقوة هذه المرة، انتبهت الإسماك القليلة في نهر دجلة إلى صوت رصاص في الهواء، اختلطت أصوات الجنود مع أصواتهم، صرت دون أن اشعر مع الوجبة الأولى التي حذرت منها الجندي الذي كان بجانبي، كنا في أرض زراعية خضراء، وأمواه دجلة تبتعد عنا مئات الأمتار، أحسست أنّ قبور الصحابة الأربعين قد تشققت؛ لأنّ الرصاص قد ازداد ضراوة، كانت بنادقهم الحديثة مسددة في الهواء نحو شخص ما، حيث الرصاص لا يصل إليه، فرغت المخازن الأولى فاستبدلوها كلمح البصر، صار الوقت الآن يمضي سريعاً، سريعاً، وما زالوا يسددون بنادقهم في الهواء، وعيونهم غائرة في محاجرها، وأنا أرسل بصري إلى السماء، فيرتد كليلا، أمرونا أن نلقي على الأرض كل ما نحمل، قالوا كونوا أسرى أفضل من أن تقتلوا، لأننا سنفتشكم. استطعت أن أستخرج هدية أمي ودسستها بين ملابسي ثم رميت حقيبتي، وصوت الرصاص يغطي وهج الشمس الحزيرانية ...

ـ من كتب على الجنود أن يقتلوا في حزيران؟!!

ـ ليس الله من كتب ذلك، الله لا يحب قتل النفس يا بني.

كان هذا هو الخضر، والله العظيم هو الخضر؛ لأني رأيتهم يسددون بنادقهم إليه، لقد جاء لنجدتنا، لقد وصلت الشموع مضيئة إليه، كان بجانبي دون أن اشعر به، وكان بجانبي أيضاً الجندي ذو الجسم النحيف وهو يردد :

ـ ياربّ ، ياربّ ، خلصنا بجاه النبي ، وحدك من يعرف أن ابنتي تنتظرني ...

وكان بجانبي أيضاً الجندي الذي قال إن الله معنا، وهو يردد الآن :

ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون ...

سألت الخضر : كيف أتيت إلى هنا؟

فقال :

ـ أنا أقيم هنا، مع يعقوب التكريتي، متنقلين ما بين الكنيسة الخضراء ومزار الأربعين، ولا تسألني أكثر من ذلك.

جاؤوا لتفتيشنا، سود الوجوه كانوا، رفسوا من كان يحمل جهاز الهاتف، رفسوا من كان يحمل محفظة في جيبه، لكنهم لم يعثروا عندي على شيء، كانت الهدية مخبأة قرب ضلوع القلب ... قال الخضر لنا :

ـ اسقطوا أجسادكم إلى الأرض مع أول رصاصة!!

أردت أن أقول للخضر وهل ستنطلق رصاصة واحدة في البدء!! لكنه أمرني أن لا أسألهُ، ففعلت!!

ثم قيدوا أيدينا إلى الخلف، أمرونا أن نتجه صوب دجلة، ما كان الماء أزرق، كان فضياً كلون الورق الذي يغلف هديتي لأمي، وعندما اقتربنا صار طينياً، وشمس حزيران تغمرنا بلونها الأبيض الحار، وأمي تنتظرني عند العصر (ها يالخضر، جاك النذر، رجّع اوليدي العصر ...) ومازال الخضر معنا، وسيرجعني إلى أمي، حيث الفرات والخضرة الداكنة، كان بيني وبين الجندي ذو الجسم النحيف ...

كان الرصاص حاراً، أشدّ حرارة من شمس حزيران، رأيت الرصاصة تمر بجانب الجندي ذو الجسم النحيف ثم تسقط في مياه دجلة، وكلمح البصر أو هو أقرب من ذلك كان الجندي يسقط نفسه وكأنه ميت، لكنني كنت أنظر إلى شموع الخضر المضيئة وهي تمر في النهر، أنبني الخضر لأني لم أسقط نفسي سريعاً، تحسست الهدية ووضعتها في يدي، غمرنا الخضر بغطائه الأخضر جيداً، فلم يدن منا الرصاص مرة أخرى، سمعت الجندي ذو الجسم النحيف وهو يحمد الله باكياً، وكنت مفتوح العينين، وما زالت الهدية في يدي، مغلفة في ورق فضيّ لماع، وأمي أولُ من يعلم ذلك.

24ـ 26/10/2014