تصور الكاتبة التونسية الشابة لحظة مفصلية في حياة الإنسان، لحظة إتخاذ قرار، فبسردٍ محكم ودقيق وكثيف ترسم ملامح وأبعاد الشخصية وظروف حياتها وما كانت تحلم به وتناضل من أجله بحماس لتضعه في أخر سطرٍ في موقع من يبيع ضميره.

من البداية

زيـنـب هـداجّـي

 

فقدت ملامح الموت صورتها في مخيلته... لم يعد هناك ما يعيقه ليعبر إلى هناك... سيتحمّل طعنات ضميره لدقائق ثم سيكون كل شيء على ما يرام... سيتخلص من آخر قطرات الحنين على عتبة تلك البناية.

إنّه يحاول إقناع نفسه بأنّه لم يكن يوما متحمسا لتلك المبادئ التي ينادون بها. إنّه الآن لا يجد سببا مقنعا لإنضباطه في ذلك التنظيم لسنوات: وجد نفسه يصرخ في الشّوارع، في هذه المظاهرة أو تلك، مردّدا شعارات لم يتساءل أبدا عن علاقتها به، تخرج من حنجرته كما يلفظ مريض القيء فيشعر بالرّاحة .كانت تلك الدّوامة تبتلعه فينسى كيف ولماذا جاء إلى هذه الدنيا وماذا يريد منها؟ لم يشعر يوما أنّه إنسان مهم ومختلف، أنّه شخص يُسمع سُعاله إذا سعل وينتبه إلى عطسه إذا عطس أو أن يتعرّق الجميع إذا ما سمعوا وقع حذائه الذي يسري في المكان كالغاز الخانق... الآن، وبعد لقاء ذلك الشّخص في حانة صغيرة في ضاحية بعيدة من ضواحي هذه المدينة...سيكون كذلك.

لقد حانت لحظة الإنعتاق. سيحصل الآن على المكانة التي يستحقّها... لقد رأى ذلك الرّجل الذي التقاه "صدفة" عبقريته التي لم يرها أحد من قبل. لقد إنتهى عصر التشرد على قارعة الطرقات و زمن يتسول فيه ثمن سيجارة أو زجاجة "بيرة". ليس مجبرا بعد اليوم أن يستمع إلى تلك المحاضرات الأخلاقية القيميّة التي يسردها "القادة" على مسمعه كأنه هو المسؤول عن عذابات الجياع والمظلومين في العالم. أنسي هؤلاء أنّه مشرّد تائه جائع يأتي من جوف الظلام المنسي؟

سيصعد إلى القمة ولن يتقهقر. لا معيار لقياس مشروعية الأفعال لديه سوى الطّريق نحو القمة. إنّه يلج الآن باب تلك البناية ويتحرّر من ما يسمى بـــ"قيم" في العالم الذي يغادره الآن. فقد شهد ما يصنعونه بتلك "القيم" وما صنعوه به . لقد دخل إلى تلك السّفارة الأجنبيّة وجلس على أريكة وثيرة... إستقبلوه بحفاوة ...تنفّس بعمق غادرت ملامح الموت مخيلته...