تسافر الكاتبة الفلسطينية بالقارئ من تفصيل يومي بسيط إلى عوالم عجيبة، فالراوية ترقد في المشفى وتعاني من أرق وعدم تركيز، وهذه التفاصيل العادية ستنقلب مع تناولها "حبة" دواء صغيرة من الممرضة فنسافر معها في رحلة كونية فيها تأملات فلسفية عن الوجود والخلق والإنسان في تصوير بديع ورائع.

إني آنستُ نوراً

سماح نضال الخفش

 

ليلة الجمعة ... وفي أواخر تشرين الأول، كانت الكلمات قد احتبست عني لفترة طويلة ، حتى صليت أستسقي الحروف لعلّ بعضها يروي هذا الجدب في قلمي و روحي.. ويقويني على ذاك المرض الذي قد أنهك جسدي.

جلستُ في تلك الغرفةِ التي حاول مصممها إضفاء الحياة لها ومنحها إيقاعاً يخفف الألم عن مرتاديها..

شباك صغير عن يميني يذكرني بنسائم الهواء خارج هذه الزنزانة الفردية الفارهة، وأصوات الشارع تبدد السكون الحالك؛ و(الميترو) الذي يظهر من بعيد وهو يشق طريقه باختيال .. كم يغيظني هدوءه كما يغيظني تشابهه معي، إمكانات فيزيائية محدودة لا تتناسب مع سرعة تلك المدينة النابضة .. دبي

وأمامي تلك الشاشة السوداء.. والتي غالباً ما تبقى سوداء نظراً لأني أتأنى كثيراً قبل أن أشاهد شيئاً من خلالها!

وكم عكرت صفو مزاجي العلامة التجارية المكتوبة أسفل الشاشة.. فقد شغلتني كثيراً وأنا أرسم حولها الخطوط المتقاطعة والمتوازية في خيالي لاحتساب زوايا الحروف، محاولة تطبيق بعضاً من نظريات الهندسة التي لم تزل عالقةً في منحنيات الذاكرة، حتى وجدت الحل؛

هممت بحماسة لأغطي الكلمة التي طالما عبثت بقدرتي على التركيز بلاصق أسود؛ وهكذا اكتمل السواد البصري أمامي .

كانت هنالك فتاةٌ تعمل في المكان اسمها كيت، تروح وتجيء غير عابئة برغبتي في التواجد وحدي .. معالم القلق تبدو واضحة على وجهها وهي تحاول إيجاد حل سلمي معي فيما يتعلق بالزوايا أو عدد الأسطح في الغرفة، خاصة أنها أرقتني لثلاثةِ أيامٍ بلياليها. و من جهتي أحاول أن أجد لي مخرجاً من تطفلها على دائرة السكون التي أحطتُ نفسي بها !

قالت بلغتها الإنجليزية الركيكة..

- سأساعدك لإيجاد حل لكل المشاكل.

- كيف ؟

- عليكِ أن تأخذي حبة الدواء هذه لتساعدك على التركيز أكثر.

لم أسألها عن طبيعة الحبة السحرية ، وأنا التي طالما دققتُ واستقصيتُ عن أي دواء سيأخذ حيزاً من شراييني، حتى أني قد أطلب تغيير الطبيب إذا لم يعطني شرحاً وافياً مقنعاً عن دواءه!

لم أستطع رفض طلبها؛ كانت تملك ابتسامةً لا يمكن لأحد ألا يضعف أمامها،

وافقتُ ولكن دون أن أنطق بحرف ولا حتى إيماءة، ولا أعرف كيف فَهمتْ موافقتي !

أخذتُ القرصَ منها وابتلعته، وهي تحدق بي بقلق وكانت ملامحها تزداد اطمئناناً كلما قرّبتُ قرصَ الدواء من فمي حتى ابتلعتُه، وبدت على وجهها ابتسامةٌ عريضة تشبه ابتسامة جدتي عندما كنت ألبي رغبتها بشرب كوب الحليب في صغري.

- خذي نفساً عميقاً ، واسترخِ.. وأنا سأعود إليك بعد قليل.

كانت الساعةُ تشير لمنتصف الليل، وأنا لا أسمع إلا صوتَ أنفاسي وصوت دبيب الدمع إذ يهبط على الوسادة.. الكلمات أكثر جرأة و أسهل انسياباً، حينها فقدت الإحساس بالوقت والمكان .. وفقدت الإحساس بجسدي أيضاً!

ابتعدتْ كيت، حتى اختفى صوت نعلها واختفى تدريجياً صوت الشارع وصوت عقارب الساعة الذي كان يدوي في رأسي.. وخفتت كل الأصوات و صرت وحدي في ذاك السكون الحالك.

تداعت حواسي واحدةً تلو الأخرى حتى لم أعد أبصر شيئاً، فتحتُ عينيّ جيداً ثم أغمضتها، ثم أعدتُ الكرة مراراً معتقدة أني قد أكون عكست فتحها فأغمضتها! لكن العتمة كانت أكثر وهجاً من شكوكي .. وصرت مجرد روح هائمة. أنا هنا لكنني بطريقة ما لستُ هنا! أسدلتُ جفنايْ هذه المرة بهدوء، حالمةً بشيءٍ من نور.

نور في بصري أو سمعي أو قلبي أو روحي! وكأن شيئاً كان بانتظاري منذ الأزل! قوةٌ هائلةٌ صارت تجذبني بسلاسة وسرعة باتجاه أجهله. سارت بي ، وكأني أسافر عبر الزمن .. في البداية لم أكن أرى شيئاً سوى وهجٌ أبيض ثم تبدل بسوادٍ عظيم.. خوف تملك روحي وأسئلة بيني وبين بيني.. هل هكذا تكون بداية الموت؟ أم هي بداية حياة في مكان أو زمن آخر؟ علمتُ وجهتي عندما اقتربتُ من شيء أعرفه .. إنه القمر وظننتُ أنه محطتي الأخيرة ! لكني تجاوزته حتى بدا لي وجهه الآخر، ورأيتُ بعدها الكواكب التي أعرفها جيداً كالمريخِ والزهرةِ وبلوتو وأقماره يفسحون لي الطريق.. الشهب كانت تتنحى عني كي لا تحرق طرف فستاني الجديد ! شيء ما طمأنني عندما تيقنت أن فستاني لن يمسسه سوء، كانت الأمور تبدو آمنةً نسبياً عندما كنتُ لا أزال في منطقة الفضاء الداخلي، مجموعتنا الشمسية.. حارتنا الصغيرة التي حلّقنا بها منذ بدأنا أبجديات الفضاء وعددنا نجومها حين توسدنا العشب، لمّا كانت تطاردنا خرافة تخيفنا مِن عدها حتى لا تنطبع كبثور لا تبرأ على أجسادنا!

أعتقد أن الكون لديه ما هو ألطف من خرافاتٍ اخترعناها بحقه.

واستمرت القوى بدفعي حتى بلغتُ منطقة أبعد من مجموعتنا الشمسية.. صارت النجوم تتناثر من حولي كلما ابتعدتُ وأمعنتُ في الفضاء الخارجي، نجم يهوي وآخر يصّعد في السماء.. وكواكبٌ تصطدم ببعضها حتى تغدو سديماً، ونجوماً يخفت بريقها وأخرى تزداد توهجاً.. لا وصف يسعفني.. لا شيء يمكن توقعه مسبقاً.. لا قوانين للفيزياء، حتى هذه بدت شيئاً سخيفاً جداً هنا، وكما أنه مكان للأرواح وكل شيء مسير لا مخير ..انتابتني رغبة عارمة للسجود، لكن لا مكان لسجود الجسد هنا ! عقلي البشري لم يزل قاصراً أمام هذا البهاء.. فسجدت روحي لعظمته وسجد الفؤاد..

تفقدتُ فستاني مرة أخرى خشية أن يكون قد علق في طرفه جرم أو يتلفه كويكب طائش..

مررت بمكان من الكون يسوده سلامٌ، ونور لا ينضب في بحر لجي من العتمة، كل جرم له مكانه المحدد، حتى أبصرتُ مساراً لا متناهي يُشع نوراً.. وكأنه طريق مَلَكيّ مزخرف لمواكبِ الصاعدين، تمنيت في نفسي لو أن شيئاً يقودني لتفسير ما!

وتعلمتُ سِراً هنا؛ أنه كلما رغبت بشيء فعليَّ أن أمعن فيه حتى أدركه بحواسي.. فلا أسئلة ولا إجابات إلا بشيء أشبهُ بالوحي، فقد تلغى مسافة آلاف السنين الضوئية برغبة! وقد ترى مالا يمكن رؤيته برغبة. الكون العظيم يصغر بالرغبات! مثل عصى موسى التي شقت البحر العظيم بضربة، هذه الضربة التي كانت تمثل الرغبة في الهرب من الخوف والملك الجائر.

تتبعت ذات المسار بعيني للأسفل كي اعرف أين نهايته وانا أسير بعكسه للأعلى إلى أن وصل لكوكبنا.. هناك كانت نهاية الطريق. قبتان لاحتا أمامي ،هاتان القبتان اللتان لا يقل وهجهما عن وهج النجوم.. رغم بعدهما وصغر حجمها مقارنة بهذا الفضاء.. حاولت الاقتراب.. مستخدمة رغبتي الداخلية التي قد توازيها قوة تجذبني في نفس اللحظة.. إلا أن حاجزاً غير مرئي قام بصدي عن ذاك المسار النوراني، وكأني لا أملك المؤهلات التي تخولني لدخوله أو للعبور منه!

أيقنتُ الإجابة ، أو لُقّنتْ لي !

كما هي سنة الله في كونه ..

فهناك يبقى أثر لكل من عبر..

وفي السماءِ أيضا أثر..

أثر من مروا فيها مرور المنتصر

من هنا عرج الرسول بعد الإسراء

من هنا فُتح طريقٌ لأشرف الأنبياء ..

من هنا يزف للجنان الشهداء .

من هنا رحلةُ السماء

من هنا تصعدُ دعوات الأمهات

ودعوات المظلومين

هذا مسار الأرواح التي تطهرت من دار الفناء ..

من هنا يُزف الصابرون والضحايا

إلى باب السلام

باب النعيم الأبدي

إلى الخلود

لم تزل جاذبية ما تسيرني إلى قدر لا أعلمه وكنت أظن ضمنياً بأن هناك ما يعزلني عن الفضاء من حولي .. كمركبة فضائية مثلاً. أو أي سبب يجعل وجودي منطقياً!

حتى تم إبعادي عن المسار وعن اكتظاظ النور، صارت النجوم تبدو قريبةً جداً أكاد أتناولها.. لكن ما إن أمد يدي كي أمسك إحداها حتى أدرك بأن المسافة بيني وبينها لا يقدرها عقل ، وأنها تبدو ملاصقة لي من شدة العتمة التي تحيط بي وبها.. حتى تلاشى مفهوم المسافة بالنسبة لي، وشعرتُ أني توقفت في مكان ما أو شيء ما قد أوقف تدفقي اللامتناهي بين الأكوان. انتظرتُ مدة طويلة ولم تكن هنالك أي قوة تحركني ! قد تكون ساعة وقد تكون مئة عام وربما ألف! في مكان كهذا لا شيء يحدد الزمن؟

لا شيء هنا إلا سكون الكون وصداه الموحش وأنا!

تراءت لي أجسامٌ قريبة جداً كقرب القمر للأرض ، متفاوتة الأحجام تدور حولي.. أكاد أراها بانتظام.. حفظتُ أشكالها وصرت أقيس زمني بعودة ظهورها واختفائها من خلفي ! وانا عاجزة عن الالتفات ورائي.

شيئاً فشيئاً صارت حواسي تتلاشى، لم أعد أكترث بفستاني ، لم أعد أرى يداي! من أنا؟

مرّ من أمامي وطننا.. كرتنا الأرضية التي طالما كانت مميزة بتناغم زرقتها وخضرتها من بين الكواكب بالرغم من وجود من يسفك الدماء؛ إلا أنها بقت دائماً مثل أم تُخفي جرحها وسوء أدب أبناءها عن باقي الكواكب. أمعنت النظر فيها حتى بدت أقرب حسب قانون الرغبات؛ فشاهدتُ طفلةً مبهورة في السماء فوقها؛ تعد النجوم وترفع يديها مشيرة إليّ.. وتصرخ البراءة فيها.. أمي أنظري لهذه النجمة الصغيرة كيف تضيء أكثر من باقي النجمات!. ذهلت لأني عرفت من أنا من طفلة تلهو مع بريقي وتؤنس وحدتي!

نجمة صغيرة!

إذاً أنا نجمة و كل تلك الأجسام التي تدور حولي.. كواكبي وأقماري!

ردت الأم! لا تعديها يا صغيرتي كي لا تملأ البثور جسدك! وأخذت بيديها ومشت .. ولم تزل أنظارها معلقة بي وكأنها تحاول أن لا تضيعني وأنا ألاحق نظراتها قبل أن يعم الفراغ لمئة أو ألف سنة أخرى!

في هذه اللحظةِ فقط تمنيت لو أعود كائناً بشرياً أملك الإرادة لأغادر مكاني؛ ولكي أستطيع تجنب حوادثَ الأجرام السماوية أو أمسك بما ينشق عني أو أبتعد عن شهاب يلاحق شيطاناً حاول أن يختلس مِنَ أسرار السماء ويقعد منها مَقَعِداً للسمع ، وأهرب من الظلمة كلها.. كنتُ نجماً يحترق ويضيءُ أقماره من حوله لكنه مظلمٌ كئيبٌ لذاته ،عاجز أن يضيء داخله لا حول له.

أصواتٌ علتْ من حولي.. وقوى أخرى تشبه الهزاتِ الأرضية أصابتني. تحضرتُ لما هو قادم إلي.. لا يمكن أن أتيقن إن كان سيصطدم بي نيزكٌ أو نجمٌ آخر أو ربما يبتلعني ثقبٌ أسود بعد أن صرت مجبرة على البقاء ضمن مساري!

صوتٌ بشريٌ ينادي باسم ألفته من قبل. عادت الأصوات حتى أنهت سكينة الفضاء من حولي.

- نوووور ... نوووور

تذكرتُ هذا الصوت .. أعرفه جيداً، لقد كان آخرُ صوت آدمي سمعته قبل أن أصير جرماً سماوياً!

لكني نسيتُ كيف أجيب وما الذي عليّ فعله!، أعادت كلامها وهذه المرة كأن زلزال يهزني بقوة ..

ذات القوى التي جذبتني في البداية صارت الآن تطردني وتعيدني مرة أخرى إلى حيث أنتمي، فصرتُ أنساب من الأعلى ككرة صغيرة تسقط في بالوعة!

يداها تهزني باستمرار وهي تقول

- نوووور ..عليك أن تفتحي عيناكِ.

حاولت التذكر كيف أتحكم بي! وكيف أجيب! حاولت جاهدة أن أعرف كيف علي أن أفتح عيناي كي أنهي هذا الزلزال الذي يفقدني ثقلي ويطردني من مكاني وكأني لاجئة لم يعد مرغوباً بوجودها!

وبعد جهد نجحتْ.. فتحتُ عيناي وإذ بها أمامي، نظرت إليها بذهول.. تذكرتها، تلك الممرضة التي وعدتني بليلة استثنائية!. كان صوتها يعلو ضاحكاً:

- نور، لقد انتهت مناوبتي، لكني رغبت بالاطمئنان عليك قبل مغادرتي.

وسألتني:

- كيف كان الدواء ،هل نمت بسلام؟

وقبل أن أجيب صدحت ضحكتها وهي تبتعد.. ضحكة أفسدت هدوء المجرات بأكملها. غادرت كيت، ولم يغادرني الكون ولا النور والظلام.. ولا المجرات والنجوم.. ولا وهج البياض والعتمة التي تليها ولا الأرواح ولا الأسئلة الكبيرة عن الحياة والموت ،والروح والجسد، وحدود الأوطان والمسافات والأزمان؟ وأسرار السماء وغياهبها، وكم لبثتُ هناك بعمر الأرض؟ وكم يوازي ذلك بعمر الكون؟،

هل ليلة في زمننا تعادل آلاف السنين في مكان آخر؟ أو العكس؟

هل نحن ذرة في الكون أم أن الكون ذرة فينا؟

هل رحلت للأكوان الخارجية أم ارتحلتُ إلى داخل ذاتي؟!

لماذا نملك أفكارا ً أعظم من إمكاناتنا الجسدية ؟

ماذا لو امتلكنا سرعة الصوت أو الريح.. أو ملكاً كسليمان؟

لماذا نزع الله الإرادة من الكون العظيم ومنحها لنا؟

لماذا نصبح كالأرض الجدباء حين لا نكتب؟

مقيمة في الإمارات العربية المتحدة