يعيد الشاعر المصري المرموق في هذه القصيدة رسم انجراحات الذات في مقابل هذا الحضور المقيم للخيبة ولتيمة الانكسار. الذات في حوارها الداخلي مع الكتابة، ومع هذه التفاصيل من السواد التي تلف الصورة الخاصة بالحياة. حيث مقولة الغياب تهيمن على هكذا عالم لا تطيقه القصيدة.

ليس كمثل الوّحْشةِ والناي المكسور

عبدالمنعم رمضان

ها أنا ذا
كالماءِ الباردِ
كالإسفنجِ
وقفت أمام جهاتِ الأرضِ جميعا وتحايلت
فهبطتْ آونة ومنازل
هبط الضوء الآخر
هبط هواء أسود وهواء شّفٌّاف
هبط الحمٌّالون بدائرة الجغرافيا
حملوا جسمي فاستلقيت علي طاولة سريري
وتعاليت
حلمت كأني في مكتبة المتحفِ
قربّ شواطيء مِيْسِ الرٌِيمِ
أمامي راس النبعِ
أمامي أعلي شارعِ فّخرِالدينِ
حلمت كأني في الأمكنة الأخري
في عينّيْ فاطمةّ
وفي الجميزةِ، في شارع إدريسّ
وفي الحمراءِ، وفي الجامعة الأمريكيةِ
في الأوبرا
في أول هذا العامِ
وفي منتصف العامِ، وفي آخرهِ
في الطابقِ الثاني عشْرّ
أمام البحر الشاخص نحوي
كنت أحاول أن أعتمد علي ذاكرتي
أن أخترق حدودّ خّيالي
هبطتْ مني آونة ومنازل وميادين
وهبط الضوء الآخر
هبط الحّمٌّالونّ بدائرةِ الجغرافيا
رفعوا جسمي من طاولة سريري
فاستيقظت
رأيت زّفيري مثلّ ظلامي غفْلي
يملأ صدري
ثم يطير ويّعلّق في شّفّتّيٌّ
ويغمرني
ويحيط فمي
أدركني الخوف علي نايي
فخرجت إلي الطٌرقاتِ
نظرت إلي الفتياتِ المّبهوراتِ
بنوري يصعد من جوفِ الكورنيش
المّبهوراتِ بأغصاني دانية
لا تمتد ولا تفني
فغضضت الطٌّرْفّ
ولم أستطع العّزْفّ
نظرت إلي أشواقي
كانت بيضاءّ ونائمة
يّنْشّع منها الصيف ببعض روائحهِ
وشتاء العام القادم يكسوها بالبرْدِ
وكان الليل يحذٌِرها
أن تبقي مستلقية
بين شباطي
وأوخر آذاري
أن تتلصٌّص كالخّطٌِ المقلوبِ
وتحلمّ
وعلي جرفي هاري
تنزف مثلّ مياه الرٌجوح المستخفيةِ وراءّ الجِسْرِ
نظرت إلي بابي مفتوح عن آخرهِ
ظّلٌّ الرجل الخارج منه
يناديني: يا عّبْد
ذهبت فأعطاني قرْبانا ومضي عّنٌِي
بعد قليل عاد وأعطاني حّبْلا سرٌِيٌا
أعطاني أشواقا أعلي من أشواقي
أنزلّ حولي بعضّ هواءي
قال: تّرّنٌّمْ
ضّعْه علي شّفتيكّ
ولا تّغْتّرٌّ بهِ
سيصير منازلّ آهِلة
وقصائدّ وأناشيدّ وحامية
أصغيت إليه
لمست أصابعّه
جبٌّتّه الصوفّ
عصاه
لمّست هواءّ يديهِ
ولم أستطعِ العّزْفّ
حملت النايّ وعدت إلي بيتي
أيامي كانت تزحف فوقي كاليّرّقاتِ
سّقيفة بيتي كانت تهبط حينّ أنام
وتكسوني بالعّرّقِ
وصوت الرجلِ الخارجِ يتبعني: يا عّبْد
فإن قاومت: يطاردني كي يطردّ عني الغّفْلةّ
يغويني أن أحشدّ جسمي في هاويتي
أن أحرقّه
وإذا يصبح فّجٌّ النورِ
أعفيه
يغويني أن أتأملّ فيهِ وآملّ
فتأمٌّلت
رأيت ثيابا لا يّلبّسها أحد
وعصافيرّ تّفِرٌ بعيدا عن أشجار الخوخِ
وتسعي أن تصلّ الصحْراءّ
رأيت فمي يحتاج إلي أغنية.
ذاتّ مساء.. مرقتْ روحي منٌِي
طارت كالعصفور الأزرقِ
هامت، تاهت في الأوديةِ
وصعدتْ فوق الجبل، ونزلتْ
غسلتْ رِجْليها في البحرِ،
انساب البحرج ومال علي جّنْبينِ ولم تتبعْه
وغسلت في الصحْراءِ يديها
ومّشّتْ نحوّ المدنِ
تباطأتِ الخطوات أمام مدينتها المحمولةِ
فوق سواعد كل المدنِ الأخري
وقفتْ تسأل عن زاوية
تجلس فيها امرأة
ترسم أحصنة
وديوكا
ونواقيسّ
ورِيْحا
ترسم ظِلاٌ للعصفور الأزرقِ.
ذاتّ مساء آخرّ
عادت روحي متْعبّة عّزْلاءّ
المرأة في مّرْسّمها تعمل
تصل الماضيّ بالمستقبلِ
والأزمنة تهرول من يدها، تنهال
كأنٌّ الحربّ هنالكّ تحبس كلٌّ الناسِ
وتختطف الأزمنةّ
وتضع عليها خّتْمّ الموتِ
وتوصِد بابا كان يجطِلٌ علي أزمنة سوف تّليها
لولا أن الحربّ هنالكّ
تأكل شجرّ الأّرْزِ
وتدنو من زاوية
تجلس فيها امرأة
ترسم أحصنة وديوكا ونواقيسّ ورِيْحا
وسراديبّ وبعضّ نوافذّ
ترسم ماء مجروفا وهواء بِكْرا
ترسم وّحْشا مثلّ الضٌّبْعِ
تكاد امرأة بيضاء ترّوٌِضه
ثم تّهيم وراءّ غيومي ومّسّرٌّاتي
فاستودعت مياهي اللزجةّ
واستنهضت مياهي المتمنٌِعةّ علي غير الفتياتِ المحبوباتِ
وهِمْت.. كأني الرجل الأول فوق الأرضِ
خلعت حذائي
وخلعت الأحزانّ
نزلت إلي بّهْوي سِرٌِيٌي لا يدخله الناس
وخِفْت كثيرا مما في أحزاني من ضوضاء
عدْت إلي ما يشبه وجهي
وإلي وجهي
لكن لم أستطعِ السٌّعيّ إلي قلبي
والغِبْطةّ والإنصاتّ إليه بغير النايِ
حملت النايّ إلي شّفّتّيٌّ
عزفت وجودّ الحجرِ
عزفت الثٌّلجّ الزٌّبّدّ
عزفت المّلحمةّ
الأيامّ الأولي
أطرافّ أصابعها
فّمّها
خاصرّتّيْها
النورّ الصاعدّ من بّشْرتها مثلّ النارِ
عزفت نشيدّ رجوعي من منفايّ إلي منفايّ إلي منفايّ
عزفت النومّ علي الأرصفةِ
النومّ علي جّنْبّيٌّ
النومّ كأنٌِي أخدود
وسقوطّ الليل علي الأشجارِ
الوقتّ الضائعّ
والوقتّ المتروكّ علي الجدرانِ
عزفت الخوفّ الناعمّ
كنت أري نفسي درويشا
يسعي خلف ظِلال امرأة
ترسم أحصنة وديوكا
كنت أري نفسي درويشا حقٌا
يجلس قرْبّ نوافذها
يشتمل علي أوراد الصوفيينّ
وأمنيٌّاتِ الحّمقّي
حين انتهت الحرب
رأيتج رياحي
تسعي قرْبّ نوافذها ثانية
كي تتدربّ أن تنساب إليها
كنت أحاول أن أفترشّ سمائي فوق حديقتها
أن أعبرّ نحو البّهْوِ
وأن ألتّفٌّ بلوحاتي ومناظر
أن تغشاني البّهْجة
أن أتلمٌّسّ سّقفّ البيت وإفريزّ النافذةِ
وأن أعتادّ علي فّرّحي
لكنٌّ المرأةّ بعد قليلي وقفتْ في النافذةِ
رأتني
أوْمّتْ بأصابعها العّشْرِ
تدانت مني
هاأنذا.. أحسست بأني مثل مّلاكي أّشْيّبّ
لم تتكلمْ
لم تسألْ عن شيء
كانت تضحك
قلبي صار بعيدا، تضحك
قلبي صار بعيدا جدٌا، تضحك
قلبي صار فضاء رِخْوا ونبيٌا منبوذا، تضحك
قلبي ارتجفّ
اهتزٌّ الناي
ترجرجّ ما بين الشٌّفتينِ، ارتجفّ
رأيت رياحي تنفّد
والرسٌّامة مثلّ الضٌّيْعةِ
مثلّ النٌّبْعِ
ومثلّ حدائقّ في آذاري
تضحك تضحك
أو تنصرف وتغلق كلٌّ نوافذها وتنام
وها أنا ذا ثانية..
أقف أمام جهاتِ الأرض جميعا
لا أتحايل
ليست تهبط آونة ومنازل
ليس الضوء الآخر
ليس هواء أسود وهواء شّفٌّاف
ليس الحّمٌّالونّ بدائرةِ الجغرافيا
وحدي أقف
وخلفي بعض فراغي
يكبّر حتي يشملّ كلٌّ جهات الأرضِ
ليّفْنّي خلف حدودي المتراميةِ إلي أعلي
فأصيرّ كمِثْلِ الوّحْشةِ والنايِ المكسورِ
أصير كمِثْلِ الماءِ الضائعِ
لا يسكبه العاشق والمّلآن
ولا يتخلٌّي عنه
ولا يستقبله يّنبوع
خذنا يا ألله إلي التٌّجرِبةِ
ولا تحرِمْنا منها
نحن اثنانِ
ونحن الواحد والواحدة
ونحن الذٌّكّر العالق باستخفاءِ الأنثي
والأنثي الظٌّمْآنة لاستسلامِ الذٌّكّرِ
ونحن الخير
ونحن الشٌّرٌ
ونحن القوة والجّبّروت
ونحن الضٌّعْف
ونحن الرٌِقة
نحنج قّطيع البّشّرِ
ونحن الاستثناء
ونحنج الألِف ونحن الياء
ونحن بقايا ماضينا المّنْسِيٌِ
وماضينا المذكورِ
ونحن أوائج مستقبلِنا الناحلِ كالعصفورِ
ونحن بخار الماءِ الجاري
من أغوار التٌِيْهِ
إلي أغوارِ التٌِيهِ
ونحن الراعي الهائم
في ساحة راعيهِ
امْنحنا يا ألله البابّ الغائبّ من أبوابِ الجّنٌّةِ
حيث الداخل فيهِ
يكون كمِثْلِ العائدِ نحوّ الأرضِ
يكون العائدّ نحوّ الأرضِ
وليس كمِثْلِ الوّحْشةِ والنايِ المكسور

شاعر من مصر