هذه السيرة رحلة ثرية بألوان الترحال، وبحكم امتزاج المصري بالفلسطيني باللبناني، لكن أساس التميز هو الطريقة الحميمة التي كتبت بها رندا حكاياتها، بدا لي أنها تترجم بالكلمات ما درسته واختبرته في عالم الصورة: التكوين مهم بكل تفاصيله، ولكن لا يمكن أن تقدم ما وراء الأشكال، إلا إذا عرفت البشر والأماكن.

جبل الرمل. ذاكرة خصبة لا تزول

محمود عبد الشكور

 

هذه السيرة الذاتية تترك فى نفس قارئها أثرا لا يزول، مصدره قدرة الكاتبة على أن تستقطر التفاصيل والذاكرة الخصبة، وأن تكتب بالكاميرا مثلما تصور بالكلمة، تشغل الذكريات سنوات طويلة، ولكنها حكايات منتقاة بعناية، ذاكرة درامية إن جاز التعبير، إنها حكاية وطن، وأوطان، من خلال حكاية عائلة.
اختارت رندا شعث؛ وهى مصورة بارزة ولامعة، أن تحمل السيرة الصادرة عن دار الكرمة اسم «جبل الرمل»، الجبل بالقرب من بيت الجدة فاطمة، فى المندرة بالإسكندرية، تنقلت رندا فى طفولتها بين الإسكندرية فى إجازة الصيف، وجاردن سيتى بالقاهرة، حيث الإقامة، ظل جبل الرمل موجودا تغوص فيه قدما الطفلة التى ولدت لأب فلسطينى ولأم مصرية، ظل شاهدا على صمود الزمن، ولكن السيرة تنتهى باختفاء الجبل، تسرب من الساعة الرملية، وظهرت العمارات العشوائية، ما بين حضور الجبل وتيتة فاطمة، ثم وفاة الجدة وغياب الجبل، تروى رندا، وتنشر صورا، لا تقل كلاما أو بلاغة عن النص.
حضور الجدة المعمرة أشبه بجذع الشجرة الذى يحمل النص كله، ولكن شخصيات أخرى تشكل عائلة تقاوم الشتات، رندا ولدت فى أمريكا حيث كان والدها يدرس للحصول على الدكتوراه، سنوات قليلة فى الطفولة لاتزول منها الذكريات، سواء فى القاهرة أو الإسكندرية، ثم سنوات قليلة أخرى فى بيروت، كان فيها الأب والأسرة معرضين للخطر، الصراع مع إسرائيل فى ذروته، ثم عودة جديدة إلى مصر، تذهب راندا بعد التخرج إلى الولايات المتحدة للدراسة، تعود إلى مصر من جديد، تسافر لمدة عام مع زوجها السابق الأمريكى للتدريس فى الجزائر، ثم تعود مرة أخرى إلى القاهرة.
هى إذن رحلة ثرية بألوان الترحال، وبحكم امتزاج المصرى بالفلسطينى باللبنانى، لكن أساس التميز هو الطريقة الحميمة التى كتبت بها رندا حكاياتها، بدا لى أنها تترجم بالكلمات ما درسته واختبرته فى عالم الصورة: التكوين مهم بكل تفاصيله، ولكن لا يمكن أن تقدم ما وراء الأشكال، إلا إذا عرفت البشر والأماكن، والمعرفة هنا قوية وباقية وواعية، لذلك جاءت الصور المكتوبة فى قوة الصور الملتقطة، واضحة المعالم، ومليئة بالدراما، تحتفى باللحظة الإنسانية، وتحتفل بالأشياء، ولا تنسى أن تحلل وتتأمل الذات، والآخر.
وطنان، وجدتان، وشقيقان، وبيتان، وكاميرتان، طفلة تلهو فى الرمل، وتساعد فى عمل الكحك، ومراهقة لا تلتفت للمراية فى الشارع، وصحفية تحمل الكاميرا إلى غزة ويافا، تبحث عن بقايا قطار قديم، وآثار بيت الأب، تنقل معاناة الدخول إلى وطن على مرمى حجر، لديها شعور قوى بهروب اللحظة، واهتزاز الأرض تحت أقدامها، يتشكل الوعى وسط ظروف حرب وسلام عاصفة، وتبقى تيتة فاطمة المرفأ والملاذ، فى نهاية السيرة تنظر رندا فى المرآة فترى الجدة، وترى الماضى كله، الذاكرة مرآة للذات أيضا، والحكاية بلا نهاية، أصوات الحوارات القديمة تقتحم النص، تؤكد حضورها الدائم.
فعلت رندا فى كتابتها المدهشة المؤثرة ما فعلته فى صورها: ضبطت العدسة، اختارت التكوين، أوقفت اللحظة وقامت بتثبيتها، أخرجت الصورة الكامنة فى العتمة، ثم أظهرتها وبروزتها، صورة كبيرة ضخمة، فى وسطها تيتة فاطمة، وأولادها وأحفادها، بجوار رندا الأب والأم والأشقاء والأحفاد، فى الخلفية حدائق ورمال وبيوت قديمة مصرية ولبنانية وفلسطينية، لو كان للصورة صوت لسمعنا فيروز، والشيخ إمام، وأم كلثوم، وأهازيج ريفية فلسطينية، وصوت العودة يدندن بجمل بسيطة، تنقل طعم الحنين.
المشروع كله عن الذاكرة، ولكن انتقاء المواقف له دلالة، أشياء حفرت أكثر من غيرها فى القلب والعقل، أو لحظات يمكن الإمساك بها، ويمكن أيضا التعبير عنها بشكل أفضل، أما الزمن فهو محسوس، مروره ملحوظ، وأثره على البشر وعلى الكاتبة واضح، طفلة تلهو صارت تدريجيا تمثل الصوت المقبل من البيت، أصبحت تدريجيا أما بديلة للجميع، فى قلب الرحلة لحظات الثورة، وساعات انتظار فى استقبال الفدائيين الخارجين من لبنان إلى اليمن، وفيها كواليس مؤتمر مدريد، وتجربة رفاق الكاميرا والمهنة، العائلة حاضرة دائما، تصنع راندا عائلة وأسرة فى كل موقع، وفى كل مكان.
«
جبل الرمل» سيرة تؤكد أن الكتابة الصادقة والحميمة عن الخاص، هى بالضرورة كتابة عن العام، عن الآخر، وعن الزمان والمكان والأوطان، يذهب الرمل والجبل، وتبقى الذكريات محفورة لا تنمحى، يصبح المعرض شاهدا على الصور، مثلما تبقى صفحات الكتاب شاهدة على الكلمات.

 

الشروق المصرية