ينسج الروائي والقاص المصري عالم روايته من شخصيات متنوعة من مختلف الشرائح والطبقات يصورهم في مقاطع قصيرة لها بنية القصة القصيرة مركزاً على مفاصل حيوية في صيرورتها ويمزج كل ذلك بمناخ وبيئة القرية ومآسي الحرب في الجبهات بالخرافات والسحر منحازاً للإنسان في مخاض التجارب.

مزرعة الجنرالات (رواية)

عبد النبي فـرج

 

تَوْطِئة
(1)

أنا الراوي؛ الذي ظللت اكتب طوال حياتي المديدة، ولا أعرف لماذا استمرَرْتُ في الكتابة طوال هذه المدة؟ هل هو تنبيه لغافل كما دلنا الأقدمون؟ أم هي رغبة في الحكي، لاستعراض مهارة ، أم أن هذا الفعل "الكتابة" نداهة تختار من تختار وتسحبه إلى فخها، وتستنزفه بالقوة لا بالاختيار؟ وإن كانت - في كل الأحوال - محاولتي لنشر هذه الأوراق نوعاً من قهر ذاتي حتي أوافق وأقوم بنشر هذه المادة. فكرت بالفعل فيما فعله أبو حيان التوحيدي الذي أحرق مؤلفاته ، أو أوصى بحرقها كما فعل كافكا، ولكني استصغرت هذه الكتابة بالمقارنة بهذين العملاقين. بدأت في كتابه هذه الشذرات، التي قمت بتشذيبها مرات يصعب عدها، حتي أصبحت على ما هي عليه الآن.

أتذكر يوم فكرت في الكتابة وأنا صبيّ، بالضبط يوم كنا مجموعة من الصحاب وكنا الأشد شقاوةً ، فلا ننام ليلاً أو نهاراً. كانت الشياطين تنام الظهيرة، ونحن نسرح في الأماكن المهجورة ،عند المشرحة نصطاد سحالي، ونقوم بتكسير زجاج فصول المدرسة وتقطيع الزهور والورود من سرايا "الست" أو نتلصص علي شقق المهاجرين. وذات يوم قال صديق:

ـ تيجوا نوقعوا عربية البودفر اللي تحمل التين من سيدي عيسى موسى

وفرحنا بالفكرة حتى أنني رقصت من الفرح والنشوة.

ـ فُكيرة، فُكيرة ...

بدأنا الصياح والرقص، علي وقع الكلمة. كانت هذه أعظم وأخطر فكرة راودتنا، فكنا بهذا الفعل نسبق كل ما قامت بيه العيال قبلنا، واخترنا مكاناً منحنياً، حيث لا أحد يرانا ونحن نحفر الخندق الذي حرصنا أن يكون بعمق حوالي مترين، في طريق عجل السيارات البودفر التي تحمل أقفاص التين من "المردة" بجوار سيدي عيسى موسى، ثم غطيناها بالحطب وفرشنا فوق الحطب شكائر فارغة من الإسمنت وساويناها بالتراب ولبدنا في الذرة في انتظار ماذا سيحدث؟

مرت السيارة الأولي ، تنوء بحملها، وعندما مرت على الحفرة ، وانحرفت على جانبها، سقطت مرة واحدة وتبعثر التين وتحول معظمة إلى عجين، ومات في تلك الحادثة ثلاثة من عائلة واحدة، وخمسة من باقي العائلات، ولم ينج سوي رجل قصير ضئيل كحشرة. يبدو عصبيا وقد خرج من الكابينة مغبراً، يجري في المكان دون أن يدري لماذا ؟

ثم يعود ينظر إلى القتلى، وبعد فترة يبدو أنه تذكر أن السائق، مازال محشورا في الكبينة، ينازع الموت.

تقدم من السيارة وأخذ يحاول فتح الباب، وعندما فشل، مد يده واحضر كوريك السيارة، وأخذ يضرب في الباب بعنف، حتي انكسر الباب، شد في الرجل فوجده محشوراً بسبب تطبيق صفيح الكابينة على بطنه، أخذ يشد ذراعه بقوة، وعنف، والرجل يئن بصوت خافت، حتى سقط علي الأرض، وذراع الرجل مسلوتة في يده والدم ينزف منها، كان يأسنا بالفعل حتى ينظر إلى المجهول وفي يديه يد الرجل لم يرمها حتى تحولت في يديه وكانها عصا يرقص بها، يخاطب المجهول ويشاور بيد الرجل وقد أصبح في أشد الحالات جنونا، ونزقا، خرج يصيح:

"ليس أمامنا خيار سوى شن الحرب" ، لضمان مستقبل أقرب للماضي، الذي يحمينا من الفناء، ثم سحب بندقيته ورفعها علامة النصر وأخذ يلقي بقصيدة شعبية في تبتل روحاني:

"كلمة الرب هي بندقيتي المصوبة علي رأسك ليس أمامك خيار."

واندفع في شوارع البلدة، يحصد رؤوساً، بقوة السلاح، ولم ينته النهار إلا وعشرات القتلى أشلاء في الشوارع.

ومن يوم المعركة وأنا أشعر بأني مدين ليس لهؤلاء القتلى فقط بل مدين لهذه البلدة.

وأعترف بأنني، على رغم العمر الطويل الذي عشته، لا أعرف إن كنت رددت هذا الدين أم لا، وفعلت الواجب، الذي أنا في الأصل مدين به، لهذه البلدة، وإن كنت أردد في شبه يأس أبدي، وبروح مشتتة وفي غاية القلق:

"هذه البلدة تستحق *الكثير مما هي عليه لأنها أم عظيمة"

ما هذه الحياة إلا متاع الغرور كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ

محمد سليم

...................

هوامش

* بتصرف من كتاب عالم ماك

* برنار لويس مفكر أمريكي معاصر

 

العزل
كان مريضًا وزوجته تضع القماش المبلول على رأسه، وتنزلها جافة خلال ثوان، لم يكن أحداً موجود، في هذا السكون. سمعت جلبة خارج السرايا. نادت الخدم. لم يجب أحد، تنادى وهى تنزل درجات السلم والخبط اليائس يزداد على الباب، فتحت الباب،

بدا المكان أمامها خارج السرايا يعج بالفوضى، وشقيق البيه يسقط على عتبة الباب، وجسده يطلي باب البيت، بالدم، جراء طعنات كثيرات تلقاها في جسده.

يعافر لكي يصل صوته إلى السيدة، التي لم تجد مفراً من الركوع على ركبتيها، والاقتراب بأذنها من فمه، لكي تميز الحروف، إلى أن أحيطت بالرسالة المشؤومة، وغيب الموت الشقيق،

تركت الجثة لمصيرها وصعدت درج السلم، وكأنها في سباق للجري.

السيدة دخلت على زوجها، وقالت بوضوح وثبات:

- سيدي إن أهلك يذبحون كالخراف.

نظر إليها وانتبه، وأن لم يبدُ عليه الانزعاج وكأنه رأي تلك الأحداث الجسام في الحلم، رأي السكاكين تخرج من مكامنها والشراشر، والمطاوي، والشوم، والمحرومين، مندفعين في الشوارع، يكشطون الرؤوس، يبقرون البطون، يندفعون بتصميم وإرادة .. كان يعرف أنها موجودة

ولكنه استلم التركة هكذا وكان من المستحيل تغيير شيء، ترك نفسه للعبة القدر، القدر هذا الإله الصامت الذي يدخل ليجري الجراحة السليمة، في اللحظة المناسبة.

كان يرغب في هذه الساعة أن يتم تدمير كل شيء فالمكان فسد وأصبحت روحه عطنة ولن يحيي هذا المكان سوى النار.

جف عرق المحموم وكأنه فى انتظار هذا الخبر لكي يقوم من مرضه كالرمح، لا يفكر في شئ سوى الذهب والمال الذي جمعه في كيس.

ارتدى ثياب امرأة، وزوجته تتبعه وخرج من سرداب سرى يؤدي، إلى الحظيرة.

رفع الزوجة علي حصانه المحبوب، ووثب عليه واندفع الخيال بالفطرة، في قلب ليل يعرف شفرته ومكان خبر مزالقه وحواريه حتى خرج من المدينة ودخل في عمق الصحارى، بين جبال قاحلة وليل بلا نجوم وغناء طيور لا يبين.

مر يوم وثلاثة، يندفع في مسارب يعرفها من خلال رحلات الصيد، وناس عقد معهم صداقات، وتآلف، إلى أن حط رحاله جوار بئر ماء.

أشعل نارا وترك الزوجة تعبِّد مكان النوم وسحب البندقية وغرس فيها الرصاصات وداس على الزناد فانطلقت رصاصات في الكون فتساقطت طيور قريبة منه،كل رصاصة تتبع صوت طير يصلح للهضم بموهبته، التي أُرغم على إتقانها ضمن أشياء كثيرة خزنها داخل ذاكرته، في رحلته الطويلة مع الحياة، والتي لم يملك فيها شيئاً مُلكاً حقيقياً سوى روحه، فقط أن ينسل خلسة ويخرج الخنجر ويغرسه في العروق، وللأسف هذا الخيار هو الوحيد الذي يعرف جيداً، أنه لن يلجأ إليه أبدا فهو ليس فقط محباً للحياة، بل يريد أن يفهم هذا الكون، ولذلك اتخذ من هبة الحياة فرصة للّعب مع من.. لا يدرى، ساعده على ذلك جسارة بلا حدود، اكتسبها خلال مسيرته الطويلة في البلدان، وقهر مر تجرعه قطرة وراء الأخرى.

في الصباح ذهب إلى البدو ودخل خيامهم وسامرهم وخلق انتماءات وشبكة نسب خرافية، تبدأ بمصر ولا تنتهي في ليبيا أو السعودية، حتى أمن شرهم خاصة عندما خايلهم بالذهب الحر، واشترى خيمةً كانت من أغلى الخيام في العالم من البدو مقابل قطعة ذهبية.

يتجول بحصانه إلي أن عرف ماذا يريد بالضبط، أن يثبت نفسه في هذا المكان البكر، تزوج من البدو ثم استزرع وسط هذه الصحارى حقلاً من الدخان وبنى سرايا، وسوراً حول السرايا، واستقدم حراساً مأمونين وكلاباً سوداً قوية مدربة وخدما وأسلحة متنوعة ومغنين وخمراً وحفلات وزوجات عديدات تحت اسم جديد.

أخذ يفكر في اسم يبدأ به وينتهي. هذا الاسم سيكون اسمي.. اسمي الحقيقي جوهري، أريد أن أضع في هذا الاسم كل حياتي، مخزون تاريخي السري الذي حملته في أسفاري. ركب المحبوب وخرج في الليل وسط الصحارى، يفكر في اسمه وكيف يزرعه في هذا المكان، هذه الأرض، لكي ينمو مع الأشجار مع الحشائش مع الورود مع الشوك، تحت صقيع الشتاء ولهيب الصيف، لكي يكون لهذا الكيان وجود يستحق الدفاع عنه، حتى لو مت دفاعاً عنه فسأكون أنا الكسبان في تلك الحالة. أخذت الأسماء تترى أمامه يبحث فيها عن اسمه الضائع، يونس، صقر، محمد، سعد، صابر.. دخل على زوجته وسحبها من ذراعها ونظر إليها وسألها أنا اسمي إيه؟

قالت له بدون تفكير. أنت الملك.

ضحك بقوة في السرايا. أنا الملك، فليكن. أنا الملك..

وأخذ يردد في كل يوم أنا الملك حتى أصبح بالفعل لا يعرف اسماً له سوى الملك. وفرض على الآخرين مناداته بالملك، لا ينام، ويعمل كالثور لكى يزيد من سطوته على المكان، حتى أصبح من المستحيل أن يرى فيه الناس سوى الملك الذي يدير مملكة في بقعة هائلة من الصحراء، التي يستحيل أن يدخل أحد هذه المملكة دون إذن منه. أدار هذه المملكة بذكاء فريد متمثل في استقدام العمال المهرة والمهندسين والآلات والدهاء والرشى والكرم الخيالي. لذلك لم تكن هناك ثمة شكوى واحدة ضده، لكن الذي لم يكن فقط يؤرقه بل والذي يكاد يودي به إلى الجنون هو علمه أنه بمجرد موته سيتم تفكيك هذه المملكة.

وجد الحلول لكل شي واقعي إلا تلك المشكلة، فغياب الأبناء الذكور الذين بناهم في ذاكرته كما أراد، يشقيه، وكلما زاد من سطوته على المكان، عرف أن دودة العطب تكبر، وفمها البشع ذو الكلابات المقرف، يصبح في حجم المملكة.. أي خلاص وكيف يمكن ذبح هذه الدودة اللعينة؟ القلق يزيد من توتره وعنفه.يجعله يتخبط ويصدر قرارت خاطئة وعندما يسكن أخر الليل يعيد ترتيب اليوم فيجد كما هائلا من الأخطاء وفي الصباح يقوم بتقويم كل شيء.

 

(2)

في الأربعين ممتليء طويل عفي، شاربه أصفر رفيع مبروم، مغرم بالنساء بصورة وحشية مع أنها لم تكن فى يوما من الأيام مصدر ضعف له، فالثروة والقوة أتاحتا له فعل متع ولذائذ فريدة. وفى تتبعه للنساء في الحفلات، التي يقيمها ويدعو فيها رؤوس العائلات وأصحاب النفوذ من داخل السلطة المركزية التقى فتاة صغيرة لا يعرف ما الذي أعجبه فيها، داخلها روح تخطف، ساحرة تزوجها وتمنى أن تكون الخاتمة، تلف له سجائر التبغ وتشعل البخور في القصر وتغنى غناء شهوانيا، وكأنها تعلمت علي يد شيطان خارق وترقص رقصات ساحرة، وتضرب على العود وآخر الليل تدعك كف رجله، وبين المفاصل ولحم الفخذ حتى ينام.

اليوم أرق ولم تفلح الصغيرة في تسكين الشياطين المسعورة داخله، أزاحها من على رجليه وخرج يدور في المكان.

في هذا الليل الذي بلا نجوم سوى شموع تضيء قصره في قلب صحارى مرعبة. وسار وسط حقول الدخان ولف سيجارة وأشعلها ضجراً وغير مقتنع بأن يكون عاجزاً

كيف؟! لابد من حل.

صوته يرن وقلبه مفعم بالكراهية تجاه البشر، الكون.

كيف... كيف؟ هل هو قانون؟ هل هذه هي العدالة؟

بدا على شفا الخبل، وشعر بأنه ليس من الضروري أن يكون له سلسال ممتد لكنها الكبرياء... كيف يكون لرعاع البشر ما لا أستطيعه؟ كيف؟

عاد إلى السرايا مرة أخرى، يدور من غرفة إلى غرفة، ومن ممر إلى ممر، لا شيء بتاتاً، شيء مثير للجنون، سحب الصبية من غرفة من الغرف المغلقة وسار بها في البهو وأجلسها قبالته ينظر إليها والى جمالها المرعب، طلب منها أن تلبس قميص نوم أسود، وتدور في البهو، الممرات، الشموع يفركها في يده حتى عم الظلام، ما عدا شمعة، جلس على الأرض سحب شريطاً من الشاش، ولف به أصابعه واحداً وراء الآخر، حتى انتهى ثم غمس أصابعه في الجاز وأشعل فيها النار، ثم أطفأ الشمعة الأخيرة ولم يبق ضوء في القصر، سوى أصابعه المشتعلة يدور في القصر، يكفر عن خطايا لم يرتكبها، يسكر وهو يشعر بوحشة مرعبة وإرادة أن يقبض على هذا العالم كله في يده ويسحقه، نادى الصغيرة الجميلة المفعمة بالشهوة أتت تجري وإحساس مخجل ومربك ينتابها، جسدها مكبوت برغبة تجعل الدموع تتساقط من عينيها بعدم إرادة منها، رأته صرخت صرخة خوف متهتك، وهى ترى النار تلتهم لحمه.كان عارياً وهى تنظر إلى عينه وصفائها الغريب، وسكون وجهه الذى جعله فاتناً فخلعت قميص النوم الأسود وارتمت في حضنه تشده إليها، وقد تحول جسدها إلى كائن حي مفتوح وفاجر، قادر على احتواء العالم، وليس جسد رجل تستطيع أن تحزمه بيديها، ضاجعها..

النار تلتهم كف يده وصراخ يهز القصر المعتم من الألم واللذة وعندما انتهيا كانت كف يده متفحمة وعلى جسدها خطوط من اللهب الأحمر.

 

(3)

خرج من القصر جسده محترق، مرعوبا من أفاعيل القدر، والأكثر رعباً هو عدم التيقن من ذاته، م هذه الروح التي تبلدت بكم هائل من النهم، هذا السعار الذي يأكل بدأب ، سوس ينخر حتى النخاع، هذا الجنون الذي مارسه وصل من خلاله لأكثر الأفعال إرادة وقوة. الآن يحس أن هذا خواء، قمة الضعف رفع يده إلى السماء، كان الصقر المجنح يحلق فوق رأسه، يتيه في الكون بزهو منتصر.. من تكون؟ أنت شرك أم أنك واحة الروح ويقين النهار.. هل أنت بشري أم نذير شؤم، سنين أيها الطائر فوق رأسي.. حاولت خلالها أن أمزقك، أن أنهي أسطورتك، أن أدوسك.. أنا الصياد الذي لم تطش له رصاصة، طاشت رصاصتي وقفت تحلق لتذكرني بفشلي. اليوم أنا حذفت أي فكرة لإسقاطك، هل لأني سقطت في هوة اليأس والفشل أم لأن باب المعرفة انفتح بالكامل وبان الكون واضحاً أمامي، بل في قبضة يدي، وتيقنت في كل الأحوال بأني خاسر؟ أم أنت تميمتي ونجمي في السماء الذي يرتبط معي بليال جميلة، حتى العنف والقتل وإهدار الحياة.، أنا أكلمك والزمن الطويل يجعل ما بينا ألفة فلتنزل إليَّ.. قل لي هل أنت رمز؟ طائر عادي تافه؟ أم روح شريرة تدفعني إلي الجنون إلى الشر الكامل باعتباره اليقين الكامل؟ جلس علي الأرض باركا مثل جمل مهدود، أشعل سيجارة وأخذ يتنفس في هدوء حتى غفا. السيجارة في يده، ويده الأخرى تنتفض:

ريح تندفع محملة بغبار أبيض أخفته داخله و عندما انتبه إلي ذلك وجد نفسه في أرض رطبة، وقد انفصل عن ذاته. ورأى نفسه تحت شجرة، نطق..

أنا في حلم حسن، وهذا القمر المنير منير، وهذا الكون الخالي من الريح يدل علي ذلك. هذه فرصتي، لأعرف كل هذه الرموز التي تحيط بي، يجب أن يتضح كل شيء؟

بدا الكون وكأنه عاد إلى سيرته الأولى، فراغ بالمطلق،

أنا لست آدم، حتى لو كنت آدم، فآدم مرتكب الخطيئة كانت معه زوجته، كما أنني متيقن من كوني في حلم، لا يمكن أن تكون هذه الحياة بكل هذه المتاعب ويكون الحلم أيضاً. أعلم أن الموت أمر محتوم، وأن حياة الإنسان ما هي إلا جزء من دورة مستمرة مع الجهل بالمصير ولكن أن يتحول الحلم إلي سكون تام، سكون عنيف وليس كشفا، هذا هو العنف، هذه هي المتاهة الكابوسية..

الصقر المجنح تحولت أجنحته إلي أجنحة نحاس، يضرب بقوة ويطلق صوتا في غاية الوحشية والجنون.

أخذ يجري والطيور تتبعه والنمور وفيلة، حُمر وحشية. يجري حتى وجد نفسه في مستنقعات يدوس الديدان الصغيرة والأفاعي والعقارب والجعارين. أحس بأنه مستباح وأنه في طريقة إلى الظلام الأبدي،

أخذ يجري بقوة وجد بناء علي هيئة معبد اندفع إليه باعتباره الملاذ، دخل يجري، وبرغم ما به من وحل تغوّل في المعبد، يدخل في الغرف يبحث عن شيء فلا يجد شيئا. الفراغ مطبق من كل الجهات، حاول أن يعود مرة أخرى، ولكن غُلّقت الأبواب، أخذ يبحث عن منفذ، لم يجد إلا شرخا وسهم الشمس أظهر بصيصاً من الضوء جلس على حافة الضوء وأخذ يفكر فيما سيفعل..

 

المقاتل

تسلل تحت ستار ليل معتم، بعد أن ظل ثلاث ليال تحت وطأة قصف صاروخي مركز، فقد فيه الرفاق المياه والتعيين. يتحين أية فرصة لتسكت المدافع. وعندما لم يجد فائدة قذف بنفسه خارج التحصينات والدشم والسواتر الترابية. يجري وهو شبه غائب عن الوعي، يتقلب بين رصاص الأعداء باعتباره هدفاً مميزاً حتى أصبح المكان مكشوفاً أمامه، يسير على سهل منبسط وعار إلا من العقول والعكرش والشييط.

تلفت لم يجد أحدا

عندها اكتشف أن الضجيج الذي يمور ويتخبط في رأسه عبارة عن مخزون حمله معه من أصوات المدافع والطائرات والمجنزرات، وعندما تبددت الأصوات، سقط علي الرمل في يأس أبدي، وسط صحارى شحيحة بالمياه، وثرية بالأفاعي والثعالب، وكلاب متخمة من الجثث المتناثرة، وعقارب وحشرات صغيرة: نمل، فئران، جعارين، خنافس. جوع قاتل وعطش وإنهاك، ولولا القدرات الخاصة التي يمتلكها وتدرب عليها ليالي طويلة ولم تتح له الفرصة بعد لتجربتها مع الأشرار...

ملحوظة (طول ما انت طبال وأنا زمار الأفراح بيننا كثيرة)؛ ولذلك أول ما فعله بعد غفوته المؤقتة مع الموتى، وكان الصباح قد بدأ ينشر ضياءه على الكون أن ركع علي ركبتيه شكراً على النجاة، ثم رفع يده وأخذ يبتهل إلي الله امتناناً ورضى.

وعندما تراءت له مجنزرات العدو وهي تسحق الرفاق المقيدين شعر بالأسى وأزاح الذكرى بيده، وسار يمص الندى من على أوراق الأشجار الصحراوية ثم تتبع بعينيه الكائنات والدويبات الصغيرة. التقط سحلية بخفة لص وهضمها، ثم سلخ فأراً وقذفه في فمه.

وفي سيره الطويل كان يلقّط رزقه من جيوب الجنود الممزقة أجسامهم، وسحب المحافظ من مشوّهي الوجوه، ومقطّعي الأذرع والمجرودة لحومهم بفعل النسور، وكانت الحصيلة بالفعل جيدة.

عندما حلّ المساء صعد إلى سيارة جيب، وحمل منها الجثث المتعفنة، ونظف البطانية من الدم والدود العالق بها، و كَنّ في السيارة المعطوبة.

وفى الصباح استرد عافيته تماماً، و كل همه ألا يتجه ناحية العدو، فاستخدم الحس كبوصلة، وبدأ يرى خيمة، أحس بالراحة عندما دخل وقد استُقبل بترحاب، وظل هناك يومين، انطلق بعد ذالك في سيارة منسحبة تحمل بقايا جند مهلهلي الملابس تبدو عليهم التعاسة. وفي الطريق تلقى هبة من الشمس تولت روحه وجسمه إلي أن وصل إلى البلدة وهو علي حافة الموت وقد أصبح محموما يرتعش مذعورا غارقا في غيبوبة، وكان ينتفض انتفاضات ذبيح زاعقاً: دثروني... دثروني...

ثم هتف بآيات من القرآن بداية من سورة يوسف، خاصة الآيات التي تشير إلى الأيام الذي لبث فيها يوسف في الجُب، ثم الفاتحة إلى الانفطار، ثم العودة إلى سورة آل عمران دون أي التزام بالترتيب الصحيح للآيات، والذي زاد الطين بلة هذا الخلط في القراءات وكأنه في صحوة الموت. قام نصف قومة وكأن لياقته البدنية قد عادت إليه في أوجها وأخذ يردد في عبارات سليمة واضحة

ـ اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وهواني على الناس.

ثم سقط في غيبوبة استمرت أياماً وبدأ يفقد الكمية الكبيرة من الشحم الذي يكنزه جسمه، وبدأت تزداد الهالة السوداء تحت عينيه حتى أن الأب بدأ يفقد الأمل فى العودة مرة أخرى من عالم الأشباح، فدخل غرفة التخزين المعتمة واستغرق في بكاء مرير على الحلم الذي ضاع، ثم أخذ يضرب رأسه في الحائط.

كان عليّ أن أموت أنا. كان عليّ أن أدفع الضريبة.

أُنهك فمسح دموعه لكي يصلب عوده أمام الرجال، ثم طلب من أبناء العم في إرسال تلغرافات للمغادرين في شتى أنحاء العالم من أطباء ومهندسين وزراعيين وفنيين.

وتم فرش الشوارع المحيطة بالبيت ومنظرة العائلة بالرمل، وإحضار الشيخ عمر لكي يقرأ القرآن، على رأس الشاب زينة العائلة والبلدة، ولكي تصعد الروح بسلامة وسلاسة ثم ذهب مع اللحاد، لكي يختار مقبرة جيدة، رغم أن الأنفاس ما زالت تتردد في صدر المقاتل، ورأسه على حجر الأم والتي تبل الفوطة بالماء وتضعها على جبهته الموقدة، توالي بالماء البارد دون أمل أو يأس. تؤدي عملها في صرامة وانتظام آلي وإن كانت تعرف قوة الابن ورغبته المتوحشة في الحياة، وأنها لا تتخيل أبداً أن هذا الجسم الفتوة قادر على الاستسلام للموت، فإرادته هي التي ستنتصر

وكل ما في الأمر أن الجسم أراد هذه الحمى لكي يتخلص من عوامل العطب الداخلي، لكي يصبح أكثر صلابة وقوة وعافية، وفي تلك اللحظة كان في أشد اللحظات العصيبة التي يمر بها، فقد كانت تهاجمه أشد الكوابيس شراسة وعنفاً، حيث كان يرى نفسه واقفاً على جسر من الخشب وكرة من النار تأتي من بعيد وتكنس الأخضر واليابس في طريقها إليه، لم يستطع أن يتحرك رغم رعبه ودهشته من أنه لا يفكر في ترك الجسر وهو في قلب النار.

كان يعرف أن النار لن تنال من وجوده، ورغم ذالك كان في حالة خوار مريبة؛ التفت إلى الأرض التي حوله فوجدها جرداء بلا عشب أو شجر وتصور أنه ما زال في أتون الحرب اللعينة وأن عليه الآن أن يدخل إلى الجحر حتى لا تناله رصاصة أو شظية.

-2-

في صراعه مع الأشباح خرج منتصراً وانتقل إلى عالم الأحياء بفضل دعوات السيدة الطيبة وقلبه البريء والذي لم يلوث بفعل الدنيا الفانية وعندما استرد عافيته اعتبر أن الفترة الباقية من حياته هبة من الله، ونذر جزءاً من حياته في خلوة دائمة إلى أن يشاء الله، ولذلك أول ما فعله أن ذبح عدة رؤوس من البقر وتم دعوة الأقارب "عليكم بالأقربين"

ووصل رحمه بزيارة لوجه الله، ثم قبل يد الأم وودع الأب و خرج راكباً حماراً، وبالخُرج أدوات الفلاحة التقليدية من فأس ومنجل وبذور وقُلة، وسار متجهاً إلى الغابات والأحراش والأرض البكر الرءوم التي في الخلاء المتاخم للصحراء، وعندما سار في شوارع البلدة خرج الناس من البيوت يودعون الشاب الذي يهدر زمنه مجانا"، ورغم ذلك يمشي صلبا كسنديان، خرج ولم يسمع نداءات وهتافات المظلومين والثكالى والمرضى والفقراء وقليلي الحيلة، خرج صاماً أذنيه عن أصوات الأطفال والصبايا الجميلات، وتقدم تجاه الأرض البدائية، وعندما انتهى إليها بعد بضع ساعات أراد أن يقف أمام ذاته، أنزل العدة وظل طوال النهار يحصن خصَّا لنفسه، خاصة أن المهمة قد تكون بسيطة في ظل هذه الغابات الشاسعة أمامه، وعندما جن الليل خلع ملابسه ونام في العراء، تاركاً جسده لجحافل الناموس التي أخذت تنهش فيه بقوة، حتى مزقت جلده، وقد قرر أن يكون هكذا مصلوباً، لكي يختبر صلابته رغم الدموع التي لم يستطع أن يمنعها من النزول. وفي الصباح كان يضرب الفأس في جذع الشجرة بقوة وعنف، ويجري في مساحات قليلة من الأرض، سرعان ما تزيد هذه المساحة، ولا يأبه ليده المقطعة ولا للصمت الحارق حوله حتى أصبح كقرد بالفعل، مغطى بالشعر خاصة أن شعر رأسه طال وأصبح يعقده في ضفائر كثيرة، ولحيته غطت وجهه، ولو رآه أحد من أهل البلد لم يكن ليعرفه بالمرة، ورغم ذلك يشعر بأنه مطارد ولا يعرف لماذا؟

يجلد نفسه لكي يتحول إلى إنسان نقي نقاءً كاملاً ومتفرداً، ولذلك أخذ يزيد من العبادات وكلما زادت تلاواته وأوراده أحس أنه مقصر، وأن هذه المهمة التي أوكل نفسه بها، تبين أنه بالفعل غير قادر على القيام بها ليس لأنه ضعيف ولكن لأن روحه معلقة بالناس،

هذه المحبة المفرطة تجاه البشر هي الحقيقة الوحيدة الحقيقية في حياته وما عدا ذلك هراء وقبض ريح...

ركب الحمار وترك قطعة الأرض المزدهرة بالزهور والفواكه والماء الجاري بعد أن ارتدى الخفيف من الثياب فبدا آتياً من عالم آخر خاصة أن سيماءه تحولت وكأنه نبي من البراءة الأولى... وعلى رأسه شال أبيض، وبالخرج قليل من الفاكهة.

وعندما وصل كانت تباشير الصباح تدفع الناس من بيوتها، وتلقي به إلى الشقاء الأبدي.

سال خبر وصوله كالطوفان في البلدة. وخرج الناس هادرين، كأن حالة سكر جماعي انتابتهم من تأثير الخبر، خرجت الجحافل تزحف بقوة في اتجاه واحد نحو الشارع الرئيسي الكبير حتى امتلأ عن آخره، وهو يدفع الحمارة وسط هذه الجحافل، وينظر بقليل من الامتعاض والسخرية وكثير من التعاطف، باعتبارهم غير مسئولين. كيف يحاسب الإنسان على شيء لا يعرفه؟

وهنا عرف الهدف وكان جوهر ما يريد، كان مستبطناً منذ مولده وكان يحتاج فقط إلى أحد يكشف هذا الجوهر وعرف أن المهمة تحتاج إرادة من حديد وجبروت. أشار إلى الحمارة أن تتوقف ودخل الجامع ثم صلى ركعتين شكراً لله.

صعد المنبر باعتباره الفقيه الوحيد في البلدة، خريج الأزهر، إضافة لكونه خطيباً مفوهاً وهذا ما ظهر جلياً في الخطبة التي ألقاها في يوم قائظ استمرت ساعات طويلة، وإن ظهرت بعض الأشياء التي عكرت مزاج الشيخ، منها ارتفاع صوت جاهل وكان بيته مقابل الجامع.

ـ خلص يا شيخ الكرنب هايبرد.

ـ ملحد!

همس بأن الشيخ ينفع في المسرح القومي.

خروج كثير من الشباب من الباب القريب من الميضأة، ولكن في الأيام التالية استطاع السيطرة على المصلين بقوة صوته وانتقائه الموضوعات المؤثرة فكان يصب جام غضبه على الخطائين والمنافقين والكفار الذين أصبحوا مسلة في خاصرة الإسلام.

أما النساء المتبرجات الكاسيات العاريات فكان لهن النصيب الأكبر، باعتبارهن سن الحربة الرئيسية في هدم أركان الإسلام. يزعق حتى يجعل المصلين وكأن تحتهم جمر، منذراً، متوعداً مما جعل الإغماءات تزيد والعويل الذي أصبح سمة رئيسية للمسجد حتى تغير اسمه من مسجد النور إلى "مسجد البكّائين"

خاصة عندما ينجلي فكان ينتقل بهذا الجمع العاصي إلى يوم القيامة وصفات الجحيم والسقوط المؤكد في الدرك الأسفل من النار الموقدة واستحلاب شجر الزقوم وانتهاءً بعذاب القبر الذي لم ينج منه أحد إلا المعصوم، وبعد السحل والجلد والتنكيل واستخدام الثعبان الأقرع كجلاد محترف من طراز رفيع وقتها يكون الأخوة المصلون في حالة يرثى لها حتى أن فتاة كانت تسمع الخطبة عن طريق الميكرفون غرست دبوساً في عينيها حتى لا ترى هذه الدنيا الغرور، وتم تكسير التلفزيونات باعتبارها رجساً وتمت هجرة جماعية من المدارس العلمانية لأنه لا وجود سوى للعلم الإلهي، أما ما يقع بعد ذلك في هذا العالم الواسع فهي فتون.

وانتشر النقاب بشكل وبائي، وبدت البلدة وكأنها في طريقها بالفعل للعودة إلى المثال الأول، والنموذج الأمثل للعالم الخالي من الحقد والكراهية والعنف وسيادة مفاهيم التسامح والمحبة والنقاء الخالص، بدءاً من المظهر وانتهاء بالمضمر.

- 3 -

بدأ نجم المقاتل يزدهر بصورة مذهلة، وجذب طوفاناً من البشر من البلاد المجاورة، وبلدته بالطبع، تحول فيها إلى ولي حقيقي، وتحول بيت الشيخ إلى مقر وقبلة المتنازعين فيما بينهم حول حدود الأراضي والري والمشاحنات بين الشباب بيني وبينك المقاتل.

في الانتخابات التشريعية كانت كلمته وحدها تعلي كفة أي مرشح. في أخذ الخاطر في الموتي، في وكالة العريس، أي عريس، فخر له أن يكون المقاتل هو الوكيل له، أن يكون الوسيط لطالبي القرب من بنات العائلة التي ينتمي لها، حتى أن بنات العائلة كن تحت المراقبة باستمرار فبمجرد ما إن تنضج فتاة حتى تجد أسراباً من طالبي القرب.

وسرت هناك شائعات كثيرة حول هذا التضخم المرعب في ثروات المقاتل، وقد قيل إنه يتاجر في المخدرات والبعض قال إنه ضمن شبكة ضخمة لتجارة السلاح، من هذه الشبكة صحفيون كبار، وإعلاميون، وسياسيون مؤسسون في الحزب الحاكم، وأولاد وزراء، وفنان كان واعدا في بداية حياته، ولكن ثبت بالدليل القاطع أنه متورط في شبكة دعارة ويمارس الشذوذ علي عينك يا تاجر، ثم بعد ذلك اتضح انه بريء براءة الذئب من دم ابن يعقوب.

ثم انفجر بالبكاء وقال أنا أصلي وأخرج الزكاة في رمضان. ومصرفي شارك في النهوض الاقتصادي العظيم والتي تتمتع به البلاد منذ فترة طويلة. وهذا الاقتصادي معروف بتطرفه لمصلحة البلاد فمثلا كان يساريا "ستالينيا" ثم أصبح رأسماليا "كنزيا" وكله في سبيل مشروع نهضوي يدفع بالبلاد إلي التقدم واللحاق بالأمم الناهضة.

وقد قيل إن وفداً سرياً من المركز، وهذا من قبيل الشائعات أنه وفد أمني يمثل الشرطة والمخابرات وأمن الدولة (حتى أن بعض عديمي الضمير يقولون إن الشيخ تمت زراعته في المكان من زمان لكي يتم به السيطرة على البلد وهذا كلام مشين وفاضح وينم عن أصول وضيعة) فالشيخ لا يملك بحق سوى "ذيل طويل طاهر"

عيب الأصول... أصول...

وخلال سنوات قليلة استأثرت عائلة الشيخ بالتوكيلات والمواد الغذائية والصناعية والبترولية والأدوات المنزلية والزراعية والصيدلة، ولم يبق للآخرين سوى المتاجرة في البرازع والغيطان والسلاسل والجبال، والشطة والكمون والكزبرة إضافة للخضروات، كما ظهر فائض ضخم من الأُجرية والخدم والباعة السريحة والحلاقين، لكن الذي يكبت الغل في القلوب هو هذه الكمية من السلاح الذي تملكه عائلة الشيخ، وإن كانت بعض العائلات، استطاعت تدبير كم لا بأس به من السلاح ولذلك زادت المشاحنات وضيق الصدر والتزمت، وقتل ثلاثة في السوق. طبعاً ليسوا من عائلة الشيخ.ز. لأن شعارهم كان

"إن مررت على خرّارة ارفع ذيل الجلابية".

كما أنهم يسكنون في جيتو ضخم صعب اختراقه بسبب الحراسة المشددة، والبودى جاردات والآلات الحديثة الخاصة مثل الكاميرات المراقبة. وعندما علم الشيخ بالحادث انتفض كمن غُرس في قلبه سكين، ورمى العباءة على كتفه، واعتلى المنبر وخطب خطبة مزلزلة.

خرج الناس من المسجد مستنكرين الفرقة والخلاف، ورغم ذلك لم تستطع خطبة الشيخ أن تقضي على بؤر التوتر والقلاقل، بل زادت الضغينة بين العائلات وسرعان ما قُتل تسعة بوسائل بدائية، والكارثة الكبرى أنهم كانوا من أكابر عائلة الشيخ، وبدا الأمر خارج السيطرة والذي وجد طريقه في حرق الغلال وتسميم المواشي.

وفي نهار عاصف كان التراب البرتقالي يردم البلدة، والرجال يزفرون في حنق، والشيخ دخل عليهم خاطباً مستفزاً أخلاق وشجاعة الفرسان التي هي خصال أساسية في تكوينهم والتي هي من شيم كرام الناس لكي يقضوا على الفتنة في مهدها، والتي ستحول حياتهم إلى جحيم. قال: يجب البتر من أجل تحقيق هدف مثالي يتمثل في الوحدة، الانسجام، التآلف، زعق، الحرب على مثيري الفتن والقلاقل، وخلالها خاض حرباً ضروساً باعتباره قائداً لا يشق له غبار، في معرفة فنون الحرب، وأساليب الكر والفر، أثبت فيها بطولات نادرة جديرة بأن تدرس في الأكاديميات العسكرية، ويتم نشرها على نطاق واسع، من خلال المجلات العسكرية، باعتبار أن هذا الإنجاز يمثل حالة فريدة لا تُقارن إلا بالقادة العظام ومن ينضم إلى الكتيبة المضيئة، والتي تكتب سيرتهم العطرة لكي تكون عبرة للأجيال القادمة...

وفي الصباح التالي، كانت حصيلة المعركة كالتالي: عشرة آلاف قتيل وسبعون ألف جريح وأربعون ألف عاهة مستديمة. واستمرت فرق الموت في مطاردة الفلول الهاربة والمواشي وتدمير المنازل ودور العبادة.

وبعد شهر من المقتلة، كان من الواجب الحتمي لقوات الجيش والشرطة الدخول إلى البلدة لحماية المدنيين، وكانت الخطة قائمة على حصار البلدة بجحافل من الجيش بجميع ألويته وفرقه، أما استباحة الطائرات لفضاء البلدة فكانت القبضة الحديدية للجيش في حصارها أشبه بحصار الفالوجة دون أي دعم مادي أو معنوي خاصة أن أم كلثوم كانت قد ماتت بالفعل، على الأقل لو كانت قيد الحياة كانت غنت للضحايا أغنيتها الشهيرة "غنّ لى شوي شوي... غنّ لي وخد عيني" وقام الجيش باكتشاف نفسه ومهاراته في الحصار وتم خلاله اصطياد أكثر من خمسة آلاف ما بين امرأة وشيخ وطفل، كانوا يحاولون اختراق الحصار لطعن الجيش الباسل من الخلف وليسوا مجرد أسر فقيرة هربت من هول المعارك الدامية والتي تحصن من خاضوها وراء السواتر والخنادق والأنفاق المعدة لذلك.

ولم يتوقف الحصار إلا بعد أن وافق أمراء الحرب على كل شروط الجيش بنداً بنداً، بتأمين خروج النساء كسبايا، في جماعات، عاريات بقمصان النوم، مستسلمات إلى الحامية، ثم خروج الزعماء العسكريين عرايا، إلا من ورقة توت تستر عوراتهم، ومصادرة كل الغلال، والمحاصيل والثروة الحيوانية، ونشر قوات في كل ركن، وزاوية، وشارع مع الحق في تفتيش منزل أي فرد في البلدة، في أي وقت ولا حصانة لأحد، وبالفعل وافقت رؤوس العائلات، على كل الشروط مع تغيير بسيط، أن الذي سيقوم بالإمضاء على وثيقة الاستسلام هم بدلاء مأجورون، باعتبارهم القادة العسكريين الميدانيين...

تغاضت القوة العسكرية عن هذا التزييف، تم غض الطرف خدمة لرؤوس العائلات "دخل الجنود والقيادات في بزاتهم العسكرية مجللين بالفخار وقاموا باستعراضات عسكرية غاية في الروعة والدقة والإتقان وشارك في العرض فرق الصاعقة والمظلات والمشاة وطابور المدفعية وسلاح المهندسين والمركبات والمدرعات والطيران تتقدمهم فرقة الطبل البلدي وإطلاق الأضواء الملونة، وانتشرت فرق الموت والتي تصيد الفتى والشاب وكل من كان قادراً على حمل السلاح، والدفع بهم للمركبات لكي يُجرى معهم تحقيق بسيط وتتم عودتهم مرة ثانية. وتقدمت البلدوزرات للإزاحة ورفع مخلفات البيوت التي تم تفجيرها لتوسيع الأوكار والحواري الضيقة، وتهديم كل التحصينات، وتقييد كل الزعماء والقادة وإلقائهم في المعتقلات والتنكيل بهم تنكيلاً مروعاً تم فيها قهرهم وتحطيم أي عزة نفس يمكن الإشارة إليها بعد قرن من الزمن. هذه الجراحة كانت ناجحة بكل المقاييس والذي يمكن قوله إن هذه المنطقة من العالم ستكون المنطقة الأكثر أمنًا واستقرارا ولن أقول مواتا "فهذه لغة الحاقدين".

-4-

خرج الشيخ وعائلته ورؤوس العائلات الثرية في البلدة بعد إغلاق الملف من مكمنهم والذي كان عبارة عن شبكة من الأنفاق والطرق الممتدة تحت الأرض، إلى أماكنهم في القصور التاريخية والفيلات والبيوت الكبيرة والتي تربى فيها رجال شجعان فتوات وحرائر من الفتيات، كانوا مفخرة في طول البلاد وعرضها. وكان أول ما فعله الشيخ أن طهر المسجد من الأوثان وحطام الشبابيك وتمت إعادة تركيب النجف واللمبات وإعادة طلائه وغسل المسجد بالطيب والعنبر والياسمين، ثم صعد الشيخ المنبر وكان طيبا سليم الطوية يفيض كلامه بالبشر وغنى النفس. لم تطل الخطبة ولم يكن صوته جهيراً، وأشار في نهاية الخطبة للفقراء الذين ماتوا والأطفال الذين شردوا والثكالى من النساء. وعندما انتهى كانت عيونه تفيض بالدموع.

ثم أخذ ينتحب انتحاباً مريراً حتى أنه لم يستطع أن يكمل الدعاء، ترجل الشيخ من على درجات المنبر ثم أقعى جوار سماعة الميكروفون وسرعان ما أحضرت المياه، غسل وجهه ووجد مواساة الجميع كافية لكي يشد حيله، قام وودع الناس، كي يتضامنوا. وتم رفع الجثث التي تعفنت والملتصقة بالأرض نتيجة دهس المجنزرات والمركبات عليها وتم دفنها دفناً جماعياً ثم وقف الشيخ يدعو بالغفران والرحمة لكل الشهداء الذين سقطوا في ساحة القتال سواء كان فقيراً متسولاً أو أميراً محارباً فالكل أمام الله سواسية. وبدء الحفر بالبلدوزر لعدة ساعات، لم يتحرك الشيخ ورفض بقوة أن يستظل بشجرة الفيكس، وعندما تراكمت الجثث في الحفرة لم يتمالك الشيخ نفسه فانهار وحُمل إلى البيت يجرونه بأذيال الخيبة والحسرة على الرجال والأطفال والنساء، وعندما أفاق أخذ يتجول في البيت، يفتح غرفه المتعددة، وقد دبت فيه بارقة أمل قد تكون كافية للإيمان بأن هذا البيت هو المكان المناسب للتفكير في الكيفية التي بها يمكن استعادة المجد الغابر، استعادة القيم المفقودة والروح الوليدة القادرة على الوثوب، ثم ردد بهدوء: أنا داخلي طاقة!

وبدأ فعلاً في التحضير لهذه المهمة. انكب على الكتب يقرأ في نهم، ينصت لحكمة الشيوخ والمتعلمين وأرباب الحرف، وبعد كل ذلك جلس وقد ترك كل شيء يتداخل، ويصبح غمامة من الأفكار المتداخلة والتي يصعب وضعها في خطة عمل واضحة ودقيقة. أصيب بالإحباط وظل فترة طويلة لا يأكل أو يشرب، وفي سيره في الطرقات غير واع انتبه إلى طفل صغير يجلس وأمامه بعض قوالب الطوب يقوم بضرب بعضها ببعض، وهنا تساءل، إذا كان الطفل استطاع تحريك القوالب بقوة السحر فما الضير في أن يحاول أن يسيطر على الكون بقوة السحر خاصة أن تسخير الجن مجرّب، وفي كتب التاريخ كثير من الطرق والناس الذين مارسوا السيطرة عن طريق الجن. في تلك الساحة كان في أشد الأوقات امتلاءً بهذا اليقين بدون أي تحفظ، وبدت له الأيام التي مر بها كأن الهدف منها هو أن يصل إلى النقطة التي وصل إليها الآن، وهو من هو في أخريات شبابه، ويخطو بقوة على عتبات مرحلة الكهولة. وبالفعل أخذ يتصل بأكثر السحرة خبرة وتمرسا، وجلس يصغي كتلميذ مبهور أمام الأستاذ. وبالفعل قام الأستاذ بواجبه خير قيام، أمده بالكتب القديمة، شرح له أكثر الطرق تعقيداً وعنفا، حتى أنه حين وصف الكيفية في الوصول لأكمل الطرق كان يرتعش خلالها كمبلول، وأخيراً التأمل والتبحر في العلوم اللدنية، وبالفعل استقر في البيت يأكل قليلاً من الطعام، يتأمل ويضع في "المنقد" قطعة حشيش يتركها تتسرب في الغرفة حتى أحس بالاستقرار، وأنه يكاد يستكين للذة السكون، لولا أن هاتفاً هتف مذكراً إياه بالمهمة الخطرة التي نذر نفسه لها. قام على إثرها للمجاهدة ومن قوة طاقته المفرطة التي دفعته لكي يصطاد القطط ويذبحها ويرش دماءها في دوائر ومثلثات، ويحوم ويهمس بحروف وإشارات، وهذه الطريقة كانت بتوجيهات ابن أخت له وكان عبقريا بالفعل. برغم ذلك باءت محاولاته بالفشل في التأثير على حركة الكون وظهور واحد من الجان، وبدلاً من أن يسكت اعتبره مخطئا في الخطوات، أو في القربان. فقد تشابهت لياليه وصباحاته.

يعوم في حوض من اللبن ويطلق البخور من جاوة ومستكة وعين العفريت ويرميه على كومة من الجمر والتي بسببها كاد يختنق، ورغم ذلك كانت الكواكب تقف له بالمرصاد وتعانده وتبطل أعماله والذي بسببها اعتزل أهله، وناسه من أجلها، تفكّر في كل ما فعل، أنكر ذاته وأضاع عمره من أجل "هؤلاء القمامة، ورغم ذلك يقفون ضدي ويقللون من أفعالي وإنجازاتي، صعد إلى السطح ونظر إلى البلدة من علٍ وأحس لأول مرة أنه حاقد على هؤلاء الحثالة، أولاد الزواني، نظر إلى نفسه بدا كمشعوذ مخبول، مهووس، شعر بالحقد والحنق تجاه الكواكب والتي تسخر منه، وتكاد تدفعه إلى الجنون، هذه الكواكب السمجة التي لا تقبل قربانه..."

ماشي.. أنا عارف أنني رومانسي وأنت تعلمين ذلك ولكن هذا الرومانسي البائس والذي أهدر عمره وطاقته في سبيل الآخرين سيأتي بأشد الأشياء خطورة ودموية، لتكن لي لمصلحتي أنا لذاتي التي أهدرت بعنف وقسوة بالغة. طيب".

كان الليل قارب على الانتصاف نزل واصطاد- بحيل واهية – عجوزاً من الشارع ثم طفلاً و امرأة ثم عذراء وشاباً، دفع بهم إلى المقصلة ومارس أعلى الطقوس الدموية المرعبة وعندما انتهى لم يحضر الجن فصرخ: ماذا أفعل لتلك الكوكب السادية المتعطشة للدماء؟

-5-

أغلق البيت ونسي المفتاح في الباب. وسار في شوارع البلدة، قرر أن يعود إلى البيت الذي يسكنه الأولاد (1) والزوجة(2)، يريد أن يقضي باقي أيامه في استسلام تام "دون أن يشارك في أي شيء".

واحد زيي فضل سبعين سنة من عمره وهو فاكر نفسه محور الكون، ذكر سبع ويتهيأ لي أنني طلعت واحد كروديا، أهبل بريالة... عليا الطلاق لولا ما أنا عامل احترام للأولاد وأخاف أكون بالنسبة لهم عاراً لأضرب نفسي بالجزمة قدام اللي يسوه وإلا ما يسواش، ألبس طرحة وأكون مَره باقي عمري، لازم أتعذب، لازم أحاسب، لازم أتحول لبرص على الحيطة، والهموش اللي في الشارع ده يضرب فيه لحد ما يموت الناس الرمم دي لازم تفعصني زى الحشرة ".

تنبه إلى أنه يسير منذ فترة طويلة ولم يصل بعد للبيت، أخذ يدور برأسه لعله يجد علامة يعرف بها البيت ولكن دون جدوى "كأنني من أهل الكهف: ماذا جنيت حتى أجلب كل هذا على نفسي؟ أي قوة في السماء، تريد أن تصب علي الدمار. (3) وكلما هم بالسؤال وقفت الكلمة في حلقه، يدور في الشوارع من دون جدوى حتى تعب رافضاً في إصرار أن يستريح، أضواء النيون تلمع وتضوّي، والموسيقى تصدح في المحلات التجارية بالأغاني الصاخبة الراقصة.

أريد أن أختفي، أريد أن أسقط في هوة بلا قرار، أريد أن أكون رجلاً بمعنى الكلمة وأضع حدا لهذا الجنون المريع الذي أتحرك فيه، هل تحولت البلدة إلى متاهة؟ ومكتوب عليّ أن أدور في شوارعها حتى أموت. إن هذا البلد ليس بلدي فقط، لو سألت عن بيت عائلة فلان فأنا ملء السمع والبصر، كيف يراني كل هؤلاء الناس دون أن يرحبوا بي؟ قبل أن يكمل الكلمة سقط وظل فترة طويلة حتي أشرقت الشمس وقد تم التعرف عليه وحُمل إلى البيت الذي لم يكن بعيداً بل كان يدور في دائرة حول البيت، وكأنه تحول إلى كعبة يدور حولها، وأُخذ القرار بحزم جبار على أن يُغلق على الكبير في البيت الداخلي بعد محاكمة صورية لم يسمع فيها شهادة ولا دفاعاً. فقط حكم بارد مع تحذير قوي من أي تسريبات مع الاحتفاظ الشكلي بالدور العظيم الذي قام به. ورغم الحراسة التي أقيمت عليه جرت عدة محاولات انتحارية لقتله، وسُرب خبر عزله فبدأت بعض العائلات التي استفحل نفوذها تطعن في سيرته والأصول الوضيعة التي انحدروا منها، وهو هناك لا يأبه. يظل طوال النهار داخل البيت يأكل ويشرب ويسامر الخدم ويتسرب إليه الناجي. (5) كل فترة باعتباره المحبوب، لأنه أبلغ عن أول مؤامرة لقتله، يشرب الشاي ويأكل ويدخن الحشيش في غرفته المظلمة طوال الوقت، كان ينسج وحده خطة مرعبة للسيطرة على الكون عن طريق الإشارات والرغبات المجنونة التي يملكها إضافة لهذا السعار المرعب تجاه الأكل وهذه اللذة التي كان يحسها حتى أصبح مثل الفيل بالفعل. كان مهموماً بأن يعيش حتى يأخذ كل هذا العالم الداعر معه إلى الجنون وهو بالتأكيد يملك... الإرادة الصلبة والروح المجنونة القادرتين على الإتيان بأكثر الأشياء هولاً ورعباً.

 

غناء الجنرال

اختراق هيئة الشرطة ووزارة الدفاع بالأبناء سياسة ثابتة من المؤسسين الأوائل، ولم يحد أحد عن هذه السياسة أبداً بل لم يبخل في دفع المال مهما كانت الأرقام المطلوبة، فالقرب من السلطة والتنعم بخيرها يستحق الضريبة التي تُدفع، والحقيقة ليس المال فقط، ولكن ماء الوجه فالعائلة تتميز بانعدام الحياء، أمام السلطة الحاكمة وتصنع من "خدها مداس" عن طيب خاطر لممثليها في البلدة صغر شأنهم أم كبر، فالكل باشوات وأبناء أصول، ويستحقون عظيم الاحترام.

وكان الأبناء عند حسن الظن فالولد بمجرد أن يعي الدنيا تجده منضبطاً أشد الانضباط حسب مؤشر وشورة السيد ضابط النقطة، أو سيادة الملازم، أو الغفر، أو أي فرد يدور في هذا المكان وللمؤسس كلام نفيس في هذا الموضوع:

- كل ولائنا للحاكم، والحاكم في هذه البلدة من بيده مفاتيح السجن والسلاح والثروة، وعندما يتكلم الحاكم علينا أن ننصت جيدا ونتفق معه في كل ما يقوله سواء كان الكلام "يلد" عليك يا ولد عمي، أو لا، لو الباشا قال كلام وعكسه لازم تأكد على كلامه فى الحالتين. ولا تتوقف عن الابتسام والانبهار أمام الحِكَم والمواعظ التي تخرج من فم الباشا.

إضافة للأدوات المساعدة مثل طبيب المستشفى الذي يكتب التقارير الطبية، الوحدة المحلية، أعضاء المجالس المحلية/ الشعب/ الجمعية التعاونية، فاستماتوا في جني مناصب ملحقة، مثل العُمودية والمجالس النيابية.

وقد حصدوا الكثير من الإنجازات، وكلما كانت البلد في مرحلة طغيان عاتٍ كلما طفوا على السطح، وازدهرت اعمالهم وعلت مناصبهم، وكلما كانت هناك فترة حرية وانتخابات، يمرون بأيام بؤس وحصيلتهم من الإنجازات صفر، ويتقوقعون داخل جيتو، ويضربون سياجاً من العزلة وسيماهم ينطبع بالذلة والمسكنة، ويتقربون من سفلة الخلق ينافقونهم ويدلسون لهم، وعندما تنزاح الغمة يرى فقراء الناس وجههم الاخر، وجههم البشع، قساة قلوبهم أوغاد لا يتورعون عن ارتكاب أبشع الجرائم بقلب بارد ونفس مطمئنة.

الفترة الأخيرة، تم بث كثير من الأبناء في الجيش حتي وصل منهم رأفت إلى رتبة عميد، وهاني إلى مدير مباحث أسيوط ورمزي مقدم في قسم قصر النيل، ونائل رئيس حي الدقي وسعد الدين ع المعاش بعد أن شارك في أحداث جسام وقد أبلى بلاءً حسناً في الحرب وحصل على نوط الامتياز وشهادة تقدير وكان يسمى بالمحب . وامتد السلسال المتوغل إلي أن وصل إلي أكثر القادة احتراماً وهو اللواء ماهر العسيلي المرشح ضمن الصفوة الحاكمة لوزارة الدفاع وإن كان الآن في غاية السوء، فقد ناله اضطراب عظيم أصابه بالسهد، "عنده فكر" بحسب تعبير السيدة زوجته والتي سيكون لها دور عظيم لن يظهر أبدا لا في هذه الأوراق ولا لدي العوام من البشر ولكن سيظل دورها محفوظاً ومقدراً.

أهل البلدة عندما رأوه تائهاً ومنفصلاً عن الناس وأحياناً يتمتم بكلام غير واضح قالوا همساً: "الباشا جاله لطف". كان يشعر أن اليقين الذي تمتع به طوال حياته العسكرية قد اهتز، كان أول مرة "يلطشه" الفكر، في مناسبة قومية والدولة في أشد اختيالها، تحتفل بعودة سيناء لينا. يجلس في الميس ينظر بغموض إلى استعمار السيدة شادية للتلفزيون بثديها الثري البارز وشعرها المصبوغ بلون الحناء والذي يتطاير بقوة الهواء المدفوع من المراوح وهي تصرخ:

"مصر اليوم في عيد... مصر اليوم في عيد

يخرج من غرفة المكتب ويسير حول السور الواقي وهو يتأمل الفضاء الواسع ويتساءل: من أين تسللت الديدان وغرست قوارضها الشرسة في عنق الشجرة؟ هذا التساؤل الغريب عن طبيعة بطون العائلة يمثل جنوناً مطلقاً، عن أي شيء يتساءل هذا المجنون؟ هل يحق لمنتصر في حرب ضروس أن يتساءل، الشكوك والظنون وطرح السؤال دائما يأتي من الجانب المهزوم، هذا يمثل جريمة مروعة في حق الوطن، خطر على الآمن القومي.

لا تنس يا عزيزي اننا لا نكتب عن الأسوياء، مستقيمي الفكر والعقيدة والانضباط العسكري الصلب الذي لا يعرف عواطف، ولكن نكتب عن شُذاذ الآفاق، الجانحين والذين في احتياج للرعاية والفحص والتفتيش.

ارتكن على السلك الشائك ولم يأبه بسن السلك المغروسة في ذراعه، لم يأبه كونه وحيداً، فقد عاش فترات طويلة من حياته وحيدا، في رحلة صعود مرعبة، ضاعت فيها أشياء صعب حصرها، وأخذ يقلب الأمور بداخله، وفجأة التمع داخل روحه برق، بصيرة هادية غسلته من كل همومه وجعلته يشعر بالفخار، أنه الوحيد الذي وهبه الله نعمة المعرفة، تنتابه روحانية عالية اجتاحته فبدأ يحس أنه غريب، مسافة مروعة بينه وبين الواقع المعاش.

راء نفسه يقف في قلب الوحدة ولا أحد من الكتيبة موجود، ثم نظر فوجد ديداناً، ديداناً صغيرة، صغيرة جداً ولها قوارض تمضغ بها السلك الواقي، تمضغ البوابة، وتقدم جارياً، صرخ بأعلى صوته على الجنود، الضباط، يدور بالوحدة في حالة هيستريا والديدان تتقدم وتغرس قوارضها في حيطانها فتدمرها وتجعلها تراباً، تتقدم من غرفة السلاح، من كل شيء، وتزحف في كل اتجاه، وهو وحيد يقف ينادي ولا أحد يسمع، ساعاتها عرف أنه ضعيف وأن القوة التي كان يشعر بها قوة مزيفة موهومة، وعليه الآن أن يراجع ذاته ويقرر هل يقف ويقاوم ويموت ويكون موته مجانياً أم يهرب؟

كانت الكلمة جارحة بالفعل وكأنها بلطة تضرب عنقه (أنا محارب صلب وفارس همام)

انتبه على صوت الآذان وندى يغطي ملابسه، مسح الندى وغسل به وجهه واتجه إلى الجامع، وفي الأيام التالية أصبح غير قادر على الاستمرار، كره الوحدة والأسوار الشائكة والانضباط العسكري وطوابير الصباح كل هذا أصبح هراء.

قال ماذا أفعل؟

بدا منظره كئيباً وملابسه رثة أشبه بعسكر بهلول، يبدو ذاهلاً في طابور الصباح، يدور حول حلقة المعسكر ناظراً إلى الأرض، أو السماء، بدأ مطلقاً العنان لمخيلة بشعة عنكبوتية تلتهم روحه وجسده حتى وصل وزنه إلى خمسين كيلو جراماً وكانت مأساة لأصدقائه ومحبيه، فهذا الجنرال صلب شجاع كفهد، وغني بكرامة لا تتوافر إلا لقليل من الرجال، وعندما نبهه صديق عن صحته المتدهورة هبش فيه، ورفعه من على الأرض، ثم رمى به على السجادة، وطلب من الضابط أن يصارعه، وبدا في وضع الاستعداد، وكأنه ملاكم محترف، ولكن الضابط كان ذكياً وكريماً، ولم يستفز من كلام اللواء الذي لمح في عينه نظرة جنون، وبعد فترة قصيرة أرسلت له إشارة لاستدعاء اللواء في المقر العام.

وعندما علم بذلك انتفض من على السرير وحلق لحيته وارتدى الملابس العسكرية، بعد أن كتب على الآلة الكاتبة كلمات بسيطة وحاسمة ولا تحتمل التأويل، ثم طواها ووضعها في جيبه وتوجه إلى المقر العام وهناك وجد القائد في انتظاره رحب به وأشعل سيجارة وبدأ القائد يثني على أمجاده العسكرية والسلسال الطويل الممتد عبر التاريخ من اللواء أحمد صبري إلى الفارس: تناول اللواء خيط الكلام وقام بتحية القائد العام على الجسارة التي اتصف بها وجرى الحديث في مودة وحميمية وقد استغرق القائد من التقارير التي تصف حالة اللواء بأنه سقط في جب الجنون وقرر أن يعاقب واضعي التقارير. كان اللواء يفيض بالحيوية والفطنة والأريحية التي لا تتوافق إلا لذوي النفوس الطاهرة. وفي وسط هذه الحميمية أخرج اللواء الورقة المطوية ووضعها على مكتب القائد العام. انقطع سيل الكلام وتناول الورقة ثم وضعها وارتاح على الكرسي:

- إيه رأيك في العمل المدني.

- أي وظيفة عامة أنا في غنى عنها. أنا استنفدت أقصى طاقة.

- طيب علينا الانتظار في حركة تغييرات نشوف الموضوع.

وخلال انتظاره الخروج إلى الاستيداع، كان على حافة الموت تماماً حتى أذعن القائد: إنه لا يحتمل موت رجل من رجالته، دافع بشرف وبسالة أسد. وعندما لوح له بالموافقة على الخروج بدت الحياة تسري في جسمه وعندما خرج من المعسكر كان في قمة تألقه الروحي.

-2-

عاد إلى البلد في استايل جديد لانج، استغنى عن البنطلون والقميص رمز الغرب الاستعماري وارتدى جلابية بيضاء وطاقية، وسار في الشارع يصحب العوام ويتردد على المسجد. وجَدّ في حفظ القرآن وتودد مع باعة الخضار وبشّ في وجه البقالين وأصحاب محال الفول والطعمية حتى أن الناس تصورت ان الباشا سيرشح نفسه في الانتخابات القادمة على رأس الحزب الحاكم، لذلك دعوه لحضور جلسة حق عرفي ليحكم بالعدل والقسطاس ويعيد الأمر لنصابه وليخرج الكل مرضياً.

وفي أول اختبار لقدراته في الفصل بين المتنازعين باعتباره من الكبار، قام وسط الحشد مهيباً ليجمع المتخاصمين ويضع يده على رأس الضحية وأخذ يتلو آيات من الكتاب الحكيم، ثم اقترب من الفحل الذي كسر جمجمة صديق له، وطلب منه أن يجلس على الكرسي ووضع يده على رأسه وقرأ آيات الكرسي والإخلاص، وطلب منهما أن يخرج في سبيل الله ثلاث ليال، ثم أمره أن يقبل رأس غريمه "أن شاء الله ربنا سيهديهم للخير والبر".

استغربت الجموع من الباشا الذي أضاع حق الضحية وبهذه الفعلة يشجع على الاجرام، وقد أصاب أكثرهم بالغم والتعاسة. اعتبرت رؤوس العائلة أن الحكم بهذه الطريقة أضاع هيبة العائلة، فانفض الجمع وسرى الخبر في البلد وشعر البعض بالخذلان والآخر بالفرح. اتخذ قراراً سرياً بأن يتم ركنه، وكأنه غير موجود فهو بهذه الطريقة سيدمر هيبة العائلة ويجعلها سخرية البلدة والبلاد المجاورة. ووجد صدى طيباً من هذا الأمر، ثم غاب ثلاث ليال يتنقل في الجوامع، ويحتمل مخالب الخفافيش والناموس ويوزع البلح الذي لا ينقطع من سيالته.

في ساعة متأخرة كان في انتشاء تام، عند عودته من سفرة أربعين يوماً في سبيل الله، وضع المخلاة في بهو البيت، واستقبلته السيدة بابتسامة مشرقة تدربت عليها منذ صغرها، أثناء رعاية الجدة الصارمة التي لا تعرف الرحمة في سبيل استمرار التقاليد. وكانت تحبسها في غرفة مظلمة لمدة شهر لكونها التفتت بشكل همجيّ أثناء سيرها في الطريق العام.

قبلها في جبهتها وطلب من سيدة الدار أن تلحق به في غرفة النوم، توهجت وشعرت أن هذه الرحلة دفعت بالدماء في وجه القائد. تركت المطبخ وفردت كم جلبابها المشمر، وأغلقت الغرفة وراءها وهي تشعر بالخجل خاصة وأنه كان بالملابس الداخلية منهمكاً في أشياء كثيرة يخرجها من المخلاة، كتب عن عذاب القبر، أوراد، مصلية، سواك، حبة بركة، عسل نحل، ثم ترك كل شيء واندفع إليها كطفل بريء ومسكها من كتفها

ـ وجدتها، وجدتها ثم تركها ورفع يده بالدعاء: أشكرك يا رب على هذه النعمة التي أنعمت عليّ بها.

ردت عليه بهدوء:

- طول عمرك عارف ربنا..

- لكن الفرق الوقت أني عرفت الطريق الصحيح فعلاً، ولو أن الأمة سلكته معاً سنكون خلال سنوات بسيطة ليس فقط الأغلبية في هذا الكون ولكن الأغلبية المنتصرة، لن يكون هناك حجر في هذه المعمورة إلا ويسبح بحمد الله، ما لا يُدرك كله لا يُترك جله، المهم الوقت أن نبدأ بالأشياء البسيطة واحده، واحده، التأسيس. نحن في جاهلية يا غالية، الله ضاع في بلادنا وعلينا الجهاد لاستعادته داخل القلب، الصبر، أنت عايزة تبني بيت مش ممكن تبني الدور الأخير قبل الأولاني، الأول نبني الأساس ثم الدور الثاني والدور الثالث لحد الأخير. الناس نسيت طريق المسجد، لازم نجاهد لكي يهجر المسلمون الفنون اللي صرفتهم عن ذكر الله، هذه الشياطين المرعبة التي تخرج المسلم عن إسلامه، وعندما نعود بالفعل إلى الحياة الأولى، إلى سيدنا محمد والصحابة الكرام، بإيمانهم الصحيح وتوكلهم على الله والأخذ بالأسباب سينتشر الإيمان في كل مكان ونصبح سادة العالم.

ثم مسكها من ذراعيها: تنصرين الله ورسوله ولك روضة من رياض الجنة مع الصالحين الأبرار.

اغرورقت عيناه بالدموع: احنا مسؤولون يا هانم، كل فرد مسؤول عن هذا الدين لو ضاع فلن يصبح لحياتنا قيمة أبداً، سنصبح مجرد حيوانات يا هانم

- صح

نطقت مذهولة من هذا البهاء الذي يسم الشيخ، وسرى إليها الحماس وعرفت كم هي مقصرة بالفعل وأن حياتها كانت في شرك تام، ثم ذهب وناولها مجموعة من الكروت وبها نساء منقبات، قطعة من السواد، لا يظهر منهم حتى العين. دول من باكستان اللي في آخر العالم والذين لا يفقهون العربية، واحنا اللي عارفين العربية والقرآن كتاب مفتوح وواضح لنا تماماً نهجر هذا الكتاب، كتاب الله مهجور يا هانم.

ثم بكي، أخذت تطبطب عليه وتمسح دموعه المتدفقة.

- نحن تائهون، مغيبون، أخذ يرص الأشياء في أماكنها، وهي قررت أن تنسى حقدها عليه بسبب تدمير حلمها بأن تكون زوجة القائد العام، وبدأت تحلم بأن تكون زوجة الزعيم الروحي الكوني ولذلك احتملت غيبته الطويلة في المساجد ودوره القوى في التأثير على جموع الفقراء واللصوص وقاطعي الطريق والذي كانوا يجتاحوا البيت ليأكلوا الأخضر واليابس كالجراد، خاصة أن المعدة تتسع لكثير، وأن المريدين والأتباع بدو وعلى غير العادة أكثر شراهة، وصل بها الحال أن تستعير من الجيران وتشكك من البقال، بكميات كبيرة، حتى بات المرتب لا يكفي وكلما أحس بأنها ناقمة عليه يضفي عليها حميمية مفرطة فتنسى حنقها.

كان نظيف القلب، غنياً بالمحبة للعالم، لكنه لم يكن يبالي لو لم يجد كسرة خبز في بيته، فينام جائعاً لكن سعيداً، أو لم يكن الرسول ينام جائعاً، أو لم يكن لا يطهو إلا كل أشهر، أو لم يكن سعيداً. وفي يوم رأى أحد الأتباع وكان يعمل تاجراً للقماش وجلسا يتسامران. عرف أنه يمر بمحنة، بعد أن تكاثرت عليه الديون فنصحه القائد أن يتاجر ليخرج من الضائقة المالية الصعبة.

تنهد القائد وقال: الرسول كان يتاجر.

وفعلا وافق وخلعت سيدة الدار بقية المشغولات الذهبية ووضعتها في يده، كما سحب قرضاً من البنك بنية تسديده خلال فترة بسيطة، مع تعهد أن لا يعود مرة أخرى لهذا المصدر، الربا. وافتتح محلاً لبيع الذهب فراج المحل واكتسب شهرة قوية، حتي أنه فتح فرعا اخر للمحل، وبدأ يفكر في فتح محل آخر في مكان راق، واشترى سيارة فيكترا وبدا يقضى أيامه في المعمورة ويتجول في أنحاء العالم بدايةً من مكة وانتهاء بأمريكا الشمالية واليونان.

كان موهوباً بتوليف القلوب، أشبه بالساحر، وعندما كبر ابنه أشرف ودخل في المراهقة، تغيرت أحواله من الهدوء والطاعة، وتفوقه إلى الغضب، والعنف. وتغيرت أحواله، فمن رعاية أمه ومعاملتها بالحسنى، أخذ يصرخ في وجهها، أريد سيارة. وكلما حاول اللواء استيعابه بلين الكلام ودعواته الخالصة، كان يقابل ذلك بنفور، والشيء الذي يزيده نفوره هو عندما ينادي عليه ويضع يده على رأسه ويقرأ آيات القرآن، فكان يلعن فيه ذلك الضعف، الذي أورثه إياه، وجعله في رقة البنات، وجعل من حياته جحيماً، كيف يخرج من جلده، ويرتدى جلدا آخر أكثر قسوة، وصلابة، من هذا الجسم الرخو، الهش، ولذلك كان مصمماً على أن يدخل كلية الشرطة. وبدأ في لعب الرياضة. يحاول كسر قوالب الطوب بيديه وتعلم قيادة السيارات. وعندما علم القائد أن أشرف يريد أن يدخل كلية الشرطة، أُصيب بالمرارة، فهو يعلم جيدا أن بدخوله كلية الشرطة انتهي إلى الأبد ولا أمل بالمطلق في عودته كما عهدنا وساعتها يتحرر فرانكشتين من كل قيد .

- 3 -

كان يعرف ان اي كلام لن يفيد ولن يغير من قناعته وحتي لو وضع العوائق أمامه فلن تعيده بل سيتحطم ولن يجد عدواً أمامه غير الأب القاسي الذي دمر مستقبله، وسيظل طوال الوقت ينهش فيه، وأنا أنهش فيه، وأنا رجل كبير السن ولم تعد روحي تحتمل، ولا أعصابي قادرة على التوتر الدائم، فكل آماله في الحياة أن يقضي نهاية حياته في مستعمرة منعزلة قريبة من البحر، يصطاد سمكاً ليكون زاده ويقرأ القرآن والأوراد ويبتهل لله، النجاةَ النجاة، وتذكر يوم أن دار نقاش معه واتهم أشرف والده أنه يعشق الحروب والعنف ولذلك كان السلام بالنسبة له عطباً لروحه، وأن أولى من التطلع للحروب تنظيم الداخل من خلال تكوين مستعمرة أمنية ذكية تسيطر على المواطن في صالح بناء وطن قوي وبعد ذلك نفكر في العدوان على الغير .

لم أرد على هذا الكلام الأحمق، ماذا يمكن أن يفكر فيه مراهق سوي السيطرة والتحكم، لا شيء.

– أنا متهيأ لي داخلك عنيف جدا والشي الوحيد اللي يعمل لك توازن هو الحرب. فيه نوع من الشراهة للعنف لا يوازيه إلا القتل، الدم النازف باستمرار.

– يا ولد أنت مش فاهم حاجة أنا أكثر إنسان في الكون حبا للسكينة. لقد تركت الجيش طلبا للسكينة والسلم يخلق روحاً إنسانية أكثر رحابة، هذا لا يعني أن الشعوب ليست فى حاجة للحروب، وتخيل بلد نُزعت أسلحته تماما وهناك عدو على الحدود يمارس الضغوط العدوانية لألف سبب، عندك مياه وهما معندهمش، مكان جميل مشمس، ما هو أنت صراعك علي رموز، أرجوك سيبك من رمز الوطن اللي هو الحاكم وتخيل معايا انك ماشي مع من تحب علي الكورنيش في الوقت ده، أنت ممكن تصرخ، تصرخ تغني وتقول أنا أسعد واحد في العالم طيب فين المردود الملموس. لو مفيش حرب وجارك عدواني معناها أن جسدك الحر اللي هيرقص ويغني يعفن، تقتل الرغبات والأحلام، وتزداد نسبة الانتحار الجماعي والعنف الداخلي الطائفي، أو الفردي، مش دي المشكلة.

ثم أضفت: في وقت ما إذا لم يقم السياسي باستفزاز الطاقة الكامنة، لو كانت نوعاً من الاستعراض، نوعاً من الهياج اللي ممكن بدائي، يصيب الجسد وخم، وتتحول لنوع من الماخور ويختفي الوطن، الحرب فرّازة أيوه اختبار حقيقي لجوهر الفرد، وتفصل ما بين الشجاع والجبان والقوي والضعيف. مش ضدك في حاجة. كلامي علامة ممكن ترشدك وممكن تخلع هذه العلامات وترميها في الزبالة... عن نفسي لو سمعت الكلام ده كنت رميت العلامات في الزبالة، أنا بقول لك عارف ليه، المعرفة مش ضروري في الحياة أنت حا تدخل الحربية ولا الشرطة. هتلاقي نفسك وكأنك في بلاتو سينمائي، كل شيء تمثيل في تمثيل، استعراض وتقبيح واستبداد وتعالٍ زائف وطقوس بائدة واستغراق في الملذات وشراهة في الطعام والاستغراق في العلاقات الجنسية خارج مؤسسة الزواج، الفساد يتجلى في تصعيد القيادات لا على أساس الكفاءة ولكن بالقدرة على التكيف والقدرة على الاندماج في الدور والتمثيل، والقدرة علي تحويل هذا الوجه الإنساني الذي حرره الإنسان وجعله قيمة كبرى في وجوده، إلى قناع يمكن تغييره حسب الطلب، من وجه المستبد المتعالي إلى العنيف القاتل إلى الرؤوم العطوف إلى الذليل الرضيع الراكع كالكلب، ولا يمكن غفران الفشل ولذلك أكثر الفئات عشقا للمرايا والكاميرات هم العسكريون والممثلون.

ترك غرفة أشرف وذهب، وقد شعر الخذلان فقد تصور أن هذه المحادثة ستزيح الهم عن ذاته ولكنها كانت علي العكس حجراً ثقيلاً يغوص به في مستنقع، أحس أنه اختار الوقت الخطأ واللغة الخطأ ليصل إلى هذه النتيجة، ذهب في عمرة ليروح عن نفسه. وعندها دخل أشرف كلية الشرطة بالفعل بواسطة خاله الذي رفض أن يدخله الحربية باعتبارها مكانا مهما بالمستقبل. أخذ يتسرب من البيت ويظل طوال اليوم بين تجارته يبتهل خلالها لابنه بالهداية ويبكي الروح الذكية المحاصرة بالزيف والأكاذيب ويضحك من نفسه فكيف كان مصمماً على وهبه للقرآن كان يعتبره ثروته وكنزه، فأين الخلل؟

الثروة تنضب والموهبة تجف والجسم الذي ظل علي الفطرة السليمة أصبح متخماً بالعهر والعقل الذاتي أصبح متخما بالغباء ولكن كان يردد أن ميزة الكائن الإنساني في حرية الاختيار حتى لو كان لتدمير ذاته فليس من حقه أن يقمع هذا الحق، فهو في كل الأحوال تم تشويهه ولن يعود كما كان أو كما يريد لذلك تركه يستقل عنه وساعده بالمال في شراء شقة في القاهرة ثم سيارة وظل هو في دوائره يقرأ في ما كتب السلف الصالح في روية ويستقبل أصدقاءه في المحل، كيف تجري سيرة الرسول والسلف الصالح وأحوال المؤمن وكيف أصبحت. وبعد صلاة العشاء يدور مع الصحاب لتنبيه الغافل ولقاء الأحباب من كل مكان. هذه التجمعات والصحبة الطيبة والمحبة الخالصة وقوده الذي يدفعه للاستمرار في تلك الحياة التي لا تساوي "والله جناح بعوضة". يترك المحال ويخرج فى سبيل الله مع المحبين يقطعون الطرقات ويدعون إلى محبة الرسول بالحسنى.

توسع فى العمل التجاري واشتري قطعة أرض وبنى عليها مجمعا تجاريا، يجمع الذهب والموبيليا والأنتيكات والألمونيوم للعرائس والادوات المنزلية المعمرة.

اليوم كان لمراجعة الحسابات، والدور علي المساعدين لكي يقوما بفضيلة الخروج، ولم يبق معه في المحل سوي عامل واحد تركه بعد تعب نهار بطوله منهكاً، وعندما رفع وجهه عن الأوراق التي أمامه وجد امرأة أمامه تغطي وجهها بالنقاب وتقف في عزة الأميرات... ارتبك قليلا وطلب منها أن تجلس فجلست

وقالت له: بينا صلة رحم

وأخذت تشرح له شبكة النسب الممتد بين العائلات والقبائل في ذكاء شديد ورفعت النقاب فبدت كواحة. جلد وجهها مشدود وثري ثراء فاحشاً، عيناها زرقاوان وصافيتان حد الوضاءة...

خلع النظارة وأخذ يمسح في ماء وهمي ينزل من عينيه ثم توقف وارتدى النظارة: تشربي قهوة

شد السبرتاية من تحت المكتب وصنع لها وله القهوة، وعندما انتهت من القهوة وقالت: أنت شاطر في عمايل القهوة

قال: يعني أنفع أفتح قهوة على ضمانتك؟

قالت: حاشا لله لكم مقامك. أنت عزيز ابن عزيز

تأثر حثي كادت دموعه تفر منه "العزة لله"

قال: لا يهم ماذا تعمل، المهم أن يكون العمل مصدره حلال وبعد كده كلها مظاهر زائفة

قالت: عندي عروسة أريد تجهيزها

ـ تحت أمرك.

ـ الفترة الأخيرة مريت بظروف صعبة.

ـ عنك الفلوس خالص... دا كله من عند الله.

ـ لا... أرجوك... الشغل شغل.

ـ اللي تشوفيه.

ـ أنا معايا 4000 جنيه وبالباقي لو أمكن يكون بالتقسيط.

ـ اتفقنا أنا معكِ في كل الأحوال.

ـ أنا ليه طلب واحد أرجوك لا تخيب ظني.

ـ أأمري.

ـ أنا وبنتي نعيش وحدنا في المنزل، والرجل مسافر إلى عمان من سبع سنوات ولم يأت خبر عنه من سنتين

ـ والمطلوب؟

ـ يعني تشرفنا بالزيارة وتأخذ القسط وهذا جميل في عنقنا إلى يوم القيامة. أنت تعلم دخول عامل غريب أو الوقوف بالباب يعرضنا للقيل والشائعات مرة علي الحرائر.

ـ يا سلام... تحت أمرك.

تركت المكان وبعد فترة جاءت بالفلوس وحملت العفش وتم تزويج البنت وكان الوكيل هو الجنرال.

وفي كل شهر يذهب يأخذ القسط في ظرف بعد أن يشرب القهوة ويسأل عنها وعن زوجها الغائب.

كان ودودا ويشعر بالأسى عندما تحكي له عن العثرات التي تقابلها والشدائد التي قابلتها وكيف استطاعت أن تعيش وتصرف على البيت من دخل إيجار دكان وورشة صغيرة في هذا الوقت والغلاء...

وفي يوم دخل البيت بعد أن فتحت له صبية صغيرة لم يكن يراها قبل ذلك، كان منظر البنت يوحي بأنها ليست من هذه البلاد فهي أشبه بالأميرات الصغار في الأفلام. ودخل غرفة الضيافة فوجد السيدة بلا حجاب وشعرها ينساب على ظهرها وطوق الفستان واسع فيه كتفها عارٍ وجانب من بطنها ظاهر بفضل شفافية الفستان.

جلس علي الكنبة ورعشة تسري فيه، حاول جاهدا أن يسيطر عليها، وبدأ جسمه يبرد وألواح الثلج تحاصره، وعندما عادت إليه بعد أن ارتدت الحجاب وسلمت عليه كان في أعلى درجات الانحدار الجسماني. وبدأ يهذى بكلمات غير مفهومة، حول حرية الجسم الإنساني والاعتقال الروحي والتي تشارك أشياء كثيرة في كبته وتدميره في النهاية بفعل الجهل، وهي سحبت يديها وضمته إليها فبدأ يسكن والدماء بدت تسري داخل جسده... وظل طوال الليل في حالة هياج مروع لم ير مثلها من قبل، وعندما خرج من البيت بدا محتاراً يشعر بالخزي والعار يجلدانه. فسقط سقوطاً شيطانياً مهيناً، غاب بعد ذلك في رحلة حول الكرة الأرضية من جامع لجامع، ومن بلد لبلد.

استغرق فيها في كل الأحوال مما ساعده على الخروج من محنته، وإن كانت به غصة، كلما تذكر صورتها في امرأة شاهدها أو صبية ناضجة. وعندما عاد إلى البلدة سمع عن امرأة عاشرت رجلاً في الحرام وأنجبت طفلاً ولكي تدارى عارها ذهبت بالليل وألقت بطفلها على حافة حديقة في آخر البلدة.

وفى الصباح كان الطفل في اللحظات الأخيرة وعندما وصل إلى المستشفى مات.

وتم معرفة الأم. ذكروا له اسمها وكانت هذه القشة التي قصمت ظهر البعير. هذا الشيء لا يحتمل ترك العمل. وعاد إلى البيت وهو يشعر بكم الورطة التي وقع فيها. فأخرج الأوراق والعقود ونظّمها واستدعى بالتليفون كل الأحبة الذين عاش وسطهم: أخته، أخويه، عمته، ابن خاله، أصدقاءه. وعند العشاء كان الكل يحيط به وهو على السرير وقد سقط في عملية احتضار لم تستغرق سوى الوقت الذي تفحصهم فيه وطلب منهم الغفران والدعاء الصادق ثم شهق ومات

 

الخيالي

جفت الترعة، إلا نزرًا بسيطًا خلال الليل، تحدث بسببها معارك لا آخر لها، حول أسبقية الري وتخرج الشوم والشراشر والفئوس بسبب نقص الفيضان، فكان على الأثرياء أن يجدوا حلا لري أراضيهم، وقد كان الحل الوحيد، أن يضعوا ماكينة على شاطي البحر، والماكينة توصّل الماء حتي الجسر، وعند الجسر تم تثبيت ماكينة أخرى لرفع المياه، ومن خلال مواسير؛ لتصبّ في الترعة، وتصل المياه للماكينة الأساسية التي تقوم بري الزرع، ومن عليه أن يروي أرضه لا يجبره أحد، وبحسبة بسيطة للفلاح يكتشف أن المحصول لن يفي بحساب الماكينة؛ لذلك تخلى الكثير من فقراء البلدة عن المساحات القليلة الذين يزرعونها، و تم تبويرها ، وكانوا قد حصلوا عليها من الإصلاح الزراعي، والبعض أخذ الموضوع من باب الكرامة، فليس على "الرجل الحقيقي" أن يهجر أرضه أبدا ولو مات جوعا، إضافة لمن استمرو في الزراعة من رؤوس العائلات الكبيرة العدد، وهم مهما عاشوا في ضنك فلديهم رأس مال ثابت يتمثل في تربية الأغنام والبقر والجاموس، التي تعتاش منه في أشد الأيام جفافًا من خلال التجريد على شاطيء البحر، والمساقي والحلفاء والغاب على الترع والحشائش والحطب الجاف، ومعروف أن من يقوم بتسريح بالبهائم يكون معدوم الضمير تماماً، "مش بكيفه"، فالبهائم يجب تعود للبيت شبعانة وتحلب المقدار المعلوم من اللبن، وإلا الكبير، أو نائبه، يسحب الجدر الخيزران وينزل على جسم الإبن أو الحفيد، وزي ما تيجي، تقول كسر رجل أو ضلع، أو عدة غرز في الرأس، "هو وحظه"، و يا ويله يا سواد ليلة من يعمل جدعًا ويتدخل للحماية، يسيب الضحية والعصا تنزل على الحامي؛ حتي لو كان مين؟؛ لذلك تجدهم أشد الناس قساوة وغلا، ويتركون الأغنام تنزل أرض الناس ويسرقون، المهم: الجفاف جعل البلدة في حالة سواد، القحط ضرب البلدة كلها؛ لذلك حدثت معارك كثيرة بين العائلات، كثيرة العدد تحديدًا، على أمور في غاية التفاهة، وهجر كثيرون البلدة؛ سياحة في البلاد القريبة؛ بحثاً عن رزق، ولكنهم عادوا بعد فترة طويلة، وقد وجدوا "أن الحال من بعضه"، وعم الحزن والقهر، وأصبح من النادر أن تُعلّق زينة أو تقام أفراح، وانتشرت السرقات، وأُحرقت الزراعة والبيوت، وتكونت العصابات، وهجر الناس التعليم بعد أن أصبح المتخرّج لا يجد وظيفة؛ بسبب سياسة الاستحواذ الواسعة، التي يحصل فيها أبناء العائلات الكبيرة الواصلين على كل الوظائف المتاحة؛ لذلك لا تتعجب عندما تجد فلاحًا يحمل الفأس على كتفه ويعمل أٌوجري، أو عاملا في أعمال متدنّية لا تليق بسنوات العمر الذي ضاعت في التعليم، و في صباح قائظ خرجت البلدة علي همس يتنقل من مكان إلي آخر، حتى انتهى إلى جميع أهل البلدة، وجاء الخبر كالآتي:

رجل ليس بالقصير ولا بالطويل يلصق إعلانات علي أعمده الإنارة، وبعض البيوت الجديدة للأثرياء، والتي بدأت تبزغ في أماكن متناثرة، ويسير وراءه طفل في يده جردل بلاستك به مادة لاصقة ويرتدي شوورت جينز قديما "ملطخا" ببقع زيت وفانلة مهترأة، وشعره أكرت قذر، وكل آن يحك يده بأنفه، يبدو معتوها؛ ولذلك لم يكن يستطيع أن يوقف سرسوب (الرّيالة) النازل من فمه.

كان الطفل يحمل الجردل، والرجل يغرس الفرشة في الغراء، ثم ينتقل إلي عمود آخر، اقترب الناس لقراءة الإعلان.

"مطلوب عمال ومتخرجين من جميع التخصصات للعمل في مزرعة السيد جوهر بأجور مجزية جدا"

تحول الهمس إلى جدل مكتوم، وبدأت الوجوه الخالية من الحياة، المضروبة في مقتل بسبب الإحداث الأخيرة، تأخذ مزيجا مختلفا ما بين وساوس الأمل وحيرة اليأس، خاصة أن هذه الجموع سقطت آلاف المرات في شبكات حصيفة من النصابين والدهاة الذين تلاعبوا بالطموحين والمغامرين والباحثين عن الثراء السريع، تحت أي ظرف مهما كان، وقد دمرت فيها ثروات وأعمار رجال لهم أحلام مروعة، والذي جعل هذه الجموع شديدة التيقظ هو الوسيط الذي يبدو مثيراً للريبة، غامض أصفر كالموتى، تسيطر عليه علامات سكون وبلادة، عيناه ضيقتان يبذل مجهوداً خارقاً كي يفتح جفنيه، يعرج وهو يسير على أظافر قدميه؛ فيترك خطاً وراءه؛ كما أنه لم يجد أحدًا يدخل بيته ويعيش معه سوي بيت المهندس كمال السيد، وهو شخص فاسد كان من الذين خاضوا حروبًا ضد العدو الغاشم، وتُروى حكايات أسطورية عنه

" لم نبذل الجهد الكافي للاستقصاء عن صحة هذه الأخبار؛ لأن في رأيي المتواضع أنه لن يضيف الكثير لمسار السرد."

وعندما انتهت الحرب وخرج من الجيش، وتم تعيينه موظفاً في الحكومة، انتهي إلى كونه أصبح شبه مدمن، كريه يعبد المال، لا تستطيع أن تمضي ورقه منه إلا وملصق بها الفلوس!، الذين يعرفون المهندس كمال مَن يملكون حيازة، يعرفونه جيدا ويعرفون "ديته"؛ لذلك ذهبوا إليه بصدر مفتوح، ثم بعد الكبار لكي يعرفوا سر هذا الولد، وهل يحمل سرَّة فلوس على كتفه يمكن الاستفادة منه في مصلحة أم مخادع، المال مغر يا أخي، المال والبنون.

وعندما خرج للشّغل وجد مجموعة من الشّباب يحومون أمام البيت، نظر إليهم في قرف ثم تركهم وسار..

صباح الخير يا باش مهندس

رد باقتضاب، فلاحقوه.

- احنا عايزين نسافر يا با شمهندس

وأنا مالى أنا؟؛ فيه مكتب مخصوص للغرض ده

احنا عايزين ضمان منك

قال بحدة، أنا لا باضمن حد ولا علاقة لى بالموضوع ده خالص، وفى مكتبة بالإصلاح الزراعي، مر عليه محمد سعد، وظل معه حتى انتهاء الدوام، وعاد معه للبيت. ومرَّا على الجزار واشتروا اللحم، وعندما وصلا للبيت الذي يعيش فيه المهندس، مستقلاً عن الأسرة في واقعة نادرًا ما تحدث في القري؛ مما جعل أهل البلدة يحتقرونه.

وقد ترك لهم بيت الأسرة و10 قراريط أرض، ولأن السيدة زوجته نشطة بشكل مبالغ فيه، فلم تكتفِ بزراعة العشر قراريط ولكنها تاجرت في البقالة والعلف والبهارات و رمْي الفلوس على البيض، وجعلت الحظيرة لتربية كم هائل من الطيور من حمام إلى بط ووز وفراخ، ولأن هذه الفترة كانت تمر بقحط ازدهرت تجارتها، وكانت تعطي بالأجل على الموسم، وبالطبع كانت تغالى في الأسعار، وفى ازمات بعض السلع مثل السجائر او الزيت أو السكر كانت تقوم بتهريب السلع بقلب من حديد، وكسبت أموالاً طائلة، وشاركت في سيارة نصف نقل، وفي عشرات من البهائم، وسرعان ما رمت أساس عمارة ثلاث ادوار، وشطبتها لوكس، مما أصاب البلد بالدهشة والعجب، ولكنها أصيبت بمرض في الكبد، جعلها تعاني أشد المعاناة الجسدية والنفسية، مما دفعها لتسليم التجارة لابنها البكري سالم؛ الذي خطا بالتجارة خطوة كبيرة؛ فجعل الدور الارضي كله مخزنًا للبضاعة، وافتتح أكبر محل لتجارة المواد الغذائية في القرية والقري المجاورة، واستقطب بلسانه الحلو وطبعه الليّن مستهلكين من جميع القري المجاورة.

وجد الصبي الذي يقوم بلصق نشرة الدعاية موجود أمام البيت، كان الصبي مختلفًا كثيرا؛ فقد كان يرتدي جلابية بيضاء وطاقية شبيكة، ويبدو أكثر نظافة، حمل الأكياس منهم ودخل وراءهم البيت، وأغلق البوابة بالترباس، وقاموا بطبخ الطعام، وذهب الصبي بعد ذلك لشراء حشيش، وهم استسلموا لقيلولة الظهيرة، وفى المساء تم النقر علي الباب نقرات يعرفها المهندس؛ فأشار للصبي لفتْح الباب؛ فدخلت صُحبة المزاج التي كان يعتز بها، وكان يريد أن يُعرّف الضيف بهم، قبا أن يقضوا سهرة ممتعة. والمهندس كمال لا يُقدّر أحدًا مهما علا قدرة مادام لا يدخن الحشيشة، وكان يُقدّر الحشاشين مهما تدني مستواهم المادي، ويجلهم ويعتبرهم أخوه، ويطمئن لهم، والغريب أنه لم يقم أحد منهم بخيانته أبدا، مع أن الثلة المحيطة بيه شوية أوباش وسفلة الناس، لصوص على قاطعي طريق، التربين نازحي الباكابورتات حلاق وسائق. ودائما ترديد: الدماغ من غير كيف تستأهل بابور زلط يكسّرها!، الكيف أتعمل لناس عاوزه تفرح، مش زى أهل البلد، أنا مش عارف إيه اللي غيّر الناس وخلّى الوجوه عكرة!، تبص للناس في الشارع يا أخي كِشرة وغبية، ترابيس بجد، أقفال، دي بلد لا يمكن تعرف طريق الكيف.

اتجمّعت الصحبة كالعادة وعرّفهم بالضّيف:

أعرّفكم: أخونا محمد سعد الشحات

اعتدل محمد وأشار بامتنان إلى الصحبة

كان واحد منهم يرص الحجارة بالمعسل ويبصمها بالحشيش، ثم وضع عليها الفحم ،وناولها للضيف.

يا مرحب بالرجال!

تناول الجوزة منه

هلا ومرحبا بسيد الناس

- وحكاية الصديق إية؟

لم يرد عليه، وناوله، ومرّر الجوزة على من بجواره

قدرنا يا عمنا احنا بني ادمين زي بعضينا

اعتدل محمد وركس على ركبتيه، وأصبح في مواجهة السائل، فظهرت عليه سيماء رجل صلب عركته الحياة وصهرته، وجهه كأنه وجه ثعلب غامض، عيناه بركتان من الدم، حتى إن الجالسين أخذتهم سِنة من النوم، أو الغياب الأبدي، وكان الحشيش يحترق على الحجر دون أن يدور علي أحد، كان يمتلك قدرات خاصة تجعله كُليّ الحضور، مسيطر، له مهابة، انتبه صديق، ومن الانفعال الذي انتابه سب الدين، وقام بتغير الجوزة، ورص الحجارة من جديد، وتدفق الدخان بالغرفة واحمرت الوجوه، وانتشي الأصدقاء، وتمايلوا مع صوت الموسيقى الذي يصدح بغناء شعبي حسي، داعر.

الليلة عسل!

هكذا قال المهندس، ثم صمت قليلاً ثم قال:

لي حكاية طويلة مع الأسطي سعد الشحات، ثم تنهد وقال: آه يا زمن!، آه يا بلد الرجالة اللي بحق مالهاش حظ فيكي!

ثم سقط رأسه على صدره حتى تصوّرت الصّحبة أنه نام؛ فتناثرت الضحكات المكتومة.. خخخخخخخخخخخ، وأشار أحدهم بيديه ليتأكد من غفلة المهندس الذي انتبه لنفسه، ثم أخذ يروي عن نفسه حكاية تفجرت غصبًا عنه؛ لذلك كان صوته يخرج متوتّرًا متهدّجًا، وكأنه مجبرٌ على الكلام تحت ضغط بوليسي.

قضيت أجمل أيام عمري في الجيش، أيام سوده بعيد عنك، تم تجنيدي من ستة وستين إلى خمسة وسبعين؛ تسع سنوات قضيتهم تحت راية الموت، مشروع شهيد زي ما بيقولوا، أتمرمط في التدريب في خوض المعارك، في البقاء في الصحراء ثلاث شهور على طعام محدود وظلم يومي، حتي في أيام الحرب عندما تغيب العدالة يضيع ناس، في كل زمان ومكان، ويطفو ناس، كان فيه جنود بتنزل إجازات تحت أي مسمّي وبأي طريقة، ولا يمكن أبدا أن تعترض، الاعتراض معناها أنك كائن متمرد، والكائن المتمرد خطر، خطر أن يكون الجندي متمرد، أو حتي شجاع، المرضي عنه هو الأكثر طاعة وخضوع، زيه زي الآلة، لا يحق له أن يبتكر؛ فالقائد هو المبتكر وهو الشجاع الخ الخ، عارفين أنني قضيت ليلة زفافي علي زوجتي فين؟؛ في الخدمة؛ لأن القائد أرتأى أن الليلة هناك هجوم متوقع من العدو، وعلينا ان نكون في حالة استعدادات قصوي، مع أن الحرب كانت قد انتهت وعملية السلام كانت تجري على قدم وساق، والرئيس قال: إن هذه الحرب آخر الحروب، وتبادل الزيارات والقبلات والاحضان والابتسامات، ولكن لا يجب عليّ أن أعترض، عليّ أن أنفذ الأوامر حتى لو خطأ، ثم بعد ذلك تتظلم، كيف أتظلم ضد قائد عسكري وأنا أدني درجة عسكرية، رغم أن القانون يعطي لي الحق، ولكن لو استخدمت هذا الحق، فسيصدر قرار شفوي لكل السّستم؛ لنُوضَع تحت المجهر، وتُطبق علينا كل القوانين العسكرية التي لا يحتملها ولا يقدر عليها أحد، حتى تنتهي الحياة بطريقة ما، وعندما تأخّرت ولم أصل في الميعاد، تم الزفاف عادي، وظلت زوجتي يومين حتى تم السماح لى بإجازة 48ساعة، عايز أقول أنا لمَّا نزلت من البيجو في موقف البلدة لم أستطع أن أمنع نفسي من البكاء، البكاء بحرقة تحت وطأة قهر مرعب، طيب والله، والله لم أستطع أن أعاشر زوجتي الليلة التي دخلت عليها فيها، وظلت جواري عيناها مفتوحتان تنتظر مني أن أقترب منها، وأنا غير قادر على ممارسة حقي الذي كنت أنتظره بفارغ الصبر، وظللت حتى الصباح، لا أنا عارف أنام أو هي تنام، أو أقوم من جوارها، حتى الصباح، مع أن الساعة في يدي تنهب الوقت ، وأعرف أن عليّ أن أستغل كل ثانية، ولكن ما حيلتي، وأنا في النهاية إنسان، المهم مر الصباح، وعند الظهيرة مارست حقي، وغسلت نفسي ورجعت روحي بالتدريج إلى وضعها الطبيعي، ومرت الأيام، وخرجت من الجيش، كنت عاوز أنسي أشياء لا تحصى، استلمت الشغل اللي كان يأخذ وقت قليل من العمل، وباقي النهار فراغ، لا تجد صاحبًا ولا وسائل ترفيه من أي نوع، سميرك الراديو الصغير الترانزستور، نفس الوجوه الكريهة كالحة مالهاش معني، فكان المقهى هو المكان الوحيد اللي تقدر تفرّ إليه وتعدّي اليوم، العب كوتشينة، علمت بعض الرواد الشطرنج ونهاية السهرة كنت أمر على بيت سكر أشترى القرش الحشيش، و نتحرك دائرة صغيرة على القد ، ومعنا الشاي والسكر وأكل، إلى الخص اللي عملته في الغيط للشرب والانبساط، لما أكون مقريف أشتري على القد برضة، وعلى البيت عِدل، وأشرب، وعندما أنتهي أنام مكاني، وفي يوم كان الكلام ده في الشتاء في يجي نهاية 77، وأنا خارج من بيت سكر، وجدت أخونا سعد يحوم حول البيت، لما قربت منه وبصيت في عينيه عرفت أنه خرمان، عينه عين بني أدم حشاش قراري يا صحبي. من غير غنوه ولا حدوته سحبته من يده وقد أريته الحشيش فتبسم واستسلم، وسرنا في شوارع البلدة، الريح تضرب فينا، وبرد قارس، وحاجة آخر عكننة، لما وصلنا البيت كنا كدنا نتجمد؛ فكان الجو قارس البرودة، مما زاد الشعور بالجوع، جهزنا أنا وهو الأكل من الموجود في البيت، فاكر والله كان بيض بالزبدة وجبنة قريش وكان باقي بطاطس مهروسة، خلصنا أكل والخشب اشتعل، وكانت ليلة فل انبسطنا انبساطًا، وضحكنا ضحكًا، كان فريحي ويضحَّك طوب الأرض، وياسلام على المواويل اللى غناها وعرفت إنه ده حشاش قراري بجد، صعب أنك تلاقي دماغ زى دي الآن، المهم بقينا أصدقاء، الحشيش جمعنا، واللي يجمعه الحشيش ما يفرقوش إنسان، والسهرة يا عندي يا عندك..

2

سعد كان وسيماً، يخرج بعد المغرب، يرتدي كلما خرج جلابية نظيفة مفرودة تحت المرتبة وسديري، وساعة جوفين، يسرّح شعره للخلف، وكان يملك راديو ناشونال أول ما طلع، وحافظ أغاني كبار المغنين؛ محمد رشدي وعبد العزيز محمود وعبد المطلب وأم كلثوم فريد الأطرش، كان صاحب مزاج، وفي الصباح يلبس بدلة جيش ، ويركب الكارو، ويسير في شوارع البلدة والبلاد المجاورة يجمع الأشياء القديمة، طشت نحاس مخروم، سلك الومينا، جراكن سموم فارغة، جراكن بلاستك، ثم يقوم بالفرز، وكل ليلة جمعة يأتي التاجر يزن الحديد والالمونيوم بالكيلو، وبعد ذلك يتم تقدير الأشياء الباقية حسب قيمة معروفة، وكان يكسب في الأسبوع ثلاثة أربعة جنيه، أيام ما كان الجنيه جنيه!، يأكل أحسن أكل، يشرب ويمتع مزاجه وتخرب!، مفيش مولد في مصر لم يذهب إليه، صيف في إسكندرية، عايش اليوم بيومه، زي الطير، وكان يمتلك صوتًا رائعًا، نقيًّا، وفيه شجن وأسي؛ يضفي على كل جلسة بهجة، يركب الكارو، وعندما يدخل شوارع البلدة ينادي روبابيكيا، ويؤلف أغانٍ تلقائية؛ فيخرج العيال من البيوت، وتصعد النسوة إلى السطوح لتسمعن غناه المرتجل ومواويله، إلى أن كان اليوم الموعود، كان يدور في البلدة كالعادة يصدح بالمواويل وهو في غاية الانبساط، يغني لنفسه ويستمتع بذاته، ولم يكن يدري أن الحمار توقف عن السير إلا بعد أن انتهى من الموال، رفع طاقية "الشمس" التي يسقطها على عينه فتفصله عن الشمس والناس.

وجد فتاة في غاية الجمال تقف أمام الباب وتنظر إليه وهى تبتسم، لها جمال غريب لم يره من قبل في هذه البلدة البائسة، لم يكن أحد موجودًا في الشارع، فقط هما على غير العادة، وكأن القدر من رتب هذا اللقاء، نظر إليها، تأمل أسنانها البيضاء، فرح بابتسامتها المشرقة، كانت ريانة، وشعرها الطويل مسرح بعناية.

إيه يا حلوة عاوزة حاجة؟

قالت: السطح عليه حاجات كتير زي ده (وأشارت إلي الموجود علي الكارو)، ممكن تيجي تأخذها.

ربط الحمار في حديد البوابة وصعد درجات السلم إلى أن أصبح فوق السطح، أخذ يفرز ويضم سيوخ الحديد ويربطها، صوتك حلو يا عمي، رفع الطاقية من على رأسه فبدت قصة شعره مبلولة بالعرق، فبدا وسيمًا وإن كان عاجزا أن يقول شيئا، كل الكلمات، الغناء توقف داخله: فرحٌ فقط يجتاحه، وجهه يتغير، وحركات جسمه تندفع عشوائية، مرن يدور حول نفسه، يندفع في حمل الأشياء ثم يضعها، لم يكن يعلم أن لصوته هذا التأثير، حاول أن يغني ولكنه عجز، بصق وعرف أن الدنيا تعانده والحياة هذه المخبولة التي تعطي دائما "عندما لا تكون في احتياج لها، يجب أن تؤخذ غلابا، " قهرا"، أن تغتصب، ولكن كيف؟

نادت الأم على الإبنة، فتركت المعلم يكنس السطح، وعندما انتهى كانت الشمس تضمر، ابتسم وضرب الحمار بالفرقلة، حتى يقطع الطريق، وعندما وصل ترك الحمار لزوجته ودخل غرفته، وعمل شايا "وأسقط فيه قطعة أفيون، وانسحب يشرب الشاي في هدوء، ويتذكر ملامح وجهها قطعة، قطعة، جسمها، شعرها.

في صباح اليوم التالي عاد إلى المكان، لم يجد أحداً، وأصبح يتردد على المكان نفسه، وكان هذا البيت كعبته، لم ييأس، يغني لعل أحداً يفتح شباكا أو يطل عليه، دون جدوى، مما أصابه بنوع من الجنون والهوس، لم ينم حتى أصبح كالزوال، بعد أن فقد من وزنه الدهون القليلة وغارت عيناه، وطالت لحيته السوداء فأصبح شكله مخيفًا، يريد فقط أن يراها، أن يسمع صوتها، كانت صورتها داخله تشحب، وهذا الذي أصابه بالرعب والغم، لم يكن يريد أن يحصل منها على شيء مادي، فقط أن يمتلأ بصورتها داخله، فهو في النهاية، مهما كان رومانسيًّا أو منفصلاً عن الواقع، يعرف أن القرب المادي منها مستحيل؛ فهي في عالم وهو في عالم، ومن الاستحالة التلاقي تحت ظل واحد، عاش أيامًا مريرة، لا يعرف فيها نومًا أو فرحًا، وفي نوبة يأس قاتل اندفع يدق بقوة على الباب، كان يحرّكه مزيج من الرغبة والحقد المرعب من هذا العالم المتوحش؛ الذي يقيم الجسور والسياج، ويمنع الحق الطبيعي أينما كان و يكون عن الروح الحرة.

عندما فتحت له الباب كان في حالة يُرثى لها؛ نظراته زائغة، يُبحلق فيها في هوس أقرب إلى الجنون، أمسكها من كتفيها بقوة وهو يرتجف ويردد: "بحبك، بحبك"، صوته يخرج منه في هيئة لهاث أشبه بمن ابتلع لحمًا مغموسًا بالسم، تحاول أن تفلت منه، تنزع نفسها بقوة وتصرخ في جنون، لقد كانت مذعورة، وهو يتشبث بها كأنها قارب نجاة لغريب في محيط هائج، يغمغم بكلام أبله لم يصلها منه شيء، حتى تجمع أهل الدار، وتم انتزاعها منه كأنهم ينزعون قرادة تغرس مخالبها في لحمها.

تم اقتياده إلي دوار العمدة، وهناك تم تعذيبه عذاباً رهيباً، حتى أصبح جسمه، شبكة من الندوب والخراريج: المسيح لم يعذب كما عُذّب، تم ضربه حتى أشرف على الموت، وتم رميه على الكارو، والجحش- بحكم العادة- عاد مرة ثانية بصاحبه، و لم يتوقف إلا أمام الباب.

عندما رأه أهل الشارع، ساروا وراء الكارو مندهشين، وعندما وصلوا للبيت وخرجت زوجته، تحت إلحاح الدق ع الباب، ورأته، أخذت تصوّت، وتلطم، وتشدّ في شعرها؛ فقد كان بالنسبة لها كل شيء في حياتها، ولم تتوقف إلا بعد أن أكد لها الحاضرون أنه لم يمت بعد، وذهب جار لهم وأحضر تمرجي من الوحدة الصحية، اكتسب خبرة دكتور، واستطاع بتعاطفه مع المجروح أن يطهّر جسمه، ويلفه بالشاش والقطن، وداوم على المتابعة حتى شُفيَ من جروحه بعد عذاب، وإن كان عجز عن شفاء الكسور التي كسرت عظام وركه وذراعيه، حتى إنه عجز عن السير، وبدأ اهتمام الناس به، وتعاطفهم معه، يقل، حتى أصبح البيت خاليا من الخبز الحاف، فلم تجد الزوجة بُدّا من الخروج لسوق العمل مكان الزوج مع ابنها محمد، تاركة سعد ينظر إلى السقف شبه ميت، معتزل في غرفة في البيت، لا يزورُ ولا يُزار، فقط يترك العنان لخياله ليحلم، ويخرج من هذا المكان الكئيب إلى رحاب الدنيا الواسعة؛ لذلك كانت تندهش الزوجة عندما تجده يحرك شفتيه أو يبتسم أو يكشّر ويظهر عليه الغضب، أويحاول تحريك يده علامة العزم والتصميم، كانت تسليته الوحيدة هي أن يجلس على السرير، وينظر من النافذة الضيقة على الشارع، يطرب للعب الأولاد في الشارع، الضجيج، معارك النساء، خروج النساء متشحات بالسواد وهن ذاهبات للعزاء في جار تُوفيَ، بنات يحملن الزلع عائدات من النهر، فلاحين عائدون من الحقول، كان يرصد حركة الشارع بدقة، الشتاء كان بالنسبة له فصل البهجة، يلتف بالبطانية ويطل بعينيه ناطرا للسماء وكتلة السحب القاتمة، كانت السحب تتشكل كائنات يظل يتأمل فيها مندهشاً من هذه التحولات، وهذا الكائنات المتنوعة، وكانت السماء تحتشد بالكائنات فقط من أجله هو، عندما تصفو السماء وتتبدد السحب كان يعرف أن هذا مؤقت، وأن السماء تفرغ الساحة للعبة جديدة أو حياة بطريقة أخرى، كانت هذه الفترة بالنسبة له فترة قلق وترقب، يتخيل عالمًا بذاته وشخوصًا بذاتها تتألق في هذه السماء الوحيدة، كان يصنع العالم كما في ذهنه، وينتظر السماء لتحقق له رغباته العصية، وعندما يرى تدفق السحاب وانقطاعه وتداخله يظل يفسر ويؤوّل، وفى يوم تدفقت سحابة وحيدة بيضاء وأخذت تتحرك، كانت تكوين امرأة ما، صحيح أنها لم تكن بالشكل منحوتة بمقاييس سليمة فهي منبعجة ووجهها غائم وذراعها الايمن غائب ولكن تظل هى هي؛ أمرأة في ضوء التشكل، كأنها تُولد من رحم الماء، كان خائفًا من زوالها، من قسوة الطبيعة، كان يريد أن تظل كما هي، ظل صامتا طوال الليل ينظر إليها حتى سقط في النوم، وعندما أفاق كان النهار يملأ الكون، أصيب بالحزن من الغفلة، في هذا اليوم مر عليه المهندس كمال ووضع في يده سن أفيون، فوضعها تحت لسانه، وظل صامتا ينصت لما يقوله المهندس من أخبار، وبعد خروجه لاحقته زوجته، وطلبت منه أن يعود لزيارته لأنه لا يريد أن يقابل أحدًا من الأقارب أو الجيران وفي يوم كان المهندس عنده فسأله عنها فقال له: لقد تزوجت أستاذا "كان مُعَارا" إلى السعودية وظل هناك عشر سنوات وجاب: فلوس كتيييييير إضافة لكونه من عائله ثرية.

تناول السيجارة الملفوفة

أشعلْ يا سعد، يشعل سعد

ظل غارقًا في صمت.

إيه يا سعد؟.. اتكلم يا سعد

وسعد يلتزم الصمت، فقط يدخن سجائر لف، وينظر في جمود لمن يجلس أمامه..

3

في هذه الأيام كان محمد في الثالثة عشر، وكان يشعر بالعار، ولم يعد يطيق أن يظل في البلدة والصبيان يعايرونه بأبيه وما حدث له؛ فهرب من البلدة، وهام على وجهه في البلاد حتى انقطعت أخباره، والزوجة عاجزة عن فعل شيء كانت عارفة أنه مقهور من الضرب، ولم تكن تصدق أن سعدًا يسرق؟، تعرف- وقد عاشت معه طوال عمرها معه- أنه لم يمد يده إلى شيء لا يخصه، عزيز النفس، فيه كل داء إلاَّ السرقة والقرش الحرام، تنظر إلى زوجها الذي يلتهم السيجار، وهو غائب عن الوعي، ينأى بنفسه عن الناس، ويعيش حياته الخاصة كأنه غير موجود، لا يا بالى بشيء سوي الدخان، أما الأكل، الحق الشرعي لها، كانت تشعر بالغبن فأرادت أن تعاقبه وأقسمت أن تمتنع عن إحضار الدخان له، وانتظرت يوما، وفي اليوم التالي دخلت عليه وجدت الدموع تسيل، دموع إنسان مقهور، جرت إلى الشارع وأحضرت الدخان من البقال، ولفت له السيجارة ويدها ترتعش، وتدفقت داخله كمية من الحنان بلا آخر، كأنه ليس ابنها الهارب؛ بل ابنها الذي حملته في بطنها 9 أشهر ، أخذ السيجارة وسحب نفسًا؛ فانتابت جسده نوبات عصبية، فبدأ يحرّك يده حركات آلية، اقتربت منه، وأخذت تمسح شَعره، بعد أن وضعت رأسه في حجرها، تغرس يديها في صدره تملس عليه، في حنان أمومي عجيب.

تركته وهو يغمغم ويهز رأسه، وظل هكذا حتى اقترب الفجر؛ ينظر إلى القمر والسحب التي تحجبه ثم تتركه عاريا منيراً مشرقًا، كان في ذلك الوقت قد وصل إلى قمة عجزه ويأسه، فقد أي أمل في أي شيء، كان يريد أن يموت بالفعل، فلا قيمة لحياة، كل ثانية تمر عليه عبارة عن عذاب لا يطاق.

في يوم ارتعش رعشات عنيفة فبرقت صورتها، ثم اختفت، غمرته فرحة جعلته يضحك من فرط البهاء، ومن يومها بدأ ينتظر بروقها، لم يكن ينام، يظل يستحضر صورتها يجاهد حتى تبين له.

عندما كانت تبزغ أمامه، في التماعات قوية، ووجهها تزاح عنه كمية العتمة ويضاء بضحكة مفرحة، كانت روحه تصاب بسعار، يصيب جسده باضطرابات عنيفة ، كأنه ديك مذبوح يتقافز من مكان لآخر دون إرادة، حتى يهمد ويمزق ملابسه صارخاً:

"إن كان حضورك على جثتي احضري،

عذّبيني بوجودك،

اغرسي مخالبك في روحي حتى تقضى على،

أنا وأنت روح واحدة."

تمر الأيام، تحتجب عنه، يظل خلالها ساهرا ينتظر إشراقها عليه، ناظراً إلى السقف لعلها تنزل بمظلة وتخترق السقف؛ لتسقط بين يديه، يتطوّح من الفقد؛ حتى أصبح دائم العذاب، ضائعًا، يستجدي الموت ولا يناله.

حتى اكتملت أمامه في إشراق تام، ترقص ببهاء الأنثى على صوت موسيقى داعرة، تُخرج منها الشياطين، حاول أن يحتمل، وردَّد:

كل لذة وراءها ألم فظيع

ماذا فعلت لك؟، لماذا كل هذه القسوة، وسحب الكرباج الذي يهش به الحمار، لم تفكري مرة واحدة فيَّ، كأنني غير موجود، ألا يوجد أي نوع من الاهتمام بي ألم تسعدي مرة واحدة بصوتي، إيه المطلوب؟، أن أموت مثل الحشرة؟، كلب في هذا المكان؟، وأنت تمارسين دعارتك، بدون أي نوع من تأنيب الضمير، هل هذا عدل؟، أي حد ارتكب جرم لازم يعاقب، لكن يجب أن تكون هناك عدالة في هذا الكون؟

تحصلون على كل شيء، كل المتعة دون أي ضريبة أو عقاب من أي نوع، أخذ يضرب الهواء بالكرباج بقسوة؛ فيرتد طرفه الي جسمه، يضرب حتى أصبح جسمه ينزف دمًا من مناطق متفرقة، لم يأبه أحد به.

كانا في حالة غياب، العريس في حالة نشوة، ولذة، وفرح، كأن الدنيا كلها بين يديه، لم يكن يحلم بجسد بكل هذا الجمال، يفتش في تفاصيل جسمها ويسكر، حتى يصل إلى ذروة النشوة الكاملة، يترك نفسه يتشممها، ويلحس في ظهرها، يريد أن يرتديها، يمزج هذا الجسد بجسده.

نام من تعبه، وفى اليوم التالي أشرقت عليه، كانت تطبخ شبه عارية، وعرق ينبت من جسمها جعلها فاتنة، خاصة مع التصاق القميص على جسمها، دخل الزوج وفى يده زجاجة بيرة يشرب منها، توقف عن السير واقفا وراءها وعضوه يمسها وهو يملس جسمها، ثم صب زجاجة بيرة على رأسها، شهقت بصرخة، اخذ يضحك ويفرك شعرها بماء البيرة ثم سحبها ومارس معها الجنس.

لازم تتعذبي، لازم تتألمي زيّي، وتحول صوته، وكل كيانه إلى كرباج، يضربها به بوحشية وعنف، وهي في البداية كانت تشعر بوخز خفيف يلسع ظهرها، كانت تتصور أنها مداعبات الزوج؛ فالصفع على المؤخرة له لذة، تلتفت لا تجد أحدًا، فقط فراغ، ثم بدأ يزيد حتى إن الفزع كان ينتابها، وتتصور أنها مستها الشياطين، لم تحاول أنت تلفت الانتباه، وأخذتْ تمارس حياتها العادية حتى لا تُتَّهم في عقلها، حتى فاجأتها ضربةٌ عنيفةٌ أفقدتها الاتزان، وجعلتها تتخبط في الحوائط، عدة مرات؛ محاولة في كل مرة أن تقفز من البلكونة، هربًا من الألم الذي أصابها، ولم يتوقف إلا بعد أن وصل إلى ذروة التعب؛ فسقط في غيبوبة، وهي معه، حتى اليوم التالي، والأسرة حولهما، ونظرات الشفقة تحيط بهما: فيه إيه؟

وكأنما لم يحدث شيء؛ قامت من على السرير لتعد الطعام، رافضة الكلام في هذا الموضوع، وعاملتهم بجفاء، حتى انصرفوا، وهي أخذت تراقب نفسها، وشعرت بعين ترقبها، كانت العين ذات ثقل محسوس، كأن لها وجود مادي، أخذت تبحث لعلها تجد شيئا، ولكنها لم تجد شيئا"، ورغم ذلك فقدت التوازن، وانسحبت من العالم المحيط وكمنت داخلها، سرحتها تطول وتفكّر متي تأتي الضربة التالية؟، وبأي شكل؟، وكيف يمكن الدفاع عن ذاتها في مواجهة المجهول؟

سحبت زجاجة بيرة، ثم دخلت إلى الحمام وشربتها، ثم خرجت مرة أخرى، وسحبت زجاجة من الصندوق، وانتهت منها قبل أن يأتي الزوج، تدور في الشقة، شعرها مهوش وملابسها قذرة؟، أنا أكيد اتجننت أو في طريقي للجنون.

4

لم تستطع زوجة سعد الاستمرار في الخروج بالكارو خاصة أنها تتعامل مع أفاقين استطاعوا خداعها، وعندما أعيتها الحيل حملت سعد علي الكارو، وانطلقت خارج البلاد، وأخذت تتسول، على الزوج العاجز تدفع العربة، في الشوارع ويداها ممدودتان، وهو لم يكن مباليًا/ انطوى على عالمه، لم يكن ينبهه إلى الخارج سوى السيجارة، يشعلها ويختفي تحت غلالات الدخان، ترك العالم ولم يكن يفكر في شيء إلا هي، وحدها مركز الكون؛ التي تستحق أن أفكر فيها، أما باقي هذا الكون، خراء خراء.. لحيته تكبر حتى لم يعد يظهر من وجهه سوى جبهته وعينين صغيرتان ترفان، يتذكر وجهها، جسمها، ويتخيلها ترقص، تهمس له بأجمل كلمات، تطلب منه أن يغني؛ فيغني، يحس صوته ينطلق كأنه العندليب، وعند آخر النهار أحس بالحدس أنه يسير في الشارع الذي تزوجت فيه؛ فبدأ يسرسع بصوت عال في الطريق، وبدأ الناس يتعاطفون أكثر معه، حتى عاد إلي البيت في أشد الحالات عجزًا ومذلة وقهرًا، حتى أفقد رشده؛ فبدأ يبكي، حتى راح في شبه غيبوبة، وقام في النزع الأخير من الليل، أشعل سيجارة، وسحب جسمه واعتدل، شرب ماءً، وتلفت، وجدها أمامه ولأول مرة، ولولا العجز الجسماني لقبض عليها... آه.. هاهي أمامه، والزوج يقبل رقبتها من الخلف ثم يديرها في مواجهته، ويشرع في تقبيلها، خلع عنها القميص، وأراحها على السرير؛ فبدت في قمة ازدهارها، ماسةً تتألق..

وسعد يزوم كحيوان جريح: وكأنها لا تأتى إلا لتقهرني، لتجلدني، لتدمر أي رغبة لي في الحياة، لتأكد انهياري التام. انا العجز بلا أمل في شيء تترك هي هذا العلم كله لتصارعني أنا الواقف على حافة الموت.

الزوج يمص في ثديها ويواجها، وهى تقبّح في متعة وتشهق شهقة شرموطة، يتقلبان على السرير، تهرج وتتأوه.

"الملعونة يجب أن تتعذب .. يجب أن تعانى .. لن أتركك تعيشي سعيدة، سأحطمك، بسببك دُمّرت، وأنت في غاية الفرح بلا أي وازع من ضمير أو أخلاق، قتلتني وترقصين على جثتي"

بدت الجميلة تشعر بألم مروع يجتاحها؛ جَلْد على جسمها يكويها، كأنه ماء نار. والزوج يولجها بقوة، ونشوة كأنه لم يمارس الجنس فى حياته، هذا الشبق الذي يخرج الجسم عن طبيعتها ويتحول الجسد إلى كائن حي حر يمارس أقصى أنواع الطغيان على العقل، أي حياة، أي كون نعيش فيه.

حتى سقطت في غيبوبة، ونُقلت إلى المستشفي، كانت تحت الملاحظة، ولم تأتِ بأفعال غريبة أو عنيفة أو تشوهات من أي نوع، فقط تتلفت باحثة عن مصدر الألم، ولكن عند الكلام معها تكون شديدة التركيز، ولها حضور يسلب اللب وشقاوة جميلة حتى إنها عقدت صداقة مع الدكاترة، وعندما خرجت صممت ألا تعود مرة أخرى إلي بيت الزوج؛ الذي يُذكّرها بأيام تعيسة عاشتها.

حاول الزوج بكل قوة، خاصة أن مدخراته كلها ابتلعها هذا البيت والزواج؛ ولكن دون جدوى، تردد الزوج على شقتها في بيت والدها، وحاول أن يمارس معها حقه ولكنها كانت زاهدة في كل شيء؛ يمكن ـ خوف ـ استحالة العشرة، وفشل الأقارب في الجمع: ولذلك انتهى كل شيء إلى الطلاق، وأصبحت حرّة، تظل طوال الوقت في البيت، تتفرج علي التليفزيون، وتتصل بصديقاتها القدامى، وأصبح المكان وكرًا لمن في مثل ظروفها؛ فأصبح يضم أشتاتا يجمعهن حب النميمة والكسل والرغبات المقموعة: وكان محور الحديث اليومي الجنسُ، وعندما كنّ يذهبن كانت تدرك حجم الكارثة التي أصبحت فيها، وأنها وحيدة وأن حياتها راكدة، بل ميتة؛ ولذلك أرسلت الشغالة لإحضار علبة سجائر في السر، وأخذت تدخن في شراهة، بل أن ضيوفها يرونها تدخن، وكانوا يمدحون جرأتها، وبعض صاحباتها أخذن يقلدنها في حذر، ثم انضمت معظم المجموعة إليها؛ فكانت الشقة تعبق بالدخان؛ إلا في الحمام، أوفي المطبخ أو في الصالة، وعندما ينتهين يقمن برشّ اسبراى.

كانت الأيام تمر هكذا على وتيرة واحدة، إلى أن عادت إليها هذا الإحساس المرعب بوجود العين تراقبها بحدة؛ عين شريرة لا تكتفي فقط بالتلصص عليها وتأمل جسدها؛ بل تحولت نظراتها إلي سكاكين صغيرة تنغرس في جسمها بعنف؛ ولذلك كانت في قمة القلق والرغبة القوية في الانتصار، والرغبة في دخول المعركة، وهي تعلم أنها تحارب عدوا مجهولاً شرسًا، ارتددت الملابس الثقيلة، ولم يعد يظهر من جسمها شيء، وبدأت تهمل مظهرها، وتفكر في هدوء، تحت كومة من الأغطية.. أما هو فكان في آخر أيام احتضاره، وكان يعلم أنه لم يكسب شيئًا، ولن يخسر شيئا أكثر مما خسر في هذه الحياة، خاصة أن جزءًا كبيرًا من جسمه قد مات، وبدأ يصارع الوقت لكي يحصل على ما يريد، حملته امرأته وخرجت به لكي تقف أمام الجامع، وهي تعلم أن الأيام الأخيرة من رمضان يزيد فيها الخير، لم تكن تريده أن يموت قبل أن ينتهي هذا الشهر، ولا أحد يعلم بعد ذلك من سيعطيها، وضعته على الكارو، وضربت الحمار بغِلِّ العجز، وهي تفكر كيف أصبحت هكذا بهذه القسوة؟، كيف تقتات عل زوجها الميت؟، ثم سالت دموعها، فرفعت كُم الجلباب، ومسحت دموعها، ونظرت إلى الأمام؛ فات الأوان!، أصبحت كالناس قلبي جمد، أنا ممكن أجوع أو أموت، ولن يقف أحد بجواري، وأبني الوحيد تركني وهرب، مفيش حد، حتى الزوج الذي كانت نساء يحسدنني عليه وعليى وسامته سيتركني، لو لي أخ يحميني يمكن كنت غير كده حاااااااااا!

أخذ على عاتقه المهمة المقدسة التي سيدفع روحه مبكرا لقاء الحصول عليها: استعدَّ وتمترَّس وضرب أول سهم موجع لمريض؛ فدق رأسه؛ وسقطت على الأرض ثم عاجلها بضربة أخرى قبل أن تفيق، ثم سحبها على السريع، وضمها إليه، وأخذ يعتصرها في قوة، وكانت تعافر لكي تدفعه عنها، دفعته فسقط في هوة العدم، ورغم ذلك جاهد بجبروت قطب صوفي عنيد، وعاد للانقضاض عليها، كانا في المواجهة؛ هو ظهرت كل أسلحته، وهي تتمترس؛ ظهرها إلي الحائط وتستعد؛ مستعينة بالخيال، ومستفزّةً طاقة راكدة تكاد تموت.

كانت غاية في الجمال، حتى إنه توقف عن توجيه ضربات.

أنتِ في أعلى بهائك، كيف يمكن مقاومة كل هذا الجمال؟

أحس بالضعف حتى إنه فكر في الاستسلام للموت بالفعل، وبكي، لا يعلم لماذا؛ هل لأنه ضعيف؟ أم لأن هذا الجمال سيستحوذ علية آخرون غيره؟ ارجوكي عايزة إيه من الدنيا؟ لا تنخدعي في المظاهر الكذابة، لا تنخدعي في قوتك، كل دا زائل، هباء منثور في كل الأحوال، أنت ميتة، طيب ليه الاستمرار؟ دا جنون، استلاب أبدى، لو فكرتي دقيقة واحدة في مصير الإنسانية؛ اليأس أن هذا الكون المرعب والمليء بالخداع والغش والأكاذيب والقتل والدمار؛ الذي يستحق بالفعل الرثاء، أنت عارفة: خليك محايدة وزيحي حكايتي، أنا لو كان بأيدي لخلصّت كل هذه الجموع؛ الفقراء والمساكين المظلومين التعساء، من هذه الدنيا المغرورة في ضربة واحدة، موت جماعي رائع، أنا استحق هذا الموت الذي لم أكن لأحصل عليه لولا هذه التجربة المرعبة المؤلمة التي تعرّضت لها، لقد كشفت أمامي أشياء، والله لو رأيتها لدفعتي بنفسك من فوق جبل لكي تري ما أنا فيه، أنا اصطفيتك يا ملاكي لأنني أريد أن أعفيك من كل هذه الشرور؛ من القتل والغدر وفقد الأحبّة. أيدك.. اقتربَ منها، في هدوء، وأمسك يديها.

 

واحة السيد جوهر

بعض أصحاب النفوذ في هذه البلدة قرروا زيارة المهندس ومحاولة تقصي الحقائق التي قد تفيدهم في كيفية الاستفادة من ذلك الوسيط.. إما بتسفير أولادهم أو يكونون هم الوسطاء لتجميع العمال وجمع الفلوس مع إحضار جوازات السفر في مقابل نسبة علي كل رأس. وعندما دخلوا وتم استقبالهم عرف المهندس النية من وراء وجودهم فأخذ يحكي حكايات بلا أول من آخر ويأخذهم في حكايات شديدة البعد عن الموضوع إلي أن قطع الحديث شايب في آخر عمره بعد أن وضع كوب الشاي –

• مش إحنا بهائم أولاد كلب اللي جايين لواحد مسطول ابن بلغة

– أنا بنورك على الموضوع يا حاج؟

-هو أنا لمبة جاز يا ابن الجزمة... أنت بتجيب كلمة من الشرق وكلمة من الغرب ودخلنا في حواديت وحكايات، مش والنبي احنا غلطانين اننا جينا، روح يا شيخ ياك مصيبة تاخدك

.-أنت كده بتشكك في نزاهتي يا حاج .

• نزاهتك اٍيه

– عيالنا حا تروح في داهية. مع ابن الصرمة ده مش عارفين فين طريق السلامة أو طريق الندامة وانت بتحكي حواديت

• دا تاريخ.

• أنا عاوز كلام محدد الواد دا إيه حكايته؟

• كدا بس؟.... عرفت طلبك.

• قول يا سيدي.

• في الحرب الكبري

• هترجع لي للحرب الكبرى؟!

• الولد مضمون ولا لا؟

• برقبتي يا حاج.

• خلي رقبتك، الواد دا هيغرقنا يا جدعان هو احنا لاقيين العيال دي؟

• خلاص يا حاج اديني دقيقة واحدة

• واحدة.

• واحدة

واحده يا حاج

ولكن الحاج لم يحتمل هذا العبث فرمي العباية على كتفه وقام الرجال مع قومته ولم يرموا السلام وخرجوا من البيت.

 

الوسيط

ترك البلدة بعد أن كان يشعر بالعار مما حدث لأبيه وهام في البلاد، ينام في الشوارع ويتسول الطعام، من البيوت والمطاعم وفى يوم كان يحوم في محطة السكة الحديد تعرف هناك على صبيان في مثل عمره، كانوا مشردين، نفاية البلد مثله، البعض منهم كان لصا محترفا ومنهم من كان قوي البنية فكان يعمل في مهن مختلفة وآخر كان يتسول مثله لأنه كان ضعيف البنية ولم يكن لدية الجرأة على السرقة. وفى يوم قرروا أن يتركوا البلدة ويذهبوا إلى اسكندرية، وفعلا ركبوا القطار ونزلوا في محطة سيدي جابر وأخذوا يتجولون في الشوارع ثم ذهبوا إلى الشاطئ.

كانوا في غاية السعادة من هذه المغامرة، كانوا يرون في الاسكندرية مدينة ساحرة، وأخذوا يسرقون من المصطافين ويشربون البيرة ويقضون ليالهم على الشاطئ. لم يكن الوسيط يحب السرقة ولكن إغراء المال وسهولة السرقة، وتجريب متع لم يحلم أن يجربها قبل ذلك، تدخين السجائر ومشاهدة الأفلام الاجنبية والعربية في السينما، إقامة علاقات مع فتيات محترفات وبائعات في الشوارع فقيرات، وكلهن في غاية الجمال مقارنة بفتيات أهل بلدته.

لقد ضمرت البلدة داخل ذاكرته حتي انه كان يبذل مجهودا لكي تتراءى مشاهدات من البلدة، سرعان ما تختفى، حتي أسرته لم يعد يبالى بمصيرها، كانت المدينة تفركه داخلها حتي اصبح بعد عام واحد كأنه واحد منها وقرر ان تكون مدينته لذلك استأجر شقة وترك الفندق الرخيص وأخذ يشتري بمبالغ كبيرة جدا أسرّة وتليفزيونا وراديو مسجلا.

ومرة صعدوا ثلاثتهم أتوبيسا لسرقة الركاب وقد كان فقد سرقوا محفظة من راكب وعندما أعطى الإشارة لأصدقائه بالنزول كانت يد تقبض على رقبته بقوة، رفع قامته فوجد رجلا ضخما حاول أن ينتزع نفسه منه ولكنه لم يستطع وعندما تركه كان قد صفعه عدة صفعات ألقته على أرضية الاتوبيس، حاول الأصدقاء نجدته ولكن تم اصطيادهم من الرجل القوي ومرمطتهم. ضُربوا ضرباً مبرحا وأخرج مطواة من جيبة واقترب بها من وجوههم وشرطهم واحداً وراء الآخر دون أن يجرؤ أحد من الركاب على التدخل، ثم قذف بهم إلى الأرض في المحطة.

عاد إلى الشقة في ذلك اليوم وهو يحمي وجهه بيديه، وظل فترة طويلة لا يخرج من البيت إلا عندما التأم جرحه ورغم أنه ترك ندبة على وجهه إلا أنه مازال وسيما بل إن الشَرطة أضفت عليه مهابة، حمته بعد ذلك فكل من كان ينظر إليه يجد شيئا من الشراسة بوجهه، انفصل عن الأصدقاء ثم أخذ يبحث عن عمل وفى يوم وجد عملا داخل مطعم للفول والفلافل وكان العمل الموكل إليه مسح الأرضيات وشراء أشياء بسيطة يحتاجها المحل والمساعدة في ساعات الذروة، حتى أصبح جزءا أساسيا لا يمكن الاستغناء عنه.

وفى يوم كان ضابط بالقوات المسلحة يأكل في المطعم وتعرف عليه فقد كانوا جيرانا ففرح وعرفه بنفسه وأنه يسكن بالقرب منه، استلطف الضابط الوسيط خاصة أن للوسيط روحا طيبة وبداخله شيء طيب يقربه من البشر، وكلما جاء الضابط تبادل معه الحديث، حتى أصبحت علاقته به قوية فطلب منه أن يذاكر ليحصل على الإعدادية وبعد ذلك يتطوع في الجيش وأظهر له مزايا الانضمام للجيش، عندما سمع كلام الضابط لم يكن يصدق نفسه، كيف لابن واحد مفيش مثله أن يرتدي بذلة عسكري ويسير في الشارع؟

أصبح حلمه، حلمه أن يدخل الجيش ويصبح رقيبا، ثم رقيبا أول الخ، ذهب إلى البلدة وسحب الدوسيه من المدرسة وعاد دون أن يراه أحد من البلدة إلا الناظر والسكرتير لأنه كان في الاجازة الصيفية وقدم في مدرسة قريبة من البيت وأخذ يذاكر بجد حتى تقدم للامتحان في الشهادة الابتدائية ونجح وواصل تعليمه حتي حصل على الإعدادية وقدم بعد ذلك في العسكرية كجندي متطوع وتم قبوله.

قامت الحرب بعد ذلك وتم أسره، واستُخدم كفأر تجارب في المستشفيات، وتم التفاوض مع الهلال الأحمر لكي يفرج عنه بمقابل، لكن لم يحدث حتى أفرج عنه بعد ذلك عام 1975 وخرج وبه جرح وخزي مرعب فقد رأى الدبابات وهي تسحق الأسري المصريين، وجسمهم يلتصق بالمجنزرات، كانوا أصدقاء وأخوة رأي التنكيل بهم من عدو قذر استخدم بعضهم في المستشفيات كأعضاء بشرية بديلة بعد أن يحصلوا على كل المعلومات الاستخباراتية الخاصة.

عاد الي الوطن وحاول أن يشارك في السياسة، يخرج في مظاهرات محدودة، يدين الاعتداء علي الحريات والاعتقال وعندما ضاق به الوطن وضاقت به السلطات أمرت باعتقاله فاختفى في عمارة يسكن فيها ضابط يعمل في المخابرات، وكانت الشقة لعضو من الإخوان المسلمين استطاع تهريبه اٍلى السعودية، وفى السعودية جمع ثروة قليلة واختفى ومن يومها لم يعرف عنه أحد شيئاً، البعض قال مات البعض قال إنه مع جبهة الساندانست، والآخر قال: اٍنه مع ياسر عرفات في جنوب لبنان، والبعض قال: اٍنه في أفغانستان يحارب السوفيت، حتي اختفت أخباره إلى أن ظهرة مرة ثانية في البلدة الذي خرج منها تاركا ابا واما وأختا.

ولم يجد أحدا.

في اليوم التالي تجمع أهل البلدة تحت العمارة التي أجر بها مكتباً كان لمحام، وعندما نزل إليهم تحت العمارة وجد طوفانا من البشر، يمطرونه بالأسئلة عن الواحة، والعمل والأجر، وهو يرد بإجابات تبدو منطقية ولكنها لا تشفي غليل أحد وتزداد الشكوك، وتكبر التوجسات الملحاحة التي رد عليها عدة مرات، حتى انفعل للمرة الأولى:

"اٍنتم عاوزني أجيب برقة الخضراء والسيد جوهر هنا علشان تطمئنوا، فيه إيه يا بلد وسخة، من فيكو راح الخليج وكان ضامن العمل والأجر والصحة؟ اٍنتم مستعبدين في كل بلد عاوزين الوقت تبقوا أسياد ولكم شروط. انتم فاكرين أنكم أحياء، أنتم موتى لا أكثر، تفرق معاكم إيه، أي مكان في العالم هيكون أحسن من هنا في اللبس في النوم في الأكل في الأجر، متصورين في أي مكان في العالم حد ممكن يكون وسيط لعمال للعمل في هذه المخروبة، أبدا والله، أنتم منسيين.

كان موقفا مريعاً. وبدا أكثر قوة وصلابة في مواجهة الجموع التي شعرت بالخزي وأن هذا الرجل غرس سكيناً في مؤخراتهم، وأغلق المكتب وتركهم عرايا. تنبه أحد الحاضرين إلي الإهانة التي وجهها الوسيط لأهل البلدة.

• أنا عاوز أعرف ابن القحبة دا يشتمنا ازاي، هزلت أنا محمد رشوان يتهان على رءوس الأشهاد، عليّ الطلاق لو ما يقولوا غريب والغريب أعمى لمزعت جسمه بالسكين .

• ارتفع صوت من وسط الحاضرين:

معلش يا حاج قلبك أبيض الأيام جايه كتير.

انفجر الجمع، وفي ظل ذلك الهوس، التقط شخص طاقية الحاج محمد وقذفها في الهواء بقوة، يا ولاد الكلب. وأخذ يجري في اتجاه الطاقية والناس لم تعد تتمالك نفسها والرجل يجري ورأسه البيضاء تضوي بسبب خلوها من الشعر، وبينما الناس تتفكك وتتناثر في المكان ارتفع صوت مدرس الجغرافيا. أنا عارف فين الواحة ورمي السيجارة ثم اختفي، وعندما عاد كان في يده خريطة للوطن العربي أتي بها من المدرسة الإعدادية التي يعمل بها وفرشها علي البلاط وطلب من الحاضرين أن يشاهدوا برقة علي الخريطة وأشعل سيجارة وقال: كل المآسي التي نحن فيها بسبب هذا الجهل المخيف بالجغرافيا، اٍذا كانت الأرض اللي واقفين عليها مش عارفينها يبقي فاضل إيه؟ ثم أشار بخيزرانة في يده إلى بقعة خضراء وسط الخريطة، هنا الواحة، هنا الصحراء

وأشار إلى بقعة صفراء ثم أشار إلى بقعة رمادية بمثلثات ودوائر لكي يزيح الستار عن الأمكنة التي يوجد بها صخور وماء وطرق، ثم غرس السيجارة في مكان الواحة، وقال: اٍن هذا المكان يسمى مكان الشيطان، الحضانة الوحيدة في العالم التي تأويه:

يا إخوان هذا الكلام مرسل وإنشائي سمعناه ولم نتحقق منه. أيوه. استراحة الشيطان يتخلي فيها عن كل أدواره ويمارس حريته فيها، لذائذه رغباته. وعندما انتبه المدرس إلي البلاهة المطبوعة علي الوجوه، سكت وأغلق الخريطة. ممكن هوا... أنا اختنقت يا إخوان. هوا؟ تزحزح الجمهور إلى الوراء فسحب نفسا عميقا.

اتسعت الرقعة. الكثبان الرملية التي تحيط بالواحة تسحب الديناصور داخل رحمها وكأنه نملة وإذا تجاوزت هذه الكثبان فستستقبلك الصخور الجهنمية والتي لو صعدت عليها الشمس لتحولت إلى كتلة من الجحيم، تستطيع أن تخبز وتطبخ وتشوي عليها الخروف. بل في قلب النهار تستطيع أن تطرق عليها الحديد وتصنع منه فؤوساً، وخناجر، بلطاً. إضافة إلي كمية لا بأس بها من الحيات والعقارب والفئران والعقاب، والنسور، والغربان، والصقور وتجمعات هائلة من النحل، الثعالب والفهود والنمور، والتي تكون طول النهار بسبب حرارة الجو التي تصل من 70 إلى 90 درجة، في كهوف طبيعية خلقتها عوامل التعرية في العصور المختلفة. هنا الصحراء ينبجس من تلك العيون الجحيمية ماء زلال من شرب منه شفي من كل الأعطاب التي تتخلل نسيج الجسد، إن عسل النحل الموجود بغزارة يطيل العمر حتى أن بعض دارسي التاريخ شديدي التعمق يقولون إن هذه المنطقة في جوهرها وبدئها هي مدينة نوح بتضاريسها ومناخها البكر، ودعم هذه المقولة بعض علماء الجغرافيا العظماء الثقات والذين قدموا إنجازات مبهرة في مجالهم، وقد فسروا هذه الاختلافات بين العلماء بدور البراكين والزلازل والانشقاقات الكبري، والتي فجرت أنهاراً ووسعت بحاراً وخلقت صحراوات ومستنقعات وشلالات وقربت أماكن وبعدت أماكن، وكله بتقديرات العزيز الحكيم، وأن هذه البقعة من العالم الخالية من المصانع والسيارات وكل ما يفسد الطبيعة قد تكون الأخيرة البكر الرءوم المباركة من الرب والتي من الممكن أن تكون هي المكان الأخير بالفعل الذي ينتصر فيها هذا الدين المظلوم، والذي يتم التنكيل بكل الموحدين في هذا العالم البائس...

أجهش شاب تبدو علية البراءة من أثر صوت المدرس المأساوي والذي انتقل بالعدوى اٍلى باقي الحاضرين فبدأ نواح جماعي مريع وكلما خفت النواح يطعن واحد من الحاضرين- شاب، أو فتاة، أو عجوز، أو امرأة أو رجل- بإشارة للمظالم المروعة التي يشيب من هولها الطفل الصغير. والحذف والإقصاء لكل روح حرة أبية، وضياع المسالمين في بلد لا تحفل إلا بالأوغاد

وانتهي المدرس بقولة حين أقرأ شطحات الصوفيين وإشاراتهم يطبق على قلبي أن هذه البقعة هي المقصودة من كل أقطاب الصوفيين الكبار من الشبلي إلى ابن عربي من الحلاج إلى السهروردي، من تحمل التعب في الوصول وانضبط في الطريق كانضباط الجندي في الحرب نال، أما أن يكون عارفاً وولياً من أولياء الله الصالحين القادرين على العروج والضرب في طريق بهية فيها اللذة خالصة والتبحر في العلوم اللدنّية الدانية والاغتراف من بحر الأسرار والوصال مع ما لا يمكن الوصول إليه أو يكون من المبعوثين هداية ورحمة، الذين يسيرون في الطرقات يختلطون بالناس في الأسواق يسامرونهم، ولهم مهابة وشجاعة تعينهم على الوقوف ضد جور الحاكم وسفالات الأوغاد والرعاع الذين يحتمون بالحاكم في قهر الناس.

هؤلاء الذين يأتون علي رأس كل مائة عام يخلقون فوضي لكي يجددوا هذا الدين القيم...

كان الإنهاك قد نال من الناس حتى بدأوا يتناثرون تحت الأشجار القليلة وسرعان ما غطوا في نوم عميق شبيه بمن فروا قهراً واحتموا بكهف. وظلوا في ثبات يتقلبون لكي تصهرهم شمس رءوم لمدة مائة عام دون الإشارة لكوابيس أو روح شريرة حلقت حول أرواحهم.

وفي اليوم التالي احتمى الزارع بأرضه والعامل بالمصنع والمدرس بالمدرسة وبدت الحماسة تخفت اٍلا مجموعة من الشباب خرجوا على الرغبات الاستحواذية المدمرة للآباء ودفعوا ضريبة خروجهم وعدم سكوتهم. في مكان الآباء شرخ روحي ولعنات وبكاء أمهات يقطر مرارة... اعتصموا في العمارة حتى بان الوسيط وعندما حضر تحصن بالمكتب وطلب من الصغير الذي يعمل معه أن يسمح بالدخول واحداً وراء الآخر. كانت الأمور صعبة عكس ما هو متوقع. إضافة إلى أن الأوراق يجب أن تكون سليمة 100%

التسلل ليس من شيمتي ولا مخالفة القانون.

ويقف الذي تخلي عن المدرسة مبكراً والذي يقف التجنيد عائقاً في طريق وصوله ناظراً اٍلى الرجل لعلة يفلت إليه بطريقة ما "الرشوة".

ينطوي الوسيط علي ذاته ويخرج سيجارة يلفها ويشد فيها منفصلاً عن الحضور وكأنه غير موجود إضافة إلي ذلك الحرس في المقدمة الذي يعرف المتقدم من خلال سيماه والاختيار لكي تكشف كم الصلابة حتى لا تكون عائقا أو معطلاً في منتصف الطريق.

وعندما انتهي من التصفية كان الأشخاص الرابضون في المكتب والمشمولون برعاية الوسيط في شبه إعياء رغم الصلابة والإدارة الحديدية التي سيكون لها دور فعال في المستقبل. والذي أدهشهم هو هذا العجوز الذي تحمل كل هذا العنت في مواجهتهم، وكم القسوة التي يعانيها مع من يتعامل معهم ورغم وجهه الصخري الصغير لم يبد عليه انفعال أو ملل أو ضجر أو استياء من أحد وكأنه محصن بالفعل. وضع الجوازات في محفظة كبيرة ونزل في إثره سرب صغير من الشباب الذي لم يتجاوز الأربعين وعندما انتهوا إلي الطريق كان الميكروباص في انتظارهم تقدم الضابط لكي يركب في الكرسي الأمامي فأشار له الوسيط، بص، علي الكرسي اللي يخصك.

بهدوء انسحب وركب في مكانه، وتساءل سعيد احنا لوحدنا المختارين؟

التفت إليه الوسيط: أنت نقطة في بحر اقعد يا سعيد.

أدار السائق محرك السيارة وبدأت تسير في الطريق بهدوء وكل راكب ينطوي علي ذاته ناظراً إلى طول الشوارع في منتصف الليل والبلدة خالية من البشر، وكل فرد تصور أن البلدة هي التي لفظتهم وكأنهم زائدة التهبت ويجب إخراجها من الجسم لكي يتعافي البدن، حتى الضابط لم يتمن أن يكون معه مسدس مثل اليوم، كان بداخله عنف أراد فقط أن يفرغ المسدس في الفضاء بلا نهاية.

النعش الطائر

بدأ الميكروباص في اجتياز المدينة و كلما توغل في الصحراء تختفي من مساحة الرؤية، العمارات، أضواء النيون.

قال راكب بعد أن نغز أشرف بأظافره:

افتح زجاج الميكروباص يا أفندي إحنا مخنوقين.

طيب، ثم فتح زجاج الميكروباص فدخل الهواء الرطب كاسحاً، كدا كويس وأكمل بصوت هامس شيل الحبل اللي على رقبتك يا بن القحبة

بدأ شخص يغط في نوم عميق وكأن القلق الذي انتابه في الفترة الماضية أنهكه فسقط في جب النوم، أخذ يدور في الوجوه التي تسافر معه في حقد، وكان يتمني في تلك اللحظة أن يكون معه مسدس كي يفرغه بالفعل في تلك الروس البشعة الشائهة والتي تنظر إليه في غباوة تليق بخنازير ولكن كل شي راح، المركز والمستقبل والسلاح، يجعل سره في أضعف خلقه، كنت بالفعل مؤمناً كل الأبواب التي يأتي منها الريح وقلت أتعفن في هذا المكان القذر ليكن هذا المكان الذي طرت منه وكأنه لعنة سودا تطاردني يعني لو كل العالم قال أنا غبي، أنا ها قول لا، ولكن كأن هذه البلدة طاردة النبهاء كما قال أبي أي شيء يعني كنت فاكر أن مهما كانت هذه المؤسسة فاسدة فلازم تكون عايزة حد يدور المكنة...

لكن إرغام ومحاصرة ومحاولة دفعك دون أي نوع من التمييز أو نباهة فيه بلد بالشكل ده... يمكن أبويا لو كان في أعلي حالات التخيل مكانش يصل للواقع المعاش شي مريع.

بدا السائق في تجاوز السرعة المسموح بها فنبهه مسافر فهز رأسه علامة المعرفة ثم نظر السائق إلى الخلف وقال

السرعة دي لذة عندما تكون في سرعة وفي قمة الخطر. تكون ساعتها في قمة التحرر.

ثم داس علي دواسة البنزين بقوة

انتم عارفين (اسم الميكرو دا ايه؟) لم ينتظر الإجابة... النعش الطائر

رد الضابط أشرف

: لا ده احنا معنا مجنون .

رد الوسيط، ولا مجنون ولا حاجة لو أنت نفسك مسكت المقود حتسوق وبنفس السرعة.

استكمل السائق كل ما كان الإحساس داخلك أنك علي حافة الموت ينكشف لك الطريق وتعرف ساعتهما أن الدنيا الْبَائِسَة والتي تتحول فيها إلي خرقة بلا روح ممتهنة تحت وطأة أعباء لا تحتمل لا تساوي جناح بعوضة بالفعل... لم أسمع ناسا مرعوشة من تخيل أنهم موتي، طيب ما أنتم موتي بالفعل.. ثم ضحك ضحكة مفتعلة.

فيه سعار للتمسك بالحياة، ليه؟

حياه ايه دي أنا عن نفسي أعيش الحياة بروح الميت،

كل دوسة بنزين معناها إني في أعلى استمتاع بالحياة، لذائذ متع حسية وروحية. طيب ده ليه، مع ان كل فعل يؤدي إلى الموت كل دوسة بنزين معناها إني داخل في حادثة ويتمزق جسدي ويشتعل فيه النار، إضافة إلى البشر الذين دفعوا حركة التاريخ إلى الأمام

رد راكب وكمان مثقف طبعا خريج آداب فلسفة بامتياز اندهش راكب وقال أنا سعيد بمعرفتك يا اسطي.. إسماعيل سلام شاعر

رد اشرف ومستشار وزير الثقافة ثم ضحك،

رد إسماعيل بعنف، احترم نفسك يا جلاد يا محنط إنا ممكن أفضحك

- كدا وما له كل الناس تعرف عملي وعارفة أن تنفيذ القانون مهمة مقدسة لأي بلد متحضر. طول عمري ملتزم بالقانون. أنت ضد تنفيذ القانون؟

قال: سحل الناس وتدميرهم دا القانون

لو أنت مكاني هتلجأ لنفس السلوك. كل شرطي في العالم يستخدم نفس الأساليب احنا نتعامل مع قتلة ومجرمين ونفايات المجتمع لو مرة تعاملت بضعف ياكلوني على طول... أنت متصور أني أنا سادي رغبتي أني أعذب الناس عمال على بطال، أنا دخلت الشرطة بروح حماية الناس مش اكتر. لكن هو النظام كده نظام أي حد يدخل فيه لازم يتحول وينصهر ويبقي جزء من إطار ضخم.

قال الشاعر: كلمة حق يراد بيه باطل، أهدرت طاقات واغتلت أرواحا وشردت أسرا ويتمت أطفالا باسم مصلحة البلد

قال أشرف: كنت متصور أنك بالذات آخر واحد يتكلم. أنا وأنت في خندق واحد نفس الأهداف، نفس الرؤية ولكن فقط أنت تلبس قفازات كله تحت ستار معانٍ نبيلة. تحت راية التحضر والمدنية وحرق المراحل لاجتياز مرحلة التخلف، أنت مش ليك مقال عن أتاتورك قولت ايه فيه في نهاية المقال

"هذه الشعوب المستغرقة في التخلف والرجعية ليس لها طريق للخروج من هذا التخلف إلا الحديد والنار مثلما فعلا الرائد كمال أتاتورك

قال مزارع: صح.. صح الأصح يا أستاذ والله الكلام ده دخل نغشيشي. احنا شعب كده ما نرجعش إلا بالعصا ترفع العصا نجري قدامك، دا جوا البني آدم. أنا أقول لك. وأنا في المدرسة كان الأستاذ الطيب يتبهدل يتمرمغ والجامد الجدع نبقوا زى الفيران، ولا همسة كلمة.. لا.. احنا شعب جبان يا أستاذ العصا لمن عصا.

قال أشرف: الوحيد اللي من حقه يلومني ده وأشار للمزارع

قال الشاعر دا نتاج تعلمكم وطريقة الحكام الفاسدة

يا سلام على النزاهة والشرف

أنا مش نزيه ولكن مين اللي فسدني مين اللي دمرني وخلاني ما أنا عليه لو أنا معدوم الضمير زيك كنت لسه موجود؟

قاطعة أشر ف لا يا حبيبي الساقية قلابة وخرجت زيي بالضبط

أنا أعظم شاعر أنجبته هذه الأمة

كل واحد شايف نفسه أحسن واحد في الدنيا

بدأ الشاعر يرغي ويخرج منه كلام أشبه بالفحيح وحاول أن يضرب أشرف فلوى أشرف ذراعه بسهولة وأخذ يضرب فيه بعنف. أنتم السبب، أنتم الكلاب اللي دمرتوها، وانطوى الشاعر يبكي.

أخذ الحاضرون في التهجم علي الضابط ومحاولة ضربه، فتوقف السائق ونزل الوسيط وتم تنزيل الركاب ووقف أمامهم ورمى السيجارة وقال:

أي قلة أدب حرميكم زى الكلاب هنا وأسيبكم وأمشي شغل العيال ده مش عايزه فاهمين،

بدأت الركاب في دخول السيارة والجلوس في هدوء في المقاعد

التفت الوسيط

• يا جماعة من منكم بلا خطيئة فليرمه بحجر. احنا كلنا محملين بالخطايا، والطريق دا ميلاد جديد

• كمل يا اسطى

• يا جماعة يشفع لأشرف الدور العظيم اللي قام به الوالد، تاريخ مشرف

سقط أشرف في هوة بلا قرار عندما سمع سيرة الأب

تاريخ مشرف ونضال مرعب وترك كلا شيء للأوغاد وفاسدي الذمم والأوباش لو علم أن الحرب القتالية شيء هين بالفعل وأن الحرب الحقيقية كانت في الداخل ضد القتلى والمرابين كان حقق فعلاً مرعباً ولكن ترك كل شيء باقيا عندما قرر أن ينسحب في هدوء المنسيين، يقرأ في كتب التراث. وكأن البلد ينقصها قرّاء تراث، لقد تحول البلد كله إلى قارئ تراث وأساطير وفكر ميت

بالفعل لن يستريح هؤلاء إلا بعد تفكيك هذه الدولة تفكيكاً تاماً ساعتها سينتبه هؤلاء إلى شيء ظلوا يتجاهلون وجوده وهو العلم وفي تلك الحالة سيكون الثمن الذى سيدفع باهظاً إلى أقصى درجة هذا يذكرني بفترة من حياتي كنت خلالها أمارس التعذيب بشكل مرعب، ورغم ذلك لم أكن أترك صلاة الجماعة طبعا أنا لم التفت إلى هذا التشوه إلا بعد أن خرجت من الوزارة يجب أن نعيش حياتنا كما هي عارية، عكس ما يحدث وكأننا أصبحنا أمة سرية تعيش تحت قشرة الأرض في كهوف لا نرى إلا أنفسنا، مع أن العالم حوّلنا لحقل تجارب وكأننا فئران، المشكلة أننا مقتنعون داخلنا أننا كدا أعظم بشر على هذه المعمورة.

 

كفاءة

في بداية عمل أشرف ضابطا بعد تخرجه من الشرطة، كان قوي البنية ويتمتع بحيوية وقدرة ونشاط عجيب حتى استطاع خلال مدة أن يلفت الانتباه باعتباره من أكفأ الضباط من خلال العمل بقسم الشرطة، والذي أضاف له قيمة أكبر هو أنه لا يلجأ للضرب، أو أي إهانة لأحد إلا بعد أن يستنزف كل الحيل ولكن له طريقة غريبة وذكية في انتزاع الاعتراف، معتمداً بالأساس على الخوف والرعب الذي يحمله المواطن تجاه الشرطة في البلد، إضافة إلي تلويحه الدائم بأنه يحمل شراسة وعنفاً غبياً اكتسبه من معلومة قالها له الأب

أن العمل بالشرطة يختلط على الضابط بنوع من التمثيل فكلما كنت قادرا على حفظ واتقان الدور خرجت بمكاسب

وقد أعجبته الفكرة وقرر ممارستها فدرب نفسه على تحويل وجهه بهدوء من الإنسان النبيل ابن الأصول ال ذه؟؟؟؟؟ فيحدث نوع من الاستقرار والهدوء لدى المدان ثم يتحول هذا الوجه الهادي إلى كائن مسعور وهائج ويحتمل ان يرتكب جرائم بلا أدني شرف أو إحساس. يربكه خلالها فيحصل على المعلومات الذي يريد. كما أنه أعزب، فظل فترة طويلة بالعمل وقد استفاد من رجال أمن الدولة لكي يساعدهم في تحقيقات من نوع خاص، أن عملهم يحاط بالسرية فيكون واجهتهم في كثير من القضايا حتى أن الوزير رشحه في أن يعمل بأمن الدولة سيما أن المواجهات وصلت إلى ذروتها في تلك الفترة، مواجهات مرعبة مع التيارات الاحتجاجية الجهادية، اليسارية والقومية والناشطين السياسيين والأحزاب والنقابات.

دخل بقوة في هذا المناخ وقد ساد نوع من الارتياع خلقه الوضع الجديد الذي أصبح عليه فصار يتحدث قليلاً وينتقي لفظه بدقة، وشاب سلوكه نوع من الاستعلاء وإن كان يتغير حسب الطرف الآخر الذي يخاطبه، فكلما أمعن في توقير وإظهار الهيبة له زاد في التشرنق كما أن اطلاعه علي وثائق شديدة الأهمية، جعلته يري أحشاء المجتمع والطبقة الراقية، والمدى الذي يمكن أن يصل إليه في السيطرة جعله يتغول في ممارسة العنف تجاه فئات تلقى احتراماً من المجتمع. ورغم ذلك يشعر أنه غير مرضي عنه وأن خياله وقدراته تضعف، وأنه كلما حقق مع معتقل سياسي لا يأتي بالمردود المطلوب. فقط أخطاؤه تزيد بشكل بائس زاده جنوناً وحنقاً مدمرا. أن تسحب منه القضايا وضباط آخرين يحققون نتائج مبهره بسرعة باستخدام التعذيب من اغتصاب وضرب حتى الموت ورفت من العمل ضد المدانين المفترضين أو التخلص منهم بالقتل بالمباشر، واختراع أسباب مثل أنه هرب، أو تم الإفراج عنه أو الطريق الناعم وعد بمناصب أو ترقيات.

تخلى عن أسلوبه قليلا قرر أن يمارس العنف المباشر، وقد تصور في البداية أن استخدام العنف يؤذي داخل الفرد، ولكن جاء الأمر عكس تصوره فبعد ممارسته العنف بشكل هيستيري انتابه نوع من الفرح الداخلي الذي أراده أن يكون مكتوماً لكي يستمتع أكثر حتى كان يعتبر أن هذه اللذة تفوق لذة الجنس، لذة الأكل. كان بالفعل يعيش أجمل أيامه وأكثرها تحرراً ولكن يشعر بهذه الحرية يحسها ملموسة فقد بدأ يزداد استمتاعا بالأكل والجنس وبدأ يلتفت إلى جمال القاهرة.

اشترى سيارة كرونا وأصبح يلتقط نساء جميلات من الطبقة الراقية ويمارس كل المجون والتحرر في كل علاقاته، وإن كان بدأ يمل هذا الطبقة الثرية ولا يشعر معها بأي نوع من الإثارة والمتعة. حتى أنه يظل يبحث ويعود خاوياً دون أي رغبة من أية نوع من النساء رغم كثرة المعروض أمامه، وهو خارج من المطعم وعلى درجات السلم وجد امرأة تبدو من منطقة شعبية، تركن جسمها على السيارة وتقضم الساندوتش وتنظر في لامبالاة لنهر الشارع وتدفق السيارات اخترق الشارع واقترب من المرأة وأزاحها بقوة، فكادت أن تسقط على الأرض

  • حاسب يا بيه.

تقدم منها وتوقف عما كان يريد فعله في لحظة عندما انتبه لعيونها السوداء التي تلمع بالشهوة ووجهها العريض الأسمر بحسية مروعة:

  • أنت بتعملي ايه هنا

واقفة.

  • بدل التسكع دا شوفي شغل لنفسك وعيالك.

كان الجلباب الذي ترتديه فضفاضاً عليها ورغم ذلك بدا ثديها وفيرا وثريا. بدت كالمتسولة، تلمح ظل رسالة تنمو التقطت الرسالة، انا اشتغلت كثير يا باشا وما عدتش انفع للشغل، كبرت، كبرت يا باشا

  • ظل ابتسامته بدأ يكبر وتتسع مساحة التواطؤ
  • أنت جربتي جربي إن ما نفعتيش يبقي عملتي اللي عليك.

بدأت تحرك لسانها داخل تجويف فمها ودلال يشع من عينها، والله معاك حق يا باشا من اللي يشغلني.

فتح باب السيارة ونظر إليها، سهلة أنا الشقة بتاعتي عايزة توضيب خفيف.

تحركت في مواجهته، الوقتي يا باشا:

  • خير البر عاجله.

وترك الباب مفتوحا وفتح الباب الأمامي وركب السيارة وأدار المفتاح وهي أغلقت الباب، وانسابت السيارة وهي مالت عليه وطلبت منه سيجارة ارتبك من قوة أنفاسها الشبيهة بفحيح أفعى، أشعلت السيجارة وأخذت تشد في قوة، حتى وصلا إلى المعادي وكان الشارع هادئاً.

وهي سارت وراءه في ثبات، تصعد درج السلم في ثقة ولا تفارقه الابتسامة وصعدا الدور الرابع بالأسانسير وتمهلت جوار السلم تطل إلى الدور الأرضي. بعد أن دخلت بفترة أزاحت الباب بهدوء ودخلت تبحث بعينيها في محتويات الشقة القليلة كان في غرفة المكتب يبحث في محتوياته، دخلت عليه وجلست قبالته على الكرسي وسحبت سيجارة من العلبة وأشعلتها، ترك ما كان يبحث عنه ونظر إليها

  • أنا ممكن أشوف لك شغل معايا.
  • أنا فعلاً باشتغل يا أشرف به.
  • بتسمي التسول دا شغل.
  • طبعا يا بيه مهنة عظيمة، أنا افخر باني اشتغلها

ضحك بصوت عال وساخر

  • وكمان تفتخري بيها
  • يا بيه التسول حررني
  • حررك
  • ايوه
  • ازاي
  • يا بيه أنت...أنت عايش زى ما الناس عايزة تتخيلك ضابط، طبيب، مهندس، بتعيش زى الناس اللي ماتوا، وأتحداك لو سلوك واحد قدرت تعمله خارج الماضي
  • ياه دا أنت فيلسوفة
  • ده اللي أنا عايزاه في الوقت اللي تعاملني فيه على إني شحّاتة أكون فيه فيلسوفة والوقت اللي تعاملني فيه على إني فيلسوفة أكون عاهرة، ولما تعاملني على إني عاهرة أكون شاعرة خارج التصنيف أنا خارج التصنيف
  • شاعرة
  • أيوه وممكن تلاقي لي ديوان، أنا ما عنديش نسخ منه
  • وملف في مجلة أدبية اتكتب عني باعتباري شاعرة موهوبة
  • ده انتي حكاية
  • - وإيه اللي غيرك
  • الفن
  • ازاي
  • النخبة المشتغلة بالأدب لها تراث عريض. من الحيوات التي أصبحت تابو. اذا لم تستسلم وتعيش هذه الحيوات ستكون خارج الإطار. خارج الدائرة محذوفاً
  • والوقت

: انا في غاية التحرر، ظللت سنوات طويلة في لبنان حتى نسيت الناس الذين كنت اعرفهم تماما ورجعت واشتغلت لحواسي وخيالي في ما أريد وفي المكان الذي أريد كل الأمكنة مباحة وكل شيء مباح بالنسبة لي، وكلما أردت فلوسا أنزل أجيب الفلوس بالطريقة المتاحة لي في ذلك الوقت أنا مغرمة بالخروج عن الحدود المرسومة

  • وسيتم إقصاؤك
  • احنا ممكن نتكلم كده للصبح
  • معلش أنا كنت رغاية
  • أبدا أنا سعيد بمعرفتك، أنا آخذ دش وانتي تكوني غيرت

: ماشي

دخلت غرفة النوم وخلعت ملابسها وأخذت تبص في المرايا الكثيرة التي تحتويها غرفة النوم وتحول جسدها الذي كان يتألق ويتخايل أمامها فبدت تعجب بجسمها، وعندما دخل وراءها جسداً محملاً بالشهوة خلق تناقضا داخله من ناحية يريد أن يشبع رغبته القوية والتي هبطت منذ فترة، ومن ناحية أراد ولوجه بغرض الاختراق وانتهاكها.

كان يريد إن يبلغ أقصي درجات القوة ليصل إلى أعلى عليين، أن يترك هذا الجسد المفتوح أشلاء. اقترب منها وأخذ يمسح جسدها بفمه ويده وهي تتركه يتوغل فيها وينهبها وينزع جلدها بأظافره، وهي تئن أنين قحبة، شرموطة تفتعل الألم لكي يفرح ويخفت التوتر، وعندما وصلت إلى فترة الانسجام رفعته من عليها وأراحته على ظهره ولم تأبه باحتجاجه، ولفت يده وراءه وسحبت الإيشارب من جوارها وقيدته وأولجته فيها وبدأت تمارس بهدوء الأنثى فعل الحب، وتكبس حوضها بقوة عليه وتسحق نفسها مندهشة من قدراتها وكيف كانت تشعر أنها وصلت إلى الذروة وأنها في سبيلها للانحدار إلى الخمول ولكن اكتشفت أن هذه فترة زائفة ذابت وبدأت تتألق في جوهرها الأصيل وهو تحتها يئن وأنينه يملأ الشقة ويتسرب إلى خارج العمارة ويخرج إلى الحواري والشوارع والأزقة والفضاء الوسيع.

الأيام التالية كان مرتبكاً ويعلم كم هو عاجز وضعيف ولذلك يتعالي أكثر على الناس ويزداد شراسة في معاملة المشتبه بهم وان كان ما زال محافظاً على البوصلة التي تحكم علاقته وبدأ يزيد من قدراته التمثيلية حتى تحول إلى أشبه بالبهلوان دون أن يدري جاءت إليه إخبارية بوجود وكر للتجسس في فيلا بالمعادي تحت ستار موسيقي الميتال وعبادة الشيطان.

هي دي... قالها سأخرج من كل هذه الدوامات الموهومة والذي فقدت فيها أي قدرة علي تنظيم وتسكين الشياطين المرعبة التي تتخبط داخلي. سحب الخريطة وحدد الموقع وجهز القوات وأخذ الإذن بالتنصت وبدت كل كلمة تقال يفسرها كما يريد.

كان مصمماً علي أن تكون هذه القضية متكاملة الأركان وعندما تأكد أن كل شيء جاهز انطلق بجيشه الجرار يحاصر الفيلا ويقتحم المكان مع أخبار الجرائد والمجلات عن وقت الهجوم لحظة بلحظة اقتحم واقتيدوا إلى القسم وهناك تم البطش بهم بعنف لم يسبق له مثيل ولولا اتصال ضابط أمن باللواء صبري البنا الذي أبلغ وزير الداخلية والتلفونات الكثيرة التي وصلت إلى الوزارة، لما تدخل الوزير وقد تعرضت الوزارة للسخرية في الإعلام من الغفلة التي فيها حيث أن من بين المعتقلين أولاد قيادات ورجال أعمال وسياسيين كبار، تم التحقيق معه ولم يُحل إلي التقاعد نظرا للخدمات القوية التي قدمها للجهاز وتم نقلة إلى قسم شرطة في قرية نائية

انتبه أشرف على يد تهزه بقوة رغم أن الميكروباص كان غاية في الهدوء

• ايه السرحان دا كله....

• الصحراء

• وعايز إيه مني

• أشعل سيجارة

• أنت تكلمني كده ليه يا معرص يا بن الوسخة

• رد بهدوء فعلا انا معرص ودي شغلتي وكان لي زبائن من كل الوطن الكريم منهم الست والدتك.

اشتبكا بالأيدي وتبادلا اللكمات وسال الدم ثم توقف السائق ونزل الوسيط بعد أن فتح الباب وأخذ يشد في أشرف وإبراهيم وآخرين حتي أخرجهم وفرقهم ثم أخرج إبراهيم المطواة من جيبه وسلطها بقوة تجاه أشرف اصح احنا خرجنا من المدينة ودخلنا في بداية جديدة أنا عشت طول عمري قواد لكن ناوي ابدأ بداية جديدة. علي الطلاق اللي ما يحترمني لامزع كرشه كده وغرس المطوة في كرش أشرف، والتي لاقاها الوسيط على كف يده ثم مسك المطواة بقبضته ونزعها من إبراهيم ورماها في الصحارى ومسك إبراهيم وأخذ يطوحه في الهواء ثم تركه فانهبد على الأرض في قوة ثم رمى نفسه عليه وأخذ يضربه إلى أن همد تماماً ثم جره إلى الميكروباص وألقاه علي الكرسي المخصص له.

ظل الشيخ صامتاً طوال الوقت إلى أن حاول أن يتكلم ولكن الوسيط قاطعة بقوة ... انصح نفسك يا شيخ أحسن ... الغرقان في الطين عليه إن يخلص نفسه الأول ...

لم يرد كان في أعلى درجات الحذر ولذلك لم يرد على القواد وعندما قام أشرف من النوم كان ذهنه صافياً وداخله أكثر نقاء وخفة

كان حائراً بالفعل أمام ذاته تارة يحس أنه نبي، قطب، وتارة يرى نفسه قاتلاً وقاطع طريق، وتارة يرى نفسه قواداً مجنوناً به رغبة مرعبة في تدمير ذاته وتدمير الآخرين وفي أحسن الأمور هو مشوه، وكل رغبته أن يبحث عن ذاته الحقيقية...

 

النهاية...

استلم أشرف العمل بالقسم وبدأ يمارسه كالمعتاد ولم يكن في احتياج إلى جهد يذكر فقط روتين يومي أكل شرب ملء خانات ومحاضر تافهة، لا تستحق أن يلتفت إليها وبدأت جلسته أمام القسم من بداية العصر إلى العاشرة مساء، ثم يعود إلى المنزل، يستمتع بالنظر إلى الناس، في ركود ولا مبالاة، ويرى الخوف في عيونهم والتملق والتزلف والانكسار، يقبل هدايا بسيطة أخذت تزيد بداية من علبة شيكولاته في عيد ميلاد سعيد يا باشا، وانتهاءً بطقم عجل للسيارة أو شيك بعشرة آلاف جنيه نظير غض الطرف عن لصوص قاموا بالاستيلاء على أراضٍ أو الغفلة عن لصوص والذي زاده فحشاً وشراهة هو ما عرفت قيادته بفساده ورغم ذلك غضوا الطرف عنه وتذكر يوم أن التقى اللواء صبري البنا بعد ان وصل صيته الى القيادة العليا بسبب ممارسته العنيفة وشراسته

استقبله اللواء بترحاب ومودة

• هو دا املي في رجالتي ... شغل الخولنة بتاع سيادة القانون ودولة القانون دا لازم ينتهي فيه أيه؟ مجرم ابن قحبة عضو فاسد، لازم يكون فيه جراحة لبتره، الاستئصال ... فاهم انا معايا كرت بلانش، اقتل وبعدين فكر أنت قتلت ليه

• أنا شاكر تقدير سعادتك والقيادة يا فندم.

• لا وتكافئه كمان ... أنا عازمك في شقة سهر الليالي.

• ماشي يا فندم

• لازم نحتفل بالجزار الموهوب.

• كان مرهقاً في ذلك اليوم وبعد مغادرته المكتب ذهب إلى الشقة، وظل نائماً إلى أن قام من النوم قرب منتصف الليل علي صوت جرس الباب

فتح وجد صديقه ماهر احمد دفعته في كلية الشرطة

• إيه يا زعيم نسيت معاد سيادة اللواء

• أبدا .. حد يقدر بس كنت مرهقا مش قادر أتحرك

• مش قادر تتحرك ... قوم قوم يا راجل إيه الغباوة دي حد ينول شرف عضوية شقة سهر الليالي وينام أنت عارف ما حدش دخل الشقة من دفعتنا سواي وأنت. أنت حرقت مراحل طويلة

• ولا في بالي حاجة من دي

• ما هو دا اللي مجنني. مش في بالك، أنت موهوب بالفطرة ... ياخى سلوكك سلوك زعيم

لم يأخذ كلامه على محمل الجد حتى أنه تصوره تحت تأثير المخدر...

نزلنا من العمارة كانت الساعة تقترب الواحدة بعد منتصف الليل، تأمل إضاءة الشوارع والهدوء الذي يقطعه ركب سيارته وانطلق بالسيارة وراء ماهر يقطع الشوارع وهو يردد

العالم يضيق علي وأصبحت تحت المجهر وكأنني دودة أو قرد شيء يدعو للتوجس ورغم ذلك أحس أن داخلي ساكن بلا أي رغبة في الاعتراض في التوقف وكأنني مدفوع بقوة سيل...

اجتاز كوبري الملك الصالح وانحرف بالسيارة علي طريق الكورنيش داخل جراح عمارة ضخمة، لاحظ العيون المبثوثة في كل مكان إضافة للإجراءات الأمنية فتح الأسانسير وداس علي الرقم عشرين وسرعان ما وصل وداس بعض الأرقام ففتح الباب علي مصراعيه دخلنا كان الجناح يفوق التصور بدءاً بالديكورات والإضاءة الخافتة وهذه المساحات الخيالية والتي لا يمكن تحديدها ومقسمة عدة أقسام لكي ترضي جميع الأذواق بداية من الجلسة العربي، غرفة مكتب موجودة بحوائط من الزجاج وانتريه فخم وعدة تليفزيونات وعدة غرف.

انضممنا إلى شقة اللواء صبري الذي رحب بنا وسرعان ما وجدت الشيشة طريقها إلى أشرف الذي لم يمانع وهو يري سيادة الواء يسقط الأفيون في القهوة ويشد في الشيشة بقوة حصان. البعض بدأ يلقي النكات الشائعة عن السياسيين والنكت البذيئة. التي تنال من الرئيس. كانت هناك صفوة من السياسيين ورجال الأمن والمخابرات والوزراء وبدأت الموسيقي في العزف وقامت بنات صغيرات يتبادلن استعراض مهارتهن في الرقص البلدي واستعراض أجسادهن في عهر.

عزفت الموسيقى مقطوعة عذبة لبليغ حمدي ثم قام شاب يبدو في الخامسة والعشرين حليق الرأس يرتدي سترة جلدية وفانلة بيضاء مرسوم عليها العلم الأمريكي ومسك الميكروفون ثم تحول الموسيقيون إلى الحان شعبية وأخذ يغني موالا ثم شغل الأغاني لأم كلثوم وأحمد عدوية وفايزة أحمد ونجاة ثم توقف يحيي الحاضرين والغائبين سلام مربع للزعيم والاستقرار ودفة السفينة الآيلة للسقوط وسلام مربع لسيادة اللواء، وسيادة المحافظ وسيادة مدير الأمن وسيادة النائب وسيادة حضرة الصول والشاويش والعسكري والغفير، الأمن والأمان سلام للريادة وسلام للسيادة وسلام لأزهى عصور السعادة وسلام لطاهر وأم طاهر، رقصني يا جدع وبدأ اللحن يتحول إلى صوت داعر فاجر والكل قائم يرقص بلا وعي قفزات في الهواء على دق الزار المرعب.

انطلق صوت من الميكروباص

- احنا تعبنا يا أسطا مفيش راحة

- رد الوسيط: نصف ساعة ويكون فيه راحة

- يا مسهل

ولد طيب وجميل، خجل، شعره ناعم ينزل على جبهته وغلالة حمراء مطبوعة على وجهه...

إشارات وتلميحات على أنه بنوتة وتدليل مفرط وتقبيل فيه حتى البنات كانوا يغارون منه ويقرصون خده ولذلك ظلت العلاقة دائما بين الاستحالة والجنون ومحاولة التقرب أو النيل والاستعلاء ولذلك عندما دخل كلية الشرطة واستمر فيه طول السنة أحس أن وسامته المفرطة تقف عائقا أمام اندماجه مع أصدقاء وقد يكون هو السبب.

فقد كان يعامل فى غاية اللطف ولذلك عندما كان في الإجازة وقف أمام المرآة وسحب بسرنجة مية نار من البطارية وأخذ يقرب سن الحقنة منه ويضغط في حذر كي لا يشوه تشوهاً كاملا، وبالفعل استطاع أن يرش ماء النار دون أن يتشوه بالكامل ويصبح منفراً. أخذت النقطة تسيل وتتعمق داخل لحمه وهو يحاول أن يستبسل ويكشف المدى الذي يستطيع فيه أن يحتمل الألم أن ثم أخذ يصدر صوتاً مكتوماً إلى أن أخذ يصرخ ونقل على إثرها إلى المستشفى وعندما شفي من جراحه رفض أن يخضع لعملية تجميل.

 

العودة

العودة إلى البلدة مؤلمة ولكن لم يكن له خيار آخر، حزم حقائبه وانتظر حلول المساء يجهز فيها الحقائب في هدوء بدون فرح وحزن فقط سكون وترقب كيف يتقبل الأمر وكيف تتكون مشاعر جديدة وهل سيتجاوز الأمر أم سيدخل الكهف الأبدي، خرج بدون هدف يسير فى شوارع القاهرة لكن في أعماقه كان يبحث عن المرأة التي عاشرها رافضا أي إشارة لكونها تتسول، ذهب إليها في الأماكن التي توقع أن يراها فيها كان داخله متوترا كلما تذكر اللقاء معها وأخذ يتدبر الحجج والمبررات الذي سيقولها، من مكان لمكان يفتش وكلما يفشل أن يجدها في المكان الذي يذهب إليه يزداد حنقا ويأسا ويندفع بأقصى سرعة ثم توقف وقال: ماذا لو كانت هي الأخرى تتجسس علي؟ ركن رأسه على مقود السيارة وقال: كلما سعيت إلى هدف ما وبكل قوة آخذ خازوقا مغرّىً؟ طول ما أنا أبحث عنها لن أجدها. وانطلق بكل قوة نحو البلد مقررا ألا يبحث عن شيء أبدا بعد ذلك. قرر أن يغادر المدينة تاركا الملابس، الشقة، الطموح المرعب في السلطة والثروة قرر أن يذهب إلى المطعم الذي رأى فيه المتسولة وأن تكون هذه المرة الأخيرة التي يأكل في المدينة بدأ جسمه يستقر وعقله يصبح أكثر صفاء دخل المطعم و طلب كل الأكلات الذي كان يحبها في المدينة سواء كان سيأكل هذا الأكل أم لا، قدم الشيف الأطباق وهو أخذ يأكل في بطء حتى انتهى وسحب المحفظة وسلت مبلغا كبيرا ودسه في جيب الشيف في أريحية أدهشته هو ذاته ونزل درج السلم وفى لحظة من الزمن وكأنه التقاه جرى كطفل وارتمى في حضنه وأخذ يبكي، يبكي خسارات وأحلاما ماتت وروح انتهكت وفقدت الثقة ولم يعد قادرا على الفعل. استرد وعيه الضائع في الأزمنة نظر إلى الساعة كانت قرب منتصف الليل، انطلق بالسيارة حتى تجاوز المدينة ودخل في الضواحي كان الطريق موحشا حتى أنه تسلل خوف إلى قلبه، وعندما أشار له شاب في الطريق توقف على الفور وفتح له الباب وعندما ركب ظلا خلالها صامتين.

- أنا ركبت كدة من غير ما أعرف إن كنت في سكتي ولا لا

- طيب الأول أعرف أنت منين؟

- أنا من عزبة أبو سلامة

- من عيلة مين؟

- عيلة السلامى

- إبراهيم السلامى يبقى قريبك

- ابن عمى

- كان دفعتي فى كلية الشرطة. هو فين دلوقت؟

- فى الشرقية

- أتعرف بحضرتك؟

- مقدم أشرف العسيلي من البلدة

- تشرفنا أشرف بيه. ثم التزم الصمت وكلما حاول أن يتكلم يحول شيء بينه وبين الكلام

- ايه أنت سكت ليه

- يعنى انا معنديش كلام.. الكلام اتبخر

- احنا فى الآخر بشر. كلنا أولاد تسعة

- أبدا أنا مش لاقى موضوع للكلام

ـ سهله ايه رأيك في رجال الشرطة. المهم بصراحة

- الحكاية دى صعبه قوى

- ولا صعبه ولا حاجة الناس لازم تقول الصراحة. يعنى لو أنا عايز أوصفهم بدقة حاقول: كلاب، خنازير (بدأ السلامى يتوجس من لغة الضابط ويحس مكيدة تدبر ) ايه رأيك بقى

- يا باشا كل عمل فيه المحترم وابن الناس وفيه السيء

- أنت خايف على فكرة انا استقلت يعنى خد رحتك فى الكلام يا عم السلامى. ايه أنت مش مصدق. فيه ايه أنت مش مصدقنى. انا استقلت عشان مقدرتش استحمل الزيف والكذب والنفاق

- بصراحة يعنى صعب واحد يتخلى عن المكانة اللي هو فيها بسهولة

- لكن أنا أتخليت.

- المهم أن التخلي يكون نابعا من نفسي وروحي.

غرق في صمت والسيارة تقطع الطريق والراكب يحاول جاهدا أن يفتح موضوعا وكلما هم بالكلام شيء يمنعه فالتزم الصمت منتظرا المقدم أشرف بالكلام

ـ وعاد الصمت مرة أخرى. وصل اشرف للاستغراق في الاستجابة للروتين اليومي المعتاد بتفاصيله الصغيرة ففي الصباح يأتي الولد سلومه إلى المكتب بعد أن سمحت له أن يعمل بنفسه شاي جوار القسم ويدور الحوار

ـ صباح الخير يا باشا

ـ صباح الخير يا خول. ازاي أمك يا له

ـ نتفة وفي انتظارك يا باشا

ـ كويس يا له

ـ برسولين، قشاني يا باشا

ـ ومؤخرتك

ـ في انتظار تشريف سعادتك

ويلتفت وينزل البنطلون والباشا ينق رزة؟؟؟؟؟ على أردافه

ـ مبسوط

ـ في غاية الانشراح يا باشا

هذا الطقس المهيج بالنسبة لي انقلب إلى واقع مؤلم عندما استطاع (النص) أن يلقط من الباشا الطبنجه من على المكتب واختفى. لم يكن يعلم أن هذا الولد يعمل مخبرا لمدير الأمن وعندما عاد آخر الليل بعدما طارد النص في الحقول والصحارى والبيوت استعمل كل تاريخه الأسود في العنف تجاه سكان البلدة وكانت بانتظاره إشارة وفيها استدعاء من قبل قياداتي العليا... (وانتظرت) إلى اليوم التالي وذهبت في العاشرة وظللت حتى الثانية بعد الظهر حتى سمح لي بمقابلة مساعد مدير الأمن والذي عملت تحت رئاسته في قسم شرطة بولاق أخرج المسدس من أحد الإدراج ووضعه أمامي وهو ينظر إلي في قسوة وغل) فاكر لم قلت لك... انت رقيق قوي الشغلانه دي مش بتاعتك. أقلت... وهو يقوم لينهي المقابلة حقوقك محفوظة. فتح له الباب ومسح بيده على ظهره إلي أن لمست مؤخرتك موجة من العرق واختفت الأشياء من أمامك تسير بحدس الأعمى وترد تحيات وابتسامات علي ناس لا تعرفهم وتنزل الدرج وأنت في حالة الانهيار التام وتصور نفسه قد عاد مرة أخرى إلى طفولته

ثم استغرق في أوضاع البلدة وكيف أن أشرف الذي يطلق عليه إشاعة بكونه جلادا ليس أكثر إنسانية وانفتاحا وحضورا روحيا هل السلطة بهذه القسوة التي تخلق جنيا مهووسا داخل الفرد وتجعل منه كائنا بشعا

مسعور؟ وهل فعلا هو مقدرش يستحمل الزيف؟

وصلا إلى الكوبرى الموصل إلى البلدة توقف المقدم ونزل من السيارة وسار جوار سور الكوبرى ونزل الراكب وارتكن على سور الكوبرى ناظرا إلى المياه السوداء التي تسير في نعومة ثعبان

قال المقدم: مريت من على الكوبرى ده مئات المرات وكل مرة أقف عليه ونفسي اقفز منه، ولو جئت في النهار تصدق لو رأيت الصبيان يقفزوا من فوقه والله أحسدهم

• وأنا صغير كان لا يمر يوم دون أن اعوم في الترعة أو البحر كثير لكن لما كبرت بقيت أخاف فعلا ان أقفز فيه ايه اللي حصل؟

• كفاية جلد ذات

• أنا مشكلتي في المعرفة أن تكون عارف المشكلة والأسباب دا مريح لكن احنا عندنا مشكلة في المعرفة

• احنا عندنا مشكلة في حاجات كتيره آوى

صعد أشرف علي سور الكوبرى وأخذ يسير في هدوء حتى ينتهي ثم يعود مرة أخرى من حيث بدا ثم خلع ملابسه حتى قذف بجسده في النهر. ذهل الراكب من الجراءة التي تميز بها الضابط والحماس الذي مس الراكب فخلع ملابسه وقفز من فوق الكوبرى وعندما طفا على سطح الماء صرخ من نشوة الماء البارد فبادله الضابط الصياح واقتربا من بعضهم البعض وأخذا يصفقان. كانا مبتهجين ولم يأبها بالعالم يعومان في دائرة لا تتجاوز عدة مترات حتى تعبا فخرجا الى الكوبرى وارتديا ملابسهما وركب الضابط السيارة والراكب سار تجاه قريته وعندما ابتعد أشرف كان يغني ودموع تسيل من عينيه

السيارة كانت تسير بسرعة والركاب كانوا في غاية التعب وقد استغرقت الرحلة عدة ليالٍ حتى ضج الركاب من التعب واليأس وطلبوا من السائق المجنون الذي لا يتعب أبدا بالتوقف والراحة

ـ ياخي أنت مش بشر

ـ توقف السائق وسط صحراء كالحة ولا متناهية وعندما نزل الركاب استلقى كل راكب على الرمال في شبه غيبوبة وسرعان ما استغرقوا في غيبوبة حتى أيقظتهم أشعة الشمس الحارقة، قاموا وجدوا أنفسهم ينامون على ساحل بحر ممتد تضرب أمواجه الشاطئ بقوة

 

حَواشٍ اوراق الراوي محمد سليم

-1 الإشارات الإلهية

الجدة الولود التي أنجبت ثلاث عشرة بنتاً ويئست من قدرتها على إنجاب ذكر استطاعت بالمكر والحيلة انتزاع ثلاثة عشر رجلاً أشداء ذوي بأس أزواجا" لبناتها الكرام ذوات الحسب والنسب والمحتد العريق، وتكوين عائلة باسمها باعتبارها الجذر الطيب الشريف، مع حفظ الدور القيم للزوج الذي تزوجها وهى حامل تقريبا من القنصل البريطاني والذي اشتهر بكونه فنانا، يقضى وقتا طويلا في رسم وجوه الفلاحات والفلاحين، والبيوت المبنية بالطوب اللّبِن. كان يريد أن ينقل هذا البؤس الحقيقي كما هو وبذلك يرفض رفضاً قاطعا مدرسة ديلاكروا ورومانسيته السخيفة، والاهتمام المبالغ فيه، في استخدام الضوء، وتصوير شخوص من النبلاء في وضع مستقر، وغارق في الفخفخة وهذه هي الكلمة المناسبة لبعض لوحاته مثل لوحة الطفل الذي يرضع من أمه الميتة أو لوحته الشهيرة مذبحة ساكس التي رسمها عام 1824 وهي لوحة ضخمة مساحتها 417×354 سم وتصور مشهدا من المجازر التي ارتكبها الأتراك عام 1822 في جزيرة ساكس اليونانية الصغيرة عندما أبادوا عددا كبيرا منهم خلال حرب الاستقلال للتخلص من الاحتلال التركي، واعتُبرت مع كثير من اللوحات نبراساً يضيء للفنانين طريقهم.

كان القنصل ابناً مخلصاً للمدرسة الواقعية والتي تحذف الذات لصالح الواقع الموضوعي. إن ما يضفي علي الواقعية قيمة كبري هو "تجريد" الفنان الانطباعات الحسية اللحظية فيصور الحياة اليومية بصدق دون أن يدخل ذاته في الموضوع بل يتجرد عن الموضوع في نقله كما ينبغي، فهو يعالج مشاكل المجتمع من خلال حياته اليومية ويبشر بالحلول. تختلف الواقعية عن الرومانسية من حيث ذاتية الرسام حيث تعتمد الرومانسية في العمل الفني على إحساس الفنان الذاتي وطريقته في نقل مشاعره إلى الآخرين.

مع أنه توجد روايات كثيرة تبين الدور العنيف والقاسي الذي لعبه القنصل في إخضاع أهل هذه البلاد، ثم يقال إنه يأتي آخر الليل ويظل يبكى على هذا البؤس الإنساني، وعندما انتهت مدة ولايته وأثناء عودته إلى بلده والعيش في الضواحي وفى ظل شتاء قاس شنق نفسه في شجرة جرداء. وعندما نُشر نعى القنصل خرج الزوج من كمونه وتزعم مظاهرة بإرادة من حديد وأصبح مثالاً يحتذى في الوطنية.

هذه السيدة الهيفاء الطويلة ذات العيون الزرقاء والجلد الأبيض الشاهق قلّ أن توجد امرأة في مثل إرادتها القوية وشراستها وعنفها غير المبرر أحياناً. ومن صلب هذه العائلة خرج قتلة مأجورون، فرسان، مهندسون، أطباء، فنانون،أولاد قحبة وعاهرات رسميات بـ "أبونيه" وسرِّيون ومخبولون. ومع زحف الزمن تآكلت العائلة ولم يبق منها سوى ماهر. الذي بدد نصف ثروته، خلال سيرته التعليمية المجيدة، والتي ارتقى فيها، إلى أن أصبح في العام الأخير، بكلية العلوم قسم كيمياء حيوية.

كان نبيها ومصدر حسد من عائلات متخمة بالمال والبلاهة والرؤوس الكبيرة والتي لو قطفوا رأساً واحداً منهم لملأت طست غسيل، وقد ورث بيتاً كبيراً مليئاً بالسراديب والغرف والممرات، وإسطبلاً فارغاً وبدروماً به بنادق قديمة وسواطير وأحذية من مخلفات الجيش البريطاني وكراكيب كثيرة من أيام الجدة.

فى رحلة نظمها اتحاد طلبة جامعة القاهرة إلى باكستان اشترك فيها وسافر في صباح باكر من أواخر الخريف، وعندما وصل أخذ يتجول في ربوعها وجبالها ويستنشق الهواء النقي ويجتاز الحدود، يسامر المتسولين وأصحاب العاهات ويتطوح مع الفرق والجماعات، وعندما انتهت مدة الإقامة، أجهش بالبكاء من البراءة الكاملة والطبيعة البكر والرحم الدافئ، واعتبر أن المكان رحم أمومي استطاع أن يمتص كل الكراهية والحقد، وهو الوقود الذي يدفعه للرغبة المرعبة في الامتلاك والصعود إلى ذروة المجد، مما جعله يخلع البنطلون الجينز وجاكتا جلديا سعره 400 جنيه وناوله لأول عابر سبيل، واشترى جلبابا كوريا وطاقية وشالا، وترك شعرات تتناثر على وجهه.

عاد إلى البيت دمر البوابة والسور الواقي بقوة محركات البلدوزر وعندما خرب البيت تماما، أحس بأنه في أوج النشوة الروحية لتلقى الإشارات الإلهية، حيث الروح في أعلى حضورها.

ثم ترك الكلية لينغمر في الكتب المؤسسة مثل: رياض الصالحين، أهوال يوم القيامة، السحر والسحرة والوقاية من الفجرة، الحجاب الرباني. يسير في الأسواق يدعو الناس إلى المحبة والصلح مع الله وعندما لم يستجب أحد كما قدر، انزوى في البيت معلناً أن أعداء الله استطاعوا تسليط الجن والشياطين الكفرة على المسلمين الأبرار.

يظل طوال الليل ينتحب خوفاً من عذاب القبر والثعبان الأقرع، يناجى المولى أن يكون من الفرقة الناجية.

هذا العويل الليلي كان من ثمراته انجذاب أرملة تسكن جواره وتعمل في الوحدة الريفية، تنظف البيت وتمده بالأكل الطازج واللواء الإسلامي، واستطاعت أن تجمع له المريدين الأبرار بالفعل.

هذه السيدة الجسور الجرمة، والتي لها كرش بقرة وفم خرتيت وقدما خف جمل، استطاعت بالصبر أن تأسر قلبه حتى انه لا يمل التغزل فيها، باعتبارها يمامة شاردة. وفى واحدة من تطوحاته وغنائه الروحي، الذي وصل إلى أعلى مداه أخطأ خطأ فادحا فبدلا من أن يقول:

لو عيني شرحت لغيرك يا نبي.. ردد في انفعال مجذوب حقيقي :

"لوعيني شرحت لغيرك يا أم محروس لأقلع النني،

ولو قلبي شرح لغيرك لاقلعه منى".

وكانت كارثة توقف "أبوعب" عن الأنين باعتبار هذا الأنين هو الخلفية الموسيقية المناسبة للدرويش.

انفض عنه الأتباع وانزوى في البدروم منتظرا العفو الإلهي، عفوك يارب، صامتاً، لا يأكل حتى تدهورت صحته تدهوراً شديداً ولم يستطع كيس الأدوية أن يوقف هذا التدهور الكارثى، إلى أن رأى نفسه قد مات بالفعل وقد أدخلوه القبر، وقد ضاق عليه حتى اعتصره"، وصوت يردد

هذا جزاء أعمالك.

قام مختنقاً باحثاً عن هواء شحيح في البدروم، يزيح الأشياء والكراكيب بعيداً عن الشباك، وصعد السلم إلى أن وصل إلى الشباك واستطاع أن يوسع فرجة يطل من خلالها على النهار الطالع، يزيح ركام العتمة، يأخذ شهيقاً قوياً، وهو يرى الشارع، الزروع القليلة في الحديقة، الناس المدفوعين بقوة الحاجة. يدخل رأسه بين حديد الشباك يحاول أن يجتاز القضبان الحديدية، لم يستطع، وعندما همَّ بالكلام فقط توقف قلبه عن ممارسه عمله تاركاً أطفالاً وبيتاً مخرباً وإسطبلاً فارغاً وأرملة.

 

2- عزلة المحب

سرب من النساء المنقّبات يمررنّ أمامي. أنا الواقف في الدكان أنصت لشوبان متعة أو رغبة في التمايز، لست متيقنا من شيء؟ من أين يأتيني كل هؤلاء النسوة؟ ينبثقن كأنهن زهور الريمان السوداء، التي تنبثق مكتملة، ثم تعود لتطور أوراقها مرة أخرى، إلى الداخل أنظر إليهن في استسلام قدري، وكأنني أرى سد مأرب وهو على شفا الانهيار، ولا أملك وسيلة لوقف الكارثة، لا يوجد ما يمنع الكارثة سوى يدي، أقف مرعوبا، ومروراً من تلك البداوة المجسمة، سيراً على قدمين ممتلئتين ملفوفتين، في جوارب سوداء، وعيون تتلفت في حذر، أو عداء، يتجاوزنني، ونظراتهن لا يمكن أن تحددها هل هو إغواء؟ أم عداء؟

لم يعد شيء واضحاً، الرمادي أصبح سحابة ضخمة تغشي عيني.

يصلن إلى سراي هند قرب المساء ويغلقن الباب والسؤال يلح عليّ: كيف يمكن فض مغاليق هذا الكون الذي اسمه هند؟

عندما أتت عندي في الدكان أردت إحداث شرخ ما لدخول هذا العالم الغامض، كنت منتشياً بالفعل، فأخذت أحكي عن أميرة خرافية الجمال تحلم بأن تطير فوق المكان الذي تعيش فيه إلى عالم غير محدود، وعندما فتحت عينيها وجدت نفسها تطير بالفعل، كانت سعيدة حد الجنون إلى أن تذكرت أسرتها فسقطت من علٍ على صخرة ضخمة وتناثر دمها.

نظرت بنصف عين لعلني ألمح اهتماماً أو رغبة في الإنصات ولكن بدت لا مبالية، ثم وضعت ورقة الطلبات في حياد، استلمت الورقة وأنا اشعر بضآلة الشأن. انتهيت من وضع الطلبات في كراتين، وقدمت لها الحساب، فأخرجت حقيبتها الصغيرة وأخرجت بضع أوراق من المئة جنيه وناولتني ثلاث ورقات، ووضعتهم على البنك، وطلبت منى أن أحضر سيارة لتوصل الطلبات.

قلت بحدة: وأنا مالي، هو انا كاتب يافطة مكتوب عليها "توصيل الطلبات للمنازل؟"

قالت: أنا آسفة، باين أخطأت.

أحسست أنها صبت عليّ ماء بارداً، خاصة أن لها طريقة راقية في التعامل، وعندما خلعت النظارة كانت دموع تتجمع في عينيها.

تركت البنك وذهبت الي آخر الدكان وأنا أشعر بالخزي، وكم أنا مفتعل ورأسي مملوء بالهواجس والظنون والوساوس القهرية التي توجهني وتدفعني للخسران.

أغلقت الدكان في المساء وذهبت حتى اقتربتُ من السراي. أنا الدرويش المغبون في كل الأزمنة تحت هالة من الكِبر و التواضع والمحبة الزائفة، أدور حول السور وبي رغبة لاقتحامه، وأعلم أن الجوهرة تتألق هناك، وأن بقائي في الخارج فيه تلفي وهلاكي، وإن كنت أعلم أن هذا البيت مرصود وأن قدري هو أن أدور حوله في رحلة أبدية.

السرايا التي ترقد في ثبات وجبروت، رغم ما يبدو عليها من قدم. وقد افترضنا أنها ستهدم على يد الأميرال يوسف عبد الرحمن الضابط في سلاح الفرسان، بعد أن تمت إحالته إلى الاستيداع، بعد شائعات عن دور له في التآمر على الثورة وإصابته بطلق ناري، قيل إنه خطأ من بندقية صديقة، أصابت العمود الفقري وقد نجا بأعجوبة، فقط شلل وخرج من المستشفى على كرسي متحرك، وضاع أمله في أن يكون سفيراً لمصر في بلجراد. استقر على السرير ووجهه يتقلب بين الأسى المريض والفرح المعذب وهند راكعة على ركبتيها في مواجهته وهى تردد:

أحبك أيها المحب.

والأميرلاي ينظر إليها مد هوشاً ومرعوباً من زهور النوران التي تنمو على وجهها، وكأنها خفافيش صغيرة.

قال: هند أنت روح طفلة وخايف عليك من دنس المدينة.

أداة مدهش زرع فيها توهجاً جعلها تفكك محتويات الشقة.

وفى الصباح كانا مغروسين في ربوع الريف وظل داخل السراي من 62، إلى 67 يقرأ القرآن متابعاً الجرائد والمجلات التي تتناول أحدث الأسلحة وبؤر التوتر في العالم، وكل حين تنتابه موجات عنف لا يستطيع خلالها السيطرة على ذاته، يقذف زجاج الشبابيك بأدوات الزينة الخزفية، وحوض السمك الزجاجي، ويمزق الستائر التي يراها واحدة من الأسباب الرئيسية في عقم الواقع وتحلله، يجأر بصوت درامي عتيق يناجى الله لتفكيك هذا العالم الداعر.

وهند التي كانت ترتدي البكيني، وتسير على شاطئ البحر مكتفية بذاتها. باعتبارها حالة فنية أكثر من كونها واقعاً حياً حتى وهى ترتدي الحجاب، وتسمع التواشيح، وتقرأ القرآن، وتنام مبكراً لكي تنغمس في الحلم، وتشكل هذا الحلم حسب مزاجها الشخصي. وفى ليلة رأت نفسها تسير في صحراء خالية من البشر، وكف قدمها تطبع على الرمل، وينمو مكانها عشب، رغم أن الكون يمور بريح عاتية، ورغم ذلك لم تستطع الريح أن تمحو آثار قدميها، ولأنها تؤمن بالحدس والحلم والخيال اعتبرت أنها مختارة لدور يتجاوز ذاتها. وفى حلم آخر رأت نفسها وحيدة في صحراء، والسماء فوقها خالية من السحب إلى أن جاءت سحابة تركت الكون كله، وصبت عليها ماءً أسود قاتماً. قامت على أثره، أضاءت النور وصلت ركعتين في فزع، واعتبرت أن هذا الحلم هو نداء آخر ولذلك قامت وارتدت النقاب لكى تحدث توازناً في هذا الكون المضطرب، خاصة بعد موت المحب، وزواجها من ابن عم لها، كان يقف في العزاء كالبرنس.

هذا الغندور، جميل الصورة والممتلئ حيوية وقوة. عندما تم الزفاف، وكان يتوقع أن يغمره النعيم، اكتشف أنها عكس ما تصور تماماً في هذا الجانب، فكان يظل صابراً حتى تكاد خصيته تنفجر، فيحلب ذاته ويجلس على كرسيّ خيزران أمام البوابة يتعجب من النسوة اللاتي يدخلن، والأجسام اللينة التي تستحق أن يغوص السكين في لحومهن.

وآخر الليل يفرقع نصف صندوق بيرة، ويلهث حول السرايا إلى أن تخرج الست صارخة:

أنت تعمل اضطراباً في الكون بصوتك المرعب وسلوكك المنحط، المنحط مش كفاية؟

ثم تغلق الباب بقوة، ليأتي الانسجام، الانسجام.

وهو ينغلق على ذاته، ثم يسير على المشايات التي تفصل الزهور في الأحواض المثلثة والمكعبة والدائرية، والتي جاءت حسب تصور الست،

كان سكراناً طينة، ينظر إلى زهور الفل، الياسمين، النرجس، بحقد ويراها السبب في الخديعة. وفى يوم صمم وهو قليلاً ما يصمم على شيء أن يفض بكارة هذه السرايا، ولذلك قام مفتوناً بما يملك من فتوة وجبروت، لم يستخدمها طوال عمره. في رشاقة لص صعد على مواسير المجاري وكسر شباك الحمام ودخل، ومنه إلى الممر الذي يؤدى إلى البهو، ومنه صعد إلى الدور الثالث، وتسلل إلى الصالة، ومنها إلى حجرة الأنتريه.

ابتسم وأوسع فرجة في الستارة فرأى خلالها النساء متخفّفات من ثيابهن السود، ولحومهن الشاهقة البيض تتألق، ويتطوحن على صوت موسيقى ناعمة، وجسومهن الطرية اللينة تهتز اهتزازاً خفيفاً حتى يمسسن بعضهم مساً.

روّع وأحس أنه قد تم إسقاطه، وأنه في حالة ضياع أبدي. لم يعرف إلى أي مدي إلا عندما سمع صوت هند يخرج منها عذبا وصلبا تهتز له السرايا وتشهق شهقات مروعة حتى لم يعد قادراً على الاحتمال، أخذ يجرى وينزل درج السلم في جنون، يبحث جوار الجدار عن بندقيته الميري إلى أن وجدها وأخذ يحرك الأجزاء متوعداً.

لازم القحبة تموت.

يضع رصاصات ويضغط على الزناد فكانت البندقية تكذب منه بسبب الصدأ، وفى عنف تجاربه انطلقت رصاصة في رأسه فتهشمت وسقط ميتا والنسوة المعتكفات اندفعن بعريهن إلى الخارج. كان ممدداً على الباب، تقدمن من الجثة وحملنها ودخلن به السرايا.

 

3ـ زفرة المحب الأخيرة:

في تلك الحالة كان التدقيق واجباً في معرفة الفروق الطفيفة أو الجوهرية في مبحث العدل الإلهي بين الإمام الغزالي والقديس توما الاكويني. هذا الدأب في البحث الذي جعلني أزيح ركام الكتب من على الرفوف وأرميها على الأرض وأحتمل كماً هائلاً من الغبار والعنكبوت مما جعلني أبدو كبهلول يخوض في الوحل، الذي وصل إلى عنقه، وهو يتصور أنه يتطوح في جنة عدن.

هذا الفحص الذي يكاد يؤدى بي إلى الجنون، ليس مرده بالتأكيد هذا الهوس بالقتل سواء في أفغانستان أم العراق. هذا الاحتفال اليومي والذي وقوده أجساد عراة تطير في السماء بلا أجنحة ولكن شيئاً أكثر جوهرية وعمقاً وهو الحرّ اللزج الذي يجعلني أكاد أختنق، خرجت للتحرر من كوابيسي المنزلية، خرجت أدور على المشايات أتنشق نسمة هواء إلى أن تعبت فرجعت بعد العشاء على ضوء الأنوار التي تزين فرح مريم.

ورغم أنني أكره أفراح الأثرياء بالفطرة إلا أن هذا فرح مريم خاصة والمكان مناسب لتحقيق السلام الاجتماعي الكامل، فالعروس تحب العريس، والعريس أضاع نصف ثروته لكى يرضي العروس والتكافؤ بين الأسرتين يمثل العدل المطلق. ثم هذا الطرب الأصيل الذي لا يتحقق وجوده في البلد إلا كل حين.

انحرفت تجاه السرايا أراقب الحفل، العروس، العريس، الراقصة، المطرب الذي يقف كالفارس يلبس قميصاً أبيض وبنطلوناً أسود محبوكاً ووجهه أبيض حليق وشعره مدهون بالجيل، صوته بديع يحرك المايك في يده، ويجرى على المسرح في خطوات استعراضية جميلة، ثم يقفز قفزة بدائية وحشية خلقت نشوة بين المعازيم، فأخذوا يصرخون ويرقصون والعريس قام من جوار العروس، وخطف عصا من واحد من المعازيم وأخذ يرقص في دلال وعهر قحبة، والمغنى يدور حوله والعريس يترك رأسه على صدر المغنى الذي قذف بالمايك للطبال وخلع القميص كاشفاً عن صف من الأسلحة البيضاء تحيط بخصره، خطف المطواة وأخذ يطوحها في الهواء ويسحب الخنجر، السنجة، الساطور، السكين، حتى أصبحت فوق رأسيهما خيمة من الأسلحة التي تتألق وتنعكس على وجوه المعازيم، العروس، العريس يتأوه في نشوة وينزل على ظهره في تدرجات وكأنه راقصة محترفة، حتى رقد على ظهره على خشبة المسرح والمطر ضم السكاكين وجعلها تنساب في نعومة في قلب العريس والدم تناثر على وجه العروس والتي صرخت: حبيبي له في الغرام حاجة.

انفض الفرح وهرب المطرب وتم تقييد الحادثة ضد مجهول، وأطفئت المصابيح في السرايا. وفى اليوم التالي رحلت هند، ومريم ارتدت النقاب

وقيل إنها في هجرة دائمة إلى أين لا أحد يعلم.

في أيام أخرى تسللتُ إلى عقل البواب وقلبه لأنصت إلى حكايته الأسطورية ودوره العظيم في إدارة السرايا، حتى أعطاني المفاتيح، وفتحت الباب فانطلق من داخلها هبو أبيض، خطوت إلى الداخل وهيئ لي أنني أسير في لحم أنثى يشبه صحراء من الكثبان الرملية، وعلمت أنى في حلم، وأني مطارد بالأحلام ويجب أن أنتبه حتى لا أسقط في هوة الكوابيس حتى لا تدمر الباقي من أعصابي التالفة، فتحت غرفة، فخرج منها صراخ أطفال وغناء وحشي مرعب والحجرة الثانية صلبان وأهلّة ورايات وسكارى ونخيل وأشجار جافة وزهور ميتة ومسامير تتبعني، جريت

وقلت: لم أعد احتمل الكوابيس المدمرة التي تعصف بي.

ضربت الباب الأخير لكى أخرج من الحلم والسرايا، ضربت برعب المقتول فانكسر، كانت غرفة فارغة تكاد تكون بلا هوادة، ارتعشت تيقظت على إثرها وبدأ ينزل منى سرسوب يبلل البنطلون. لا أعرف إن كان ماء أو منياً، أنهكت على إثرها، وتكومت على الأرض..

 

4- البصير

كل انتماء بلاء، كل رغبة في أن تعيش عكس إرادتك وهم، فجوهرك يستعبدك خاصة أن الطرف النقيض الذي ترغب في الانتماء إليه سيستعبدك أيضاً، فأنت كل امتيازك في هذه الحياة القحبة هو أن تنخلع من كل هذه العوارض الفانية وتتعلق بالجوهر الثابت، بمن هو البدء والمنتهى، لذلك كان عليّ قبل التفرغ التام للنقاء الروحي أن أخوض حروبي الأخيرة ضد الجدات المسنات والعبيد والأغوات الذي أصابوا المكان بالعطب والفساد. الشيء الجميل في الموضوع ولأنهم يعرفون قدراتي وما أملك من سند روحي ونقاء سريرة فقد فروا من امامي، تبخروا، انتشيت بالفرح وأحسست بالدنيا تقبل عليّ، لذلك تركت الساحة وتفرغت للعبادات والأوراد وصحبة الخلان. أجلس في حلقات الذكر، أسكر منتشياً، أندفع مسلوبا، تحت وقع الإيقاع الناعم وكأنني في مركب سكران يتطوح بي حتى نسيت الدنيا وتفتح بصري فهو حادّ ينظر فيرى المجهول بعين الرضا. وفى عودتي القليلة للسكن الجديد مررت بالسرايا القديمة وتذكرت مريم، يا هو: أي مكان هذا، وكيف احتملت هذه الحياة القذرة كل هذه الأعوام، كل هذه الأعوام تبددت بدون أدنى مكسب روحي أو نور يتدفق في حياتي المجدبة، حتى غياب مريم عن البيت لم يغير في الأمر شيئاً فأثرها باقٍ، يتجول في الغرف الصالة، الحمام ، الصالة، رائحتها تدفق من المكان وتكبس على روحي وكأنها كائن عنكبوتي مجهول، مريم هذا الكائن الاستحواذي التي جعلتني عبداً يدور في طاحونة أربعاً وعشرين ساعة، لكي أحقق لها رغباتها الشرهة في كنز المال، في تحويلي لحيوان منزلي تقتنيه، كأنني كلب وولف أو قط سيامي تباهي به أقرباءها وصديقاتها وتمطرني بكم مدهش من المديح السمج والغزل الكالح أمامهم لكي تظهر لهم أنها في قمة السعادة ولتثير غيرتهم وحقدهم مع أنها تعاملني ببرود واستعلاء عندما نكون وحدنا، نوع غريب من البشر، لا أعرف بالضبط ماذا تريد؟ يبدو أن براءتي أغرتها بانتهاكي، المشكلة أنني بطبيعة تكويني أُغري الآخرين بقهري فأنا كائن سهل، مسالم، طلباتي قليلة في الحياة، فقط أريد أن أظل هكذا حراً لا أريد أولاداً ولماذا الأولاد؟ ما الذي جناه أبرياء مثلهم لكي نجلبهم للعالم ويتم سحقهم وقتلهم وإذلالهم؟ ماذا أخذنا من هذا العالم الذي لا يستحق "نكلة"؟ ستقول كيف يكون إنسان بهذا النقاء ويكره عطايا الرب؟ كيف يكون شخص مثلي بهذا الروح ويكره هبة من المولى، أقول لك: ومن قال لك إنني أرفض هباته ولا أحقق مشيئته.

سأحكي لك حكاية الخضر والغلام لتعرف أن تحقيق مشيئة الرب لها أبواب وطرق ومسالك لا آخر لها وأن تفسير أقوال الكتاب لا تحتاج إلا بصيرة لتعرف أن اشد الطرق صعوبة هي أقصر الطرق للتقرب للمولى، اصطحب الخضر سيدنا موسي ورأى أحواله التي لا تتفق مع الفطرة السليمة مع الشرائع والنواميس لذلك أنكر عليه موسى خرقه للسفينة وقتله للغلام - مع أنه اتفق معه في بداية لقائهما على ألا يسأله عن شيء حتى يكون الخضر هو الذي يخبره به- فقال له في الأولى: لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا {الكهف:71}، وفي الثانية: لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا {الكهف:74}. لقد قتل الخضر بريئاً لأنه يعرف بالبصيرة أن موت الغلام تقرب لله وليس فعلاً فاحشاً فما الذي يجعلني أقبل هبة تضر هذا العالم المتوحش أو تُضار به، هل عليّ أن أقتل غلامي لكي لا يضار من العالم أو يضره وأنا الذي يخاف أن يقتل فرخاً، كيف يقتل طفلاً بريئاً وماذا لو لم أقتله هل يمثل هذا عصياناً من الرب. كان داخلي مضطرباً.

انحرفت تجاه السرايا التي بناها الجدود من أعوام طويلة وقد خرِب تماماً وأصبح مأوى للحشرات والأفاعي والأشباح. جلست في مواجهته وقد تحول المكان إلى كائن حي، لقد كنت واهماً بالفعل يوم فكرت في إعادة بناء البيت أو ترميم الحوائط والشقوق وأطليه بالزيت، لماذا كل ذلك؟ لماذا أشارك في إصلاح شيء يزيد في الضغط علىّ، في تفتيت أعصابي، كيف أشارك في وهم اسمه الحوائط. تبخرت نشوة كنت أعيش فيها منذ وعيت هذه الدنيا حتى وصلت إلى تلك الحالة. أتوهم أنى زاهد. حالة من الغياب وليتني صحوت. قررت أن أدخل البيت في الصباح، إما أن أظل في المكان أو الرحيل. دخلت أتحسس الحوائط، مع انطفاء النور أسير في ممرات عرفتها وألفتها، وكم كان مبهجًا بالنسبة لي أن أشعر أنني داخل رحم بالفعل، حتى استقررت في المكان الذي قضيت فيه عمري، ورغم أنني قلق بالفعل، إلا أنني عندما أسندت رأسي على الأرض نمت، واستغرقت في النوم، إلى أن قمت على ضوء مبهر وكشافات قوية تصب متدفقة في عيني صرخت النور عماء، وانحرفت بعيداً عن النور، فرأيت كتلاً سوداء تتقدم وتحيط بي، وهم يرتدون النقاب الأسود ولم يكن يبين منهم شيء سوى عيونهم، يحاصرونني في شراسة وأنا مستسلم تمامًا... فيه ايه؟ وقد عرفت الجدود الذين أبيدوا، وبدأت الكتل تتجمع وتشكل يداً واحدة قوية امتدت نحوى، تتمدد نحوى وتقبض على عنقي حتى أن أنفاسي توقفت فكدت أموت، ثم أخذوا يجرجرونني داخل القبو والعبد الأسود يسد على الطريق، يقف قبالتي وهو عار تماماً.

القبو وكأنه من النحاس المصهور يفح ناراً تكاد تسلخ جلدي، والجدة تجلس في وضع الجد، والعبيد والأغوات يجلسون جلسة بوذا أمام النار والعرق يغمرهم وهم في ثبات عميق، والحارس تركني وذهب إليها، يدلك في كتفها وبغوص في لحمها القليل. حاولت أن أتكلم فأشارت بيديها عليِّ فسكت، ثم تحول ورفع الثوب عن رجليها وأخذ يدلك في قوة وهى تتألم حتى غفت، وبدأ جسدها القليل ينتفض في صرامة حتى عطست عطسة أفزعتني. جريت نحو الباب الذي أغلق عليّ وهى تتأوه وكأنها في حالة مخاض، وبطنها تكركب وتنتفخ، وشدقاها يكبران، ويخرج منهما كائن هلامي أحمر يكبر حتى اكتمل، ثم قامت تدور حول النار والعبيد يرقصون في مواجهة النار، وهى تلقي بالتعازيم والإشارات والغناء غير المفهوم. ثم نزعت ملابسها، والكائن الهلامي يتقافز والعبيد قد مُسخوا على هيئة فئران وعناكب، حتى صعد الكائن على كتف الجدة التي اندفعت إلى النار، ثم خرجت امرأة من جمر تتألق وعلى كتفها وقف الكائن وقد نبت له جناح طاووس، يبرق بألوان مدهشة، وعين صقر، ووجه بهي. يغرس مخالبه في لحم كتفيها، والدم ينز وهى تبتسم في وداعة، ثم تتدفق من جوفه نار وقد سقطت الجدة وكأنها تمثال من الجص فارقته الحياة. والعبيد والأغوات يركعون ويبتهلون في خشوع، وقد اقتربت النار منهم حتى خلتهم يحترقون. التفت وجدت الجدة مكانها وكأن كل الذي رأيته محض وهم. اقترب منى الحارس والعجوز تشد في الجوزة في قوة وتبتسم في غبطة تراجعت إلى الوراء وهو يقترب منى. عايز إيه؟ لم يأبه وكأنه حجر صلب، من الصوان. قبض عليّ وكتَّف حركتي، ونزع عني سروالي، والتقط بيضة من الجدة، ثم خرمها، ومسك عضوي، وأخذ يحركه، حتى نزل منى منىٌّ، في البيضة، فأخذها ورماها في النار، ثم أخرجها وضغط عليها فنزت سائلاً دموياً أخذ يدهن به جسمي حتى انتهى، ثم تركني أخرج. كانت القطط تموء وتقطع الطريق علىَّ، وكنت خائفاً محاذرًا أن انطق كما قالت. دخلت الشقة ورأيتها تقف في وسط الصالة عارية يسيل منها ما يشبه الخمر، وشعرها الحوشي يغطى وجهها وجانباً من ثدييها، موج من الفرح والغضب اجتاحتني حتى أنني صرخت مريم.

 

(5) ـ الناجي:

صفف شعره وأزال الشعر غير المرغوب فيه وتعطر، ووقف أمام المرآة يتأمل ذاته، يرتدى بدله زرقاء سموكن وربطة عنق ونظارة، ثم سحب خاتماً من الذهب الخالص ووضعه في إصبعه، ووقف متأهباً لزفافه. لم ينس غذاء الملكة والبرشام، وغير رائحة طلاء الشقة، وهو يتخيل مريم وعريها، ودق الطبول يأتيه من بعيد. مر على القبو الذي يعيش فيه الجد الكبير، الذي لم يخرج منه منذ أربعين عاما وقد بلغ سنه فوق المئة وثلاثين عاماً، ولم يكن يدخل عليه طوال تلك السنوات سوى الناجي البكري من ولد عبد الشهيد الفحام، حتى الأب كان محظوراً عليه أن يقترب من الغرفة كلما هم بالاقتراب من القبو ينفرط عصبه ويظل في الفراش شهرا. اقترب من الباب، فكر أن ينادى هبت ريح سَموم دفعت الباب، ثم صفقته عندما دخل كانت الغرفة معتمة، فظل ثابتاً حتى ألِفَ العتمة. كان الجد يلتف بحِرام حول عنقه في ركن الغرفة.

ينظر إلى السقف ويتمتم وبدا وجهه الأسود المقلبظ يلمع، وجسده يرتج حتى تحت الحِرام خاف:

ازيك يا جد. لم يرد.. بارك لي أنا حاتجوز.

مين يا ناجى؟ قالها هو ينازع، وهو يتعرق بغزارة

مريم يا جد... بنت خالي شبل.

سكت وأطرق إلى الأرض ثم ناداه حتى اقترب منه، كانت أنفاسه كريهة ورائحته نتنة

فبصق في وجهه وقال له:

" حط صباعك في طيزك وقول البحر زاد".

ثم انفجر الجد في ضحك مخيف وهو يشخر وكرشه يهتز حتى تمزق السديرى ونبت عِرق غمره، ورجله أخذت تضرب في الأرض رغماً عنه، والقبو يهتز ويتساقط من السقف غبار وهو يردد لا لا... وبدا وكأنه يحارب تنانين ووحوشاً ضارية حتى سكن تمامًا. اقترب الناجي منه وجسمه يرتعش بعنف، الشمعة تذوب بسرعة وهو يغطي وجهه ويترك القبو، مات.

أخرج المنديل ومسح جبهته، وخرج من الغرفة مبتسماً وكأن شيئاً لم يحدث. عندما خرج إلى الشارع وجدهم يبحثون عنه. ركب السيارة الملاكي والفرقة تحيط به ويزينون أنفسهم بالأحمر والأخضر والأزرق والسيوف في خواصرهم، والحراب بأيديهم، ويقفزون ويطلقون الصيحات، وقد غمر العرق أجسادهم العارية، والعريس يقبل رأس العروس، ويسحبها ويسير بها في الشارع رافضاً ركوب السيارة، حتى وصل إلى أول الشارع الذي تسكن فيه البهية.

نزل الناجي من السيارة وسار في الشارع وهو يرى عيون جارات مريم جاحظة من الحسد والغيرة، والرجال يتأملون الغندور في كراهية لمن سيستأثر بقرة العين وينعم بحسنها الفتّان. نزلا والمصور التقط الصور للعروسين في أوضاع مختلفة: يد مشتبكة، عين في العين، وهيام متبادل، يده تلتف على خصرها. رقص داعر أصاب المدعوين من الأقارب بالإحباط وكثير من المارين في الشارع سبّ الدين لزمن داعر يعطي الحلَق للى بلا ودان، أعضاء الفرقة الموسيقى المجلوبة من المدينة أخرجوا الناس عن أطوارهم وجعلوهم يرقصون رقصاً خليعاً داعراً، ويهزون المؤخرات باحتراف يليق براقصات شراميط من الدرجة الثانية.

قام شباب من العائلة بفرد أجسامهم على الأرض، والعريس والعروس يسيران على أجسامهم حتى وصلا إلى البيت، حيث المسافة قصيرة، ثم صعد إلى الشقة، وانفضّ الجمع، ونزعت العروس ملابسها فجامعها، ثم سحب القِدر الذي به اللحم ونزع الغطاء وكان اللحم تغطيه طبقة بيضاء سميكة، تفور وتغلي وتتطاير حتى ظهرت اللحوم ومنها قطعة لحم من رأس الثور تتمزق، ويخرج منها رأس صغير يكبر حتى بدا كالقلقاسة، جاهد للخروج حتى انزلق وجرّ وراءه ذيلاً أحمر يشبه جسم قرموط السمك كان يسير على أربع أرجل صغيرة، وهو ينظر إليه، فزع وتراجع حتى التصق بالحائط وهو تقترب منه، وصوت يخرج من هذا الشيء: "عليك بدفن الجد بعد الصلاة عليه، وتعود مرة أخرى إلى القبو، تقف وتنادى في نصف الليل: بحق الميم والراء افتح يا عبد العبيد، ادخل وستجد ثلاثة أبواب افتح الأول ستجد قطة سوداء اذبحها، ثم افتح الثاني ستجد كتاباً وعصا وحبلاً، لف الحبل على وسطك واكسر العصا وخذ الكتاب، اخرج من الغرفة ولا تعد إليها مرة أخرى، ولا تفتح الباب الثالث أبداً". ثم اختفي الشيء في الحائط.

كانت عائلة مشهورة باستخدام السحر الأسود ولهم تاريخ مشهود في "السيطرة" على البشر والطبيعة، لذلك لم يستغرب الأمر فقد كان منتشياً بالفرح ويريد أن يلعب، يضرب ضربات عشوائية للتأثير الحاد على المصير، ثم تسأل وماذا لو لم أسمع كلام هذا الكائن؟ وماذا لو سمعت وخالفت أوامره؟ ماذا لو راهنت على العبث المطلق؟ ثم تذكر موت الجد المشؤوم فقرر أن يخبر الأب لكي يقوم بالواجب تجاه المؤسّس وبالفعل نزل درج السلم واقترب من الأب وهمس في أذنه فسقط الأب مغشياً عليه.

وأُعلن الخبر في البلدة، وخرجت العائلة تلطم الخدود وتشق الجيوب ومن هول الفاجعة نتف الرجال اللحى، ووضعت النساء الزهر والقطران على وجوههن، وتقدمت النادبات، وحمل الرجال الكفن حتى وصل إلى الجبانة، وتقدم إمام الجامع لصلاة الجنازة لكنه فجأة اعتذر، وعندما تقدم آخر رأى رجلاً قبيح المنظر، تندفع من عينية نار وفى يديه سيف بتار يأتي نحوه غاضبا فصرخ، فتقدم الناجي ونوى صلاة الجنازة ثم حُمل النعش، حتى اقترب من فوهة القبر، واللّحاد يوسع من فوهة القبر، توجّس الناجي ريبة مما قد يحدث. أشار الناجي لوجود وصية وأزاح الواقفين للخلف فانفض الجمع وتم الكشف عن النعش وعندما أخرجوا الجثة كانت بالفعل مقسومة نصفين بالطول كانت بالفعل كارثة بكى على إثرها الناجي.

- يا حزنى يا جد، ادخل الجثة في القبر، وهو يبكي ثم عاد ووقف يأخذ الخاطر حتى منتصف الليل وعندها ذهب إلى القبو وهتف انفتح الباب الأول فوجد قطة سوداء تموء وهى تتضخم. اقترب منها وسحبها وقطع رأسها ورش دمها في الغرفة، ثم فتح الباب التالي وأخرج الكتاب وكسر العصا ولف الحبل حول وسطه. ووقف أمام الباب الثالث يحاول أن يهرب من الغواية التي تتخايل أمامه وقد امتلأت الغرفة باليواقيت والجواهر. استسلم للقدر ودس المفتاح في القفل وفتح الباب فاندفعت منه نساء عاريات وعيال سود ورجال فتوات أحاطوا به وقد التف الحبل حول ذراعه فمنعه من الحركة، ثم خرجت عجوز شمطاء، سقطت أسنانها وابيضّ شعرها، وتكرمش وجهها، وانحنى ظهرها، ونبت شعر في ذقنها، عرفها الناجي وأخذ ينادى: "الجدة"!

ويقبل الأرض بين يديها والعجوز أم الدواهي تدور في الحجرة وتلقي بالتعازيم والإشارات، وهم ينزعون ملابسه وهو يطلب العفو والسماح، والعجوز المجنونة أخرجت سكيناً طولها ذراع، وبضربة قوية قسمت جسمه نصفين ونزعت قلبه ووضعته مع القطه المذبوحة والأتباع أحضروا لها كرسي العرش، ونكشت شعرها وأعلنت الحرب..

 

6 - مريم

تقف أمام المرآة، وبقلم الكحل تزجج عينيها، فتتألقان سوداوين مغويتين، تمر بالروج علي شفتيها وترسم الحاجبين باحتراف فنان فتضفي عليهما غموضاً يزيدها فتنة، ترتدي خماراً وجواناً أسود في يدها، وجلباباً أسود، وتخرج من السرايا لتسير في الشارع تخايل المارة والجالسين على المصاطب، ثم تمر على البقال وتشير بعينيها، وأصابعها الطويلة البيضاء من غير سوء، إلى البضاعة، وهو في إثرها، البقال الخبيث يناولها البضاعة، أو يضعها بجوار يديها الموازيتين "للبنك"، وبحذر يملِّس على أصابع يديها، تنظر إليه في غضب مكتوم، فيسحب يده سريعاً في براءة ولسانه يردد الأحاديث والمواقف الإيمانية، ثم يجمع البضاعة في كيس كبير ويناولها لها وهو يسحب الفلوس، يملِّس بأصابعه كف يدها ثانيةً. ترتبك ثم تنظر له غاضبة مرددة "أسم الله" سكتنا لله دخل بحمارة المزيت،

تترك الدكان منتصبة القامة، سيدة مختالة يحرك الهواء ملابسها فيظهر جسم فاحش الجمال بلا ترهل، بطن مهضوم كأنها لم تحبل وتلد وتُرضع، وأنها سلتت أولادها من "البوك"، وليس من بطنها، تسير في الشارع ترسل رسائل وإشارات، ودائماً هناك من يقف لتأويل الإشارات من كل الأعمار والكل يبذل أقصي جهده للقرب منها نماذج متنوعة من البشر، فلاح موسر، نفر أٌجري، أسطي، طالب، بقال، خياط، صياد يمدها بأشهى أنواع السمك ويكتفى بنظرة منها أثناء الفصال، أو يري جزءاً من ذراعها البيضاويين، أو بناء.

هناك "فرك" طوال النهار والليل في المكان، لكن رغم هذا الصراع القذر، لم تحدث مشكلة في المكان، لا ضجيج، صراع مكتوم وتلاعب يُضيع أزماناً وأعماراً.

مصائر وتحولات وحكايات غرائبية يشيب لها الوليد، البعض تحّول إلى خادم ليظل بالقرب منها. وهناك الحكاء الذي يجيب كلمة من الشرق وكلمة من الغرب ويقلد اهالى البلدة الكرام وغير الكرام لكي ينال محبة أهل البيت، وهناك الصامت صمت القبور داخله رغبات ولا يعرف كيف يخرجها، أو يتقدم بفعل إيجابي، وهناك الكسّيب اللى بيلعب بالفلوس لعب وينال حظوة بالهدايا والبعض سقط في هوة الاكتئاب النفسي.

ومن تحول إلى قرد يقفز ويرقص ويغني لكي يرضي السيدة، وهى ملكة اللعب والشاطر يفوز، وقدرات الناس متفاوتة واحد نفسه ضعيف، من أي قرصة يبكي، ويشكو لطوب الأرض الاضطهاد والعذاب الذي يقع عليه في هذا الزمن العَرص ابن الزانية. ويتصور أن قوة كبرى تشارك في هذه الجريمة، وأن حظه قليل في هذه الحياة مع أنه لو التفت لوجد سواد الناس في البلدة مثل حاله وأن هناك قلة، قلة فقط تستأثر بالثروة واللذة والحياة، ثم أن السيدة التي يراها الناس من الخارج مثالاً للجمال والسحر والهيمنة هي مجرد إنسانة محطمة، فارغة داخلها مشوه لا تعرف ماذا تريد وكيف تتصرف فى هذه البلدة وهذا المكان الخبيث، لذلك عندما تذهب إلى بيت الأب، تخلع النقاب والجلباب وتفك شعرها، تضرب نسوة الأخوة على أفخاذهن

: إيه يا بت، جرى إيه امبارح؟

هذا الطقس يصل حد النشوة، إلى أن تدخل الحمام ويد زوجة الأخ تتجول، تدعك في نعومة وماء دافئ ينزل من الدش، وتتذكر حكاياتها مع الزمن حتي تغفو ويتراءى لها الناجي وقد مُزّق أمامها، وبعد الأربعين كان عليها أن تتزوج من لا تحب وتترك الفارس يدور حولها. الصغير، كلما اقتربت منه يلتصق بالحائط وكأنه رأى عفريتاً، وفى الليل يتركها ويسرح على الشاطئ، يلم القواقع ويفرح بفرقعات ورد النيل تحت قدمه. يذهب إلى بيت الشيخ محمد النجار يحضر حلقات الذكر ويسافر حيث المقامات ومحبة أهل البيت: السيدة نفيسة والسيدة زينب وسيدنا الحسين، حتى فقدت الأمل في التواصل وتركت البيت. وعندما جاءت في إثرها الحماة، سألتها عن الأحوال قالت لا شيء. انتترت حماتي وسحبت الطرحة من على السجادة:

ـ الواد مربوط. الأعادي كثير

وسافروا إلى الشيخ شبل في كفر داود، والأحمدي في أشمون، والشيخ سالم في وادي النطرون، والأب قرقر في كنيسة أتريس، وحمّوه في نص الليل في بحر جارٍ وغسلوا جسمه بالرِجلة وطلبوا منه أن يدهن عضوه بماء ورد مدقوق فيه حَبّ عين العفريت ومستكه تركي. ولا أثر، مريم بكت، جسد جميل تحت ظلال بيت موبوء، نظرت إلى جسدها، فرحتها انقلبت عليها، والفارس يدور حول الشقة ويدخن، في شراهة ويتلصص عليها من شيش الشباك.

كانت تمقته، تمقت خوفه منها، تريده شجاعاً في مواجهتها، يصعد الآن ويدفع الباب بقدمه في ثقة، لم تكن تصدق ان الذي يدير البيت بحزم وعزيمة وصلابة يقف مرتعش اماهما، لن يحدث شيء؟ سيمر كل شيء بسلام. يخاف من صوتها العالي، وجبروتها المتصنع لا يعرف أنها في غاية الهشاشة، أضعف مما يتصور، كل هذا قناع، لا يعرف أحد أن الأمر لو استمر على هذا الحال ستصاب بالجنون، تجري في الشوارع مجنونة يطاردها الصغار، تسرح من مكاناً لأخر، وهي تحمل جوالاً من الخيش على ظهرها، وسخة، مقملة، شعرها منكوش، فتحت الشباك ونظرت إلى الكون والصمت الذي يغلفه، وستارة من البخار تضفى على الكون غموضاً يصل حد الرعب. أغلقت الشباك وخلعت النقاب وقررت أن تنام.

 

7- قبر في جسد:

لا احد يعرف ما يملك من قوة، فداخله يشعر بالقوة الرهيبة لديه ولكن لم يجرب نفسه، لم يختبر قوته أبدا، دائما يهرب بقوته ويعرف أنه لو بدأ الحرب لعرف أنه من المستحيل أن ينهيها أو يسيطر عليها في حدود معينة، ولا يعرف كم الخسائر التي سيدفعها، فالحرب في الخيال غير الحرب على أرض الواقع، شعر بالقلق العنيف بسبب تصارع المتناقضات داخله، لقد كانت دبابير ترعى تحت جلده، فكان عليّه الخروج للسير والتخفيف من كم الغضب والحنق داخله.

المساء رطب والكون مليء بالنجوم الودودة، وقمر بديع يفترش السماء، يجب أن آخذ القرار السليم لتطليق مريم، يجب أن أبتعد عن رائحة الموت التي تسكن البيت، والشيء المريع أن أهل البلدة يحسدونني عليها. انحرفتُ تجاه بيت الشيخ محمد النجار وجلست في مواجهته وهو منشغل عنى بتمتمات لا أعرف ماهيتها، الذاكرون يقفون في صفين متقابلين وهم يتطوحون في قوة. هل جسمي خف وتملكني الفرح والنشوة وخف الثقل عني، والشيخ محمد يهتز اهتزازات خفيفة منشداً وقد سكر موحّداً منادياً خارجاً من دون أن ينتفض من على الحاشية التي يجلس عليها ثم زعق وانفرطت المسبحة والطاقية فبدا كزاهد هندي حليق الرأس، يلبس قميصاً من "الدمور" على اللحم وقد نحل جسمه، وبانت عظامه وغارت عيناه وبدا شبه ذاهلٍ حتى تفرق الخلان من حوله. أشار لي: طهّر البيت. وأخذ يترنح حتى تغير وجهه وأنا تلبسني مارد قادر وانسحبت من المكان وبي تصميم للخلاص. سرت في الشارع وانا أعرف وجهتي جيداً، وعندما وصلت كان الصمت يلف السرايا وخوف عنيف يجتاحني ورغم ذلك تقدمت.

 

8ـ طفل مغمور بالضوء

مر علىّ أصدقائي قرب أذان المغرب، فسحبت الكوتشينة من تحت المخدة وصعدنا على سطح البيت. فرشت الحصيرة، وطلبت الشاي من أمي، وأخذت أوزع الورق وأكسب إلى أن ضبطت صديقي يغش ويبدل البنت بالولد، فار دمى وبصقت على وجهه وطردته ثم تنبهت أني ليس لي أصدقاء، وأنني أجلس وحيداً فوق سطح بيتنا ويدي تطبق على ورق الكوتشينة، سري هواء رقيق ناعم، حتى أفقت على صوت جاري الذي كنا نتندر عليه طول الوقت ونسميه العِجل لأسباب كثيرة طبعا من بينها الغفلة.

يجرى بالفانلة والسليب ماركة جيل في الشارع صارخاً.

مراتي السيدة زينب يا بلد وسخة.

رميت الكوتشينة ونزلت "فريرة"، وجدت زوجته تقف في الفراندة اللي بناها المعلم عواد تمضغ اللبان وتطرقه.

تقول: طول عمري محافظة على شرفه، ستاشر سنة في العراق وليبيا والإمارات، ولما عاد مضروب بالصفرة وعنده الكبد والطحال، قلت: الشرف ولا رزق الدنيا

قلت: وهل يجرؤ أحد أن يقول غير كده

قالت لي: اسكت انت.

تركتها وتتبعت الزوج وأنا أهرش في عِرق الهيافه.

كان قد دخل المقابر وخرج منها حتى اقتحم جنازة ثم اختفى تماما

وقالوا: دا وليّ، والخلق رمت النعش والميت خرج عارياً يرقص ويردد:

"يا خراب بيتك يا ذكى يا بو عامر"، والناس اعتبرت أن البيت جدير بالعناية، فأخذوا يدورون حول البيت في صفوف بخشوع ومذلة، إلى أن ارتبكت امرأة مشهورة بأنها سحاقية، ومسكتها من طوق جلبابها.

قالت لها رضينا بالهمّ والهمّ مش راضى بينا. وجرجرتها في الشارع ومزقت طوق الجلباب وقالت: دا بزّ يرضى ربنا، ونزعته في شراسة ورمته على الأرض فتهشم الثدي وساح اللبن في الشارع والناس ارتمت على الأرض تلحس إلى أن أتت ريح محملة بالغبار وغطت عليهم.

وأنا سأصحو على هاتف يقول لي: قم لترى.

كان ذلك قرب أذان الفجر. حملت كاميرا الفيديو على كتفي، أخترق ستاراً شفيفا من الظلمة، أخترقه بتجهّم قاتل إلى أن وصلت إلى حواف أشجار الموز. اقتحمت الغيطان أتجول بين الأشجار حتى التقطت الكاميرا طفلاً صغيراً أبيض "مقلبظ" يرفس بقدميه، ويغطيه الندى ويشير بيديه وهو يبتسم إليّ في مودة، أقف في مواجهته مثبتًا الكاميرا على ابتسامته حتى تظل في وعيي دائماً.

 

abdlnabyfarag70@gmail.com

عبدالنبى فرج

روائي مصري له العديد من الإصدارات منهـــــــا:

• جسد في ظل (قصص)

• طفولة ضائعة رواية

• الحروب الأخيرة للعبيد رواية

• ريح فبراير رواية

• مزرعة الجنرالات رواية

• سجن مفتوح رواية "

* زواحف سامة رواية تحت الطبع

* يد بيضاء مشعة

بار مزدحم بالحمقي مجموعة قصص

الفصول الاربعة مجموعة قصصية

بئر يوسف مجموعة قصص تحت الطبع