يكشف لنا الباحث التونسي عن أهمية كتاب الحبيب بو عبدالله الذي تتواشج فيه أفعال الكتابة والقراءة والتأويل عبر هاجس المغامرة في اللغة وباللغة. وقد اختار قضية التأويل، فتتبع أصولها الغربية، والعربية معا، وسعى لتأسيس أطر جديدة للفهم تكون متجاوزة لكل مظاهر الانغلاق، منفتحة على عوالم الممكن والمتعدد والمختلف.

الكتابة والتأويل أو مغامرة الأقاصي

رضـا بن حـمـيد

 

ماذا عساها أن تكون الكتابة إن لم تكن مغامرة في عوالم المجهول، وإشرافا على تجربة الأقاصي والتخوم؟ وماذا عساه أن يكون التأويل، إن لم يكن فعلَ إخصاب للغة مهما كانت صور تجليها جملة أو نصا أو خطابا، وفعل إنطاق للوجود قهرا لوحشة الفراغ وبعثا للمعنى المغيّب أو المنسيّ فأن تكتب معناه أن تحيا .. أن تكتب هو أن ترى ما تريد. . وأن تؤوّل هو أن تفهم.. ومن أجل أن تفهم ينبغي أن تكون أنت..أن تكون في هذا الوجود كما تريد، لا كما أرادوا لك أن تكون.

في هذا الأفق المعرفي والنقدي، يمكن لنا أن ننزل كتاب " في التأويل والتأويلية" (زينب للنشر 2019)، لصاحبه الحبيب بو عبد الله. هو كتاب تتآلف وتتواشج فيه أفعال الكتابة والقراءة والتأويل عبر هاجس المغامرة في اللغة وباللغة. هي مغامرة لغوية بمختلف فنونها وأشكالها، كتابة وتأويلا، فهما وإنصاتا لإيقاع النصوص وارتحالا في مسالكها الوعرة وشعابها الملتوية، وحفرا في الأعماق و التجاويف بحثا عن طبقات المعنى الخفية والخبيئة أو الملتحفة بالغياب والنسيان .. هي مغامرة، بلا ريب، شيّقة شاقة، متعبة ممتعة، تهفو إلى إدراك تلك العوالم القصية المشتهاة، التي يقيم فيها المعنى صورا شتى من الإقامة، فنية وسيميائية وأنطولوجية. وتتخذ أشكالاً متعددة من التجلي، حضورا وغيابا أوإظهارا وإضمارا أو احتجابا و انكشافا .. وليس هناك أمتع في فعل المغامرة اللغوية من رحلة بحث قصيّةوأكاد أقول قصوويةعن "معنى" خفي مجهول في عوالم " المتاهة"، متاهة " الهرمينوطيقا" وقد امتدت من عالم النص والخطاب، إلى تلك الأصقاع البعيدة من عالم الوجود، وليس من وسيط بين القارئ/ المؤول ونصه الصغير أو الكبير، سوى اللغة.. فاللغة هي مسكن الوجود أو الكينونة، على حد عبارة هيدجر المشهورة، وبواسطتها، وعبر إنطاق الصائت والصامت من العلامات، يتم إخصاب الكون بشتى المعاني والدلالات..

ولئن كنا نؤمن باستقلالية الموضوع عن ذات الباحث، فإن هذه الاستقلالية في تقديرنا ليست سوى استقلالية نسبية بدأت العلوم اليوم تدرك مداها بعد أن أعادت إلى الذات العارفة الاعتبار. فالحبيب بو عبد الله عرفته إنسانا يشعّ معرفة وصدقا، وعرفته مدرّسا جادّا، محبّا لطلبته، متحمّسا للدرس الأكاديمي. وعرفته أيضا باحثا مفتونا بالشعر العربي، مسكونا بقضايا التأويل، يخوض باستمرار، درسا ومدارسة، رحلة ممتعة عصيّة مع النصوص، زاده في ذلك كله هاجس العلم، ورغبة جامحة في إنتاج معرفة جديدة بالنصوص ..لذلك كان حريصا على المشاركة في مختلف الأنشطة العلمية والثقافية داخل مؤسسته الجامعية، كلية الآداب و العلوم الإنسانية بالقيروان، أو في غيرها من المؤسسات الجامعية، فكان باحثا نشيطا يستهويه الرحيل من أجل تحصيل العلم وتأصيله، وتجديد المعرفة وإنتاجها.. شغوف بمجال تخصصه، مفتون باقتفاء أثر العلامة، يستنطق مظانها، ينصت بحس إشكالي إلى ما تقوله وما لا تقوله، وما لا تقوله العلامة يظل في تقديرنا أعمق أثرا وأبعد غورا مما تقوله..

لم يكن هذا الكتاب في زعمنا سوى صورة من ذات باحثة ارتحالا في "متاهة" الهرمينوطيقا، وإبحارا في عوالم الفكر والأدب والنقد إجراء ومساءلة. وقد اختار الباحث قضية ليس من الهيّن إدراك حقيقتها، ولا من اليسير الإمساك بخيوطها في ترحّلها من لحظة معرفية إلى أخرى، ومن ثقافة إلى أخرى.. فقضية التأويل هي الوجه الآخر لقضية النصوص في تعددها واختلافها. وقد نشأت التأويلية في فضاء النصوص المقدسة بيد أنها لم تقتصر على محاورتها وإنما انفتحت على الإبداعات الفنية والأدب والحكايات الأسطورية و الأحلام المحمّلة بالرموز، المثقلة بالدلالات الخبيئة، وإن كان لقراءة النصوص المقدسة أثرها العميق في تطوير إمكاناتها التأويلية ورسم مسارات المعنى واحتمالاته.. وقد قامت التأويلية فنا لقراءة النصوص وتجاوزا للقراءات السابقة التي كانت تختزل النص في بعد من أبعاده، أو تقتصر على تناول الظواهر اللغوية و البلاغية، وتبدّت سيرورة بحث عن المعنى الخفي القابع في أبنية النص العميقة. ووظفت الفلسفة وأدواتها بحثا عن أفق مغاير للقراءة، كما يظهر لدى فريدريك شلايرماخر بوصفه أحد أبرز مؤسسي التأويلية الحديثة، وقد انشغل بالنص المقدس وعمل على وصل الأبنية اللغوية بالأبنية الذهنية، أو ولهام ديلتاي، أو مارتن هيدجر الذي مثل لحظة فارقة في تاريخ التأويلية المعاصرة أو هانس جورج غادامير أو بول ريكور في أعماله المختلفة وبالخصوص منها صراع التأويلات (1969) و الاستعارة الحية (1975) والزمن والسرد ( 1983-1985 ) ومن النص إلى الفعل (1986) الذي مثل لحظة تجاوز لانغلاق التحليل البنيوي والانفتاح على الفعل التأويليّ فضلا عن وصله الفلسفة بالسرد.

لقد أفاد الباحث بعمق من مؤلفات أهم مؤسسي التأويلية، وظل يصغي إلى أسئلة التأويل والتأويلية، ويعتمد المساءلة نهجا مخصوصا في كتابة تعدّ ضربا من الرحيل في عالم تبنيه الكلمات وتصنعه العلامات، وليس همّه أن يظفر بجواب في رحلته تلك، بل همه الأسمى أن يجعل من السؤال أداة اختبار وتقصّ للظواهر.فقد كان الحبيب بو عبد الله يرى في السؤال الذي كثيرا ما استحال أسئلة، مدخلا إلى المعرفة وقوة ملهمة بأسرار الوجود الخفية، وإني لأستحضر في هذا المجال ما يقوله المؤلف باحثا مفتونا بالسؤال، مهووسا بمعرفة جديدة تعصف بالمعلوم وترتاد المجهول، يقول: " فليس التأويل في زعمنا، سوى إقامة مستمرة في حيرة السؤال وفتنته. فبالسؤال تنبني المعرفة يتأسس الفهم و إعادة بناء الفهم، وبالسؤال يستنبط المعنى و يتولد ويتعدد..أليس التأويل أولا وأخيرا هو سؤال المعنى بامتياز" فالسؤال لا يرتبط بموضوع المعرفة فحسب، وإنما أيضا بفعل القراءة والإفهام، وزاوية نظر الباحث عند استنطاق النصوص التي لا تبوح بأسرارها من الوهلة الأولى. ومن هنا تتبدّى قيمة القارئ الذي أعلن رولان بارت ولادته، قارئ يجيء إلى النص بثقافته وبمخزونه المعرفي في رحلة اكتشاف للمعنى في تعدده وكثرته. فما من نص إلا وهو في حاجة إلى لون من قراءة تحييه ولا تقتله، تضفي عليه أبعادا جديدة ما كان ليدركها المتلقي إلا بعد معاناة و مجاهدة. وبهذا يغدو من الصعب أن نتحدث عن نص أو كتابة خارج دائرة القراءة والتأويل.

لقد بدا المؤلف متتبعا لمفهوم التأويل، واعيا بالصعوبات التي تحفّ به في انتقاله من الثقافة الغربية إلى الثقافة العربية. فما من شك في أن انتقال المفهوم من ثقافة إلى أخرى من شأنه أن يثير عديد القضايا. وقد وسم الباحث هذه الرحلة العصية و القصية في تتبع المفهوم والإحاطة بالظروف التي نما فيها برحلة " القلق المعرفي". ولعل في اختياره للمحاورة اللطيفة بين النظري والإجرائي ما ينبئ بالتوجه العام للكتاب ، وقد اختار الباحث أن يبنيه على أبواب ثلاثة، وقسّم كل باب منها إلى فصول. وكان وكده فيها جميعا، وهو يرتحل بين نصوصها ومتونها، قديمها وحديثها، أن يستقصي فرادة "الكفاءة التأويلية" لدى الشارح أو الناقد العربي (ابن جني، ابن فورّجة، الآمديّ، الجرجاني، القرطاجني ...) وهو يتعامل مع النص الشعري (بشار أو أبو تمام أو البحتري أو المتنبي...) وأن يتوقف عند خصوصية الأجهزة التفسيرية والآليات التأويلية الموظفة لديهم، ساعيا إلى أن يظفر بذلك " النسق التأويلي" المميز للتأويل عند العرب وما أثاره من مختلف القضايا.. وسعيا منه إلى التنويع في المدونة النصية التراثية، توقف الباحث أمام النص الخلدوني ليجري قراءة مصطلحية على أحد فصول كتاب المقدمة كاشفا عن بعد آخر اختص به ابن خلدون وقلما تم الالتفات إليه، وهو الوعي المصطلحي الذي اتصف به العلامة في مقدمته، فكانت قراءة ذلك الفصل أو النص قراءة دقيقة في لغتها، صارمة في منهجها، عميقة في معانيها وأبعادها.. ولم يشأ الباحث إلا أن يربط أصالة التراث بأفق المعاصرة والحداثة من خلال تلك القراءات النقدية و"التأويلية" التي مارسها على نصوص أخرى حديثة، تعلق بعضها بمختارات من الشعر التونسي وما أثاره التعامل معها تبويبا و تصنيفا وتحقيبا من اختلاف في وجهات النظر وتباين في الفهم والتقويم معتمدا على رؤية تأويلية تهفو إلى إغناء مثل هذه المصنفات وبيان قيمتها النقدية. وانفتح البعض الآخر من النصوص على قضية فكرية حضارية اتصلت بالاستشراق لدى أبرز منظريه وهو إدوارد سعيد، وما أثاره كتابه المؤسس الاستشراق من سوء فهم أو سوء تقبل وتأويل لدى الكثير من الغربيين والعرب على حد سواء، مما أفضى بالكاتب إلى إعادة الكتابة في الموضوع توضيحا لآرائه وتبيانا لمواقفه. وكانت المرجعية التأويلية حاضرة في قراءة الباحث لكتاب إدوارد سعيد تعقيب عن الاستشراق وشكلت مفتاحا منهجيا ناجعا في الكشف عن خصوصية "الخطاب النقدي المضاد" الذي سلكه سعيد في الرد على خصومه من المفكرين الغربيين إن قيمة هذه القراءة لا تكمن فحسب في ما كشفت عنه من خصوصية مطارحة إدوارد سعيد لقضية الاستشراق وريادته في هذا المجال الفكري والحضاري بدقة رؤيته وعمق ثقافته، وإنما أيضا في تأكيد الباحث أهمية الفهم في تقبل النصوص وشروط تأويلها تجنبا للوقوع في سوء القراءة أو سوء التأويل. وهذا كله يندرج ضمن قضايا التأويلية المعاصرة ..

إن الحاجة في زمننا الثقافي المعاصر إلى الفهم والتأويل أضحت ضرورة ليس إلى الشك فيها من سبيل، لذلك دعا الباحث في نبرة صادقة، غامرة بالطموح و التفاؤل، إلى أهمية تظافر جهود الباحثين والدارسين المهتمين بقضايا التأويل والتأويلية إلى مزيد التفكير في خصوصية الوضع النظري والمعرفي للتأويل عند العرب من خلال حسن تدبّر تلك المتون التراثية الكثيرة والمتنوعة وعمق استقرائها، بحثا عما يمكن أن يشكل لبنات أو أسس نظرية تأويلية عربية، لها أصولها ومبادؤها وخصائصها وغاياتها.. وهو، لعمري، طموح معرفي مشروع يرنو إلى بناء تأويلية عربية متأصلة في تراثها وثقافتها، متطلعة لمستقبلها وحداثتها، وتراهن على تأسيس أطر جديدة للفهم تكون متجاوزة لكل مظاهر الانغلاق،منفتحة على عوالم الممكن والمتعدد والمختلف..

وأودّ في خاتمة هذا التقديم أن ألفت القارئ الكريم إلى أنه واجد في هذا الكتاب متعتين: فأما المتعة الأولى فهي متعة الفكر من خلال أهمية الموضوع و طرافة قضاياه وما تميز به المؤلف الحبيب بوعبد الله من قدرة على الحفر في النصوص، واتخاذه السؤال سبيلا في استنطاق المعرفة وإنتاجها .. وأما المتعة الثانية فهي متعة القراءة من خلال فن الكتابة و بلاغة الأسلوب و صفاء اللغة.. وأريد أن أؤكد أني بهذا التوصيف أو التقويم، لست مبالغا ولا مجاملا، بل هي الشهادة بفضل الباحث، وهوسه بالإضافة الجادة في مجال الدرس أو البحث .. فليس هذا الكتاب في الأخير سوى فاتحة لمستقبل جديد، سيكون، بلا شك، أكثر إنصافا لباحث رصين واعد بمزيد الإنتاج في مجال البحث العلمي و التألق فيه..

 

أستاذ الأدب العربي بجامعة القيروان

مدير مدرسة الدكتوراه: الآفاق الجديدة في اللغات والآداب والفنون والإنسانيات