تطرح هذه الرواية كموضوع أساسي حالة إنسان محروم من هوية واضحة فلا هو امرأة ولا هو رجل ولا هو سعودي ولا هو يمني، وحتى في حال اعتباره يمنيا بحكم انتمائه لأبوين يمنيين فلا هو صنعاني ولا هو عدني ولا هو من تعز، رغم أنّه ينتمي إلى كل هؤلاء فهو في تكوينه النفسي والذاتي والاجتماعي مجموع كل هؤلاء إلا أن هذا المجموع لا يُكوّن إنسانا "سويا" خصوصا في ما يتعلق بالجندر.

رواية «بدون» حين يتّحد القدرُ والبشر على قهر الذات المختلفة

أحمد عمر زعبار

 

"أتساءل بحرقة ترى هل خلقتُ لأفرح أبدا، هل فرحت حقّا ولو لمرّة في حياتي وكانت فرحة حقيقية لم يخالطها قلق؟" ربّما تلخص صرخة علي علوان، هذه، في آخر الرواية معاناة رحلته مع الحياة .. رحلة انتقاله من أنثى إلى ذكر ولكن... هل كان أنثى وهل أصبح ذكرا؟

تنطلق الرواية من شخصية عُلا علوان أنثى، في الظاهر وذكر في الباطن، هو ذكر غير مكتمل في جسد أنثى غير مكتملة، يعيش رحلة معاناة وما يشبه ضياع الهوية "الجندرية" إلى أن يتضح له مع الوقت أنّه في حقيقته ذكر وليس أنثى لتتوالى أحداث الرواية من مدينة إلى أخرى يربطها خيط واحد هو خيط الألم ومعاناة البطل الذي يسعى لمحو آثار الأنوثة الظاهرة من جسده وإبراز ملامح الرجولة الموجودة فيه أصلا رغم أن بعضها مخفي لا يُرى بالعين.

تسعى هذه العجالة إلى متابعة حالة القهر التي عاشها البطل وإلى طرح بعض القضايا التي وردت في سياق أحداث ووقائع رواية اقتحمت بشجاعة عالما ومجالا لا أعتقد أن أحدا من الروائيين قد تطرق إليه من قبل ولا أقصد هنا المحرمات الثلاث في الأدب العربي الدين والسياسة والجنس فقد تم التطرق لهذا الثالوث الى حد الإنهاك أحيانا.. "بدون" رواية مُسْتفزة فعلا لكنّها ليست رواية شذوذ جنسي كما قد يبدو للوهلة الأولى.

تطرح الرواية كموضوع أساسي حالة إنسان محروم من هوية واضحة فلا هو امرأة ولا هو رجل ولا هو سعودي ولا هو يمني وحتى في حال اعتباره يمنيا بحكم انتمائه لأبوين يمنيين فلا هو صنعاني ولا هو عدني ولا هو من تعز رغم أنّه ينتمي إلى كل هؤلاء فهو في تكوينه النفسي والذاتي والاجتماعي مجموع كل هؤلاء إلا أن هذا المجموع لا يُكوّن إنسانا "سويا" خصوصا في ما يتعلق بالجندر, ومن هنا يمكن إدراك رمزية العنوان "بدون"

لا ينفع العقّارُ في ما أفسد القدرُ والبشرُ

ينقلنا السرد من معاناة إلى أخرى في رحلة حياة لا يربط بين أحداثها ومفاصلها إلاّ الوجع والقهر والظلم المسلط على البطل من القدر ومن المحيط والمجتمع وكأن ظلم القدر وحده لا يكفي, فمنذ اكتشاف الفتاة عُلا علوان أنّها ذكر في جسد أنثى وصولا إلى تحقيق رغبته في أجراء العمليات الجراحية الضرورية للتخلص من مظاهر الأنوثة وإثبات رجولته وتحوله إلى علي علوان رحلة عمر طويلة من التحديات والحواجز والقهر والأوجاع رغم بعض فترات الأمل التي تبدو كجمل اعتراضية في كتاب مآسي, وبرغم ما بدا من نجاح علا علوان في التحول إلى علي علوان وتجاوزه كل التحديات والحواجز النفسية والاجتماعية إلا أن كف القدر بقيت سخية بالأوجاع ومليئة بما يكفي من الآلام بل ويزيد.

وبالتوازي مع المسار الأساسي للرواية فإن الأحداث المحيطة بالبطل والمتعلقة بالواقع الاجتماعي تصب كلها في خلق جو روائي وبيئة سردية صارمة في واقعيتها وقد تمكّن الأخزمي من التقاط كثير من مظاهر الخلل في مجتمعٍ يكاد يكون الخلل فيه هو العادي والأساس فكانت روايته مغامرة لتعرية واقع تسعى الغالبية لتجاهله والتهرب منه خوفا من مواجهته.

يمارس الكاتب نقده للمجتمع بما يشبه الحيادية المطلقة بعيدا عن المباشرة والصراخ فهو لا يحتاج إلى مبالغة أو صراخ لكي يؤكد تشوّهات الواقع الاجتماعي الذي يعيشه بطل روايته (الواسطة في الإدارة.. المحسوبية .. عقلية رجل العلم والتعليم ... التفسير القدري للدين وللآيات القرآنية .. الإشارة السريعة الى شيعة وسنة وعدم إحساس أحدهما بالانتماء إلى الآخر .. الوضع الاجتماعي للأب .. ..) ولعل وضع المرأة يؤشر لطبيعة المجتمع الذي دارت فيه أحداث الرواية فإن كانت زوجة فهي ملك للرجل :هي ملكي الآن" يقول شرف وهي في كل حالاتها كائن من درجة أدنى تعاني من نظرة الاحتقار والدونية وكأنها غير مؤهلة لأن تكون إنسانا, وما تعرّضت له عُلا علوان من تمييز وقهر ورفض وإهانات كفيل بأن يعطينا فكرة عن وضع المرأة في مجتمع مغلق مؤمن بذكوريته الفريدة وتفوقها "الطبيعي!!"

ولعل النقد الذي تناول المجتمع اليمني يثير بعض ردود الفعل الغاضبة إلا أنّ الحقيقة هي أن كل ما قيل هو في الواقع ما يقوله أهل اليمن وأبنائه الغاضبين والمتطلعين لواقع أفضل وغدٍ أفضل, فما ورد على لسان البطل بخصوص أحوال اليمن هو سرد صادق لردود فعل (امرأة) مرفوضة ومحتقرة ومهانة من قِبل القائمين على شؤون الوطن, وماذا عساه يكون رد فعلها إلا الاشمئزاز من تلك الممارسات غير المعقولة وغير المقبولة لا دينيا ولا أخلاقيا ولا إنسانيا.

من ناحية البناء الفني مكّن تعدد الرواة من توسيع الرؤية والإحاطة بالحدث من زوايا مختلفة ولكن مكملة لبعضها لتمنح القارئ صورة أوضح وأشمل وقدرة أفضل على فهم أبطال الرواية, وكثيرا ما يختفي يونس الأخزمي ليترك الرواية تحكي ذاتها من خلال تعدد الرواة وكثيرا ما تشعر وكأن بطل الرواية يحدثك أنت شخصيا. أمّا دقّة التفاصيل والتصاقها بالواقع وطريقة سردها فتضعك وجها لوجه أمام قضية مطروحة بواقعية مُرّة, مؤلمة وموجعة وليس مجرد قصة تُحكى للتأمل النظري, كما تضعك أمام احتمال أن الكاتب عرف فعلا بطل روايته معرفة شخصية وأن الرواية مستوحاة من واقع حياته.

ننتهي من قراءة الرواية إلا أن ما يبقى من رواسبها في النفس يتجاوز قطعا حدود قراءتها فصور أبطالها ووقائعها منها المؤلمة لا تتركك ولا تفارقك لتبقى مشغولا بمصائر أبطالها خصوصا أنّ نهايتها تُركت مفتوحة لأن الأحداث في الواقع وصلت بالكاتب إلى تلك النقطة واختار أن لا يضع أو يضيف نهاية من عنده قد تربك السرد أو تكون غير دقيقة مقارنة بما حصل للبطل في الواقع وهو ما أرجّحه شخصيا رغم أنّ الرواية الحديثة عموما لا تنتهي بنهاية واضحة محدّدة وإنما بنهايات مفتوحة يرسمها القارئ بنفسه انطلاقا مما ترسب في ذهنه من القراءة.

 

شاعر وأعلامي تونسي مقيم في لندن

 

بدون: رواية الكاتب العماني يونس الأخزمي

صادرة عن دار عرب للنشر والترجمة – لندن – طبعة أولى 2019