تتناول الكاتبة الفلسطينية هنا ديوان الشاعر الفلسطيني لتتأمل كيف يستولد الإبداع من رحم الوجع الفلسطيني المستمر، وكيف يدفع عن نفسه بالشعر الموت الذي يحدق بفلسطين، حبث الناس عند زهورها تستأذن الجلاد كي تنمو وتفرح من جديد، فالغول قد أكل الكلام وسد حلق المنشدين.

عندما يولد الإبداع من رحم الألم وتنصب الفخاخ لتفاديه

قراءة في ديوان «ما يشبه الرثاء»

سماح خليفة

 

عندما تقرأ لفراس حج محمد؛ فاعلم أنك أمام "فخ" لغوي ودلالي، فاحذر أن تقع في الفخ. (ما يشبه الرثاء) ذكرني بكتابَي فراس (كأنها نصف الحقيقة)، و(يوميات كاتب يُدعى x)، مع الفرق شعرا ونثرا وتميُّز "ما يشبه الرثاء" بالمستوى اللغوي والدلالي عن سابقيه. في كتابه (كأنها نصف الحقيقة)، وجدت الحقيقة كاملة، وفي (يوميات كاتب يدعى x)، كان الكاتب علَما بارزا. فلدى فراس من فراسة اللغة ودلالتها ما جعله يتألق ككاتب وشاعر وخاصة في ديوان (ما يشبه الرثاء)، وجعله أيضا يرتفع بمستوى قرائه؛ فبعد أن كان كثير من قرائه يقعون في فخاخه ويكتفون بوجه الماء كمرآة تعكس مكنون البحر، أصبحوا في ما بعد يغوصون في الأعماق؛ ليقينهم بأن ما أمامهم ليس سرابا، بل بحر لجيّ عميق يتطلب خبرة في الغوص، واكتشاف مكنونات هذا البحر القيّمة.

لم أجد في (ما يشبه الرثاء) ما يستحق التركيز على كلمة "الرثاء" في دلالتها الحقيقية، رغم وجود بعض القصائد التي تنزف وجعًا، وتتوارى في غياهب الحزن والظلم، لأن الشاعر في كل مرة يقترب فيها من الفناء ومن العدم، يستفيق بالفطرة؛ لينفض عنه غبار الموت، وينتصر للحياة من جديد. وهكذا يراود الحياة عن نفسه فالموت فالحياة، حالة بين بين، يتأرجح بين ضمير الأنا والأنت في القصيدة، والتي وردت على سبيل المثال خمس مرات في مقطع واحد. هو الصراع من أجل البقاء من أجل الانتصار للحياة التي تخضر رغمًا عنه في قلبه، رغم حيادية الجسد الظاهرة، كما أورد "يورق الحزن" في قصائده.

كان الشاعر في هذا الديوان بين الرثاء والثناء، بين الفرح والحزن، بين الألق والتواضع، بين الحب والفقد، بين الحياة والموت، إلا أنني وجدت الأمل ينتصر دائما في النهاية، وهذا هو فراس يجلد ذاته، ويقدرها في نفس الوقت، هو يحاول الرثاء فلا ينجح ص22 (المجد للذات الشقية/ كلما تذوي تجد الولادة في الكلام!)، وفي الولادة تتجدد الحياة، ص27 (تنمو وتفرح من جديد ... البحر يغسلها ... تصحو غدا إذا ما هزها الوجع المجيد) الأمل، الفرح، يغسل، تصحو، هزّ، المجيد. كلمات إيجابية طغت على الوجع، ص9 (يا ليتني وقصيدتي كنا حجر... وفؤاد طيري من حجر ... لعرفت ساعتها بأني أشعر الشعراء وأندى من حضر ... لكني ما كنت إلا مثلهم عراب أحلام الضجر)، تبقى "ليت" لتبقى قصيدة الشاعر وقلبه ينبضان، وهذا يفسر التقاء الضدية في كلمتي "حجر، الضجر" و"أندى، أحلام".

وفي (ما يشبه الرثاء) كان هناك بعض المحطات أو بعض الفخاخ التي وقع القارئ فيها مما حجب عنه جماليات الديوان. الجنس الذي اعتبره البعض "مقززا خارجاً عن الأدب"، هو جزء من الفخ الذي تعمده الشاعر، والذي أغرق البعض في ضبابية اللغة والدلالة وجعلهم يَرْثون الشاعر في واقع الحال، ويصرفون النظر عن مكنونات الديوان الثمينة، والتي أيضا كانت على حساب المرأة من وجهة نظر البعض. ففراس يعيش في برزخ اللغة والفلسفة، أنصف اللغة في كتاباته، ولم ينصف المرأة في لغته القارئ، ربما يأخذ الأمور بسطحية، كما في نصه ص126 "صف من النسوان".

لكني أجده يصور الأمور من زاوية أبعد، من زاوية المشاهد المنخرط في المجتمع الواقعي. فراس هو شاعر لا يبوح إلا بصوت مسموع، على عكس الشعراء الذين ينحتون اللفظ والمشاه،د ويجمّلون ويؤنقون؛ ليبقوا في برزخهم العاجي، وهذا الكلام يخالفه الكثيرون، ولكن هذا هو فراس، تمردت الكلمات على لسانه وقلبه وجوارحه وحتى جسده، حتى نبتت لها أجنحة وحلقت دون رقيب.

أما عدا المرأة فنجد محطات كثيرة تستحق الوقوف (تعب على تعب مركب) ص159، هو بذلك يتذوق التعب في المرحلة الحرجة بين شفير الواقع وبرزخ اللا احتمال، وهذا يبدو حصيلة ما يواجهه الشاعر والكاتب والنبي وصاحب الكلمة الحرة من تنمر، في مجتمع يبدل الحقائق ويفسرها حسب الأهواء والمصالح حتى تتشوه الصور. وهذا ما كان في قصيدة "لم يعد أحد بريئا" ص 85، يوسف هنا هو صورة كل مضطهد مظلوم تعرض للتنمر من القوى المحيطة حتى أظهرته بمظهر (هذا اليوسف الباغي وهذا ما صنعت يداه) وشخصيا وجدت هذا التنمر، شبيها بما تعرض له الشاعر فراس من تنمر، وأذكر قول أحدهم عنه وقتها "خليه مستاهل من صنع إيده"

حتى القصيدة التي جاءت بعنوان صريح "رثاء"، في الجملة التي كررها (قولي له قد مات)، لم يورد في القصيدة سببا واحدا مأساويا أو سوداويا يبرر فكرة الموت، بل كل حدث أو صورة أوردها كانت جميلة، وتكراره لعبارة (قولي له قد مات) دليل تمسكه بالحياة، وكأني به يقول: أنا ما مت، وهذه إيجابية مشرقة، ويعود في نهاية النص يقول (يا ليته ما مات) وهنا إشارة حقيقية لتشبث "أنا" الشاعر بالحياة الفعلية والموت الإبداعي لدى الشاعر.

يشير فراس إلى القمع المُمارس على الكتاب والشعرا،ء وعلى حرية الكلمة بشكل عام، سواء من السلطة أو من موروثات الأهل ص27 (الناس عند زهورها تستأذن الجلاد كي تنمو وتفرح من جديد)، ص8 (وأتيتكم أبكي عليّ/ عليكم وعلى الحروف النازفات بروح أغنية الشعوب المستريحة في مسالخها .. وأتيتكم لأقول لكم ... الغول قد أكل الكلام وسد حلق المنشدين)، ص11 (نحو أمٍ مثل شيخ عشيرة تلقي الأوامر ... ونحن نبحث عن مراهقة تحب بلا حساب ... مثل رائحة السنين المستبد ... تاريخ الحروف العفنة!)

ونجد فراس في بعض النصوص يعود بجلد ذاته ص87 (يا أنّتي انتقمي مني كثيرا ...) ص17 (هو هكذا شبح يعيش بلا جسد)، ص34 (الشعر لا يشفع لي لأكون حبيبا علنيا... كيف سأظهر معها/ وأنا أعاني ما أعاني من عرج/ ونحول وشيب...) ص86 قصيدته "منتهي الصلاحية". لكن تراه كطائر العنقاء ينهض من جديد في نص آخر، كما في قصيدته ص149 "خطبة الدكتاتور"، هذه القصيدة الطافحة بالوجع لا يستطيع في نهايتها إلا ان ينتصر للحياة بعبارته (ينهض كالفراشة/ حاملا مني نطفة/ لن تموت).

والسؤال الملح: أي إبداع هذا الذي يولده الحزن؟!! ص94 وقصيدة "سورة الزمن الحزين" وغيرها من قصائد تلح على الدارس أن يتناول كل قصيدة على حدة لدراستها والنهل من جمالياتها الإبداعية. أي حزن يستظل بموت وهمي؛ ليأبى الموت الحقيقي لقلب فلسطين القدس، ص118 القدس (المدينة لا تموت). أي حزن وألم يتماهى مع الفقراء المتعبين؛ ليبدع في صوره الفنية ص120 (كل المسافرين إلى المدينة يسيرون إلى الهباء تطحنهم عجلات اقتصاد السوق).

أوجعتنا يا فراس وأمتعتنا، أمتّنا وأحييتنا، كسرت قلوبنا ثم أنبت لها أجنحة؛ لتحلق من جديد ... هذا الشاعر الذي كلما زاد وجعه زاد إبداعه وتمسكه بالحياة، لا نستطيع إلا أن نتمنى لقلبه الحياة، ولروحه التحليق، ولقلمه النزف أكثر وأكثر وأكثر ...

 

الديوان يقع في 194 صفحة من القطع المتوسط، صادر عن دار طباق للنشر والتوزيع.