تؤكد هذه القصص القصيرة جدًا على إمكانيات هذا الشكل الفاتن، بعد الدفعة الاستثنائية لأصداء سيرة نجيب محفوظ الذاتية، وأحلام فترة النقاهة، تأتى هذه النصوص، لتؤكد أن هذا القالب – بسبب ما يحمل من مرونة هائلة في الحذف والتكثيف والمراوحة اللماحة ما بين فنون عديدة- قادر على الاغتناء بكل موهبة جديدة.

قصص قصيرة جدا

صلاح عساف

 

فن المحو
كان قد أتمّ كتابة روايته الأولى. حين قرأ بالصدفة: أن الكتابة هي فن المحو. فتحمس لمراجعة ما كتب. ويوما بعد يوم، كان قد أتمّ محو روايته الأولى.

 

الأحلام الخضراء
أوفى أصدقائي، صديق الأحلام الخضراء، أهديته روايتي الأولى ممهورة بتوقيعي وأمنيات بتحقيق أحلامه. ويوما ما، وجدها صديق آخر على عربة لبيع الكتب المستعملة، فأتى بها إليّ. اتصلت لأعاتب صديق الأحلام الخضراء-أوفى أصدقائي-ردت زوجته:

البقية في حياتك.

 

موانع استعمال
زارني في المنام، وأهداني روايته. استرعى نظري ضخامة الخط الذي كٌتب به اسمه واسم الرواية على غلافها. وحين تصفحتها صدمني الخط الصغير، وحروف الكتابة الدقيقة التي تشبه حروف النشرة الداخلية لعلبة دواء.

 

ضيوف الشرف
كِبار روائييِ البلد المضيف لمؤتمر الشعر العربي مدعوون للحضور كضيوف شرف. هذه فرصة طيبة لإهداء الشعراء الضيوف أحدث إصداراتهم الروائية. أعذب مشاعر المحبة والتبجيل حملتها العبارات التي دُبجت بها الإهداءات على صدر صفحات الكتب. عقب انتهاء المؤتمر وسفر الضيوف، وجد عمال الفندق الكتب متروكة في الغرف. وبعد وقت، عُثر عليها في سوق الكتب المستعملة. وعلى مواقع البيع الإلكتروني، صُورت صفحات الإهداء معروضة لأعلى سعر.

 

كتب تقرأ نفسها
الكتب في عزلتها المكتبية، منسية في وحدتها. مصفوفة على الأرفف كجنود تنتظر أمرا. يتعاقب على صمتها النور والظلمة. لطالما تململت السيدة العجوز "ألف ليلة وليلة" في رقدتها الطويلة، لكنها هذه المرة قطع صوتها الخفيض الصمت والظلام: "يارفاق. اننا نتعفن هنا. أين هي اليد التي تمتد إلينا لتوقف نزيف الغبار. فلماذا لا نؤنس وحشتنا؟". واقترحت أن يتلو كل كتاب نفسه فيما يستمع الكل. وتقديرا لعمرها المديد، نزلت على رغبة الجميع في أن تبدأ هي. وراحت بصوتها الخفيض المُوهن تروي لياليها الطويلة.

 

هيمنجواي
- في صباى أهدى لي أبي بندقية صيد، كانت هي نفسها التي فجّرت بها في شيخوختي رأسي الحزينة.

قال هيمنجواى ذلك للملاك الذي استقبله على باب الجنّة.

فقال له الملاك: لا أعرف ماذا أقول، ولكن جنّتنا يا سيدي لن تروق لك.

 

فرجينيا وولف
يقول هيرقليطس أننا لا ننزل النهر مرتين. لكن فرجينيا في الليلة التي حسمت فيها قرارها. رأت نفسها-في ضلالاتها المحمومة -تخطو نحو نهر " أوز " مثقلة بالحجارة التي حشرتها في جيوبها. وبينما كانت تتقدم داخل النهر. رأت الحجارة تطفو على الماء حولها، فتعلقت بها وهي تبكي دون صو

 

ذاكرة الحبل
سألته إذا ما كان هذا الحبل يتحمّل؟

- إنه حبل متين يصلح للشنق.

قالها بوريس باسترناك ضاحكا لمارينا تسفيتاييفا، وهو ينحني ليحزّم حقيبتها الكبيرة الموشكة على بعثرة محتوياتها. كان يأمل أن يجرّ الشاعرة الحزينة إلى الإبتسام وهو يودعها على محطة قطارات موسكو إلى محطتها الأخيرة. غيرأنه لم يكن يتوقع أن عبارته، التي لم يبددها ضجيج القطارات وجلبة المسافرين، استقرت في ذاكرة الحبل.

 

أنا جودو
شخصان رثّا الثياب، يعتمر كلاهما قبعة، غادرا للتو الباب الخارجي للمسرح. ووقفا على الطريق ينتظران تاكسي. توقف إلى جوارهما تاكسي، نزل منه بتثاقل رجل بدين يرتدي شركسكين بيضاء. انتظرا حتى ينزل الرجل، قبل أن يستقلا نفس التاكسي الذي انطلق بهما. رأى رجل الشركسكين في طريقه إلى المسرح الأنوار خافتة، وقليل ممن بقي من الجمهور، يغادر المكان.

استوقف الرجل حارسا يهّم بفتح الباب المؤدي إلى الخشبة، وقال له:

هناك على المسرح شجرة، ينتظر تحتها شخصان، أحدهما يُدعى فلاديمير والآخر ستراجون. أخبرهما أن جودو أتى. إنهما ينتظراني. أنا جودو.

أطلق الحارس ضحكة قصيرة وهو يتأمله، واقترب من أذنه قائلا:

يا سيدي، لعلك لاحظت أن المسرحية انتهت، وغادر الشخصان المسرح مند قليل؟

 

كوابيس
من أجل ذكريات الهزائم المستبدة بنومه، وإلحاح ثارات الماضي القديمة التي تلاحقه في كوابيسه، حشا مسدسه بالطلقات، ودسه تحت وسادته.ووضع في المتناول حبلا طويلا إلى جوار سريره.

 

أصوات
وقع أقدام هاربة تركض مرتبكة، لاحقها نُباح كلاب متسائل. أعقبها صوت تكسر السياج الخشبي الهش، من عنف ارتماء الجسد عليه. ثم هياج وفرار ملتاث، وضربات أجنحة ثقيلة، وهلع دجاج، وفحيح بط، وصياح إوّز ثم الأزيز المتلاحق للطلقات الآتية من بعيد، وهي تخترق الريح، وتخترم الجسد المكوّم. ثم صراخ نسوة، وزعيق رجال مستنجد، وعويل ملتاع، وبعد فترة، صوت سارينة الإسعاف المتوالي، يعلو على ضجيج الزحام.

 

تكلفة الفرصة البديلة
استمرّ أنيس فى الإقامة وحيدا بشقة أمه بعد وفاتها. الشقة بالدور الأرضي مُسيجة النوافذ، قديمة ومتواضعة وتنقصها أشياء. يمتلك أنيس شقة أخرى حديثة مؤثثة جيدا، ومكيفة الهواء بالكامل. يخاف أنيس أن يسترد المالك شقة أمه إن هو تركها. فى شهور الصيف شديدة الحرارة والرطوبة، تهفو نفس أنيس للإستجمام بشقته المغلقة، الشاغرة، مكيفة الهواء.

 

الفطام الثاني
في غرفة العمليات، بينما كان يتهيأ لإجراء عملية لتحويل مسار معدته. لم تشغله التفاصيل من حوله. إنما كان منجذبا إلى آلية الربط العجيبة التي تعمل بها ذاكرته. لم يعرف لماذا يتذكر الآن، ما روته أمه عن لحظة فطامه الأليمة. لا يتذكر طفل العامين بالطبع بكاءه المرير حين لامست شفتيه الزيت المر الذي دهنت به أمه حلمة ثديها. لكنه كان يقدّر بامتنان، أن خاتمة المرارة تلك، كانت تفتح له في الوقت نفسه، عالما سحريا لملذات الطعام.

 

المخفي
المخفي، هو آخر إخوته السبعة الذين حصدهم الموت تباعا. كانت أمه تعتقد أن اسمه سيعصمه من مصير إخوته. حسنا، ربما عاش المخفي طويلا حتى بلغ الخامسة والتسعين. غير أن أحدا لا يعثر له على مكان.

 

موت موظف
لم يكن الشعور بالذنب هو ما أنهك الموظف إيفان تشرفياكوف حين تمدد على مقعده ومات، بل لأن هذا الشعور قوبل باستخفاف لم يتوقعه. تشرفياكوف حين ارتمى على أريكته، ودون أن يخلع بدلته ومات إنما مات تحت وطأة شعور لا يحتمل، باكتشافه مقدار تفاهته.

 

مرايا
حفر الزمن على ملامحه أخاديدًا جديدةً، ورسم تجاعيدًا وكرمشات إضافية. اندثرت قسمات وجهه القديمة، واحتلتها ملامح شخص يشبهه. كنت أشحذ ذاكرتى محاولا الوصول إلى وجهه القديم. زميل الفصل، إلتقيته صدفة وتعانقنا. وبين ضحكاته المتقطعة، قال لي: لم اعرفك! مالك شِخت قبل الأوان؟

 

تكافل
عند خروجه من الحرم المكي، لم يجد من شبشبه الجلدي سوى فردته اليسرى. بحث طويلا دون طائل. بالأمس اشتراه، وهوغالي الثمن. أوشك أن يتركها هي الأخرى. ما فائدة أن يحمل فردة الشبشب الوحيدة وهو خارج، ولكنه حملها، لمح بين الخروج رجلا مقطوع الساق اليمنى، وهو يعتمد عكازه الحديدي تحت إبطه. تقدم منه وأعطاه فردة الشبشب الوحيدة. تهلل وجه الرجل، وقّلبها بإعجاب، وسأله مبتسما: وأين الفردة الأخرى؟

 

مباركة
في ليلتنا الأولى -مطلقتي وأنا- وبعد أن خلعنا ملابس الزفاف، بسطت لي سجادة الصلاة، وقالت:

- ركعتان من أجل أن يبارك الله حياتنا معا.

 

تلاسن
كلما عيّرته بالمكتبة والكتب التي لم تقرأ يوما، عيّرها بالنيش والأطباق والكاسات التي لم تخرج أبدا.

 

النوم مع العدو
على سرير واحد، ظهرا لظهر، يفكر كلا منهما: كيف ينتهي هذا الوضع.

 

غفران
هذه لحظته الأخيرة وهو على فراش الموت. وضعت زوجته يدها على يده القريبة، وقالت: هل سامحتني؟

تمنى نهرا من الدموع يأتي ليغسل الماضي غير أن الشريط الطويل بلقطاته القديمة المختزنة، أعلن عن حضوره. تلك اللقطات التي لم يستطع نسيانها يوما. انكشف عن بصره الغطاء، فسقط فى السواد. وقبل أن يغيب ويغمض عينيه أخيرا، إعتصر وجهه مومئا لها:

لا.

 

الدم والحليب
همست له فى غمرة لحظة الحب، وهو يرتشف نهدها:

- إحذر أن نصير إخوة.

وحين أُجريت لها جراحتها الدقيقة، واحتاجت أن ينقل إليها بعضا من دمه، وبعد أن أفاقت، وهنأها بالسلامة. أمسك يدها وقبلها، وهمس لها:

- هل صرنا الآن إخوة؟

 

حلم العمر
بعض جراح العمر لا تبرأ أبدا. وكان جرح عمر خالتي أنها لم تنجب. ويوم ماتت، وقبل أن يغلقوا عليها القبر، هُرع رجل يحمل على يديه رضيعا مكفنا، يبحث له عن قبر مفتوح. فأنزلوه إلى جوارها، وأغلقوا عليهما باب القبر.

 

تك .. تك
كانت جالسة في الصالة، في انتظار موعد السباك الذي سيأتي ليصلح صنبور مياة حوض المطبخ. كانت تنظر إلى ساعة الحائط وتسمع دقاتها. خيل إليها أن الساعة تقطر الزمن، قطرة قطرة. مثلما يقطر صنبور حوض المطبخ الماء، قطرة قطرة.

 

التوأم
كان على أحدهما أن يُمهد الطريق إلى قلب الفتاة، حتى يأتي الآخر الغائب ليقطف الثمرة دون عناء. توأمان هما، والفروق بينهما منعدمة في القسمات والملامح. الآخر طالب الكلية الحربية، لا وقت لديه سوى إجازة الخميس والجمعة. أما شقيقه فله العناء وحده، وأيام الاسبوع الأخرى التى يُمهد فيها الطريق، حتى يأتى الطالب الغائب كي يقطف الثمرة.

 

الصفعة
يُحكى في بلدتنا عن رجل طيب، لا يُرى إلا ملتفتا بوجهه على الدوام ناحية اليمين. يحكون عن مرض أعيا أطباء العظام، جعل الرقبة تتيبس على هذا الوضع. ولكنهم قِلة فى بلدتنا من يؤرخون لحالة الرجل الطيب، بذلك اليوم البعيد الذي أُقتيد فيه مشتبها إلى قسم الشرطة. وهناك تلقى صفعة على وجهه.

 

صاحب الكرامات
الشارع الخالي الطويل أغراه بتذكر أغنياته المنسية. رافقه همس النغم المنتشى الذي ما لبث أن تصاعد تدريجيا. وعندما رفع عقيرته بالغناء فوجئ بفرار الحشرات والزواحف من مكامنها. تبعها خروج القوارض الكبيرة من جحورها. وعندما تملكه الفزع، طمأنه شعور داخلي، عطوف ومؤاذر، بأنه صاحب كرامات. وسرت أخبار معجزته بين الناس كالعدوىَ، حتى انتهت إلى الدوائر العليا. فيما انتظر الجميع بشغف، ويقين جامح، الإعلان الرسمي الذي سيتحول بموجبه إلى أحد كِبار الساسة.

 

العازف
في تردده للصعود إلى شقتِه لإحضار شيء ما، كان يصعد السلم درجتين أو ثلات، ثم يعاود النزول كلما رأى أنه من الأفضل أن يذهب إلى سيارته، ويأتي بهذا الشىء الآخر من السيارة، ليأخده معه في صعوده إلى الشقة في الوقت نفسه. وكان كلما صعد دورا شعر أنه يُفضّل نزول السلم ليأخد هذا الشيء معه أولا. توقف الأوبرالى عازف الفاجوت مستندا إلى الدرابزين، ضاحكا من تشوشه، وهو يتذكر أنه يفعل الشىء نفسه كل يوم مع نوتته الموسيقية.

 

النوم
عندما عاد مرهقا في آخر الليل بعد سهرة في الخارج. أغلق باب حجرة نومه واطمئن إلى وجود النوم نائما فى سريره. وما أن تمدد بجواره حتى شعر أن النوم استيقظ. ورأه ينسلّ بخفة من أسفل عقب الباب. هل أراد النوم أن يذهب إلى التواليت؟ لا بأس. هاهو ممدد على سريره في انتظار عودته.

 

الصمت
ذات يوم رغب رجل فى الصمت، بعد أن تعب من الكلام. فقرر أن يغلق فمه، واستبدل لغة النطق بلغة العين. بعد فترة من الزمن، شعر أن عينيه أُجهدتا من فرط الكلام فقرر أن يغلقهما، وأن يبحث عن وسيلة أخرى.

 

من مذكرات حجر
عندما صدر الحُكم بأن أصير حجرا، لم أستكن لإقامتي أسفل إفريز الرصيف. كنت أخرج بين الحين والآخر لأركل المارّة.