يرى الكاتب أن الطابع الرومانسي سمة إبداع عمار علي حسن، ويتواتر الصراع فيه ضد عالم موحش مؤسلب، يدل على أن التحولات المجتمعية قضت على تراث الإنسانية المادي وغير المادي فيه، حتى أن أغلب الأدوات الريفيّة المذكورة تعكس ارتباط المصري بالموئل، كما أن لها بعد توثيقي للهوية الريفية المصرية.

سيرة طفولة في عالم القرية المصرية

قراءة في «عجائز البلدة» لعمار علي حسن

عبدالكريم الحجراوي

 

بعد سيرته الذاتية (مكان وسط الزحام) التي صدرت عام 2018، يعود عمار علي حسن إلى عالم الأدب غير الخيالي في كتابه (عجائز البلدة) الصادر عن الدار المصرية اللبنانية 2020، وفيه يستعيد ذكرياته، بل ذكريات القرية المصرية التي اختفى الكثير من معالمها تحت وطأة التكنولوجيا الحديثة والعولمة. فقد ظلت القرية المصرية لآلاف السنين محافظة على طابعها البسيط، من خلال بيوت مبنية من الطوب اللبِن، وأدوات زراعية وألعاب، وأوان فخارية، لم يمسسها التغيير، حتى سبعينيات القرن الماضي عموماً، وفي القرى الجنوبية النائية حتى بداية الألفية الثالثة.

ويبدو أن الطابع الرومانسي صفة أساسية في مشروع عمار علي حسن الإبداعي، الذي تتواتر سماته في جل أعماله؛ سواء الروائية أو القصصية وحتى ما ينتمي منها إلى الأدب غير الخيالي، كما في سيرته التي فيها صراع الإنسان ضد عالم موحش، أو كما وصفت على غلافها الخلفي: "تجربة في الانتصار على الشدائد، بطلها كاتبها، الذي كان طفلاً شبه متوحد، متعثراً دراسياً، ثم لم يلبث أن تفوَّق ليشق طريقه في التعليم إلى نهايته، ويكون بوسعه أن يحكي لنا الآن كيف واجه الفقر واليأس والغربة والوقوف على مشارف الموت مرات...".

وكذلك في "عجائز البلدة" يختار تيمة أُعجب بها الكتّاب الرومانسيون وكانت واحدة من ضمن خصائص إبداعهم المهمة جداً؛ ألا وهي "النوستالوجيا"، أو الحنين إلى الماضي، الذي يتجلى في كل جنبات الكتاب، من حب شديد لعصر قد مضى بشخوصه وأحداثه، بالإضافة إلى تفضيل القرية على المدينة والعصر الحديث المادي الموحش.

رحلة طويلة

وفي 246 صفحة يختار عمار علي حسن 65 عنصراً من العناصر التي تعايش وتعامل معها أهل القرى وكانت جزءاً من حياتهم؛ ولكن مع التحولات المجتمعية التي شهدها العالم في بضع سنوات أزاحتها من على عرشها الذي امتد لقرون، وربما تكمن أهمية هذه العناصر في أنها جميعاً تصلح لأن تضاف إلى قوائم يونسكو لحفظ التراث الإنساني.

والكاتب يتناول هذه العناصر بشكل منفصل؛ كل عنصر منها في حدود 500 كلمة بأسلوب أدبي قصصي يمزج فيه ما بين تلك الآلات والحيوانات والإنسان، عبر رحلة شراكة ممتدة، مستعيداً رحلته الشخصية مع هذا العالم الذي أصبح كالأطلال التي لطالما وقف عليها الشعراء كي يبكوا عصر الأحبة القديم ويبوحون بشوقهم لكل ما قد مضى.

على سبيل المثال؛ آلة "الفتَّالة" التي تصنع فتائل "الشِعرية" (إحدى الأكلات الشعبية) التي ذاقها في قريته في صعيد مصر. فحين ينوي أحد من أهل قريته تلك زيارته في القاهرة يطلب منه أن يحضرها له: "... لكن أياً من الشِعرية المصنوعة بإحكام ليس بوسعها أن تنسيني تلك الخارجة من قلب الفتَّالة، فأجدني أهاتف أهلي في قريتي البعيدة طالباً إحضارها، وحين تأتي أدس يدي في الشيكارة التي تحتويها وأخرج بعضها. أمرره بين أصابعي وأمد أنفي لأتشممه، فتهب روائح الزمن القديم...".

تداعي الذاكرة

ويعمل عمار علي حسن، على رسم صورة مشهدية لكل عنصر من عناصر القرية المصرية؛ ليوضح كيف عايش تلك الحياة بخاصة مع والدته، لذا يعد هذا الكتاب تكملة لسيرته الذاتية، في طور الطفولة والفتوة. وهناك شخصيات حضرت في العملين مثل عم "عشم الله" ووالدة المؤلف والأب والجد، بالإضافة إلى أن المؤلف اختار الآلية الأدبية نفسها في الكتابين، ونقصد الاعتماد على تداعي الأفكار من الذاكرة، من دون أن يكون هناك ترتيب للعناصر، سواء كان هذا الترتيب في أبسط صوره، وهو ترتيب الألف بائي أو الأبجدي، أو حتى تقسيم هذه العناصر إلى فئات.

فهناك أدوات تتعلق بالزراعة كان من الممكن أن تُجمَع في فئة، وثانية لألعاب الطفولة، وثالثة لأكلات شعبية، ورابعة أدوات زينة، وأدوات الطبخ... وهذا التداعي الذي ارتبط بالتقنية البلاغية "الاستطراد" كان مناسباً لسيرته الذاتية، غير أنها منحت "عجائز البلدة" عدم تناسق بالانتقال من دون رابط من عنصر إلى آخر سوى رابط القرية الجامع والنستولوجيا، بخاصة أن بعض هذه العناصر نشرت في الصحف قبل تجميعها في كتاب يضمها.

الألعاب والأكلات الشعبية
ويقدم "عجائز البلدة" العديد من الموضوعات التي يجب الالتفات إليها، منها ألعاب أهل القرى التي كادت تنقرض، ومنها لعبة "السيجة"؛ تلك اللعبة البسيطة التي لا تكلف من يلعبونها أي مقابل مادي، إذ إنها تتألف من مجموعتين من الحصى، كل مجموعة ذات طبيعة مختلفة، أما رسمها فيكون على تراب الأرض، وبها كان يتسلى الرجال والأطفال، لكن هجرها جيل الشباب إلى ألعاب مثل الدومينو والشطرنج والطاولة، فيما سيطرت الآن ألعاب الهواتف الذكية.

ويتناول أيضاً أطعمة من المبطخ المصري الشعبي، توارثها المصريون من سالف العصور، قبل طغيان الآكلات الحديثة الغربية، الذي أدى إلى انقراض أكلات مثل العصيد، وخبز البتاو، والشِعرية المصنوعة بالفتالة.

ويضم الكتاب مجموعة من الآلات التي استخدمها الفلاح المصري في الزراعة مثل الشادوف والطنبور والمحراث والساقية والنورج، والربانة/ المنجل، والمذراة، والمذبلة والعكامة. أما عن أدوات الطبخ فكان الكانون والفرن البلدي، والرحاية، والدماسة، والماجور...إلخ، وأدوات الزينة للنساء منها الخلخال والكردان، ومن الآلات الموسيقية الربابة التي لطالما استخدمها شعراء سير الأبطال مثل أبو زيد الهلالي وعنترة بن شداد. وكانت "المصطبة" حاضرة في جلسات العصاري وليالي الصيف، وكذلك "الحصير" بمواده المختلفة في الصنع، و"المنقد/ الموقد" الذي يدفئ ليالي الشتاء، والأواني الفخارية من "الزِير" إلى "القُلَّة"، و"البلاص"، و"الزراوية"، بخلاف أدوات قياس الأرض مثل "الخروبة"، و"الشِبر"، و"الذِراع"، و"القصبة"، و"القيراط"، و"الفدان".

وتتجلى في "عجائز البلدة" صورة فريدة لعلاقة الفلاح المصري مع بهائمه، والقائمة على الشراكة: ما يؤذيها يؤذيه، فهي التي تعينه في حرث الأرض وتسميدها وريها، وتشاركه في حله وترحاله، يطعمها فتطعمه من لبنها الذي يتحول إلى صور شتى منها السمن البلدي والجبن والمش. علاقة فيها الكثير من المشاعر والصلات، غابت مع العصر الحديث فلم يعد الفلاح ينتظر من بهيمته سوى أن يستفيد من حليبها وبيع صغارها، وانحلت العروة العاطفية التي كانت تربطهما ولم يتبقّ سوى المصلحة.

وتجسيداً لعلاقة المحبة التي كانت بين الإنسان والحيوان، يظهر الكثير من الأدوات الخاصة بها مثل "الخن، الكعامة، الهودج، المخول، الوتد..."، كما تُظهر الكثير من المشاهد التي تجسد غضب الحيوانات من الفلاحين إذا عُوقبت من قبله ولم يرضها العقاب بأن تقوم بهدم "المخول" أو كسر الجِرار المملوءة بالزبد والسمن والعسل.

التحولات الاجتماعية
السارد في "عجائز البلدة" مولع بذكر التحولات التي أصابت القرية المصرية، حتى أصبحت تيمة متكررة في كل عنصر من العناصر الموجودة في الكتاب، إذ يذكر ما كانت عليه في ماضيها وما آل إليه حاضرها. فهذا هو صانع "الحُصر" الذي يسبكها بما نبت على ضفاف النيل، جامعاً نباتَي "الحلف" و"الديسه"، فقدَ مهنته منذ أصبحت المصانع تصنع الحُصر البلاستيكية. و"النورج" الذي كان يستخدم في دَرِيس الفول والقمح والشعير ويُجَر بواسطة بقرتين اختفى مع وجود الآلات الزراعية الحديثة التي تفصل بين القمح وسنبله في ساعات معدودة، بدلاً مِن أيام عدة.

وكذلك أدوات الزراعة القديمة مثل الشادوف والطنبور والساقية، حلَّت محلها الماكينات التي تدار بالوقود. ولمبة الغاز اختفت مع ظهور الكهرباء. و"البقجة"، و"السبَت" و"الرحاية"، أصحبت أطياف ذكرى من الماضي بعدما قدّمت التكنولوجيا الحديثة بدائل لها. هناك مهن اختفت بعدما توارثتها الأجيال؛ لأنها لم تستطع أن تنافس في عصر المادة.

أما خاصية السرد الأدبي التي حظيت به عناصر الكتاب، فربما يمثلها خير تمثيل وصفه للمصطبة؛ المكان المبني من الطوب اللبِن ليجلس عليه الناس في أوقات تسامرهم، فرحاً وحزناً؛ "مع تبدل الزمن تمَّ هدمُها. لكن ترابها الذي ذرَته الرياح ظل يحتفظ بالحكايات. هبَّت عاصفة هوجاء كنسَت الكومة النائمة ورشَّت ترابها فوق الحقول؛ ليسمع النبات كل حكايتنا المتناثرة على أفاريز الزمن".

وتجدر الإشارة أن أغلب عناصر الكتاب تعكس ارتباط المصري بالأرض فأغلبها مصنوع من موادها سواء كان "الكانون" أو "الأزيار" و"القلل"، وحتى أدوات لعبة مثل "السيجة". كما أنها بطابعها الحكائي القصصي غطَّت جانباً من حياة المصريين قبل عصر الآلة، ومن ثم اتسمت ببعد توثيقي للهوية المصرية في أعماقها، حيث الريف الذي أخرج مبدعيها على مر الزمن، ومنهم رفاعة رافع الطهطاوي وطه حسين وأمل دنقل ويحيى الطاهر عبد الله، وحتى خيري شلبي ومحمد البساطي ونوال السعداوي ولطيفة الزيات ونعمات أحمد فؤاد.