أبعد من تهافت التهافت على التطبيع، يعود الكاتب الفلسطيني الى القضية الفلسطينية وما تعيشه اليوم من تخلي وخذلان عربي في الوقت الذي يشعر فيه الفلسطينيون بالكثير من الحزن والأسى لسقوط الحصون العربية، وتخليهم عن مسؤولياتهم القومية تجاههم، وتفضيلهم العدو عليهم، وتحالفهم معه ضدهم، ومعاهدته والتطبيع معه.

القضية الفلسطينية بين الولاء الإسلامي والتخلي العربي

مصطفى يوسف اللداوي

 

يشعر العربُ الفلسطينيون لأول مرةٍ أنهم وحدهم على الجبهات وفي الميدان، يواجهون العدو الصهيوني بمفردهم، ويتحدون إرادته بقوتهم، ويفشلون مخططاته بتكاثفهم، ويتحملون أذاه بصبرهم، ويصمدون في وجهه بإيمانهم، ويصرون على الانتصار عليه بقينهم، وقد آلمهم كثيراً انفضاض الدول العربية عنهم، وتخليهم عن مسؤولياتهم القومية والدينية تجاههم، وتفضيلهم العدو عليهم، وتحالفهم معه ضدهم، واتفاقهم معه عليهم، ومد اليد له ومصافحته، ومعاهدته والتطبيع معه، وهم الذين قاطعوه سنين طويلة وحاربوه، وحاصروه وعزلوه، إيماناً منهم بعدالة القضية الفلسطينية التي أيدوها وناصروها بحقٍ خلال عمرهم القصير، ومسيرتهم السياسية الجديدة بعد الاستقلال والتخلص من الاستعمار.

واقعٌ مؤلمٌ جديدٌ يرتسم، وحقائقٌ قاسيةٌ تظهر، وتغيراتٌ جذريةٌ تطرأ، بعد أن نجح الأمريكيون والإسرائيليون في نقب الجدار العربي وتقويضه، وتمزيق الوحدة العربية وتفريقها، فقد تمكنوا بسبلٍ كثيرةٍ ووسائل عديدة من استدراج الأنظمة العربية واستمالتها، رضاً أو كرهاً، اقتناعاً أو خضوعاً، وألزموها كما الأولين بالاعتراف بالكيان الصهيوني والتطبيع معه، والقبول به والمشاركة معه، واحتفت الإدارة الأمريكية بمن سبق وطبع، وضغطت على من تأخر وتردد، وتوعدت من عارض ورفض، وهددت من قاوم وصمد، ولكنها باتت على يقين أن القطار قد انطلق، وأن صافرة الرحيل عن القضية الفلسطينية قد بدأت، والانسلاخ عنها والبراءة منها قد أصبحت حقيقة.

بل باتت الأنظمة العربية تتنافس على البراءة والتخلي، والابتعاد والنأي بالنفس، وأخذت تتجرأ على الفلسطينيين وتحرض عليهم، وتبني التحالفات ضدهم، وتنتقدهم وتلعن قيادتهم، وتحملهم مسؤولية ما أصابهم ولحق بهم، وكأنهم لعنة يستعيذون بالكيان الصهيوني الشيطان الرجيم منهم، ويحتمون به ويلجأون إليه، وكأن الفلسطينيين شرٌ مطلق يحيق بهم، وعبءٌ كبير ينوؤون تحته، ونسوا أن الكيان الصهيوني هو الشر المطلق والعدو الأول والشيطان الأكبر، فهو عدوٌ مريدٌ لا يغير جلده، ولا يبدل قناعاته، ولا يصحح عقائده، ولا تتوقف أطماعه ولا يشبع نهمه، ولا يكف عن أعمال القتل والاعتداء والعدوان.

في مواجهة حالة الانهيار المريع في العالم العربي، نجد حالةً من التماسك والصمود، والثبات والتحدي، لدى دول العالم الإسلامي، التي لم يخدعها العدو ولم تنطلِ عليها أحابيله، ولم يصدقوا كلامه ولم يطمأنوا إلى أفعاله، بل تأكد لديهم أنه عدوٌ قاتلٌ ماكرٌ كاذبٌ محتلٌ غاصبٌ، وأنه يناور ليكسب، ويماطل ليتجاوز المراحل، ويكذب ليحقق أهدافه ويصل إلى غاياته، ويتظاهر بالسلام ليستفرد بالفلسطينيين ويسرق أرضهم وأحلامهم ومستقبلهم، ويهود بلادهم ويزور تاريخهم، فنابذوه العداء رغم بعدهم عنه، وقاطعوه رغم الحاجة، وحاربوه التزاماً بعقيدتهم وتمسكاً بثوابتهم، ووفاءً بوعدهم وعهدهم من الله عز وجل، تضامناً مع الفلسطينيين وانتصاراً لهم، وأعلنوا مواقفهم الصريحة المؤيدة لهم والداعمة لقضيتهم، رغم فداحة الثمن وقسوة العقوبات، وشدة الحصار وضراوة ردود الفعل الأمريكية.

أعلنت الباكستان على لسان رئيس حكومتها عمران خان، استنكارها الشديد لموجة التطبيع العربية مع الكيان الصهيوني، واستهجن تناسي العرب للجرائم الصهيونية في فلسطين المحتلة ضد أهلها وأرضها، ودعا إلى مناصرة الشعب الفلسطيني وعدم التخلي عنه، فهو شعب مظلومٌ ومضطهدٌ، واعتبر أنه لا استقرار في المنطقة دون حلٍ عادلٍ يرضي الفلسطينيين ويحقق أهدافهم الوطنية المشروعة في أرضهم ووطنهم، وربط في موقفه الداعم لفلسطين بتمسكه وشعب باكستان بوحدة أرض كشمير ووجوب استعادتها.

أما أفغانستان البعيدة المشغولة بهمومها وجراحها، والمرتبطة قيادتها بالإدارة الأمريكية والمرهونة لها، فقد أعلنت أنها لا ترى عدلاً في التخلي عن الفلسطينيين، وليس من الإنصاف الوقوف مع القاتل ضد الضحية، وقد ثبت أن الفلسطينيين على مدى قرنٍ من الزمان يعانون من الظلم والاضطهاد والحرمان، بينما رفل الإسرائيليون بالحقوق الفلسطينية ونعموا بها وحدهم، وحرموا أصحاب الحق وأهل الأرض من حقوقهم التاريخية المشروعة، واعتبروا أن القوى المعادية لن تتمكن من إكراه الفلسطينيين وحملهم على التنازل عن حقوقهم.

أما ماليزيا التي تتطلع إلى مواصلة مشوارها الاقتصادي اللافت، فقد أعلنت رفضها الاعتراف بالكيان الصهيوني، ورفضت التعاون معه أو تطبيع العلاقات الرسمية والشعبية معه، ومنعت دخول رياضيين إسرائيليين إليها، وتكبدت خسائر كبيرة نتيجةً لموقفها الرافض للتعامل مع الفرق الرياضية الإسرائيلية، وأعلنت عن عدم ندمها على موقفها المناصر للحق والقضية الفلسطينية، رغم الانتقادات الأمريكية والضغوط السياسية التي تعرضت لها سلطاتها الحاكمة، علماً أنها ما زالت تؤمن أن الكيان الصهيوني يتآمر على اقتصادها، ويسعى لتقويض استقرارها، وأنه من نفذ عملية اغتيال العالم الفلسطيني فادي البطش على أرضها.

 

أما الجمهورية الإسلامية في إيران، فلا أعتقد أن أحداً يستطيع أن ينكر موقفها، أو يخفي دورها، أو يتجاوز ما تقدمه للقضية الفلسطينية من مختلف أنواع الدعم السياسي والعسكري والمادي، فمواقفها لافتة، وأدوارها بارزة، وتضحياتها معروفة، ودعمها موصول بلا انقطاع، وممدود بلا حدود، رغم الضائقة الاقتصادية التي تعانيها، والمؤامرات التي تحدق بها، والتحديات التي تواجهها، إلا أنها تعتبر أن نصرة فلسطين واجبة، ومساعدتها فرض، والوقوف إلى جانبها تكليفٌ رباني وواجبٌ إنساني، وهي ترفض وتدين كل أشكال الاعتراف والتطبيع مع الكيان الصهيوني، وتعتبره خيانةً وتفريط، ولعلها تدفع ضريبة مواقفها حصاراً وتهديداً، واستهدافاً لاقتصادها وضرباً لاستقرارها، ومحاولةً لعزلها وشيطنتها.

لا تغيب تركيا عن واجهة الدول الإسلامية الداعمة، ولا تتأخر عن سرب المسلمين المناصرين لفلسطين والحاملين للوائها، فقد أعلنت قيادتها إدانتها للاعتراف بالكيان الصهيوني ورفضها التطبيع معه، وفتحت بلادها واسعةً للفلسطينيين قوىً وأحزاباً، وشخصياتٍ وعامةً، للعيش في أرضها، والتلاقي فيها، وتنظيم الاجتماعات في ربوعها، تمهيداً للوحدة الفلسطينية، وإنهاء الانقسام ورأب الصدع وجمع الكلمة، ومن قبل علا صوتها وارتفعت نبرة خطابها دفاعاً عن القدس والمسجد الأقصى، ورفضاً لكل الاجراءات الإسرائيلية التعسفية بحق الفلسطينيين وحقوقهم.

في الوقت الذي يشعر فيه الفلسطينيون بالكثير من الحزن والأسى لسقوط الحصون العربية، وتهاوي أسوارها القومية، وانحراف قادتها وحكامها، رغم أن بعض الدول العربية ما زالت صامدة وثابتة، وباقية ومستمرة، رغم التهديدات التي تتعرض لها، والتحديات التي تعيشها، فإنهم يبدون اعتزازهم وتقديرهم لدول العالم الإسلامي التي تحتضنهم وتؤيدهم، وتناصرهم وتقف إلى جانبهم، ويشعرون بأنها سندٌ وظهرٌ، وأن الله عز وجل قد مَنَّ عليهم وعوضهم خيراً، فما تركهم وحدهم في العراء نهباً للعدو، بل أيدهم بجنودٍ من عنده، وأكرمهم بمن ينتصر لهم من غير العرب، تماماً كما حمى الإسلام قديماً وحفظ علومه بكثيرٍ من غير العرب.

 

بيروت في 28/9/2020

moustafa.leddawi@gmail.com